يضم
هذا الكتاب بين دفتيه سبع دراسات
نقدية وبحثية ، اثنتان منها في مفهوم الحداثة ، وثلاث حول
الشعر المحلي ( أدمون شحادة ، فوزي عبد الله ، وجمال قعوار
) ، ودراسة عن قصيدة قديمة ( تأبط شرًا ) ، وأخرى في
العروض العربي .
وهذه الموضوعات لا ينظمها سلك واحد ، سواء من حيث المضمون
، أو من حيث الاتجاه ، فتارة نحن أمام نقد ووجهة نظر ،
وطورًا نحن أمام بحث مستفيض ينطلق من بؤرة ليشع على جوانب
متفرقة لها علاقة ما بمركز انطلاقها .
ففي المقال الأول ( مفهوم الحداثة في الشعر العربي المعاصر
) يتبين لنا أن هذا المقال ما هو إلا محاضرة ، وعندما أعيد
نشرها لم يحاول الكاتب توثيقها والإحالة إلى بعض إشاراتها
.
يقول الكاتب :
* " الحداثة- في الشعر العربي المعاصر مصطلح استعمل منذ أو
آخر الخمسينيات من هذا القرن ، وما زال يستعمل كمقابل
للمصطلح modernity "
( ص 1 من الطبعة الأولى )
*" وقال بعض الدارسين إن الحداثة ثورة على نفسها "
( ص 8 )
* " ومن الجدير بالذكر أن عددًا من الدارسين وقرائهم قد
رأوا في مقاومة هذه الحداثة واجبًا قوميًا ، وذلك بسبب
موقفها من التراث "
( ص 10 )
* " وقد وُصفت ( الحداثة ) خلال ذلك بالعبث والفوضى
والتخريب والتزوير والجنون والضحالة والركاكة والعدمية "
( ص 15 )
* " وشعراء الحداثة في أوروبا عامة وفي روسيا خاصة وجهت
إليهم تهم عديدة "
( حاشية في ص 15 )
وهذه الأقوال التي ساقها الكاتب فيها خطورة ، ويطغى عليها
التعميم الذي يطلقه ، ونحن أحوج ما نكون لمعرفة قائليها ،
وكيفية سياقاتها ، بل إن بعض آرائه بحاجة إلى بحث مستقل -
كقوله عن محاولات تعديل مسار التراث في شعر الحداثة بأنه :
" تغير جذري شامل لا يكاد يبقى من المسار شيئا "
( ص 9 )
.
ثم إن الكاتب يعمد إلى تقسيمات وتعريفات يقترحها : فالشعر
الجديد يشترط أن " يختلف عما كان سائدًا قبله ، دون أن يصل
إلى قطع الصلة مع ما سبقه من توجّهات "
( ص 2 )
؛ وشعر الحداثة هو تجاوز لكل ما سبقه من توجهات
( ص 7 )
، وهو ثورة
مستمرة على كل ما هو قائم أو مألوف من المفاهيم والمقاييس
والنظم والأشكال .
والشعر الحديث يُخصص للناحية الزمنية ، على أن يكون الحديث
للفترة القريبة منا ، ويمكن أن نحددها بثلاثة عقود .
والشعر الحر هو الذي لا يتقيد بأي وزن أو قافية ، ووجه
الإشكال يتركز أولاً على تحديد القصيدة وتصنيفها
( ص 7 ) .
من هنا فإني أسأل :
أين وفي أي خانة نضع قصيدة ما لصلاح عبد الصبور أو الماغوط
؟
بل أين تقع قصيدة أدمون شحادة ( الشهاب ) التي أعجب بها
الكاتب لما فيها من " علاقات متشابكة بين الرؤيا والبنية
والأسلوب " ؟ وهل هي ضمن شعر الحداثة أم لا ؟
ثم إن مصطلح " الشعر الحر " الذي ابتدعته نازك الملائكة
معادلاً للمصطلح vers irre`gulier هو المصطلح السائد ،
ونحن لا تهمنا صحة المصطلح بقدر ما يهمنا شيوعه وتواصليته
، علمًا بأن محاولات التسمية على نحو : الشعر الجديد ، شعر
التفعيلة ، الشعر المنطلق ، شعر الشكل الجديد
( انظر مثلا كتاب النويهي
– قضية الشعر الجديد ص 453 )
لا تؤدي إلا إلى الخلط والارتباك .
