أ. د.  فاروق مواسي

 

 

 

أقواس من

        سيرتي الذاتيــــة

 

 

 

 

أ.د فاروق مواسي

 

أقواس من سيرتي الذاتية

 

 

 

 

 

الطبعة الأولى: دار الهدى، كفر قرع 2001

 

   الطبعة الثانية – مزيدة ومنقحة

       2011


 

 

 

 

 

 

فقد وفّيتــها سبعين حولاً

 

                                               ونادتني ورائي هل أمام؟
مقدمة

لماذا أكتب سيرتي؟

يظل التعبير عن الذات التي عانت وصارعت جزءًا من الأدب، وكم بالحري إذا اتسم هذا الأدب بالدفء والحميمية والتواصل. ثم إن أدب الاعتراف فيه كشف وتجلّ، وذلك بالاستذكار والاستقصاء، وليس هناك من هو أعرف من الكاتب بنفسه أو ذاته، فإذا نقل مراحل منها بأمانة وصراحة قدر طاقته وإمكانه فإنه يسفح عمره على الورق، ليقول لنا في نهاية المطاف: إنها حكاية جِـد، سأسردها لكم إن أحببتم.

السيرة الذاتية فن عرفه العرب قديمًا، ومن يطالع طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة مثلاً سيجد عشرات النماذج على هذا الإفضاء بالسريرة، وهذه المتعة في متابعتها.
 وظل هذا الفن يخبو ويظهر إلى أن طالعنا أيام طه حسين بضميره الغائب، فحياة أحمد أمين بلغة السرد الذاتي، وتلت ذلك مئات من السيرالذاتية، وكلها تروي قصة عمر، وقد يكون فيها عبرة لمن اعتبر.

يقول غاسدورف: "السيرة الذاتية هي المرآة التي يلتقي الفرد فيها مع ذاته"، وجلال الإنسان كما يرى صلاح عبد الصبور: "أنه يقدر أن يواجه نفسه ذاتًا وموضوعًا في الآونة نفسها". والسيرة الذاتية هي حكاية القلق الذي استقر صاحبه في واحة، ليقدم فيها للوافدين الماء والثمرات، يقدمها لمن يحاول أن يبحث عن أحوال النفس المرهفة ومقاماتها.
 إنها رحلة المدارج بل المعارج إلى ظلال الجمال والكمال.
 إنها محاولة اقتناص عيشة أخرى مضافة للمعيشة التي مرت.

ترى ما الذي يدعو الكاتب إلى تعري نفسه؟ إلى بوحه؟
 ربما يكون بدعوى المشاركة الوجدانية،
ربما للإمتاع والمؤانسة،
ربما هي مراجعة أخيرة لكتابة الفصول يستعرضها فيعرضها قبل أن تدبر أنفاسه.

سألني صديق:
أتعرف لماذا يحب القارئ أن يقرأ السيرة الذاتية؟
قلت: أفدني مما ترى!
قال: لأنه يقرأ كاتبًا يحدث عن نفسه، فيقرأ بعضًا من (أناه) هو، بمعنى أنه يجد صورًا مما عايش وعاين.
قلت: وكيف تفسر ذلك؟
قال: ألا ترى أنه لو عثر في منزله على مخطوطات وكتابات تركها جده، ألا يقبل عليها بلهفة، كأنه عثر على كنز؟!
إنه يقرأ الكتابات وكأنها جزء لا يتجزأ من كيانه.

قلت: حقًا، يبدو أن الماضي في السيرة هو لعبة الزمن ترد إلى الفرد أو الجماعة لتقول لهم: هنا أنتم، فاقرءوا حكاية ما كان!

هذه الأقواس:

قبل عقد من الزمان –يوم أن ودعت الستين- أصدرت أقواس من سيرتي الذاتية.
ولاحظ قراء السيرة أنني نهجت نهجًا جديدًا في كتابة السيرة، إذ أفردت لكل موضوع قوسًا أو بابًا، أمرّ فيه عبر مراحلي المختلفة، من الخطوة الأولى وحتى السباق في الشوط. وهكذا تحدثت عن طفولتي، فتجربتي الشعرية، فالنقدية فاللغوية...إلخ.

كان كل باب قوسًا ذا لون، وهذه الأقواس جميعها ألفت القوس الذي يبتسم في حياتي، غب المطر أو قُبيلَه.

في هذه الطبعة المزيدة والمنقحة أضفت ما استجد في العقد الأخيرمن رحلة دفعت ثمنها تكاليف حياة لم أسأمها، وأضفت أقواسًا أخرى جديدة، لا بد منها، لأصحبكم فيها إلى عالمي وسفري.

إذا كانت السيرة الذاتية توجب فتح الملف بدون تحفظ فإنني هنا أستميحكم عذرًا إذ أتغاضى عن هذا الشرط، مع أن كل تعتيم هو ثغرة في الصميم. ذلك لأن من حق المتلقي أن يأخذ الأمر بجُمــاعه وافيًا لا خافيًا، ولكن من حقي مع الآن وهنا أن أخفي فصول المرأة في حياتي، وأن أتجاهل مواقف مدّعي صداقة تركوا ندوبًا وندوبًا.

ماذا يجدي الحديث عن علاقة أمام مجتمع مراقب محافظ، أو  كَيدي، ينتظر الكثيرون منه فرصة للغمز واللمز والهمز؟ فهل كاتب السيرة فريد في عصره لدى المعجبات؟ أو في عقوق بعض الأصدقاء؟  
وماذا تقدم التجربة سوى الإساءة لنفسي قبل أن أسيء لسواي، فلست روسو في اعترافاته في شبابه، أو هنري ميلر في اعترافاته وهو في الثمانين، وليس عقوق "الأصدقاء" بدعًا لدي.  ُثم إن كل كتابة يجب أن تكون وصفًا حيًا مثيرًا فيه إبداع وإمتاع، وإخالني قد لامست ذلك في شعري، والشعر الصادق هو سيرة ذاتية رغم أن لوجون يستبعده مشترطًا النثر في صياغتها.

من جهة أخرى لو أجزت لنفسي الحديث عن إلإساءات، وعن إنكار للجميل والعرفان، وعن عدوانية غير مبررة لأسأت لنفسي قبلاً، ولن تعلو لي رتبة، فأنا "لا أحمل الحقد القديم عليهم"، رغم ألم يتسرب، وذاكرة تتناسى.

ربما أغمط نفسي هنا إذ لا أدوّن لقاءات جرت لي مع أعلامنا ألأفذاذ، وأساتذتنا الكبار نحو محمود أمين العالم ونجيب محفوظ وأحمد عبد المعطي حجازي وسعيد الكفراوي، وإبراهيم عبد المجيد،  وناصر الدين الأسد والياغيين هاشم وعبد  الرحمن، ومحمد أبو دومة، وحسن طلب، ويوسف إدريس وعبد القادر القط، ولويس عوض، وجمال الغيطاني وسهيل إدريس وإبراهيم أصلان وعبد الله الغذامي ويوسف زيدان وحلمي سالم، والشهاويين أحمد ومحمد وفاروق عبد القادر وووعشرات غيرهم جمعتني بهم معارض الكتاب في القاهرة أو في عمان ومؤتمرات نقدية حظيت بدعوتها، وكانت لي محاورات ومساءلات، ربما سآتي عليها، ولا أدري متى وكيف. ومع ذلك يلاحظ القارئ أنني قمت بجولة معه لزيارة يحيى حقي وصلاح عبد الصبور وفدوى طوقان والبياتي ونزار قباني وغيرهم.

  لي كذلك علاقات طيبة مع معظم أدبائنا الفلسطينيين في مختلف مواقعهم، وقد رويت لكم عن شاعرنا محمود درويش كما عرفته، وبالطبع عمدت إلى الصدق ما وسعتني الحيلة، وقدمت صورته كما لمستها وقرأتها وصحبتها في لقاءات عابرة.
كما التقيت عشرات الأدباء العبريين البارزين، بحكم اتصالي بهم ممثلاً للأدباء العرب، ونائب رئيس نقابة الكتاب في إسرائيل، وكانت لي نشاطات سياسية وأدبية حدثتكم عنها في صفحاتي السياسية.
وبعد، فلو فتحت صفحات الحوار ومدى ما أفدت  وأفدت لما انتهيت، ورحم الله ياقوت الحموي الذي كتب في مادة "مقدس":
"وليس كل ما أجده أكتبه، ولو فعلت ذلك لم يتسع لي زماني".

آمل لك قارئي صحبة ممتعة، لا تنطلق من بحث عن هفوة أو كبوة، بل تتلمس الصدق، وأمانة القول رغم الانتقائية التي لا بد منها في كل سيرة.
صور من الطفولـــــة

 

لم تكن تعرف أو تتقن الألعاب التي يلعب بها لِداتك، وإن جرؤت ولعبت أثَرت سخريتهم، وإن حدث وإن غَلبت أنزلوا بك العقاب، فما أسهل أن تصل صفعة إلى خدك دون أن ينتصر لك أحد....  كنت ضعيف البنية، رقيقا ناعمًا، لذا فلا مناص من اللجوء إلى الكِتاب...  أو إلى الصلاة لتجد ملاذك....  إلى الكتاب لتحاوره ويحاورك دون أن يمد يده عليك، وإلى الصلاة لتهرب من مجتمع كان أكثره يبحث عن طفل غض الإهاب ليفعل فيه الأفاعيل.

وكان أبوك يجلس إلى آلة الخياطة يقرأ صحيفته، أو يحادث جلساءه- وهم كثر- يقص عليهم أو يستمع إلى قصصهم.....  بينما أمك تروح وتغدو في ساحة الدار، فإذا لم تجد أحدًا  تحاد ّه رفعت عقيرتها بالشكوى والتذمر. وكنت بين أخوات- الكبرى منهن تطالبك بأن تكون رجلاً فتلعب البنانير، وألا تهاب أحدًا، والصغرى تتحداك بأنها تحفظ جدول الضرب أفضل مما تحفظه أنت....

قال لك أبوك وهو يمسك بيدك يوم 21/5/1949 وكنت تقف وإياه تراقب دخول اليهود الأوائل إلى بلدك- هؤلاء الذين كنت تتخيلهم دائمًا بأنهم شقر وعيونهم زرقاء:                        "سوف ينتصر العرب بعد سبعة أيام، وسيتراجع هؤلاء الأغراب” ولما مضت الأيام السبعة قال :
        " أنها سبعة
أشهر”........ ولما مضت الأشهر السبعة قال  :" أنها سبع سنين”.....  وظل مصرًا حتى رمقه الأخير، وهو يقول"سبع..." .

وكان أبوك قد أصر على أن تدخل الصف الأول بعمر أقل من سبع سنين- كما كان  الحال والمتبع آنذاك- وذلك لكي تنهي دراستك مبكرًا، وستكسب سنة اقتصادية في عمرك-  هكذا أوحى لك-لكن نتائجك في الصف الأول خيبت أمله، فترتيبك كان الثاني والأربعين.... فكنت " أشطر" من اثنين فقط، وسرعان ما حدث انقلاب معاكس  في الصف الثاني، فإذا بك في الترتيب الثاني.

كنت في تراوح بين النقيض والنقيض: تارة تؤمن ولا"تقطع فرضًا”  تصلي في زاوية الدراويش القريبة من سكناك، بل تؤذن من على مسجد القرية القديم، وكان يهمك ساعتها أن تسرّح نظرك على المنازل التي بدت كلها تحت مرمى النظر، فأنت في عليائك تؤذن: الله أكبر، الله أكبر.  بل بلغ بك الأمر إلى أن تؤم المصلين القلائل، وقد طلبوا ذلك منك بعد أن غاب القائمون على ذلك (أو غابت الخيول...) لانشغالهم في مزارعهم- في شك أوراق الدخان، حيث كان ذلك الشغل الشاغل لمعظم السكان .

ومن جهة أخرى، بدأت بذور الشك في ذهنك تكثر من التساؤل عن طبيعة الخلق والخالق، وما كنت لتجرؤ على ذلك، لولا أن ترددت على الكيبوتسات لتعمل فيها، وهناك سمعت من يقول بالأرض والإنسان.

***

تشهد أنك كنت والعائلة حول مائدة الإفطار التي كان لها أهمية خاصة وطعم خاص، وكنت تحرص عليها تنتظرها دقيقة بدقيقة، وبعد أن ضرب مدفع الإفطار، ووصلت بضع لقيمات إلى الأفواه، فإذا بطائرة أخذت تقصف، فذُعرت أنت وأهلك، وتركتم المائدة....  وألفيت نفسك في ضيافة أخوال أمك في النزلة الشرقية (شرقي بلدك...  وهي طلعة عالية)، وقضيت أسابيع هناك حتى تنفرج الحال، فإذا بطائرة تحلق فوق النزلة هذه المرة، وإذا بك تنام في ملجأ رطب عميق أنت والعشرات.  وبقيت في ذهنك ذكريات عن ألعاب الطفولة، وعن تلك الصغيرة التي كانت تحنو عليك، وما نسيتها فاطمة........

وعدتم إلى باقة- إلى القرية التي لم يُهدم منها سوى"طابون” إثر ذلك القصف الذي سبب الهجيج.  ومن الطريف أن طائرة أخرى (وقد تكون هي نفسها) عادت بعد بضعة أيام لتقوم بنفس التجربة، لكنك لاحظت العم علي العبد الله وغيره وهم يحاولون أن يتحدوها، كل ببارودته، وكنت مع الأولاد تردد بجد هذه المرة:" طيارة حرامية تحت السيف مرمية”.......

*   *   *

 أكثر من منزل أقامت به  عائلتك إلى أن بنى والدك بيته الجديد.... بعد أن باع حصته من الأرض  اضطرارًا.  وكنت ترقب البناء وهو يُبنى مدماكًا فوق الآخر، فتُناول البناء الطين تارة، أو المسامير طورًا ... وأين أقيم البيت؟

أقيم على نفس المكان الذي صُرع فيه الضابط العميل أبو عثمان قبل بضع سنين من الشروع في البناء .  وفي أيام سكناك الأولى كنت مذعورًا ترتجف كالقصبة، فالمنزل قريب من حركة المسلحين والجيش.  وكنت تسمع أصوات التهديد والعيارات النارية كأنها تُطلق من منزلك، فلا تفيق كل صباح إلا والفراش مندّى.

وأنت لا تدري – وحتى اليوم لا تدري – ما علاقة والدك بالثوار؟ ولماذا  كانت الطاولة الطويلة قرب آلة الخياطة مكدسة بالأسلحة، وقد غُطيت ببطانية؟  كنت تحرص على كتمان الأمر بناء على طلب والدك وإلحاحه، وكنت تقرأ الخوف في عينيه.

وما زلت تذكر كيف كان أبوك يلعب بآلة منها، ولعله كان ينظفها،  وكنت تجلس على عتبة البيت تأكل بطيخًا، فإذا بعشرات الطلقات من حولك ومن فوقك. ونجوت كما قالوا" بأعجوبة" الأعاجيب.  ولم يكن يهمك من الأمر إلا أغلفة الطلقات الفارغة تسابق لتجمعها ولتباهي بها، فتركت الحشد الذي أتى ليطمئن عليك، أو ليستطلع حقيقة ما جرى لتستأثر بالعيارات الفارغة.

ولم ينجح الموت ثانية معك، وذلك عندما دعستك الدراجة التي كان يقودها أحد أبناء  بلدك، وكان يسابق راكبًا آخر....  فأوقعك، وسلخ جلدة رأسك مرة واحدة...  حتى أعادها مكأنها أديب الخرطبيل – طبيب طولكرم المشهور.  وبقيت ردَحًا طويلاً تتردد على المستشفيات، آنًا  تركب حمارًا، وطورًا تركب سيارة  -تبعًا لحالتك الصحية- .... وكم كنت في السيارة تأخذ في التعجب لأن الأشجار تتحرك على جانبي الطريق....

ويلتقي بك صاحب الدراجة  أكثر من مرة، ولا ينسى أن يداعبك، ويقول-" أنه من يومهاعدَّل رأسك..!!"