وفي تصوري أن هذا التعبير ( الشعر الحر) هو الشائع عند
الأكثرية الساحقة من نقاد الأدب العربي الحديث ، ولم يبق
إلا أن نجتهد في تبريره ، فالشاعر حر في توزيع التفاعيل في
السطر الواحد، وهو حر في اختيار القافية .... والحرية –
كما نعلم – لها قيود ، وقيود حرية الشاعر تتأتى في الوزن
والبحر الذي تسبح فيه تفاعيله .
أما عن مصطلح ( شعر الحداثة ) فيجدر بنا ذكر رأي أدونيس
فيه - من خلال بيان الحداثة (
انظر فاتحة لنهايات القرن ، دار العودة بيروت –
1980 ص 313 )
، حيث بين الأوهام التي تتداولها الأوساط الشعرية حول
الحداثة :
منها الزمنية - إذ يجب ألا نربط الحداثة بعصر ، فالحداثة
خصيصة تكمن في بنية ذاتها ، فهو يرى في شعر أبي تمام حداثة
لا تتوفر عند نازك .
والوهم الثاني الذي يعمد إليه البعض هو المغايرة ، وهذه
نظرة آلية ، تقوم على فكرة إنتاج النقيض.
والوهم الثالث هو وهم المماثلة ، ففي رأيهم أن الغرب هو
مصدر الحداثة ، وهم ينعون على الشعر العربي تخلفه ، ولذلك
يجب أن تكون الحداثة كتابة الذات الواقعية الحية .
والوهم الرابع هو التشكيل النثري ، حيث لا تكون قصيدة
النثر بالضرورة شعر حداثة ، كما لا يكون الشعر الموزون
بالضرورة خارجًا عنها ، فينبغي على القارئ / الناقد إذن أن
يواجه في تقييم شاعر ما ثلاثة مستويات : مستوى النظرة أو
الرؤيا ، مستوى بنية التعبير ، ومستوى اللغة الشعرية .
ويصل أدونيس في نهاية بيانه إلى القول :
" ينبغي التأسيس لمرحلة جديدة : نقد الحداثة ، فالحداثة
انتقال نحو سمة - رؤية ما ، حساسية ، تشكيل ما - ليست
الغاية ، وليست في حد ذاتها ، ولذاتها قيمة بالضرورة .الأساسي
هو الإبداع من أجل مزيد من الإضاءة... من الكشف عن الإنسان
والعالم . والإبداع لا عمر له لا يشيخ ، لذلك لا يقيم
الشعر بحداثته بل بإبداعه ، إذ ليست كل حداثة إبداعًا ،
أما الإبداع فهو أبديًا حديث ".
( ن . م – ص 340 ، وانظر
كذلك يوسف الخال : " مفهوم القصيدة الحديثة " ، الحداثة
في الشعر ، دار الطليعة ، بيروت – 1978 ، ص 18 ) .
نخلص إلى القول إن الكاتب كلف نفسه ...، وذهب إلى تحديد
مصطلحات تناولتها الأقلام واعتادها الأدب ، بل إن مفهومي (
الحديث ) و ( الحداثة ) يتناوبان بشكل متطابق ، وهذا ما
تجيزه العربية ، فما الفرق بين قولنا ( شعر الجاهليين ) و
( الشعر الجاهلي ) و كذلك ( شعر الحداثيين ) و( الشعر
الحديث ) ؟
وفي الدراسة الثانية : " الإغراب في الشعر الحديث " يقف
الشاعر موقف المعارض لشعر الحداثة ( لاحظ انه استعمل
المصطلح " الشعر الحديث " في العنوان ) ، ويستشهد بنموذج
شعري لتيريز عواد ، ويعلق على التشبيهات فيه "
أنه لا يُقصد بها كلها إلا الإغراب ، وإلا فما هو الإبداع
الذي تحققه ؟ وما هو الإيحاء الذي تثيره ؟ "
ويعيد مثل هذا التساؤل في مكان آخر ، " ولا أظن أبدًا أن
في مثل هذا اللعب تعميقًا " .(
ص 29 ) ؛
ويقول عن شعر أنسي الحاج " ولا نجد إلا حلمًا فقد عفويته "
ص (19 ).....