ثم انقلبت بك وبمرافقيك سيارة أخرى (ولم يكن ببلدك أيامها إلا سيارات ثلاث)، فخرجت سالمًا، بينما جُرح معظم الركاب.

      *    *     *

 

ما زلت تذكر سفراتك مع أبيك، إلى نابلس حيث أصررت ببكاء وحرقة على أن يشتري لك سيارة ألعاب، فأبى وأبى....  وكذلك إلى عين غزال – بلد جدتك عائشة أم أبيك، حيث تعرفت هناك إلى دار الشيخ شاكر الذين أحببتهم، وما زلت تذكر هناك العين والبئر والدار، وماذا كنت أكلت، وكيف كانت الطريق متعرجة إليها.

وكيف تنسى عين غزال وأهاليها الذين تقاطروا على بيتكم بعد هجيجهم، ومن العجيب أن ساحة الدار الضيقة اتسعت للمئات، فكانوا يتحلقون هنا ويقفون هناك، وقد وصفت هذا المشهد فيما بعد يوم أن كتبت قصيدتك- حبي فلسطيني-، فقلت:

ما زلت أذكرهم في الدار في حلَق

                              هذي تنادي، وهذا واجم  دونـــي

عين الغزال، وكانت عين مهجتهم

                              فقلت  من بــعد قولاً غيـر ممنون  :

“ قد كنت أبكي لأحباب الهوى زمنًا

                              فهل لي الآن من باكٍ فيبكـيـنـي"!

 

*  *  *

كان أصحابك من بعض أقربائك قد علموك أن تتاجر بالنحاس وبالبصل، وطلبوا منك أن تكون حارسًا في أثناء القيام بموبقة ما...  وأن تكون مدخنًا مدمنًا لسجائرتجمعونها أحيانًا، وتعيدون صياغتها من الأعقاب، وأحيانًا من ورق اللوز اليابس.... ودخّنْ عليهــا تنجـــلِ،  و" زينة الشاب سيجارته ".

كنت تذهب أحيانًا إلى المدرسة ببنطلون مرقَّع، وآنًا حافيًا أسوة بالكثيرين.... وما زلت تذكر احتجاجك على خبر نشرته آنذاك صحيفة"  اليوم"  عن زيارة مدرسة الطيبة لباقة، وكيف أن أهل باقة قابلوهم بالحفاوة، فقلت: " عال والله! هذي فضيحة وعليها شهود!!”.

وحفظت جزء عم غيبًا، وكنت تتباهى بحفظك، حتى إذا سألك عمك مصطفى عبد اللطيف عن معنى"عليهم نار مؤصدة” عرفت أن هناك ضرورة لمجالسة من هو أعلم منك، ومن يستطيع أن يهديك، وهكذا كنت تجالسه....  وظل له أثر كبير عليك. 

وكنت تقرأ القرآن على ضريح خالك الذي افتقدته، فقد صرعته طلقة مجهولة غادرة.  وعشت طفولة حزينة مع أم باكية – لا يجف لها دمع، وكم شهدت حلقات الندب والتعديد، وأسمعك الكثيرون معنى أن يكون الظلم.

كما بكيت على شقيقتك الرضيعة (فريدة) التي شاهدت موتها وهي تتساقط أنفسًا" تساقط درّ من نظام بلا عَقد” – كما علمك ابن الرومي فيما بعد-، وعرفت معنى الموت في بيتك أنت.  فعلمت أن البيت كان قد فقد سابقًا أربعة من إخوتك بسبب مرض أو بسبب"حسد”... (وظل حاصل الجمع في نهاية الحساب خمسة أبناء وسبع بنات).

كان الطعام قليلاً، ولم يعرف الناس منذ أشهر للبُرّ طعمًا، فكانوا يأكلون خبز الشعير، والكراديش –خبز الذرة-.  زيتهم الكوكازين، وسكرهم أحمر تحبو به صراصير حمراء صغيرة، فلا تكاد تميز في انهيال السكر بين القطعة والحشرة.  وكانت المدرسة تقدم لطلابها حبوب زيت السمك التي يجب أن نتناولها قسرًا ومع تهديد المعلم.

مضيت تحت إلحاح والدك مع فتية أكبر منك متجهين إلى المستوطنة القريبة لتقايضوهم البيض بالخبز.  وكنت في الطريق الجانبية تلاحظ أن الحارس يطاردكم، بل يضرب بالسياط بعض أفراد المجموعة، ومع ذلك تظل الأهازيج على الألسن، وما زلت تحفظ:

مولاي صل على المصطفى              صلاة تدوم ولا تنقضي

وكانوا يقنعونك أن هذا القول هو تعويذة، ولا يمكن أن يؤذيك أحد.

وفي المستوطنة اعتقلوك لأنك بدون تصريح، وأمروك بأن تمسح المبنى أنت وزملاؤك، فكنت تنقل لهم الماء بالدلاء، وتتعرف إلى الصنبور الذي تقرر أنت قوة دفع الماء فيه.

وفي تردادك لاحظت أن بيوتهم هي أجمل، وأن لديهم الحدائق، وأنهم يشربون الماء البارد من الثلاجة، وأنهم يتحدثون بلغة قريبة المفردات من لغتك، ولذا حفزك الأمر على أن تدرس العبرية قبل أن تتعلمها في المدرسة.  وشجعك على ذلك أبوك الذي عمل سابقًا في بيارات الخضيرة، وكان يتقن تركيب الجمل الأساسية التي يضطر لها في عمله، بل كان يدِل  بها على أصحابه، ويكرر"من عرف لغة قوم أمن مكرهم”.

كنت مع طلاب صفك تصطفون أمام بناية الحاكم العسكري تحملون أعلام إسرائيل"الفتية” (هكذا وصفوها  لكم) وتنشدون-" بعيد استقلال بلادي....  غرد الطير الشادي” وتنتظرون"سعادة” الحاكم الذي لا بد له من كلمة ترحيب، يلقيها بعربية لها لكنة غريبة عجيبة... كنتم تضحكون منها وتكتمون الضحكة.

ولكنك في الصف السادس ترددت على بيت محمد السبع – الشاب المرهف المثقف الغاضب الهادئ الذي اختطفته يد المنون مبكرًا بعد أن أعياه الداء.  وكان هذا متحدثًا يحسن تنظيم الشبيبة، كريمًا في بيته، فمضى، ولم يبق له أي أثر، ولا تدري أين كتاباته التي كان يقرأها عليك، فما من قريب له يحفظ ذكره، وأمسى أثرًا بعد عين.

وتعرفت بسبب"السبع” على الشبيبة العربية الطلائعية، واستمعت إلى محاضرات، وشاركت في ندوات ومخيمات عمل وتنظيمات ضد الحكم العسكري"الجائر”، بل انطلقت في الأمسيات لتخط بخط يدك على الشوارع والجدران:"فليسقط الحكم العسكري”.

وعرفت معنى العمل السري، فإذا بك مع بعض أقرانك تؤسسون جماعة"دعاة التقدم” تهاجمون الرجعية المحلية والمحسوبين على الحاكم العسكري، وعلقت بعض الشعارات والمنشورات على الجدران، وقعدت تسترق السمع إلى الأصداء التي كانت تُكبر عملك أنت وجماعتك.

وفي الصف الثامن تعرفت إلى الحزب الشيوعي، وشاركت في خلية كانت تقام في منزل سكرتير الحزب في القرية، وكان يحضرها المعلم نمر مرقس الذي كان شعلة نشاط حزبي وسياسي، وكان يكرر على مسامعك أسماء تختلف عن أسماء الصحابة، ويقتبس جملاً لم تكن أحاديث شريفة أو أبيات شعر.

كان أكثر معلميك من اليهود العراقيين، وذلك بدءًا من صفك الثالث، فكنت تلاحظ هذا الخلط بين الضاد والظاء لدى بعض المعلمين منهم، فأخذت تقلد اللهجة التي ينطقون بها.

 في الصف الأول كان المعلمون من طولكرم ونابلس قد ودعوك.  والتحقوا بأهليهم.  وقد تعرفت إلى بعضهم- فيما بعد – يوم أن جمعتكم سنة سبع وستين.....

 وفي الصف الثاني كانت غرفة صفك قائمة تمامًا على الحدود.  وكنت والصغار تسمعون دويّ الرصاص المتواصل، كما تلاحظون حركة تهريب البضائع من وإلى.....

وعلى الحدود كنت تشاهد اللقاءات في الأعياد مع أبناء الشعب الواحد، يجتمعون، ويتذاكرون، ويبكون.  وعرفت معنى أن تنقطع عن خالتك التي تزوجت في قلقيلية، وعن أقربائك من عين غزال الذين أصبح عنوانهم كما كنت تقرأ على رسائلهم" شارع وادي الرافدين11-  بغداد”.

 

 

 


 

                من صفحات التربيـــة والتعليـــم

 

 

كان من أحب اللعب إلي في طفولتي أن أدعو بعض أترابي ليجلسوا على صناديق الخضراوات، أو على صفائح متيسرة، وأقنعهم أن نلعب"لعبة المدرسة"، فأكون معلمًا لهم.... آتي بلوح خشب وطباشير وجرس، وآخذ في شرح هذا الدرس أو ذاك.

ومما أذكره أنني علمت مقطوعة من شعر أبي العتاهية كنت قد اطلعت عليها في كتاب ليس من كتبنا المدرسية،ومنها:

 

فلا تصحب أخا السوء وإياك وإياه

فكم من جاهل أردى حليمًا حين آخاه

يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ماشاه

 

ولم يكن أحد منهم يسألني عن معنى"أردى حليمًا" والحمد لله، فقد كنا نكتفي بأن نلحن المقطوعة وفق أهوائنا.

ووجدت في"لعبة المدرسة" تعويضًا لي عن لعبة البنانير أو الحاب (الكورة) أو المبارزة(المجيدي)، فهذه كنت أشاهدها من بعيد، فلا بد إذن من فتح صف حتى ولو استجديت بعض الأصحاب أن يجلسوا على مقعد الدراسة، وقد حدث مرة أن أحدهم تمرد علي:"لماذا أنت المعلم؟  أنا أريد أن أكون..... دوري".

 

***

 

أنهيت الصف الثاني عشر في ثانوية الطيبة صيف 1959، ثم  حصلت على شهادة البجروت(آنئذ الحصول عليها يكاد يكون متعذرًا).....  ثم رشحت نفسي للعمل في سلك التعليم.  كانت دار المعلمين العربية قد فتحت أبوابها حديثًا في يافا، لكن ذلك لم يحل دون تعيين معلمين آخرين شريطة أن ينهوا الامتحانات الخارجية في التربية وعلم النفس حتى يتم تأهليهم.... وشريطة أن الأجهزة وافقت على تعيينهم.

وألفيت نفسي معلمًا احتياطيًا أو بديلاً للمعلم الغائب في بلدي، وهكذا جربت في يفاعتي تدريس معظم المواضيع....  ولكل الصفوف.

ولا أنكر أنني كنت أقع في مزالق وأخطاء، وما زلت أذكر تلك الكلمة الإنجليزية التي لم أعرف معناها، وتلك الجملة التي استغلقت علي...... هذا طالب يشاغب ويلقي بطبشورة أمامي،وذاك يزمزم بأصوات يتبعها ضحك مكتوم. ورغم أنني كنت أعاني الأمرَّين فقد كنت أستمتع بهذه الوظيفة الاجتماعية المرموقة،فـأعود إلى بيتي وأحضّر دروسي جيدًا،وأستفتي بعض المعلمين  القدامى عن مسائل معينة،وأتوجه إلى الطالب المشاكس لأبني معه علاقة شخصية إنسانية ليس فيها ضعف،وهكذا كنت أسوّي الأمور...... وأسعد بلقب"أستاذ".

حصلت على تعيين رسمي للعمل في مدرسة عسفيا للبنات  في 1/2/1961م. 

وكنت أولاً مربيًا للصف الثالث،أعلّم الموضوع الشامل. وقد ظننت أولاً أن الذي يعلّم جميع المواضيع لا شك بأنه معلم ممتاز،إلى أن نبّهني لاحقًًا مثقف أجنبي بضرورة التركز على موضوع واحد،والتقدم فيه حتى"تكون عنوانًا معروفًا به".

كنت في عسفيا أبني علاقات اجتماعية لم يكن لي بها سابق عهد،فهنا دروز ومسيحيون،ونحن في المثلث لا نكاد نتصل بأبناء المذاهب الأخرى،أو على الأصح قلما اتصلنا بهم آنذاك.

وتوطدت علاقاتي إلى درجة  أنني كنت أحمل دفترًا صغيرًا أدوّن فيه الدعوات المتواصلة من غداء إلى عشاء (فأين هذا اليوم؟!).

بعد سبعة أشهر جميلة نقلتني الوزارة إلى المدرسة المشتركة -  وادي القصب خور صقر(في وادي عارة)،فكنت مع مدير المدرسة أحمد خواجة ثاني اثنين،فعهد إلي بتربية الصف المشترك (البستان والأول)،وعليــه كنت"معلم الروضة" في المدرسة، ولذا لبَّيت دعوات المفتشة لاجتماعات المربيات، وكان حضوري يثير الابتسامات  أو الدهشة أو الحسد أو الشماتة.

اقترح علي المدير أن أرافقه لإقناع طفل كبير من قرية البيار القريبة بأن يحضر إلى المدرسة،فقد تمرد وبدا كأنه غير أليف. استطعنا بكل وسائل التحايل والتحبب أن نقنع الصبي بالقدوم إلى المدرسة. (وكبر الصبي، وأصبح أكاديميًا يعلّم الرياضيات في إحدى ثانوياتنا).

كنا نتوجه إلى المدرسة البعيدة عن الشارع العام ثلاثة كيلومترات تقريبًا،فنترجل، ولا بد من أن نتسلح باللباس الثقيل في الشتاء وبالسوقاء (الجزمة) لخوض لجة الوادي الذي كان يغمر الأرض بالمياه بعد كل مطر.

أما العلاقات الاجتماعية في القرية فكانت على أحسن ما تكون من الثقة والإعزاز، فكنا نُدعَى لقراءة المولد النبوي، وبالطبع فالمدير هو القارئ المرتِّل،كما كنا نحل مشكلات محلية،أو نصلح ذات البين هنا أو هناك.

وتركنا المدرسة بعد أن غرسنا أرضها بالأشجار المثمرة وأشجار الزينة، وما زالت هذه الأشجار تداعب الرياح وتداعبها.

                                                                                    ***

مع ابتداء صيف 1963م قررت أن أتوجه إلى الجامعة العبرية لإكمال تحصيلي العلمي،فلا بد مما ليس منه بد.

وقفت على تلة تشرف على القرية، وودعتها بمقولة هرقل يوم أن ودع دمشق (وشتان بين السببين) وقلت:"وداعا يا وادي القصب، لن أعود إليك معلمًا بعد اليوم".

ويبدو أن القدر ساق قراره هو الآخر، فقد تم نقلي إلى مدرسة باقة الغربية الابتدائية، فسلمت بالأمر خشية أن يتعذر علي ذلك في المستقبل، وأجلت الدراسة الأكاديمية إلى أجل غير مسمّى.

عرض المدير الجديد علي أن أعلم الصف الأول، بدعوى أنه يعهد بالصف الأول إلى المعلمين الممتازين حرصًا على تنشئة الطلاب بصورة صحيحة.  كنت أعرف أنها ذريعة وحسن تخلص،ولكن ما العمل؟   لنعلّم الصف الأول!

كان المدير يقسم طلاب الصف الأول إلى قسمين- الأول فيه أبناء"المحسوبين" عليه، والثاني أبناء الناس الذين ليس لهم خصوصية معينة، فكان يعهد إلى بالقسم الثاني، حتى رفعت مرة صوتي محتجًا :"ألأن هؤلاء ليسوا أبناء ذوات تعاملونهم معاملة أخرى؟؟؟!".

وظل التعبير"أبناء الذوات" على ألسِنة المعلمين في مزاحهم وجدهم.

مع ذلك فقد اشتركت أنا ومعلم خاص بـتعليم" أبناء الذوات" في إعداد كراسات تعليمية، وحررنا مجلة للصف الأول، بل كنا نتنافس تنافسًا بناءً حول مَن مِن طلابنا يستطيع أن يقرأ في الصحيفة؟  أية نسبة إملاء أعلى في صفي أم في  صفك؟

وأيقنت أن كل تعليم لا بد فيه من منافسة إيجابية، وأذكر أن طلابي في الصف الأول كانوا يصرّفون الجملة بضمائر الغيبة، نحو:"هذا هو الرجل الذي كان عندنا".

بل كنت أعلّمهم حروف الجر وحركة الاسم المجرور بعدها، كما أعلمهم مقطوعات شعرية مختارة.

وعلّمت كذلك اللغة الإنجليزية للصف الثامن، فاخترت طريقة الترجمة، لأعطي الجملة العربية ليترجمها الطالب إلى الإنجليزية. وما زلت مقتنعًا – على خلاف أساتذة الإنجليزية المختصين- أن هذه هي أفضل طريقة لتعلم أية لغة. (وقد ثبت لي ولبعض طلابي ذلك وبشهادتهم).

واتفق أن كان بين زملائي في المدرسة نخبة من عشاق الأدب - أذكر منهم الأساتذة – أحمد غنايم،لطفي منصور،شاكر جبارة،المرحوم حسن سمارة، وكنا نناقش بعضنا البعض في تفسير بيت ما أو في إعراب كلمة ما، أو استخراج معنى معين.

الأمر الذي كان يحفز فينا المطالعة والدرس والتنقيب وحب الظهور أيضًا، وأحيانًا  بل كثيرًا المناكفة والمشادة.

وكانت مدارسنا –عادة- تحتفل بعيد الاستقلال كل سنة،فتزين الصفوف، وترفع الأعلام، وتُلقَى الكلمات، وينصرف الطلاب والمعلمون مبكرين - ولعل هذا يكفي  بالذات لأن يكون سبب فرحة.

كنت من الذين يتذمرون،بل رفضت أن أزين صفي، وأذكر أنني هجوت زميلاً لي، لأنه قال قصيدة في عيد الاستقلال،فقلت له سنة 1967م:

              يا أقل الناس معنى معتنى           لا تقل في الشعر قولاً مُذعنا

              يا لسخفٍ صاغه   مستشعرٌ         كله  سخفٌ  وما فيه الجنى

وهذه الروح الوطنية التي كانت كامنة في نفوسنا أخذت تتقد بعد حكاية ما جرى سنة سبع وستين.  

فإذا سَجن الجيش إمام المسجد الأقصى لأنه خطب وذكر في خطبته:"عيد بأية حال عدت يا عيد" فإن أول قصيدة محفوظات علمتها يومها هي هذه القصيدة للمتنبي.

ثم أخذت أختار لهم قصائد أذكر منها :"لو كنت من مازن" لقُريط بن أُنَيف، و"أبلغ إيادًا.." للـَقيط بن يُعمُر،و"أبت لي عفتي" لعمرو بن الإِطْنابة، و"أقول لها.." لقَطَري بن الفُجاءة. (العجيب أن بعض طلابي عندما التقيهم الآن يعيدونها على مسامعي مزهوين،مع أني نسيت أكثرها).

***

 

لم يكن لي ميسورًا أن أعلّم في المدرسة الثانوية.  فقد كنت أُجابَه بمعارضة سواء من وزارة المعارف أو من المجلس المحلي، بحجة أنني لا أحمل شهادة جامعية.  وكنت أتضايق إذ أجد الآخرين ممن لا يحملون الشهادة ولا يحسنون العربية يعلّمون. فبعضهم كان قد ارتاد الجامعة اسميًا، وما كان منهم إلا أن عينوه، حتى قلت يومها متذمرًا وساخرًا:

 

اذهب   إلى القدس صيِّفْ للمداراة             إن كنت تنشد فرع الثانويات

 يكفيك من قشرة في العلم تلحسها          واللب،ما اللب؟ محشو تفاهات

     ما أنت أول أستاذ أخي جهل             ما كان يعرف ترتيب العبارات

في قصة الطبل ضخم الصوت معتبر   هل حصل الكلب شحمًا في المعاناة؟

 

لذا فلا بد من أن ألتحق بالجامعة.

 

ومع أني حصلت على شهادة  B. A، والتحقت لدراسة الماجستير في الأدب العربي،  فقد كان صعبًا علي أن الج هذا العالم السحري، وأدرّس الكبار.

قيض الله لي رئيسًا  للمجلس المحلي - متنورًا هو الأستاذ محمود بيادسة، وقد أصر على دخولي الثانوية للتدريس فيها، وذلك  في 1/9/1974م،  ومع ذلك فقد كانت هناك عقبات وعراقيل، ولم يُسوَّ الأمر إلا بعد وفاة زميل آخر، فشغرت الوظيفة.

عرفت يومها أن الإخلاص والمعرفة لا يكفيان، بل يجب أن يكون لك سند أو ظهر، هو الذي يأخذ بيدك للمكافآت والوظائف والاستقرار.

 

كنت خلال عملي عرضة لاتهامات هذا الرئيس أو ذاك (فقد كان الرؤساء يتغيرون تباعًا حسب الائتلاف القائم، وما أكثر الانقلابات أيامها)، فهذا رئيس يطلب من المفتش أمامي أن يفصلني، لأنني دعوت إلى إضراب بسبب تأخير الرواتب – وبسبب كوني عضوًا في لجنة المعلمين، وهذا قائم بأعمال الرئيس يدعم مفتشًا آخر هددني بالفصل – لأنني سأسافر خلال الأيام الدراسية إلى ألمانيا – بدعوة من نقابة المعلمين – وكنت قد قزّمت محاولات هذا المفتش، وما جرؤت على ذلك لولا أنني كنت أعرف موافقة المعارف الرسمية على ذلك.

 

عندما تسلم الأستاذ جميل غنايم إدارة المدرسة الثانوية كنت مساعدًا له، وتصديت معه لكل محاولات فصله (تبعا لانقلابات المجلس). كنت أقول:"جميل أولاً وأنا ثانيًا".

وكان هذا الشعار/ الموقف يضايق الكثيرين، فقد اعتادوا أن يطالب الإنسان لنفسه أولاً، أما  أن يطالب لآخر فهذا هو وجه العجب؟!

انتخب أحد أبناء عائلتي رئيسًا للمجلس المحلي، وقد شاء قريبي أن يعين مديرًا آخر بدلاً من جميل، فوقفت ضد هذا القرار رغم كل محاولات الإغراء بالمنصب (نائب مدير) أو بالساعات (تخفيض ساعات العمل الفعلية).

 

عين المدير الجديد، لكني أصررت وبدعم نقابي أن نواصل معارضتنا للجديد، ففي اليوم الدراسي الأول 1/9/1980م.  كان ثمة برنامجان دراسيان – برنامج أعده المدير الجديد، وآخر أعددته أنا باسم مديرنا القديم، فأخذ يدخل الصف أول كل حصة معلمان، فيحدث أن يتنازل الواحد منهما للآخر، وقد يحدث أن يكون هناك شبه مشادة كلامية على مسمع الطلاب ومرآهم.

على إثر ذلك اتصلت بمكتب المعارف في القدس لأخبرهم عن هذا الوضع المضحك المبكي، لكنهم أجابوني بحدة:"لا يعنيك ولا تتدخل!!".

أحسست أن هناك من يكيد لمدرستنا، وكان العراك على وشك أن يقع يوميًا لولا أن صدر قرار محكمة العمل يحظر على المديرَين أن يديرا المدرسة، إلى أن تبتّ المحكمة نهائيًا، وقد كُلف مدير مدرسة ابتدائية أن يضع البرنامج ويشرف على المدرسة الثانوية.

 

واظب المدير المكلف بضعة أيام، لكنه كان مشغولاً بأمور أخرى، فقلت في نفسي: أمامك حكمة من التلمود فاستثمرها يا فاروق:-"إذا لم يكن هناك رجل فحاول أن تكون".

 

 اتفقت مع الزملاء – باستثناء ثلاثة منهم – على أن أكون أنا الذي يضع البرنامج ويدير المدرسة.  وهكذا عينت نفسي مديرًا طيلة ثلاثة أشهر،عملت فيها تطوعًا،بدون أجر أو ساعات أو اعتراف رسمي. وبدا الأمر وكأنني سأستمر في عملي مديرًا.

دعاني الأستاذ علي حيدر – نائب مدير المعارف آنذاك للقاء معه، قال:

"أود أولاً أن أحييك... ومع ذلك فأنا أقول لك إنك مجنون،
أحييك لأنك قدت وتقود سفينة في بحر عاصف، ومجنون لأنك تفعل ذلك بدون أية مكافأة أو اعتراف".

سُوِّي الأمر بين المديرين في المحكمة، فالسابق عين مديرًا تربويًا، واللاحق مديرًا إداريًا. ورغم أني دعوت كليهما إلى غداء مطهم للمصالحة بينهما، إلا أنني خرجت من كل هذه المعمعة بلا حمد يذكر، أو كما يقولون:" من المولد بلا حمص".

 

علمتني هذه التجربة القصيرة أن هناك من المعلمين من يدّعي الإخلاص، ولكنه لم يكن يفكر إلا في آخر الشهر، وفي الخصم أو الحسم الذي كان، وأن هناك من يتذرع لكي يتغيب، وهناك من يستعلي على طلابه – ويا أرض اهتزي – وهناك من يرى أن مجرد التحضير للدرس هو جريمة منكرة،فهو أستاذ الأساتذة!!!

 

كادت هذه التجربة القصيرة أن تودي بي، ففي يوم توزيع الشهادات حدثت فوضى لا مثيل لها بين الطلاب، إذ كان المعلمون حاضرين غائبين، وألفيت نفسي وحيدًا أصول وأجول، إلى أن شعرت بدوار شديد، فأمسكت بالجدار خوفًا من السقوط.  أدركني معلم الرياضة، وهدأني وهو يقول:
"وهل أنت تصلح ما أُفسد الدهر؟!  كن مثلنا، وراقب من بعيد، وأرح أعصابك....!!!".

                                                   

                                                                                  ***

 

في سنة 1978 بدأت أنشر في مجلة "صدى التربية" حلقات تحت عنوان"أستاذ قد الدنيا"- وهي لوحات أدبية ساخرة تتناول تدريس المواضيع المختلفة، وأنهيتها بمذكرات معلم، المدير يتحدث، المفتش..،مدير المعارف (وهذه الحلقة الأخيرة لم تنشرها المجلة).

وقد جمعت هذه الحلقات بين دفتي كتاب"أستاذ قد الدنيا" الصادر عن مطبعة كفر قاسم سنة 1979، وقلت في تصدير الحلقات:

"أرمي من وراء هذه الحلقات إصلاح أنفسنا، فمن يقصّر فينا فعليه أن يعتبر، ولنكن صرحاء ونقول: ما من أحد يمنع المخلص أن يعمل، إذن لماذا نهمل ولا نفتأ نتهم، وقبل أن يسيء فهمي أحد أؤكد أن كل الجهات بما فيها وزارة المعارف مقصرة، وقد أشرت إلى ذلك في أكثر من مقال".

وقراءة في هذا الكتاب بلوحاته الكاريكاتيرية (من رسم عمر سمور- طولكرم) تنبئك عن وضع التعليم العربي في إسرائيل.  كنت أتناول موضوع تعليم الرسم مثلا، فأقرأ في المصادر كيف يجب أن يكون، ثم أركز هذه المعرفة والثقافة التربوية على لسان معلم الرسم لدينا، فأجعله يسخر ويستهزئ، وسلاحه ما يجب أن يكون أصلاً، فهو يحبذ خلاف ذلك حتى تظهر المفارقة، فقد جعلته يجلس إلى طاولته ويستريح، ويطلب من الصغار أن يرسموا رسومًا حرة.

وقس على ذلك في سائر المواضيع!

ومن مثل هذه السخرية المرة كتبت في موضع آخر:

* مدارسنا كالمدارس اليهودية مزودة بالمختبرات والمكتبات والأبنية اللائقة.

*مدارسنا تعمر بالتعليم اللامنهجي، وفيها الخدمات السيكلوجية والاستشارة التربوية.

*المعلمون لدينا يُنقلون ويعينون حسب أصول عادلة وصالحة، ولا دخل في ذلك للمحسوبية، كما لا تتدخل مؤسسات وأشخاص لا علاقة لهم بالمعلمين في تثبيت أو تعيين أو فصل أو نقل.

* الرجل المناسب دائمًا في المكان المناسب، لذا لا تجد أشباه أميين وأنصاف مثقفين في إدارة المدارس... الخ".

وأظن أن هذا الكتاب الفريد في بابه يعكس إلى حد بعيد مآسي التعليم العربي سابقًا ولاحقًا، ونحن  بحاجة إلى إعادة طبع بسبب جرأته، أو بالكتابة على منواله بصورة أو بأخرى، وحبذا إضافة هذه الأبيات التي عرفتها بعد صدور الكتاب، وهي من شعر أبي صدام –عبد الرحمن كبها:

               ما رأى شاعرنا بعلم معلم                   جعل الحجاز     تحده أنغولا

           وبأن فعل الأمر من يرجو رجا          وتعال في الماضي يقول تعيلا

                  هيا أعيدوا للمعلم شأنــــه                 أو فاقبلوه مجهِّــلاً وجهولا

 

                                    *                         *                                 *

 

أما علاقاتي مع المعلمين فكانت غالبًا ودية، أنفتح على الآراء مهما اختلفت، وما أفكر به أقوله دون تردد، لذا كنت أحيانًا أصطدم بمناكفات ومشادات كانت تؤلمني جدًا.

ومع ذلك قلت لنفسي – لن أنشغل بهذه الخلافات العابرة، لأمض، سيكون ردي على من لا أعجبه-  تقدمي العلمي والأدبي!
 وها هي كتبي تنشر ومقالاتي تظهر.
 لن أتضايق من هذا المعلم الذي يصر على أن يحصل على نفس حقوقي في البرنامج الدراسي – رغم أنه لا يحمل أية شهادة، ولن أغضب لأن ذاك المعلم احتج لأنني  أنصرف مبكرًا لمواصلة تحصيلي العلمي.

وكم من مرة جابهني الزملاء بموقف موحد، وبقيت في حكم الأقلية – رغم أنه ثبت لهم أني على حق.

وثمة مرارة في نفسي أطعمها حين أتذكر أنني عندما تقاعدت وأنهيت العمل في المدرسة الثانوية – المدرسة التي أعطيتها الكثير جهدًا وبناء – عندها لم ير أحد ضرورة لتكريم أو ثناء.

 

                                         ***

 

أما علاقاتي مع الطلاب فهي خلاف ذلك.  كانت علاقة محبة وإعزاز.

كنت أحس بحبهم وحب ذويهم، فهم يعرفون مدى حرصي على فلذات أكبادهم، وكم أنا متحمس للموضوع الذي أعلمـه، بل كنت أتبادل الزيارات معهم.

عندما أنهيت عملي الرسمي في المدرسة الثانوية سنة 1991 دعوت طلاب صفي إلى قيسارية للقيام برحلة، فكانت الرحلة بتكاليفها، بل بالشواء والشراب فيها على حسابي.

فاجأني الطلاب يومها بتقديم مغلف كتبوا فيه انطباعاتهم الرقيقة التي احتفظت بها، وستظل مصدر اعتزاز لمعلم أحب طلابه وأحبوه، فقد كتبوا على الغلاف:

 

"إلى بابا فاروق"، ولا أدري لماذا تطفر دمعة حين أتذكر ذلك.