ومثل هذه الجمل هي آراء ذاتية يسوقها الكاتب - ناسيًا أن
لغيره مقاييسه وأدواته التي ينظر بواسطتها إلى الشعر ،
وهذا لن يشفع له أن يقف موقفًا عدائيًا من مادة لم نسبر
غورها - ربما بسبب النفور منها ، أو بسبب ظروف لم تتصاف
والقصيدة..... فجمال الشعر يتأتى من خاصية بقائه مفتوحًا
نغالبه ويغالبنا ، وليس شرطًا أن نلج الباب إلى عالم
الدهشة ، أو عالم الحلم الذي فقد عفويته .
ويستشهد الكاتب بخالدة سعيد التي تعلق على شعر أنسي الحاج
بقولها :
" ولذلك استطاع أن يحفظ للإحساس والفكر تشوشه وطبيعته
...." ، فيستنتج الكاتب أن الناقدة تعترف بان هذه الصور
تعكس تشوش الفكر والإحساس ، وبالطبع فـإن الفرق بين
المعنيين واضح ، فخالدة أكدت على صدق التجربة ، بدليل
حرصها على كلمة ( يحفظ ) ، بينما فهم الكاتب المعنى بصورة
سلبية تخدم غرضه .
وقد حدث مثل هذا الفهم غير الدقيق قي تفسير قول خالدة :
" وعندما يسقط الشاعر عالمه الداخلي على هذه الأشياء يقدم
لنا صدى التجربة أو طيفًا لها - لا فعلها الأصلي ، وإن
كانت تأتي أزهى وأكثر لمعانًا وأسهل إدراكًا وتقبلاً ...."
فقد فهم الكاتب قولها بصورة "ميكانيكية ": ، وكأن خالدة
تعترف بأن الصور الغامضة تأتي أقل لمعانًا وأصعب إدراكًا
وثقلاً من الصور العادية ذات العلائق الخارجية ، ناسيًا أن
الناقدة تقف موقفا إيجابيًا من شعر أنسي الحاج.
ويبدو أن معالم الحداثة – حسب تصور الكاتب – كما هي في
الغرب مقبولة عنده ، بديل أنه يقبل " في بعض الأحيان الأسس
النظرية التي تستند إليها هذه المظاهر " ، ولكنه يتابع – "
إننا ( ؟ ) لا يمكن أن نقبل مثل هذا التطبيق الذي أشرنا
إليه " ( ص 30 ) .
ومع ما في هذه الجملة من فضفاضية يحضرني مثل هذا السؤال :
كيف تقع أشعار كمنجز cummings ( 1962 – 1894 ) في مقاساته
؟
ولن أسوق له عشرات الأسماء عربًا وغير عرب ، لأطلب منه
عملية فصل في النظرية والتطبيق .
إن الشعر اليوم – سواء كان عربيًا أم غربيًا – فيه جموح
وانطلاق ، تبعًا لطاقة الشاعر وإبداعاته ، وما لا أفهمه
وأعيه قد يفهمه الآخرون - حتى وإن قل عديدهم .
ويورد الكاتب رأيًا أو موقفــًا فيه جدة الطرح (2) ، رغم
ما فيه من مزا لق .