 

منذ بدأت التدريس كان  حبي لطلابي عميقًا في نفسي، فقد حدث ذات مرة أن رسب أكثر طلاب صفي في امتحانات الثوامن (كان هذا الامتحان يجري لدعم خريجي الصف الثامن  اقتصاديًا - لدى التحاقهم بالمدرسة الثانوية). أحسست أن طلابي مغبونون لسبب أو لآخر، وشعرت أنني أنا الذي رسبت، فكتبت قصيدة"خيبة وأمل"، وقلت فيها:

 

منارتي مخمودة الأعطاف

مرارتي يهمي بها

وقع السواد في الشغاف

مذ أخبروني أنني بلا قطاف

 

بمثل هذه العاطفة الذاتية أمضي قائلا:

 

يا أيها الصغار

يا أيها الأزهار

لا ضير إن كان الجفاف

لا بد أن ُيزجى الرواء

                            (نشرت في مجموعتي الأولى:"في انتظار القطار" – 1971)

 

ولا شك أن مجموعتي-  "إلى الآفاق" المعدة للطلاب وللصغار فيها قصائد عن الطالب – هو الطالب الذي أطمح في أن يكون في مجتمعنا – وعن المعلم – ويبدو لي -  اليوم - أنني كنت أصف نفسي فيها- :

 

وظلت شمعة كبرى         تضيء لنا وتحترق

نساجلها تفانيها          فيسطع ضوءها الألق

 يحدثنا بأن الخير كــ   ــل الخير في الإنسان

   وأن العقل منفتح       إلى التجديد والإيمان

   ويدعونا إلى رفض    لكل مسارب الظلم

     يحب العدل خفاقًا     ويعلي راية السلم

    وسلَّمنا يصعــِّدنا       إلى الآفاق ننطلق

         نعانق قمة الدنيا     بأيد نبضها يثق

(هذه القصيدة لُحنت وعُلمت في المدارس العربية – ضمن دروس الموسيقى)

 

كنت مقتنعًا بضرورة تعليم الطلاب على أسس ديمقراطية فيها الاحترام المتبادل، أدير حصة التربية بحماسة، وأحفز الطلاب على إبداء الرأي واحترام الرأي الآخر.

 كانت حصة التربية غالبًا حصة متعة وإثراء. وكانت الرحلة التي أقوم بها مع طلابي مدروسة جيدًا تاريخًا وجغرافية، وقد وصلت في الديمقراطية إلى دعوة الطلاب أن ينادوني باسمي، دون لقب"أستاذ"، وألا يقفوا لي احترامًا عند دخولي الصف، ولكن ذلك كان موضوع تندّر، ولم يستمر بسبب الظروف والجو الذي كان يفرض العودة إلى تقاليدنا التربوية.

لن أختم هذا الحديث دون أن أذكر أنني كنت متهمًا بمحاباة الطالبات والتودد إليهن، وبالطبع فهذا فيه شيء، بل كثير  من الصحة، لأنني بطبعي نصير للعنصر الضعيف في المجتمع، سواء أكان ذلك طالبًا فقيرًا أو طالبًا يتألب علية زملاؤه (ربما لأنني كنت كذلك في صغري)، وكنت أحس عميقًا بمدى اضطهاد المرأة في مجتمعنا، فكنت أقف إلى جانبها، ولا أنكر أن للجمال أثرًا يحتم مناصرتها، وهل الشاعر فيَّ يستطيع أن يعتم على ذلك، أو يعتم الضوء أيًا كان، ولكن ذلك لن يكون على حساب أي حق لطالب، فالحق حق.

 

***

في أواخر سني عملي في المدرسة الثانوية كُلفت بأن أكون عضوًا في أكثر من لجنة ضمن مناهج اللغة العربية، فكان صديقي الأستاذ محمود أبو فنة يعهد إلي بنشاطات لغوية وأدبية، فمن محاضرة هنا إلى يوم دراسي هناك، وشهادة حق أنه دؤوب وجاد، وليس لي وراء هذه الشهادة أي هوى.

كنت من المـتحمسين والفعالين في لجنة اختيار النصوص الأدبية في أوائل الثمانينيات، وكان لي أثر فعال بإدخال الشعر الحديث إلى مدارسنا. ويشهد تحليلي للنصوص الأدبية من شعر ونثر على مدى حرصي على استقاء المصادر والدراسات الملائمة التي ترفد موضوعنا. ومن حقي على نفسي أن أقص كيف استقبل الزملاء صدور كتابي"الجنى في الشعر الحديث" و"الجنى في النثر الحديث"، ولأسق مثلاً واحدًا:

دعاني الأستاذ أسامة محاميد -مركز اللغة العربية في ثانوية أم الفحم-، وقال لي بحضور معلمي العربية في المدرسة:"يا أستاذ لقد علّمنا الشعر الحديث في السنة الماضية، فكنا بحالة أشبه بمتاهة،وبصراحة أحسسنا أننا لم نأكل لقمة عيشنا حلالاً، أما هذه السنة فنحن مع كتابك نشعر بالاطمئنان. هو يضيء لنا، يعطينا مفاتيح، ويمكننا من أن نستقل في شروحنا، فباسمي واسم زملائي نقول لك شكرًا جزيلاً".

وظلت هذه اللقطة ومثيلاتها راسخة في ذهني، لأن بها عرفانًا، وتعترف لي  بالتعب والمعاناة، وهذا مما يسرّي على النفس، ويزيل لغب المتطاولين المتجنين الذين رددوا أن الجنى"جناية" سامحهم الله،ولا يغريهم بذلك سوى الجناس، وإنكار فضل الناس، وظل الكتابان أو مكثا في الأرض.

وكان الأستاذ أبو فنة أولاً قد رحب بكتابيّ عند صدورهما، ودعاني أمام المعلمين  وكنا نصحح دفاتر البجروت-لأقول كلمة عنهما، فكان ذلك تشجيعًا، غير أن الذين تحفظوا –وللحق- تحفظوا من  اعتماد بعضهم على التلقين المجرد، والتقيد  الحرفي بمادة الكتاب، لكنهم كانوا يشجعون على دراسة الكتابين والاستعانة بهما في حل الوظائف البيتية.

دُعيت مرة إلى يوم دراسي لمناقشة أساليب تدريس النصوص، وكان الأستاذ كوبيليفيتش مدير المعارف حاضرًا.  وعندما تحدثت في كلمتي أوليت اهتمامًا بالغًا للإلقاء والأداء، وألقيت نماذج شعرية على مسامع الحضور مما يوجب التماثل بين المعنى والإيقاع المطلوب.

سأل مدير المعارف مستهجنًا:

فاروق، هل حقًا تريد أن يتعلم طلابك بهذه الطريقة التمثيلية؟!

قلت: يصعب عليك – أن تستوعب ذلك، لأن الشعر العربي مرتبط بوتائر الدم صعودًا وهبوطًا، ونحن ما زلنا نحس بالشعر يسري في عروقنا.

قال: رغم الإساءة لي فأنا أقبل رأيك،تابع حديثك!

أخذت العلاقة تتوطد مع التفتيش(رغم استفزازات بعضهم لحضور دروس لي من قبيل الكيد ليس إلا)، وكُلفت بإعداد كراس عن ابن سينا،بل عهد إلي بدءًا من التسعينيات أن أكون عضوًا فعالاً في أكثر من لجنة، وإليك بعضها:

-         لجنة منهاج قواعد اللغة العربية للمرحلة الإعدادية والثانوية – برئاسة د. فهد أبو خضرة.  وهنا تحمست جدًا لطريقة الفصل بين المرحلتين(حيث في الإعدادية – تعليم المادة من الناحية الوظيفية، وفي الثانوية – الإعراب وبشكل مكثف)،وبقيت مدافعًا متحمسًا عن الكتب الجديدة التي أعددناها (الجديد في قواعد اللغة العربية) على خلاف زملائي الذين أخذوا يتحفظون الواحد تلو الآخر. ومع أن الكتب لم تحظ حتى وقت متأخر  بمرشد للمعلم، ولم تحظ أصلاً  بإرشاد فعلي في الحقل، ولم تكن هناك متابعة  واستبانات جريًا على ما يتم بُعيد كل منهج جديد، إلا أن أصداء هذه الكتب الإيجابية تزداد يومًا بعد يوم.

-         اللجنة العليا للغة العربية – برئاسة د. سليمان جبران، وفيها نتدارس البديل للدخيل، وقد أصدرنا ثلاثة كتب من –"المنهل في المصطلحات المعاصرة".

-         لجنة الحضارة والتراث العربي، ولا أدري إن كان سيصدر هذا المنهاج الذي عكفنا على إعداده خلال أربع سنوات.

-         لجنة التراث لرياض الأطفال برئاسة السيدة سنية أبو رقبة.

-         لجنة اختيار النصوص الأدبية للمنهاج الجديد المرتقب.

-         لجنة إعداد المرشد لتدريس قواعد اللغة، وقد أصدرنا المرشد.

-         لجنة اختيار مواد أساسيات اللغة العربية لطلاب كليات دور المعلمين العربية وغيرها، وقد أصدرنا ثلاثة كتب  للطلاب. 

-         لجنة لإعداد فصول في تدريس اللغة العربية والتعبير – برئاسة د. نمر سمير (أصدرنا كتابا في ذلك).

وقد أفدت جدًا من هذه اللجان:

أولاً – بأن تعرفت إلى أساتذة مرموقين، وهم متميزون في مواضيع اختصاصهم، فكانت المعلومة الواحدة تتلقفها نقاشات مثمرة، وقد عرفت أن ليست معلوماتي بالضرورة هي الصحيحة.

وثانيًا – لأنني كنت مقتنعًا جدًا بالعمل الفردي، فإذا بي أشارك فردًا ضمن العمل الجماعي أو عمل المجموعة، ومعنى ذلك أن أفكر وأقدر قبل أن أدلي بدلوي، وأن أبحث وأنقب وأدقق مصداقًا لقوله تعالى:"وقل ربي زدني علما".

وثالثًا – هذه الصداقات بيننا،وهي المبنية على أسس طيبة تدور في عالم العلم والأدب، وتحلق بعيدًا عن فلك المادية المحضة.

وأخيرًا لا بد من الاعتراف بفضل السيدة خولة السعدي التي عملت سنينًا طويلة مديرة قسم المناهج العربية، ولم تكن  تني عن تحفيزي على المشاركة الفعالة، بل كانت  تعهد إلي كثيرًا بمراجعة لغوية أو تدقيق لغوي لهذا الكتاب أو ذاك.

إذن ها هي ثقتي بنفسي تجد لها متنفسًا، فإذا قصّر حظي عن أن أكون مديرًا أو مفتشًا بل مركزًا للغة العربية في مدرستي، فها هي مؤلفاتي بين أيدي الطلاب، وها هي نشاطاتي تؤتي أُكلها سواء في اللجان المختلفة، أو بمئات المحاضرات التي أقدمها للطلاب والمعلمين العرب في مختلف أنحاء البلاد. (جدير أن أذكر في هذا السياق أنني كنت مرشدًا لسنة واحدة في موضوع كتابة الأبحاث، ومرشدًا في سنة أخرى لإعداد نصوص عن التراث المحلي لرياض الأطفال).

***

    ما زالت علاقاتي مع التربية والتعليم في أوجها.  وها أنا اليوم أحاضر في كلية القاسمي  - حيث رأست  قسم اللغة العربية ثم مركز اللغة العربية،  وفي الكلية العربية للتربية في حيفا.  إضافة إلى محاضراتي في الجامعات ضمن استكمالات المعلمين، ولكم أحس بهذه المودة وهذا الاعتزاز بيني وبين طلابي، وأحس بمدى تعلقي بمادتي التي أدرسها، وكذلك بمدى عشقي لهذه المهنة – المعلم – وتبقى صفة"المربي" من أجمل ما أعتز به حقًا وصدقًا.

    ويحضرني الآن دعاء كانت والدتي تكرره دائمًا:" اللهم أسألك العفو والعافية".

    فأنا هنا أنشد العفو إن كنت قد قصرت، وأرجو أن تظل عافيتي لي ما أمكن ذلك – حتى أستمر على درب العطاء. ومن يدري فقد أعود ثانية للكتابة عن هذه الفترة – العمل في دور المعلمين – وذلك بعد تقاعدي النهائي عن العمل.

لقد تقاعدت عن عملي في الثانوية، فزاد نشاطي في الكليات، وها هي أربعة عقود تمضي، وأمضي في رحلة العمر.

ملحق أمني لا بد منه:

 

لا بد من تناول الموضوع الأمني فيما يتعلق بسيرتي شخصيًا، فلعل ذلك يعكس بعض ما مر على الوسط العربي عامة.

لا أنكر أن كل تعيين لوظيفة رسمية يجب أن يمر عبر الدوائر الرسمية، ولا بد من موافقة أمنية، فهذا أمر لا مشاحّة [1] فيه، ولكني لم أكن أعرف مدى حولهم وطولهم إلا بعد اللقطات التالية:

- عندما انتخب قريبي رئيسًا للمجلس المحلي في أواخر السبعينيات كنت أجلس في ساحة منزله، فإذا بشخص غريب مريب يحمل حقيبة سوداء ويلبس نظارة بيضاء.  طلب هذا أن يختلي بالرئيس، وبعد ساعة خرج مودعًا"شالوم شالوم".

سألت الرئيس: ومن يكون هذا؟

قال: هذا من جهاز الأمن. حضر خصيصًا ليحذرني من تعيينك مديرًا أو مسؤولاً في لمدرسة الثانوية.

قلت في نفسي:"لعل الرئيس يبحث عن ذريعة لإبعادي عن الوظيفة، لا بأس".  ولم أصدّق قريبي  إلا يوم أن كان يهاتف الأستاذ علي حيدر – نائب مدير المعارف – ويقول له على مسمع مني:"أعطينا فاروق ساعات لنيابة الإدارة"، وقبل أن يجيب حيدر قدم لي الرئيس السماعة لأسمع بنفسي الجواب. كان صوت حيدر يداعب الرئيس بقسوة:"ألا تعرف أن الأمر ليس بيدي ولا يدك،ضب حالك واسكت".

سمعت ذلك، وناولت السماعة على التو للرئيس ليواصل مكالمته.

سألني الرئيس فيما بعد: وماذا قال لك؟

قلت ماكرًا: "قال لا مانع عندي، وأنا أشجع ذلك".

قال منكرًا: بلا دواوين.

وقبيل انتهاء فترة رئاسة قريبي عينني نائبًا للمدير، قدّم لي رسالة  التعيين، وهو يقول لي:" لن يهمني أحد"  - قال ذلك وكأنه يجابه شخصًا معينًا، ثم أردف:"سيأتي الرئيس الجديد المنتخب، وسيكون أول عمل يقوم به هو فصلك عن نيابة الإدارة، لأنه سيُطلب منه ذلك"....... وهكذا كان.

-         في أوائل السبعينيات استدعاني مرة موظف جديد في وزارة المعارف يدعى م. غولن.  طلب مني الحضور إلى نتانيا لمقابلته في أمر هام.  خلت أن الأمر حقًًا يتعلق بالنشاطات التربوية والتعليمية، فحملت الأمر على محمل الجد، وتيمنت خيرًا وسافرت. 

أخذ هذا يحقق معي وسأل بحدة: لماذا تتطرق إلى السياسة في دروسك؟

-         ولماذا تسألني ؟ ومن أنت؟

-         أنا من الأمن وأعمل مباشرة مع مدير المعارف، ويهمنا أن يخلص المعلم في عمله ويبتعد عن السياسة، وإلا فإننا سنوقفه عن العمل.

-         ظننت أنك استدعيتني لأمر تربوي، فإذا بك تخيب أملي، خسارة.....!

-         هذا هو الأمر التربوي الأول والأخير.

-         أنا آسف لحضوري،بل إني أطلب منك أن تدفعوا لي أجرة  يوم العمل وأجرة الطريق.  لقد خسرت يومًا.  وما لبثت أن أدرت له ظهري.  (فيما بعد تبين لي أنه كان قد استدعى الكاتب محمد علي طه وغيره، وقد لاقى منهم موقفًا حادًا وجادًا بيّن له أننا شببنا عن الطوق).