يقول :
" وإذا عدنا إلى الشعر الحديث ( ؟ ) ، وتعمقنا النظر إلى
ما فيه من إغراب ، وجدناه لا يختلف كثيرا في حقيقته عما
ساد في القرن الرابع الهجري وفي ما تلاه من قرون الفرق
الأساسي بيننا وبينهم - أن معظم اللعب عندهم كان لفظيًا ،
في حين أن معظم اللعب عندنا يقع ذهنيًا "
( ص 31 – 32 )
.
ووجه الموازنة غريب إذا تأكدنا كون اللعب الواقع في الذهن
هو إحياء وتعمق وتصور وإدراك وتفتيح للقدرة العقلية ،
بينما اللعب الشكلي هو لفظي خارجي قشرة ، ليس غير .
* * *
وفي دراسة لقصيدة " الشهاب " لأدمون شحادة يبني الكاتب
دراسته للقصيدة على المقطع الأول – حسب تقسيمه – الذي يعكس
صورة الماضي ( ص 34
) ، وهذا
المقطع هو:
" يمتطي الفرسان خيل الباديه
كشهاب يمتطي غيم السماء "
ولا أدري ما الذي ساقه إلى الماضي غير كلمة ( الفرسان )
كدلالة ماضوية بيئية ، مع أن هذا المعنى هو حضاري /
مستقبلي نابع من واقع معين يسلمه الشاعر سياسيًا ووجوديًا
، وقد أوهم الكاتب نفسه بزمن مفروض بنى عليه ، فأخذ يسوّغ
استعمال المضارع بأنه يعطي للحدث بعدًا دراميًا عنيــفًا (
؟؟) إذ يضعه في منطقة تجاذب مستمر بين الزمن المنطقي
المفروض ( الماضي ) والزمن الأدبي المستعمل ( صيغة المضارع
) " - ص 37
.
وثمة أحكام وتقريرات أخرى بحاجة إلى توضيح ، كقول الكاتب :
" علينا أن نلاحظ هنا أن الشاعر لم يراع بذلك أصول البلاغة
العربية القديمة "
( حاشية ص 35 )
، وهو بذلك ينكر
وجود تشبيه على غرار تشبيه الفرسان بالشهاب في البلاغة
العربية القديمة . ومهما يكن من أمر فـإن مثل هذه الجملة
بحاجة إلى تحديد ودقة .
ويكرر الكاتب جملة تتردد كثيرًا في الدراسات اللغوية في
الأدب ، وهي على نسق :
لا نستطيع حذف أو إضافة أو تغيير أية كلمة .
والكاتب يستعمل مثل هذه المقولة عن قصيدة أدمون " " لا
يمكن أن تحذف منها أو تضاف أية كلمة دون أن تشوه الصورة
تشويهًا " .......
ولن أقوم هنا بتمرين لأغير هنا وهناك ، فقد يكون الأمر
افتعالاً واقتسارًا ، ولكن محاولاتي –التي لن أسوقها هنا –
أقنعتني بأن حكم الكاتب كان فيه مبالغة .
وقد يكون الافتعال في بعض الدراسات اللغوية يتبدى في
التركيز بشكل مغالى فيه على تسبيق كلمة وتأخير أخرى ، ففي
تكرار " يمتطي " في المقطع الأول من قصيدة أدمون يشرح
الكاتب - لماذا تقدم الفعل في السطر الأول ، وتأخر قليلاً
في الثاني ، وذلك حتى لا يوحي بالجمود ، وقد آثر الشاعر أن
يكون الانتظام مطلقًا
( ص36 )
.
ثم يعمد الكاتب إلى تصنيع لتفسير الصورة الوصفية ، فيشرح (
كشهاب يمتطي غيم السماء ) بأن غيم السماء يوحي بالمطر رمز
الخصوبة والنماء وتجدد الحياة (
انظر أيضًا ملاحظة 2 ص 47 )
علمًا بأن التشبيه البائن - هو أن الشهاب المضيء ينشق عن
ظلمة وسواد ووضعية حالكة ، حتى يظهر أثر الإضاءة أسطع على
خلفية معتمة .