-         في إحدى المسابقات حول الوظائف الشاغرة تقدمت بترشيح نفسي للعمل مديرًا للمدرسة الثانوية – وقد كان هذا حلمي-، وبينما كنت أنتظر مدير المعارف كوبيليفيتش، وأنا جالس  أمام مكتبه وراء عمود يحجبه عني، فإذا بي أسمع حوارًا بين مدير المعارف ومندوب منظمة المعلمين الثانويين – طاليب.

 قال طاليب: لنفسح المجال لفاروق، فهو مرشح لم يخض التجربة، فأجابه مدير المعارف: مستحيل.  إن له ملفًا ضخمًا يحول دون ذلك.  فقال طاليب (وهو من العفولة وكان يعرفني جيدًا) :

 أنا لا أعرف التطرف فيه.  فأجابه المدير: هم أعرف منا.

-         شكوت لصهر لي في قرية ميسر من هذا التنكر لي والوقوف حجر عثرة دون تقدمي، وكنت أطمح أن أكون مفتشًا للغة العربية، وكان ذلك أوائل الثمانينيات.

قال صهري: غدًا سيحضر إلى منزلي بعض رجال الأمن لتناول طعام الغداء، فهل لديك استعداد أن تعرض أمامهم طلبك.

قلت: لن أخسر شيئًا.

كان ثمة حديث صريح بيني وبين المسؤول الأمني عن المنطقة.

قال بصراحة: إذا ساعدتني ساعدتك، وهذه الوظيفة هي أقل ما يمكن أن تستحقــه.

-         كيف سأساعدك؟

-         لا أطلب منك أن تذكر لي ماذا قال هذا، وماذا قال ذاك،فهناك متطوعون لذلك.

-         إذن، بماذا؟

-         بتحليل ظواهر. ألست تقول إن هناك ضرورة للتعايش العادل  بين العرب واليهود في إسرائيل، وبأن هناك ضرورة للمساواة.

-         بلى.

-         إذن سنلتقي كل خميس لنتداول شؤون الوسط العربي الذي تحرص  أنت على أبنائه  خوفًا من أن يقعوا في ما لا يحمد عقباه. هناك سيكون بيننا تعاون في البحث عن طرق المعالجة في أية مشكلة عارضة.

-         ليس لدي وقت، وأنا لا أحسن تحليل الظواهر السياسية و..

-         لا تتعب نفسك، فأنا أعرف أنك لن تقبل، لكني أود أن أذكر لك أمرين:

1-    أن تتأكد أن ليست هناك أية وظيفة رسمية للعرب أو اليهود لا تتم موافقتنا عليها.

2-    لقد وجدت لديك موقفًا ما،فنصيحتي ألا تتقدم لأية وظيفة رسمية شاغرة بعد اليوم دون أن تكون قد"خيطت" الموضوع.

-         القانون يفرض عليك إذا كان لي حق، ولن أتردد في ترشيح نفسي لما أحب.

-         أنت حر، ولكنك ستتذكر نصيحتي يوما ما.

ولم أقبل نصيحته، فقد تقدمت لعطاء وظيفة شاغرة – أن أكون معدًا لمناهج تعليمية معينة، وكنت يومها أحمل شهادة M. A، وإجازة التعليم معًا.  ولكن لجنة العطاء اختارت مرشحًا آخر لم يكن قد حصل على الشهادة الأولى، بحجة أن له خبرة سابقة.

قلت في نفسي: لقد نصحني الرجل، لن أتقدم إلى المحاكم، ولن أتقدم لأي عطاء أو وظيفة، فمن يحتاج إليك يبحث عنك.

وهكذا كان.

ويبقى السؤال: هل تغيرت هذه الأساليب، وإلى أي حد؟!!

 

 


 

صفحات في الكلية في باقة الغربية

 

كان أستاذي زامل أبو مخ معلمي لمادة الدين الإسلامي، ومربي صفي بدءًا من الصف الثالث وحتى الخامس. كان صديقًا لي وزميلاً في مهنة التدريس، متدينًا من أتباع الطريقة الخلوتية، إمامًا في مساجدها، وخطيبًا من خطبائها.

 كنت ألح عليه أن يقترح على شيخ الطريقة الخلوتية، وكان آنذاك الشيخ جميل القواسمي أن يبادر إلى تأسيس معهد يقوم على تدريس الشريعة واللغة العربية، فيفيد منه الخريجون الذين ضاقت بهم السبل الأكاديمية.

يجيبني الشيخ زامل –زميلي- بعد أن سمع رد فعل شيخ الطريقة:" هذا الحلم في تأسيس معهد ديني كان يفكر به سيدنا الشيخ حسني القاسمي. لا بد من التقدم بالطلب الرسمي للسلطات".

قلت له: "أظن أن الرد لن يكون إيجابيًا، فقد علمتنا السلطات أن نفرض واقعنا فرضًا، إنهم سيعترفون  -إن آجلاً أو عاجلاً- بما هو على الساحة فعلاً، فلا بد من خطوة جريئة!

كنت أناشده أن يبلّغ الشيخ  هذا الرأي في ضرورة المشروع.

لا أزعم أنهم استجابوا لدعوتي، وهل لرأيي  حساب في حركة دينية منظمة؟

بل أزعم أن دعوتي لاقت أصداء إيجابية –كما أخبرني أستاذي-، ولم أغنم سلامة الإياب فقط، بل كنت مؤيدًا، وهذا حسبي.

في سنة 1989 أسِسَت"كلية الشريعة والدراسات الإسلامية"، في مشيخة الشيخ عفيف القواسمي الذي قلت فيه من قصيدة لي عن الكلية، وكان وديًا حميمًا:

                  وشيخها ألق يعطي بهمته    إيثاره غدق في نعمة النعـــم

اختير أربعة محاضرين لتدريس صف من البنين وآخر للبنات، وأصبح الحلم حقيقة، والأماني إرادة.

في السنة التالية دعاني مدير الكلية آنذاك  السيد زياد زامل أبو مخ، وكان من طلابي قبل سنين-  لتدريس مادة النحو. كان هناك صفان للبنين وصفان للبنات، وكان لكل من الجنسين مدخل خاص، حتى لا يختلط بالجنس الآخر.

كنت متحمسًا لتأسيس الكلية، ورأيت فيها مشروعًا جليلاً مباركًا، بل أبديت رغبتي بالعمل تطوعًا واحتسابًا.

في سنة 1992 توجهت لإدارة الكلية باقتراح توفيريّ، ويقضي بإلغاء التفرقة بين الجنسين في القاعة الواحدة، فبدلاً من ستة صفوف لتكن ثلاثة! ولما تحقق ذلك كانت ساعاتي ثلاثًا بدلاً من ست، وبقيت على مسرتي ورضاي.

قررت إدارة الكلية أن تجمع البنين مع البنات في قاعة واحدة، لكنها أقامت ستارًا خشبيًا طوليًا يفصل بينهم. يقف المعلم في المقدمة، فيراوح في وقفته وفي توجهه، وإذا جلس إلى طاولته كانت كل عين له تتجه نحو مجموعة.

ظل الأمر كذلك إلى أن عُين د. محمد عيساوي مديرًا للكلية سنة 2001، في مشيخة الشيخ عبد الرؤوف القاسمي، فحضر بهمة جديدة، ورؤية منفتحة. فكان أول ما قام به المدير نزعَ الستار الخشبي، والطلب من البنات أن يجلسن في مؤخرة الصف الواحد المشرع أمام الهواء الطلق، وأن تكون للفتاة حرية ضمن المألوف في مجتمعنا.

أخذت الأمور طابعًا تنظيميًا يطابق ما في  الكليات المميزة في البلاد.

 

                         *                               *                                   *

 

كانت الكلية تخصص لي نصف وظيفة، ولا ترى تثبيتًا لي في عملي، حتى إذا جرت يد

الاعتراف سنة 1995 تم لي التثبيت بوظيفة كاملة.

طلب مني مدير الكلية –كما طلب من غيري-  أن أراجع خطط المساقات جميعها في كل المواضيع، وقد قمت بتنظيم المواد، وحذف الحشو، وتنسيق العرض، بل إنني راجعت مساقات التربية الإسلامية لتكون مادة  أكاديمية، فقد رأيت في خطة مساق في الدين مثلاً:"الطهارة، معناها، وأنواعها"، مع أن هذه المادة تدرس في الابتدائية، فكان علي أن أجعل الموضوع ملائمًا للدراسة العلمية، كأن يكون الموضوع: مفهوم الطهارة في الإسلام، والتجديد فيه مقارنة مع الطهارة في اليهودية والنصرانية.

 

في 22 أيار 2002 بدأت عملي رئيسًا لمركز اللغة العربية، حيث أقيم احتفال بتأسيسه، حضره ضيوف من مؤسسات أكاديمية وتربوية، وبعد سبعة أشهر تم اختياري عميدًا لشؤون الطلبة.

في  مركز اللغة العربية أسست مكتبة خاصة للغة ودراساتها، وأصدرت كتابين عمدت إلى أن يكونا ضمن سلسلة متواصلة-"أبحاث ودراسات في اللغة العربية" –صدرالكتاب الأول سنة 2003، والثاني سنة 2004، وتوقف الثالث مع انتهاء مهمتي.

ثم أجرينا مسابقة بين المدارس لاختيار ثلاث منها لجوائز مالية، أعلنت أولاً في مطلع السنة المدرسية عن الترشيح، وعن ضرورة تقديم مقترح بالنشاطات في مجال اللغة والأدب.

في أيار كانت لجنة من المختصين من أساتذة العربية تطوف المدارس التي رشحت نفسها، ووضعت معايير تم فيها اختيار المدارس الفائزة. وفي أواسط حزيران دعيت المدارس المتنافسة كلها إلى مهرجان اللغة، وقدمت كل مدرسة عرضًا قام به طلابها.

كان الاحتفال الحاشد في كل مرة عرسًا للغة، وتتويجًا لنشاطات المدارس.

 

ثم بحكم وظيفتي عميدًا للطلبة بادرت إلى جمع التبرعات من أهل الخير من باقة الغربية، ذلك لأنني لمست الاستعداد لديهم. بادرت للمشروع بعد أن عرفت من بعض الطلاب أنهم لا يحضرون للكلية بسبب عدم توفر أجرة السفر.

شعرت أن الأهل يجودون إذا عرفنا كيف نتوجه إليهم، وإذا وثقوا بمن يتوجه، فأكسبني ذلك ارتضاء ومضيًا.

 

يعمد مدير الكلية إلى سنّة متبعة في الكليات الجادة، وهي التناوب في المناصب الإدارية كل أربع سنين، وذلك حسب الدستور الرسمي للكليات.

 من هنا كنت أتناوب أنا والصديق د. ياسين كتاني رئاسة قسم اللغة العربية حتى سنة 2010، وقد رأست القسم مرتين، وكنا نتعاون معًا في سبيل إخراج نشاطاتنا إلى حيز التنفيذ والتقدير، وكان الواحد منا للآخر يدًا يمنى ومُحبِّـة.

من نشاطاتي في القسم أنني أقمت مؤتمرات سنوية في عناوين مختلفة، منها: حسان بن ثابت بين الجاهلية والإسلام، القرآن لغة وبيانًا، الشعر المحلي، أبعاده واتجاهاته، الخطابة في العصر الإسلامي...إلخ

ومن نشاطاتي كذلك أنني أصدرت بالتعاون مع برنامج الممتازين  ثلاثة أعداد من مجلة: رواد الضاد، حيث كانت الكتابات الطلابية المميزة والإبداعية.

-         هل أضيف إنجازًا - التوصيات بتعيين بعض المحاضرين المميزين اللامعين في الأكاديمية، فعينتهم الإدارة، ولمستْ ثمار عملهم وعطائهم؟

-         أظن أن ذلك مبعث فخر.

 

كانت علاقتي بأبي زامل – مدير الكلية السابق- علاقة وطيدة. كنت أتعاون معه، وأحب فيه نشاطه الجم، وحرصه على لغة عربية منتقاة، وكنت سندًا له في وظيفته في مكتبة الكلية التي بدئ بها منذ أوائل الثمانينيات.

تسلم  د. محمد عيساوي – الإدارة بعد أن كان نائبًا للمدير، وبدأ التغيير الذي أشرت إليه أعلاه، ولم يمر هذا التغيير بيسر، وحتى أقدم صورة لمثل واحد  أدعو القارئ لأن يتخيل عزف موسيقا في حفل نهاية السنة في كلية الشريعة!

عرفت الأستاذ عيساوي قبلاً في كفر مندا قريته، وتجاذبت معه أطراف الحديث يوم أن زرت المدرسة الثانوية التي كان يعمل بها، يومها حدثني أنه خريج مختص بامتياز بموضوع الإدارة. ثم عرفته زميلاً يوم أن التحق بهيئة  المحاضرين، ونائب مدير للكلية.

كانت علاقتي به حسنة، لولا ما اعتورها من لقطات سوء فهم، أسجلها للحقيقة والأمانة:

أولها أنني فكرت بتأسيس جمعية عثمانية للغة العربية، وكانت أمنيتي أن أجمع تبرعات بالتنسيق مع الكلية لدعم المشروعات التي أحلم بتحقيقها، من إصدار كتب محكمة، ومن تقديم جوائز للمبدعين، ومن....

علمت الكلية بالأمر، فإذا بي أكتشف أن فعلي ليس قانونيًا، بل هو تجاوز للجمعية التي أقامت الكلية، وفيه تناقض مبدئي وغير قانوني.

كاد الأمر أن يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه لولا أن أحضرت وثيقة تؤكد أنني لم أسجل الجمعية رسميًا.

ثانيها أن مظاهرة الطلاب يوم 14/1/2010 احتجاجًا على المجازر التي جرت في غزة كانت ظاهرة لم تألفها الكلية. ناشدتُ الإدارة أن تمر على المظاهرة مر الكرام، وأن تعتبر الأمر"فورة". وكان من منطق الكلية أنها اتخذت لها نهجًا أكاديميًا له رؤيته الخاصة في معالجة القضايا اليومية والاجتماعية.

قرر رئيس الكلية عقد اجتماع لأصحاب الوظائف، ولأعضاء المجلس الأكاديمي لتداول الأمر، وفي الجلسة التي عالجت الموضوع بمسؤولية  فوجئت بأن أحد"الوطنيين"  تحدث داعيًا إلى عقاب" المتخاذلين من أصحاب الوظائف".

تحدثت بعدها مؤكدًا حرصنا جميعًا على سمعة كليتنا، وعلى مستقبل طلابنا، وناشدت الرئيس أن يغفر لطلاب لم يجدوا إزاء الجرائم التي حدثت إلا أن يرفعوا أصواتهم: لا، ونحن لا نستطيع أن نلجم كل حركة وكل قول أو فعل من طلابنا خارج الكلية.

ظل الأمر بين مد وجزر إلى أن تبين  صواب رأيي دون أن يشار إلى ذلك، وليس من الضروري أن يشار.

كانت هناك هنات أخرى آذتني، لكن الإيجابيات كانت تطغى، فرئيس الكلية كان يكلفني بأن أنوب عنه في أكثر من موقف، وكان يدعوني إلى أكثر من لقاء لاستقبال وفود تزور الكلية، ويكلفني بمهمة تلو الأخرى من موضع ثقة يضعها، ويؤمن بتحقيقها كما يحب.

 

بعد الاعتراف الرسمي بالكلية - لإعداد المعلمين بدئ بتخريج الطلاب حملة شهادة  B.ed ثم أصبح اسم الكلية"أكاديمية القاسمي" بدءًا من سنة 2004 نسبة لمؤسسها من آل القواسمي – ومنهم مشايخ طريقة القاسمي الخلوتية الجامعة، وكان سبب التغيير من"كلية الشريعة" أن التخصصات لم تقتصرعلى الشريعة والدراسات الإسلامية، فقد بدأت الأكاديمية بفتح تخصصات كثيرة ومختلفة، وما لبثت أن رعت كلية تكنولوجية، وروضات الأطفال، ومدرسة ثانوية، وهي في سبيل تأسيس كلية  أكاديمية يحصل خريجوها على شهادة B.A يبدأ بها العام المقبل.

أما المكتبة التي شرع بتأسيسها الأستاذ زامل، وواصل دعمها ابنه زياد – مدير الكلية، عملاً على تنفيذ فكرة الشيخ ياسين القاسمي، فقد تم تدشينها  وتوسيعها وشراء آلاف الكتب والمجلات.

طُلب مني أن أؤرخ المرحلة الجديدة شعرًا، لتنقش الكلمات على مدخل المكتبة، فكتبت:

أرسى البناء بهمة إذ تعتلي            شيخ الطريقة من سلالة أصّــلِ

فأقام مكتبة ليهدي نورهـــا           علمًا لطالبـــها بصفوِ المنهـــــلِ

الله يجزي فضلكم بجزائـه             كليةً تدعـــــــو لبِرِّ المُــفْــضِل

أنت العفيفُ القاسميُّ أؤرخ:

                                         لك آية التعظيمِ، جودك طاب لي

وبحساب الجمل فإن الجملة بعد لفظة (أؤرخ) يبلغ حسابها 1997، والأمر الجديد هنا أن الحساب كان لتاريخ ميلادي لا هجري.

 

لا بد من ذكر شخصيتين لهما كبير الأثر في العمل الدؤوب، أولهما هو السيد محمد زكي أبو مخ، طاحونة نشاطات ومبادرات وحسابات وبرامج ونتائج (الطريف أنني علمته مادة الحساب عندما كان في الصف الثالث). وثانيهما السيد أحمد وتد (أبو حسان) مساعد المدير ويده اليمنى في  إعداد برامج المعلمين، ومتابعة شؤون الطلاب، وعمله المخلص

الجاد.

لا أنس عددًا من زملائي الذين كدوا وجدوا، وبادروا وثابروا، بدءًا من نواب المدير وانتهاء بالموظفين الذين كانوا كلهم أسرة واحدة متضافرة متعاضدة.

هذا الحب الذي  لمسته من زملائي، وهذه العلاقة الحميمة مبعث فخر واعتزاز لي على   مسيرتي، وأخص هنا علاقتي بطالبي سابقًا ثم مدير الثانوية التي عملت بها، د. ياسين كتاني رئيس مجمع القاسمي للغة العربية وآدابها، فقد أصدر لي كتاب نبض المحار وتعاون معي في كل مشروع بناء، كما كنت سندًا له وعضدا.

 

أما عن الترقيات الأكاديمية، فقد كنت أول محاضر في البلاد يحصل على درجة محاضر كبير أ = أول في اللغة العربية، بل أول محاضر يحصل على  مثل هذه الترقية في القاسمي، وهي ترقية تضيف للراتب علاوات ملموسة.

ثم اختارتني الأكاديمية لأكون عضوًا في المجلس الأكاديمي، وعضوًا في المجلس الأكاديمي الأعلى، وعضوًا في لجنة الترقيات الأكاديمية التي تنظر في ترقيات المحاضرين ومدى استحقاقهم.

ثم ما لبثت الأكاديمية أن رشحتني للحصول على الأستاذية، وذلك بمتابعة جدية، وبمنتهى المسؤولية التي أولاها رئيس الكلية أبو إياد (د. عيساوي)، وقد توج ذلك بحضوره جلسة القرارفي مجلس التعليم العالي، وكان أعضاء الجلسة سبعة بروفيسورات قرأوا الملف قراءة دقيقة وعميقة. سأل الأعضاء المدير أسئلة كثيرة، فأجاب عنها بحماسة محاميًا متألقًا -كما علمت فيما بعد. وتم قرار ترقيتي بالإجماع يوم 27 آذار 2011.

بعد دقائق اتصل بي المدير وأمارات الفرحة تسمع من نغمة صوته أنني حصلت على اللقب المرموق، فهنيئًا لك يا فاروق!

وأصر رئيس الكلية على  تكريمي، فدعا رؤساء الأقسام والمسؤولين لاحتفاء خاص، فإذا بهم  يتحدثون الواحد تلو الآخر بكلمات طيبات، ويعرضون فيلمًا عن نشاطاتي وقراءاتي الأدبية، وصوري في مراحل مختلفة من عمري، ويقدمون لي مجلدات كتاب الأغاني وبطبعته الجديدة، ومعجم ابن شوشان للغة العبرية بطبعته الجديدة أيضًا.

كان لا بد من إزجاء التحية في نص شعري، أذكره هنا:

          كرمتموني

كـرّمتــمونــي جدتُــمُ كرَمـــا               والحـظُّ منكــم بـاتَ مبــتــسما

توّجتمــــــوني كـــــلَّ مأثرةٍ                وأزحتـــمُ عن كاهـلي الألـــما

رقص الفــؤادُ لفضلِكم طربًـا              فرحي بـكـم يشـــدو لكم نغمــا

كلّــتْ عيوني وهي باحثــــةٌ               واليومَ قرّتْ شامــــتِ الـشَّمـما

أهـــلَ الطريقـــةِ ما أجلَّــهُمُ               عملاً وعلـــمًا أسبغـوا النِّــعــما

كلّـيةً سمــقتْ،عـلا غــدِقــتْ             في علمِها سبقتْ، مضت قُـدُمــا

يرقى مُحاضرُها وحاضرُها              ترقـى مآثـرُها ســمــتْ شـيــما

وأبـــو إيــــادٍ قــاد في جَـدَد                أمِــنَ العِـــثارَ فــكانَ مُقـتَحِـما

إخلاصــُــهُ مَـــثَـلٌ لمجتهـدٍ               إيمانُــــــهُ أمـلٌ  كمـــا عَزَمـــا

تَجـــــزي مهارتُــه إدارَتَــه                يُجري السفينةَ شُــبِّـهتْ عَـلما 

لا يشكر الرحمـنَ معتصِـمٌ                إلا بشكـــرِ الناسِ معتَصِـــمـــا

شكــرًا لـكمْ يا خيرَ مُحتَــفَلٍ               أهـلاً بكــمْ إذ صُنـــتمُ الذِّمـــما

هذي عقـودي  سبعةً نَهَزتْ               فيكم وجـــدتُ صبايَ مرتَسِـما

اللهَ أدعـــــــــوهُ لعافيــــــةٍ                العـهـــدُ أقـرأ أو أفـــي القلمــا

                                                                      نيسان 2011

 

أنهيت العمل  رسميًا في الأكاديمية مع مطلع  أيلول 2010، لكني بقيت محاضرًا باتفاق خاص، بل عهد إلي أن أحاضر على طلبة الـ M.ed، وذلك بعد أن اعترف مجلس التعليم العالي باعتماد الماجستير في الأكاديمية، وقد عهد للصديق د. جمال أبو حسين بالإشراف على البرنامج لتأهيل الطلاب في مواضيع العربية والشريعة والرياضيات.

ترى هل أدرك الوقت الذي تمنح الكلية/ الأكاديمية شهادة الدكتوراة؟!

ليس ذلك على الله ببعيد إن صدق العزم ووضح السبيل.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


 

من رحلتي الشعرية:

 

    هي رحلة شاقة بقدر ما هي ماتعة.  فيها العزلة وفيها التواصل، تصحبني جنية الشعر إلى آفاق جميلة ومدهشة، وقد تنقطع عني حتى يعود الضحى بعد سجو الليل، وعندها لا تودعني هي، ولا تقليني.

     بدأت قرزماتي في المدرسة الابتدائية. كنت أولاً أجمع أقوالاً للشعراء في مواضيع معينة،  فأنشر ذلك في مجلة”حقيقة الأمر”، وكنت ثانيًا أنشر في" جريدة الحائط” التي كانت تعلق في ساحة المدرسة. 

ثم أخذت فيما بعد أحوّر أبياتًا شعرية من قصائد معروفة، فإذا قال الرُّصافي:

“هي الأخلاق تنبت كالنبات” قلت أنا :”هي الأرزاء تكثر في البلاد”، 
وإذا قال قََطَري بن الفجاءة:"فصبرًا في مجال الموت صبرًا”، قلت:" فصبرًا في بلايا الدهر صبرًا”، وهكذا كلمة بدل كلمة، وجملة بدل  أخرى، وكان الله بالسر عليما.

          لما  حاولت أن أتحرر من هذا التقليد والانتحال كتبت مقطوعة نثرية سميتها شعرًا، وأرسلتها إلى صحيفة"المرصاد” فنشروها في"رسائل القراء”، ومعها تعليق ساخر:"يبدو أن هذا لون من الشعر لا نعرفه”.
 ثم أخذت أحفظ الشعر وأطالعه بكثرة، وشاركت بل فزت في مسابقات أدبية إذاعية، ويظهر أن الاهتمام والصقل والمران تقوي كل موهبة، فهذا المتنبي أستاذي الأول حفظت له مئات الأبيات، فكان ملهمي ومصاحبي حتى يومنا هذا؛ وقد كتبت له قصيدة هي بعيدة عن أدائه، ولكنها قريبة إلى فخره:

                            يا أبا الطيب أنصت         روحك الصغرى تغني

                            إن يكن مجدي سماء        أنت  رب  منك   فني

                           لن يكون الشعر شعرا        دون أن يرقى  بظني

                            إن شعري  لهو سحر      من دنان الخمر  دني     .. الخ

وبالطبع فهذه"القصائد” الأولى لما تنشرْ.

وهكذا كنت أدوّن ما يعتلج بخاطري من آلام وآمال، فإذا رأيت قصورًا في بعض المعلمين كتبت أهجو:

قد ضقت ذرعًا أيها الرجل      أمعلمون توافهٌ نفـَل؟!

وخاطبت مفتش المعارف الأستاذ أحمد إدريس-  وهو شاعر كذلك:

أبا مروان قد أبديت ودا      فقلدنا من الأشعار عقدا

ثم عشت مشكلة شخصية عبرت عنها، فقلت في مطلع القصيدة:

قسوة الأقدار فرض لا يطاق      فلماذا العيش من غير اتفاق؟؟

وفي يوم"النكسة” كتبت قصيدة"كفرية” ظلت في أوراقي.

كانت قصائدي تترى، وكنت أقرأها على هذا المثقف أو ذاك، وأبحث عمن اقرأها له وأجره عندي عظيم.

غير أن أحد الزملاء المتأدبين– وكانت له محاولات شعرية جميلة – كان يعكر علي صفوي وهو يعلق:

“هذا المعنى ضعيف”،"هنا ركيك”،"لم تقل شيئًا جديدًا”،"اللغة تقليدية”، فتفتر حماستي، وأقول لنفسي:” الشعر صعب وطويل سلَّمه”.

 ثم قدّمت لصاحبي هذا قصيدة لي جديدة، وادعيت أنها للشيخ يحيى بن يحيى المعافري،  وزعمت أنه شاعر عاش أواخر الدولة العباسية،وقرأت:

                 وحدي بهذا الكون لا خلٌ وفي           يصفي   إليَّ   الود   لم   يتكلــــف

                 وعزاء نفسي أنني    مستلهم           فكري وشعري من هواها المسعف.. الخ

قال زميلي:"دعني أنقل هذه القصيدة الرائعة.  قل لي: كيف تعرفت إلى هذا الشاعر؟  وأين قرأت له و. و.."؟؟؟!!!

 فلما انتهى من نسخها أخذت ورقته بين يدي، ووضعت اسمي مكان اسم يحيى، لأنني أحق منه بها، فقال مبهوتًا :”مش معقول”!!، وترك الورقة بين يدي.

(تذكرني هذه الحكاية بما جرى مع إسحق المَوصلي الذي قرأ شعرًا له على مسمع الأصمعي:

             هل إلى نظرة إليك سبيل       فيُروّى الصَّدي ويُشفى الــعليل     ...  الخ

فعلق الأصمعي أن هذا هو"الديباج الخسرواني”. ثم سأل عن صاحب الشعر، فلما علم أن الشعر"ابن ليلته”- أي للمَوصلي – قال”أفسدته، أما إن التوليد فيه بيِّن”.

هذه الحكاية وعشرات غيرها تنحو نحوها أكدت لي ألا أحفل بآراء الآخرين إلى درجة قصوى، بل آخذ ذلك في حسابي دون أن يثبّط أحد  من عزيمتي.

من قصائدي الأولى التي"أعترف” بها  اليوم- كانت قصيدتي"حلم السلام”، وقد كتبتها على إثر زيارة قمت بها  لفدوى طوقان في منزلها، فلما نشرت القصيدة في"المرصاد” بعثت بها إليها، فأرسلت لي رسالة عنونتها:

“إلى الشاعر الرقيق..".

إذن فشعري رقيق لا"ركيك” وبشهادة فدوى طوقان.......

 

***

 

عندما عدت من نابلس أحمل في سيارتي ديواني الأول المطبوع"في انتظار القطار” – 1971 كانت الدمعات تنساب خفيفة على خدي، وكنت أحس أن لدي دافعًا لأن أخاطب الجبال والتلال على جانبي الطريق، وأقول لها إنني أصدرت ديوانًا، وقد حدث أن أشار لي مسنّ يقف على قارعة الطريق بأن انقله في سيارتي، فنقلته إلى قريته وأهديته كتابي – رغم أنه لم يهتم إلا بصورتي على الغلاف.

كانت قصائد الديوان منتقاة، لغتها متخيرة، وربما كنت أعمد إلى ذلك تدليلاً على براعة مفترضة، وكان غلاف الديوان قد رسمه فنان من نابلس قيل لي مؤخرًا بأنه مجنون، وقيل لي إنه قد أودى بحياة أمه. ترى هل يرتبط الشعر بنوع من الجنون؟

قدم د.  ساسون سوميخ أستاذي – حينذاك – في جامعة بار إيلان هذا الديوان، وكنا صديقين حميمين، فجعل التصدير أبياتًا استقاها من شعر شيلي:

“إن أخلص ضحكاتنا لمثقلة بشيء من الألم، وأعذب أغانينا هي تلك التي تحكي عن أحزن الأحزان”. ثم تبين لي لاحقًا أن هذا المعنى ورد كذلك في شعر علي محمود طه في ديوانه"أرواح شاردة” وبصورة مجملة، وخاصة في الشق الثاني من القول:

       وإن أشهى الأغاني في مسامعنا       ما سال وهو حزين اللحن مكتئب

لقد رسخ الأستاذ س. سوميخ بي يومها ثقة بالغة، فهو يحدّث القارئ عن اللذة والفائدة والمتعة في اكتشاف معانيَّ الجديدة والعميقة، وهو يرى أن شعري تجريبي، وأن"ثمة بشائر أسلوب خاص بالشاعر الشاب فاروق مواسي.... إذا تعهده صاحبه بالعناية والصقل والمثابرة فلسوف يستطيع أن يصل به درجة الإبداع الفني” (مقدمة الديوان،ص4).

وأحسست أنني وقفت على قدمي، ومضيت في سبيلي.

في ديواني الأول أو في نهايته اخترت باب"من الدفتر القديم”، حيث أودعت فيه قصائد تقليدية الشكل، وكأنني أتحفظ منها، أو أنني منها على استحياء، كما جعلت في الصفحة الأخيرة تذيـيلاً بشرح الأسماء الواردة في قصائدي كالغافقي، "صغير الأندلس”،النرفانا،سيزيف، اللوبركال...  وكأنني أهمس للقارئ – ها هي أشعاري تدل على ثقافة واطلاع، فإذا لم تفهمني فالمشكلة هي مشكلتك، أو كما قال أبو تمام:"يا هذا لم لا تفهم ما يقال”. ومع ذلك، فيشهد الله والشعر والجنية التي حدثتكم عنها أن كل كلمة كتبتها هي صادقة صادقة، وأن لكل قصيدة قصة. فالقصيدة”الأولى في الرثاء” –مثلا- هي في رثاء الرئيس جمال عبد الناصر، فقد استمعت إلى نعيه في إذاعة القاهرة، فأخذت أكتب وأبكي، ولما فرغت من القصيدة بعد ربع ساعة سميتها"القصيدة الأولى في الرثاء” يقينًا مني أنني أول من رثاه، وكذلك لأنها للرجل العربي الأول في عصرنا، أو ربما لأن الرثاء الحقيقي في نظري يجب أن يبدأ من هنا، وليس أدل على ذلك من دموعي التي لم تجف.