* * *
وفي دراسة الملامح الرمزية في شعر جمال قعوار يتصور الشاعر
أن التشبيهات العادية هي رموز ، وهذا التقديم لم يكن
أساسيًا في حساب المدرسة الرمزية - كما تعارف عليها النقاد
( انظر إيليا حاوي
: الرمز والسريالية في الشعر الغربي والعربي ، محمد
فتوح أحمد : الرمز والرمزية في الشعر المعاصر )
، فسمة
الرمز الجوهرية وما يعطينا معناها الرمزي إنما يتمثل في
الأسلوب كله - أي طريقة التعبير التي استخدمت هذه الصورة ،
وحملتها معناها الرمزي ، ومن ثم فـإن علاقة الصورة بالرمز
من هذه الناحية أقرب إلى علاقة الجزء بالكل ، أو هي علاقة
الصورة البسيطة بالبناء الصوري المركب الذي تـنـبع قيمته
الإيحائية من الإيقاع والأسلوب معًا
( انظر عدنان الذهبي: "
سيكولوجية الرمزية " مجلة علم النفس – مجلد 4 العدد
3 – 1949 ص 365 ) .
أما قول جمال :
" وذبحت للغربال أغنيتي
لما التوت في وجه تيار
يا ضائعًا في قلب زوبعة
لا موطن فيها لأحرار
..............................
ورميتها بين الكلاب على
تابوت أفكاري وأشعاري "
فهذه تشبيهات واستعارات وصور بيانية لم تصل إلى مفهوم
الرمز إلا إذا كانت موتيفًا متكررًا في القصيدة ، أو في
قصائد سواها .
ثم كيف يجيز الباحث لنفسه دراسة أشعار لا يؤمن هو بكونها
شعرًا ، فيقول :
" سأعتبر هذا الديوان شعرا على سبيل الاستثناء لا القاعدة
( ص64 )
، لكنه ما يلبث
أن يعود إلى مثل هذا الاستثناء ثانية في تناوله لكتاب
الفارس يترجل لفوزي عبد الله
( ص 48 )
، وثالثة في
تناوله قصيدتَي جمال : ( حديث أم ) و ( الدروع ) - من
ديوان أقمار في دروب الليل
( ص 67)
ثم يعود إلى رأيه ثانية ويمضي في التحليل ، وكأنه حقيقة (
ص 68 )
.
ومن التقريرات الحادة التي تفجأ القارئ قوله عن مجموعة
غبار السفر :
" لا نستطيع أن نرى فيها أي مظهر من مظاهر الكسل الذهني
الذي يدفع الشاعر إلى الاعتماد على إنتاج السابقين
باعتباره مادة جاهزة وفي متناول اليد "
( ص66 ).
غير أن الكاتب كان موفقًا حيث توصل إلى أن كتابات جمال "
تنحرف انحرافًا حادًا باتجاه السهولة التي تصل في بعض
الأحيان إلى النثرية الكاملة "
( ص 68 )
و " هذه النثرية
تشكل خطرًا حقيقيًا على شعره " .
* * *
أما دراسته عن الأدب القديم " قراءة
جديدة لقصيدة قديمة" فيتناول فيها قصيدة لتأبط شرًا ، وهي
تتحدث عن محاولته للتخلص من بني لِحيان والهرب منهم عن
طريق التزلج على العسل الذي كان يشتاره - حسب الروايات
الأدبية القديمة - ، أو على الصخر- حسب الفهم الجديد
للكاتب - ، وثمة ملاحظات لي على البحث أشير إليها :
* ليس هناك ضرورة لنفي قصة العسل ما دامت أساطير كثيرة
ترافق قصص تأبط شرًا ، وما دام هذا الغلو قائمًا في أشعار
الصعاليك .
( انظر قصة لقائه الغول ،
وقصص هجماته على القبائل وحده ، وخبر مقتله - الأصفهاني :
الأغاني ، ج 21 ، ص 144 – 198 ) .
على ضوء ذلك فلا ضرورة حتمية للمنطق والتعليل العقلاني في
تحليل أشعار تعتمد أصلاً على الإيقاع وعلى الغلو .