إن العناوين في أشعاري كثيرًا ما تحتمل أكثر من معنى، فالقطار في ديواني الأول قد يعني قافلة الجمال، والقطار قد يعني المطر، كقول الشاعر:

                           ألا يا حبذا نفحات نجد      وريا روضه بعد القطار

بمعنى أنني انتظر الغيث الذي يغيث، فينقّي الأرض ويخصبها معًا. وقد يكون العنوان محمولاً على معنى القطار الحديث – أي أنني أنتظر أمرًا لا أعرف إن كان قد وصل أو أنه قد فاتني، أو ربما أنتظر كما ينتظر (جودو).

عبّرت عن القضية الفلسطينية في قصائد –"أنا ومحنة الغافقي”، و"العودة إلى حكاية لقيط الإيادي”، وفي"نشيد أو نشيج”.  كما رثيت عبد المنعم رياض في"بكائية ليست كالبكاء”، وهي قصيدة تمزج بين أوزان الشعر وصوره. وكانت"مرثية حظ عاثر” و"مكاشفة” لهما بعد صوفي، كما كانت هناك قصائد حوارية وخطابية للذات الإلهية.

***

أصدرت ديواني الثاني"غداة العناق” – 1974 بقالب (فورمات) جديد، وجعلت"غداة” ذات إمكانيتين في القراءة، وكتبت للمجموعة مقدمة سميتها"مفتاح” قلت فيها:

“فإذا ما جذبك الإيقاع إلى بوابة الوصول تلتقي هناك الرمز حارسًا، فيبقيك في مجالات التردد يثير الدهشة. من الكلمة ونغمتها إلى تجربتي، فإذا بها تصبح تجربتك، فتعيد تشكيل القصيدة بالشكل الذي ترتئي، ولا غرو أن تكون أنت الشاعر”.
قلت ذلك ولم أكن قد تعرفت بعد على نظرية التلقي.

بدأت المجموعة بقصيدة"المسرح والمهموم”، وهذه القصيدة ضمن المواد المطلوبة في امتحانات الدراسة الثانوية (البجروت- ضمن الوحدات الأربع)، وكان ترجمها إلى العبرية زكي بنيامين، وحاورني حولها جاد ليفي في الإذاعة العبرية. في الديوان قصائد وطنية أخرى ليست مباشرة، كما أن فيها"صورة جديدة لامرئ القيس” و"ليلة ابن المعتز” و"المزمور الحادي والثلاثون”... ولكل قصيدة حكايتها. ويبدو لي اليوم – ناقدًا – أن هناك ضرورة لاستقصاء أجواء كل قصيدة وظروفها، وذلك لتقديم أضواء كاشفة تحد من حرية التخيل التي هي في غلو وإيغال، ومن يدري  لعل المتعة في التلقي ستكون أكبر وأكثر.

***

 

صدر ديوان"يا وطني !!” عن مكتبة الشعب في كفر قاسم سنة 1977م، وفيه ثلاث قصائد من وحي يوم الأرض، وهنا أخذت أجرؤ أكثر سياسيًا، فأشارك في منصات الحزب الشيوعي، كما كتبت عن وثيقة كينغ العنصرية، ونافحت عن أهالي الخليل المحاصرين، وكتبت عن القدس ولبنان ومسجد قيسارية الذي أضحى حانة، ورثيت راشد حسين، وألقيت القصيدة يوم تشييعه، كما رثيت الفدائيين الذين حرقوا في بيسان.
 من جهة أخرى كتبت قصيدة فيها نغمة يائسة هي"تنويعات منا وفينا”، وكتبت عن"الجاهلية” التي تنخر فينا، وعن بعض تقاليدنا وعاداتنا السلبية.

ولا بد من تسجيل التتويج الذي أملت أن يكون يومًا ما نشيدًا وطنيًا:

الأمل المخضرّ على صفحة قلبي

يسألني يومًا يومًا..... عن دربي

هل أملك أن أحفظ عرضـــــــــي

أعشــــــــــــــــــق أرضــــــــــي؟.......

 

***

 

في ديوان"اعتناق الحياة والممات” (1979) طغت قصائد تروي عن البقاء والثبات رغم الموت الذي يحدق بنا ويحيق، فتغزلت وتجرأت، وكتبت قصائد قصيرة منها ما يدعو إلى ضرورة التعايش بين الشعوب. وكانت هناك”لعبة السفر والموت” في أشكال ودوائر وخطوط تتقاطع فيها كلمات مفردة؛ حيث كانت هذه التجربة تسجيلاً فنيًا لحادثة سير كادت أن تودي بي. وأنهيت المجموعة بأربع صفحات بيضاء- هي قصيدة"صمت”. وبالطبع فقد كانت هاتان القصيدتان سببًا للتندر من قِبل هذا وذاك، فهذه المفتشة هالة المسؤولة عن اختيار النصوص في مناهج التعليم تسألني إن كنت أوافق على اختيار قصيدتي"اللعبة”، وهذا صديق يأتيني مفاخرًا بأنه يحفظ لي قصيدة من ألفها إلى يائها، وعندما أطلب منه أن يقرأ علي، فإذا به يصمت صمتًا طويلاً.....  وقد فوجئ الكثيرون لقولي إنني أستطيع أن احلل هذه القصيدة"الصامتة” في كتاب كامل، ولكن الصديق د.  محمد خليل كتب فيما بعد  دراسة وافية على أربع حلقات في الاتحاد، ثم ما لبث ان تناولها الناقد السوري محمد السموري بالتحليل في صحيفة الفرات.


أما ديواني"إلى الآفاق” (دار الأسوار – 1979) فقصائده معدة للشبيبة والطلاب، وقد حفزني على كتابتها أن شعراء متميزين في العالم أعطوا كذلك للأطفال ولأبناء الشبيبة، فالإبداع هو إبداع. وسرني أن بعض قصائدي هذه لاقت استحسان هذا الملحن أو ذاك، فلحنت قصائد"القدس”،"نعم المعلم”، "طالب العلم”،"نشيد المطر”، و"دراجتي”. ثم صدرت لي أواخر عام 2001 مجموعة أخرى هي"أناشيد وأغاريد”.

***

صدر ديوان"من شذور التعب” – 1987م – ضمن"الأعمال الشعرية الكاملة – المجلد الأول”، وفي هذا الديوان قصائد وجدانية منها الوطنية والمراثي (السرطاوي،سامي مرعي، فهد القواسمي،عبد اللطيف الطيباوي، أبي...)،وفيه الغزليات الجريئة شكلاً ومضمونًا. ومن الطريف أن أذكر أن هناك قصيدة عنوانها"فاروق مواسي”،  وتبدأ :

“أحببت هذا الاسم حتى قد كرهته”، وتحدثت فيها عن أشجاني وخيباتي، ومنطلقي هنا أن الشاعر يجب أن يتحدث عن ذاته أولاً وقبلاً.

وفي ديوان"الخروج من النهر” – 1989 ثلاث قصائد طويلة: الأولى"الخلاص من نهر الظمأ”، والثانية"مصطفى العابد”، والثالثة"أندلسيات”، وقد قدم الناشر في"دار الشفق” المجموعة بقوله:

“تتميز أشعار د. مواسي بأنها صادقة تنبجس من نفس حساسة تجيش عاطفة ووطنية، وهو يمارسها معاناة ووجدًا تشي ألمًا ووعدًا.” وإني لأسأل اليوم،هل كنت قد ساعدت الناشر في كتابة هذه الكلمات عن نفسي؟ وأجيب: ربما !!

نشرت القصيدة الأولى أولاً في 18/12/1987 بعد أيام معدودات من بداية الانتفاضة.

ومن الطريف كذلك، أنني تنبأت فيها بكل ما حدث بعد ذلك من استمرار المقاومة من جهة، ومن قتل وقلع أشجار وهدم ونفي وتشريد وحتى دفن الأحياء من جهة أخرى.

وكانت"أندلسيات” على إثر زيارة لهذه البلاد الرائعة، حيث بدأتها بمعارضة لموشح لسان الدين بن الخطيب، وأنهيتها بالعود إلى الموشح، بينما تخلل ما بينهما أشعارعن مواقع زرتها، وذلك في أوزان مختلفة، اللهم إلا مقطوعة"على نجوة من مضيق جبل طارق”، فهذه انطلقت بلا وزن ولا قافية، لأنني لم أجد ما يضبط جموح عاطفتي هنا أو يوقع إحساسي.

***

في ديواني"قبلة بعد الفراق” – 1990 كتبت عن قيامة الشهيد، ورثيت أبا جهاد، وخاطبت"العقل” الآخر في أكثر من قصيدة. ومن جهة أخرى كتبت تخطيطات لوجوه رائدة في مجتمعنا.

أما  ديوان"ما قبل البعد” – 1993م ففيه قصائد عن القدس، وهنا بدأت بما أسميته"قـُصَيِّدات” وهي تتراوح بين الحب والوطن والفلسفة الذاتية.

وفي ديوان"لما فقدت معناها الأسماء” – 1995م مزقت كلمة (معناها) على الغلاف إلى ثلاثة أقسام، وبدأت المجموعة بغزلية لرفيقة عمري، حيث شكوت لها بعض ما أعانيه من عقوق، وشكرت لها وقوفها إلى جانبي في كل أزمة. كما تحديت الذين كانوا يتقولون بعض الاقاويل على توفيق زياد – القائد الوطني،فكتبت قصيدة"كأسك يا توفيق!”.
في الديوان قصيدة"الماء المجنون ورثاء المجهول”، وهي على إثر زيارة لي إلى المغرب، وكنت قد زرت مشاهد لا تنسى في أعقاب فيضان هائل، وفيه كذلك قصيدتي"بكائية على الصلاة الإبراهيمية” عن جريمة غولدشتاين في الخليل – وقد نشرت هذه القصيدة في"أخبار الأدب” المصرية وبمكان بارز، وقرأتها على مسامع إيهود أولمرت (كان رئيسًا لبلدية القدس)، وأحس بنبضها من نبراتي في قراءتها، وسآتي على ذكرها في صفحاتي السياسية أدناه.

واختتمت المجموعة بقصيدة ليست لي، وإنما هي تتحدث عني، تبدأها هي:

ألأنك لم تقرع في شعرك باب السلطان

لم تتمسح أعتابـًا في بهتان

ما استاموا لك في سوق الشعر

أغنية

***

في"خاطرتي والضوء/نبضات” (1998) الصادر عن"بيت الكاتب” في الناصرة، بدأت بجواز مرور شرحت فيه أن كتاباتي ليست طواعية وترفـًا، بل هي تعبير عن قلق ينتابني. وكانت قصيدة"حبي فلسطيني” فاتحة لديواني:

       الأرض أرضي وليس الشوق يبريني     الشوق يحدو إلى حبي -   فلسطيني

من العجيب أنني كنت قد نشرتها"يحدوني”، وقرأتها مرارًا وتكرارًا كذلك دون أن أنتبه إلى كسر في الوزن، حتى نبهني عليه أحد الأصدقاء، وكم اندهشت!

ثمة قصائد أخرى منها"عذاب المدى” بعد زيارة لي لأطلال عين غزال وإجزم، وقرأت هذه القصيدة الطويلة فيما بعد على مسامع ابن عين غزال قريبي الدكتور إحسان عباس فأثرت أشجــانه.

أما"حوارية الموت” فربما تكون أول قصيدة تناولت الموت بتفصيل وفلسفة مركزة وبأضواء تنبث فيها رفضيات الموت. (قرأت بعدها  بفترة"جدارية محمود درويش” المعبرة عن تجربة حية درامية، وفيها معانٍ مشتركة).

في الديوان بعض القصائد الاجتماعية:"باسم الشرف” – وهي عن قتل المرأة ظلمًا وعدوانًا، و"مأهاة من جيل اليوم”- وهي عن بعض الشباب الخنَّع. واستمرت هنا أيضًا قُصَيداتي أو مقابساتي، واختتمت المجموعة"بسمفونية” جريئة هي هتاف  الصدر، ثم بشلالات نياغارا(بعد أن تمليت منها) – حيث لاقت هذه أصداء طيبة، ولا يزال بعض الأصدقاء يحفظون منها، بل يسمعون أذني عنها ما يروق لها سماعه.

***

 

 

ماذا يعني لي الشعر:

 

للأمانة سأبدأ هنا بإعادة بعض ما كنت قد ذكرته للطالبة ألطاف أبو هنطش التي كتبت عن شعري في نطاق وظيفة تخرج، (وقد نشرت أقوالي في صحيفة"أيام العرب” 23/6/2000) قلت لها:

“ أجبت عن هذا السؤال بصور مختلفة تبعًا للموقف عن العلاقة الجدلية بين الشعر والحياة – أي ماذا يجب أن يعكس الذات بصورة خاصة أم الذات المعبرة عن الهم الجمعي؟ هل هو الفيض التلقائي حسب ووردزوورث أم هو عملية بنائية تنطلق من الشعور، وكلها كنت قد عايشتها حقًا وصدقـًا.

شبهت قصيدتي بأنها فراشة زرقاء لاحقتها،وإذ أمسكت بها تناثرت....  ولم يبق منها إلا كلمة"حب”.

إنني أعمد إلى الشفافية في الأداء، ذلك لأن الكلام المبهم مستغلق، ولا يؤدي إلى شيء، قلت:

“ لو يأتي من يحفظ شعرًا مخصيًا أو معميّا

يلقيه على مسمع معشوقة

هل ترعش شفتاها

هل ينبض نهداها

هل تطلق آها

أم تتحرك

لوداع؟!”

القصيدة – في رأيي – التزام إبداعي صادق، تعبر عن الشاعر وعن همومه التي تتلاقى وهموم مجتمعه، والشاعر له جوانب وحالات وأشجان، وأحاديث ذات شجون،وهو يحس القضية، ويتألم، ويعشق، ويرفض، وقد تكون بعض انطلاقاته سياسية، أو قد تكون السياسة لبستها....  فكونت فرادة بمعنى INDIVIDUALITY.

الشعر ليس هواية بمعنى ترفي، بل هو قدري ولعنتي وحبي ومجتلاي، وكما تفرح الوردة في نشر أريجها أفرح أنا في نشر قصيدتي. أستمع إلى ردود الفعل، وأسعد إذا راقت أو إذا ذُكرت بخير. بعد سنين أرى كل قصيدة بمنظارها الحدثي أو المنطلق من التجربة بعينها.

وكثيرًا ما أقرأ قصيدة لي قديمة، فأقول لنفسي:" اليوم أنت – يا فاروق – لا تستطيع أن تكتب سطرًا مما كتبت. كيف استطاع فاروق الأمس أن يهتدي إلى هذه المعاني؟"

وإذا لم أجد لقصيدتي أذنـًا أقول لها: لك الله يا قصيدتي.... لا بد إلا أن يحضر الناقد الجاد، فانتظري!.

يهمني أن يرضى الجمهور الواسع عن قصيدتي الوطنية، ولا يهمني كثيرًا أن أجد العدد الكبير لقصيدتي الفكرانية أو المتعمقة.
 أما"الوطن” في كتابتي فهو يعني المكان والزمان والنباتات والطيور والتربة والهواء والسماء، وأهم من ذلك الناس بعلاقاتهم وانفعالاتهم وتداخلاتهم وتشربهم لهذا الوطن، ففلسطين ليست مجرد ترديد يُحفظ. إنها كينونة وانصهار في بوتقة.

 القصيدة لدي تتخلق بعدما أعايش أحداثها أو أجواءها أو أشعتها، أحيانًا تلد مخلوقًا كاملاً مثل قصيدتي"ندّ على أضرحة عراقية”- إذ وردت علي بسبب العدوان على العراق، فكتبتها بتواصل والدموع تنساب من مآقيّ.
 لم أكن في بلاد الأندلس – حين كحلت عيني بمناظرها – أنظم أو أستشعر، بل ظننت أن معين الشعر قد نضب،  إلا أن زوجتي كانت تطمئنني أنني بعد عودتي سأكتب قصيدة- هي القصيدة في نظرها.  و صدق حدسها في أنني كتبت قصيدة أعتبرها مميزة في شعري.