• ويتطرق الكاتب إلى بيت القصيدة :
إذا المرء
لم يحتل وقد جد جده
أضاع وقاسى أمره وهو مدبر
فيبني استنتاجات هنا وهناك على اعتبار أن هذا البيت هو هو
المطلع ، مستندًا بذلك على روايتي التبريزي والمرزوقي
للحماسة .
وهذا التيقن في شعر يمت إلى العصر الجاهلي وقبل التدوين
غريب ، خاصة إذا علمنا أن صاحب الأغاني يورد المطلع على
أنه :
أقول
للِــحيانَ وقد صفرتْ لهم
وِطابي ويومي ضيق الجُحر مُعور
وليس هذا المطلع بغريب على نسق الشعر القديم ، فالقصائد
التي تبدأ : " أقول و ..." أكثر من أن تحصى ، ولا يشفع
للباحث أن يحترز وهو يقول :
" إن الاعتماد على الأصفهاني وحده لا يكفي للخروج إلى على
الرواية الشهيرة " – (
ص 83 ) ،
وعلى إثر ذلك يرفض الباحث البيت الذي " أضافه " الأصفهاني
، ولا يعتبره جزءًا من القصيدة ، والبيت هو :
فإنك لو
قاسيت بالــلَّصبِ حيلتي
بلقمان لم يقصر بي الدهر مقصر
وسبب دعواه في الرفض أن البيت يشوه خاتمة القصيدة كما رآها
بوحدتها .
وهذا الفهم بحد ذاته فيه منطق معاصر ، ووعي مستحدث لمفهوم
الوحدة العضوية ، وهو كما أرى ليس ضروريًا أن يُطبق
تراجعيًا على الشعر القديم . فالشاعر الجاهلي كان يقدم
وحدات معان ويؤخر أخرى ، وأية دراسة لرواية اللغة والشعر (
وحتى الحديث والقرآن ) ستوصلنا إلى قراءات متباينة .
ولا أدري كيف ولج الكاتب هنا إلى نقاش حول الوحدة
الموضوعية ، وساق لنا آراء بلند الحيدري ، وإبراهيم العريض
مشيحًا بقلمه عن الحاتمي والجرجاني وابن رشيق وابن طباطبا
- وهم أحق أن نعتمد على مقاييسهم وتطلعات نقدهم .
• وفي رواية البيت :
فـأبت
إلى فَهم وما كدت آئبًا
وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
يورد الكاتب رواية أخرى : " وما كنت آئبًا " ، ثم ما لبث
أن أكد أن الرواية الأولى ( وما كدت ...) هي الأصح ، بسبب
أنها تحوي خطأ لغويًا ، فيقول :
" من المعروف أن القراءة الأصعب هي الأقدم ، فالمنطق يقول
إن التغيير يتناول الشاذ والمشكل ليجعله مألوفًا ، وليس
العكس ..."
وهذا المنطق لا أراه ، ذلك لأن الروايات – كما أشرت –
تتباين وتتغير ، ولا ضرورة لأن نزج أنفسنا في نقاش قد لا
نصل فيه إلى إجابة مسوّغة ....ثم إن القول " وما كدت آئبًا
" ورد في شواهد الشعر القديم على اعتبار شذوذ في عمل ( كاد
) ، وبهذا قبل ابن منظور هذه الرواية بمنطقه . ( انظر :
لسان العرب - مادة " كاد " ) .
ويعترف الكاتب بان كلمة ( أصادي ) في قول الشاعر :
وأخرى
أصادي النفس عنها وإنها
لمورد حزم إن فعلت ومصدر
لها أكثر من تفسير : أداري ، أساتر ، أداري ، أعارض....
إلا أنه ما يلبث أن يقول :
" ولا اعرف في اللغة العربية تعبيرًا آخر يمكن أن ينقل لنا
هذا الموقف بشكل أدق وأتم وأكثر اختصارًا من تعبيره هذا "
.
وبالطبع فـإن هذا الحكم فيه تمثل خاص للكاتب لطبيعة حركة
الفعل من غير بيان له وتأويل .
• ولست أدري لماذا يخوض الكتاب في دراسة حول البحر والوزن
والزحافات والعلل وتكرار الحروف ما دام يعترف :
" لا ينبغي من وراء هذا البحث في التجنيس الحرفي أن نحمّل
النص ما ليس فيه ..." ( ص 92 ) ، ويقول كذلك :
" ولكن البحث عن هذا الدور في كل مقطوعة أو قصيدة بأي ثمن
يجعل الأمر مصطنعًا ...ولست أرى في هذا النص الذي نحن
بصدده أي مبرر للخوض في هذا الموضوع " .
أضف إلى ذلك حكمه القاطع :
" بالنسبة للقافية نستطيع أن نلاحظ بسهولة ائتلافها التام
مع الوزن والمعنى- الأمر الذي جعلها تبدو مستقرة في مكانها
بعيدة عن أي قلق أو أي تكلف "
( ص 92 )
.
وهذا الحكم فيه ذاتية قد لا تكون مقنعة بشكل أو بآخر ،
وخاصة في القافيتين - معور وتصفر ، بدليل أن الكلمة
الأخيرة مثلا لها أكثر من معنى ( تجبن ، تخلو، تحزن ،
تتأسف ) .
أما
دراسة الكاتب ( في العروض العربي ) فتحتاج إلى متابعة
متأنية بسبب جرأة الأحكام فيها ، وقد أعود إليها في وقفة
أخرى .
وتبقى تحيتي ومحبتي لنشاط أستاذنا الجم ولعطائه الذي لا
يُنكر .
...................................................................................................
1 - أبو خضرة ، فهد : دراسات في الشعر والعروض ،
مكتبة الجيل ، كفر ياسيف – 1989 ، وقد طبع الكتاب طبعة
ثانية : مطبعة النهضة ، الناصرة – 2004 ، وهذه الدراسة
تعتمد الطبعة الأولى من الكتاب .
ملاحظة : سبق أن نُشرت الدراسات السبع في مجلات أدبية
مختلفة ، وهذه الدراسات هي : مفهوم الحداثة في الشعر
العربي المعاصر ، المواكب العدد ( 87- 1987 )
الإغراب في الشعر الحديث – الكرمل – أبحاث في اللغة
والأدب العدد 2 ( 1981 )
الشهاب والرؤيا المستقبلية – الكرمل – أبحاث في
اللغة والأدب 3 ( 1982 )
الفارس يترجل – الشرق عدد 2 ( 1981 )
الملامح الرمزية في شعر جمال قعوار – الكرمل -
أبحاث في اللغة والأدب العدد 4 ( 1983 ) قراءة جديدة
لقصيدة قديمة Arabica مجلد 35 ( 1988 )
في العروض العربي – الكرمل- أبحاث في اللغة والأدب العدد 7
( 1986 ) .
2 - من الذين أشاروا إلى مثل هذه الملاحظة عبد الجبار
الشريف في مقاله الأصا لة ومحاولة التجديد في الشعر ( مجلة
الشعر ( تونس ) العدد 5/ 1983 ص 93 ) ، وفيها يقول
: " لماذا تجنينا كل هذا التجني على شعراء الفترة المظلمة
. لقد أولع أولئك الناس – بحكم دوار عصرهم وتمزقهم وضياعهم
بزخرفة شكلية كانت تبدو لهم (جديدًا ) ، وقلد بعضهم بعضًا
إلى حد قتل أنفسهم . لقد عنوا بالطباق والجناس والمجاز
والاستعارة بأنواعها ، ونعينا عليهم كل ذلك ، وسمّينا
فترتهم ( مظلمة ) ....... ونقرأ شعرنا هذه الأيام : كم من
قصيدة تكتب اليوم لتعطينا أكثر من هذه الزخرفة اللفظية ؟؟
" .
ومثل هذا انظر كتاب محمد حمود : الحداثة في الشعر
المعاصر ، الشركة العلمية للكتاب – 1986 ص 350