إن أهم ما يميز شعري هو الصدق، فقصيدة غزلية مثلاً من شأنها أن تقيم عليّ القيامة أمام زوجتي، ذلك لأنها تعرف أنني لا أكتب هكذا عفوًا أو عبثًا أو من غير نار تتوهج في خلل الرماد.  ثم إنني أعالج (التابوهات) – المحرَّمات من دين وسياسة وجنس بصراحة، وإن لم تكن أحيانـًا غير متناهية.  فاقرأ قصيدتي" أغسل خوفي” مثلاً لتجد هذه النقمة العارمة على التزمت الديني البعيد عن المنطق الذي ورد في قوله تعالى"لا إكراه في الدين”.

أحاسب قصيدتي- ناقدًا –  ولا أحابيها، بل أجد الجرأة لأن أقول لشاعر معين"قصيدتك هذه أفضل من قصيدتي في بابها”، وقد حدث ذلك أكثر من مرة.  وبالطبع فهذه صفة تندر بين الشعراء، وقد لا يصدقها عني بعض الأصدقاء، ولكنها حقيقة.

الرمز وارد كثيرًا في قصائدي بصورمختلفة، فمن الرموز ما هو تاريخي أو أسطوري، أو فولكلوري، فلسفي أو إبداعي مستجد.

في شعري تناصّات كثيرة من القرآن ومن وحي الصوفية. والدين لدي هو حضور الحضارة الإسلامية العربية في نسيج قصيدتي حضورًا يتجاوز الناحية الشكلية غير الموظفة.

ليس في شعري ولا أظن في شعرنا المحلي وقفات وصفية طويلة مستقاة من الطبيعة، فالطبيعة عندي هي الوطن، المرأة، والإنسان في الطبيعة.

شعري هو أناي، تلخيص لي، وأحب أن ينطلق، وأن يكون حرًا يعانق الكون كله. أطمح إلى  أن تكون كل قصيدة في دوائر ثلاث على مستوى التوصيل (وهذا القول كررته، مع أن الأمر متعذر في كل القصائد):

-         دائرة ذاتية -  وهذا البعد يقرأه كل قارئ ويجد فيه نجواه.

-         دائرة فلسطينية – أن يجد القارئ بعدًا وطنيًا يحلّق فيه.

-         دائرة إنسانية – أن يقرأ قصيدتي قارئ أرجنتيني-  مثلا-  فيجد فيها طاقة خلاقة وشمولية إنسانية، وبالفعل فلدي عشرات القصائد مما ينطبق عليها ذلك- بشهادة آخرين.

أما عن الشكل الشعري فلي قصائد كثيرة على الصياغة التقليدية، وخاصة قصائد الرثاء، أو القصائد التي تلقى في المحافل الوطنية.

أما القصائد التفعيلية فهي الغالبة على شعري،  بينما"قصيدة النثر” كتبتها في حالات تضطرني إلى الخروج من إيقاع أو تطريب، كما أشرت في حديثي عن وقفتي أمام مضيق جبل طارق، وهذا القصائد لا تتجاوز أصابع اليد.

أجدد وأبدع – ما وسعتني الحيلة – في كل قصيدة مبنى ومضمونًا، وأحاول أن أخلق الصور المتوالدة ليكون ثمة إيحاء ومشاركة.

وقد تسألوني: كيف تبدأ قصيدتي غالبًا؟

إنها تبدأ بتهويمة أو دندنة إيقاعية لمعنى معين، ثم ما تلبث الصور تتآزر وتتضافر حتى تشكل بنية القصيدة.

أكتب القصيدة أنى حلت الفكرة وخطرت الصورة، وكأنها  تتهادى أمام مخيلتي، فإذا استجاشتني للكتابة أعانق جسدها. أحيانًا أكون سائقًا سيارتي، وآنًا أكون على فراشي، آنا بين كتبي وبعد ومضة أشعَلَها كتاب ما، أو إبراقة شعت من قصيدة لشاعر معين.

 

أشغلت الأنثى حيزًا في شعري، ذلك لأن الأنثى هي الرقة والجمال والعذوبة والأنس.
 هي الصوت العذب الذي يسري على النفس.  هي المشاركة الوجدانية الأخاذة التي تعطي الرجل معنى التكامل بقدر ما يعطيها الرجل إحساسًا بالتفوق.
 المرأة هي نقطة قوتي، وهي نقطة ضعفي.  وقصائدي الغزلية أكثر من أن تُحصى، فكثير منها كتبته لبعضهن، ولم احتفظ أنا  بنسخة عنه، ومنه ما لا أجرؤ على نشره، فجعلته في دفتر"المكنونات”، ففيه شبق جنسي كنت قد عبرت عنه في السبعينيات والثمانينيات.

من غزلياتي ما هو مرتبط بالأرض كما هو الحال في كثير من شعرنا الفلسطيني. وثمة غزل آخر لا عهد لنا به من قبل، فقد كتبت قصيدة أهديتها لرفيقة عمري أثارت غيرة زوجات بعض الشعراء من أصحابنا، فاضطروا للكتابة  كل إلى حرمه المصون.

أما الغموض الشفاف فهو المستحب لدي، إذ أنفر من كل تعقيد والتواء حتى في المخاطبات اليومية.  أطالب القارئ أن يكون مسلحًا بمعرفة أولية عن الشعر وتوليداته، ولا يهمني كيف يقرأ أو يفهم.  الشفافية هي كشفافية الحسناء التي لا يسلس قيادها لأول لمسة يد أو لأول نظرة، بل هي التي تعطي وتمنع، وتراوح وتجذب، تؤمّل بقدر ما تكون عصيـّة. الجمال الغامض الذي لا يتكشف مجانًا هو لدي الأحب. إن الصورة البعيدة عن الفانتازيا المُغربة في الإبهام هي التي تقدم لنا خيالاً نستطيع أن نحلق في أجوائه وأبهائه.

***

شاركت وأشارك في الندوات الشعرية المختلفة، وكذلك في المهرجانات الشعرية وغير الشعرية (معظمها ضمن النشاطات في الجبهة)، وقد حضرت مهرجان لندن الثقافي الذي أقامه رياض نجيب الريس في لندن صيف 1988م، وذلك بتوصية من سميح القاسم الذي كان رئيسًا لاتحاد الكتاب العرب في البلاد (كنت نائبا للرئيس آنذاك).

في لندن تعرفنا إلى عشرات الشعراء- أذكر منهم نزار قباني، وسعاد الصباح، ومحمد عفيفي مطر، وبلند الحيدري، وأحمد مطر و...، وفي الليلة المخصصة للشعر الفلسطيني قرأ محمود درويش وسميح القاسم وطه محمد علي، وقرأت أنا قصيدتي"الخروج من نهر الظمأ”-  القصيدة التي تتناول الانتفاضة – وكانت موضوع الساعة – قال لي  الناقد المعروف غالي شكري، وكان قد قرأ بعض نتاجي قبلاً:  لماذا قرأت هذه القصيدة؟ قالها بنوع من العتاب وإبداء عدم الإعجاب. 

أما صبري حافظ فقد حياني وقال: مثل هذا الشعر المقاتل ضروري أن ندرسه وندرسّه.
مهما يكن فقد استمتعت جدًا باللقاءات الكثيرة والسهرات الأدبية التي كانت لي أشبه بحلم، وشاركت فيها بحضور بارز، وظلت الصور الفوتوغرافية شاهدًا جميلاً ومعبرًا، ومدعاةً للاعتزاز.

في سنة 1990 قرأت شعرًا في معرض الكتاب الدولي في القاهرة بتقديم جميل لا يُنسى- من الشاعر العذب محمد أبو دومة.  ومن خلال لقاءاتي المتكررة في معرض الكتاب وفي أكثر من سنة تعرفت إلى كبار الشعراء والمتميزين من النقاد.

في نفس هذه السنة دعيت لحضور مهرجان الشعر العالمي في القدس، وذلك في مشكنوت شأننيم، وكان المهرجان سنتها حاشدًا بالمدعوين، حيث شارك الشعراء العرب واليهود في البلاد، كما شارك بعض الشعراء الفلسطينيين. تعرفت جيدًا في هذه اللقاءات إلى الشاعر يهودا عميحاي-  كبير الشعراء العبريين، وانتبهت إلى قصائده الإنسانية التي ترفض الاحتلال، وكنت قرأت ثلاث قصائد بالعربية قام الممثل مكرم خوري بقراءتها بالعبرية.

صدر عن المهرجان كتاب يضم أنتولوجيا شعرية بالعبرية والإنجليزية، فكانت قصيدتي"الشيخ والبحر” ممثلة لي في هذا الكتاب.

قبيل ذلك في سنة 1989م صدرت لي مجموعة شعرية بالعبرية هي"الأحزان التي لم تفهم” (העצבונים שלא הובנו) بترجمة روجيه تابور وإصدار رابطات الكتاب في إسرائيل، وبتقديم دافيد ساندو.  ثم صدر لي بالعبرية مؤخرًا ديوان"جئت إليك”- 2010 بترجمتي وترجمة تابور.


 شاركت في قراءات شعرية في ألمانيا، وذلك ضمن ندوات كنت أُدعى إليها.  ومن الجرأة أن أترجم قصيدتي بنفسي إلى الألمانية، فأدعها بعد ذلك في يد من ينقحها، ثم أقرأها بالألمانية.  (الألمان يتحمسون جدًا لمن يستخدم لغتهم). 

وهنا لا بد من ذكر الإلقاء وفنه، فكثيرًا ما اسمع تقريظًا لطريقة إلقائي، فأسمع من  يصفها بالتماثل مع الصدق الذي ينطلق من أعماقي، بل إن شاعرة عبرية أصرت على أن أقرأ لها قصيدتها على مسمع الجمهور، وكنا مدعوين معًا. ومهما أوتيت من قوة هنا إذا صح ذلك – فإنني أشهد أن الإلقاء الذي بهرني و"دوّخني” هو إلقاء الشاعر الروسي  يفتشنكو، وكنت قد تعرفت إليه في"بيت الأديب” في تل أبيب. كما كانت تثيرني قراءات سميح القاسم ومحمود درويش ونزار قباني على وجه الخصوص.  ومما يُعجب في الإلقاء أن يحفظ المُلقي قصيدته غيبــًا، وهنا تواصل أقوى وأعلى، وليس أدل على ذلك من إلقاء الفنانة نضال الأشقر-  المبدعة جدًا في إلقائها وفي أدائها (وقد عبرت لها عن رغبتي أن تقرأ لي، فسألتني أن أرسل لها  قصائدي، وهيهات أن تصل إلى بيروت!

لقد كتب عني أو عن شعري الكثيرون، فأصدر خلدون الشيخ علي كتاب"صورة الشهيد الفلسطيني في أشعار فاروق مواسي” – جنين 1995م، حيث يضم الكتاب بين دفتيه كذلك مقالات لحسان نزال، عبد الناصر صالح، بدر الكيلاني، سناء بدوي وغيرهم.
 كما أصدر د.  يحيى زكريا الآغا كتاب"إضاءات في الشعر المعاصر” ج2، دار الحكمة – 1998م ضمّنه فصلاً بعنوان"فاروق مواسي – التزام، انصهار وانبعاث” (ص189 – 233).

 وكانت قد صدرت مقالات عديدة أذكر منها مقالات  دالية بشارة، أنطوان شلحت، محمود غنايم، صبحية الصالح، مفيد صيداوي، عبد اللطيف عقل، محمود مرعي، وائل سعيد، وحسين حمزة، وغيرهم.

من المقالات الهامة التي تناولت شعري كذلك مقال محمد عبد الله الجعيدي:"حضور الأندلس في الأدب الفلسطيني الحديث” (عالم الفكر، الكويت – العدد الرابع، يونيو 2000)، وحول هذا الموضوع أيضًا كتب رؤوبين سنير دراسته بالإنجليزية التي عنونها"نهوض الأندلس من دمشق.  الأندلس في الشعر العربي الحديث”

Hispanic Issues، volume 21 p 263 – 293.

حيث ذكَرني بإشارات متفرقة هنا وهناك، ولما سألته:

 لماذا تركزت على محمود درويش و"كمنجته” في الأندلس، وهو لم يتناول التفاعل مع هذه البلاد بصورة بيّـنة، وأغفلت مقطوعاتي التي تخدم دراستك وموضوعك بصورة مباشرة؟

صارحني وبجرأة:

“إن الكتابة العلمية أيضًا تجري وراء الأسماء المعروفة، فيكفي أن أقول"محمود درويش” حتى تجد الآذان صاغية والانفتاح لقبول ما أقول، فاعذرني، واعلم أنني لا أنكر أنك أكثر من تناول هذا الموضوع بشاعرية واقتناص للمكان”.

هنا لا بد من ذكر أن هناك بعض الدراسات قد تناولت شعري، وهي لطلاب في الجامعات ودور المعلمين.  وعلى ذكر ذلك، فانا أرفض أن يكتب أي طالب من طلابي دراسة عن شعري، حرصًا على الموضوعية، بيد أني أشجعهم على تناول قصائد الشعراء المحليين، حتى ولو تنكر لي بعضهم أو أساء.

***

كم يسعدني أن التقي من لم أكن أعرفه، فأجده يحفظ  من شعري.  وقصيدة"شوق الأرض دليل” التي اختزنت طاقات مقهورة في داخلي على ضوء الأحداث المتلاحقة في اضطهاد أبناء شعبي كتبتها بحرقة حقيقية، وقد أسعدني أن يقول لي أستاذي المرحوم حسن بشارة بعد أن قرأها:
“لقد نفست عن غيظنا كلنا”.

   أقول بعدها في نفسي: ثمة ما يستحق أن أكتب وأواصل. ذلك لأنني أتردد أحيانــًا  قبل أن امسك القلم، وأبحر في دنيا القصيدة، فمن الذي يقرأ اليوم حقــًا؟!  و"ماذا يفيد القول في روع الأعاصير”؟ 

ومما يثبّط قليلا أن الصحف تفتح أحضانها لكل"حكي”، واختلط القمح بالزؤان والشاعر بالشعرور، فاعتزلوا يا أولي الألباب. 

إن الحديث عن المحاولات البعيدة عن الأدب الذي يثبط العزيمة يعيدني إلى محاولاتي الأولى في تأسيس"الورشة الأدبية” لتدريب"الشعراء المبتدئين”، فكنت أدعو لذلك بعض الأدباء المعروفين ليناقشوا المتأدبين، وقد تناولت هذه الفكرة في حديثي عن رحلتي النقدية، وحبذا عودة الفكرة، وحبذا أن يقوم بذلك غيري.

غير أن علي واجبًا للاعتراف أن صديقي المرحوم نواف عبد حسن- القارئ المتميز كان قد عرفني إلى مجلة"الآداب” التي كنا نقرأها في جبعات حبيبة، فنتعرف إلى الأصوات الشعرية الجديدة، وعلى الأبعاد النقدية المختلفة، وكان يصر علي أن أتقبل الشعر الحر أكثر فأكثر، بل هو الذي غير اسمي المستعار(لا مستعار- حقيقة): "محمد إبراهيم”،  فكتبت اسمي في صحيفة"الأنباء” في بداية السبعينيات، وكان هو المواكِب والمصاحب لكل ما أكتب، حتى وإن كان له تحفظ هنا وهناك.

كما أن علي واجبــًا للشكر للدكتور فهد أبو خضرة والشاعر حنا أبو حنا اللذين ارتأيا أن أضم مختارات من شعري (بعد إحجامي عن ذلك)- لمختارات الشعر الفلسطيني التي صدرت عن مجلة"مواقف” العدد 24-25/2000م، وهي من اختياري وتقديمي.

وبعد..

فهذا مجمل لرحلتي الشعرية، وقفت خلالها في محطات ومعالم، صاحبتني، وكانت لك مني مواقف متباينة.
مهما يكن فإن الشاعر فيَّ ممثل لما نعانيه جميعًا، فما أنا إلا واحد منكم، قلبي ينبض بحبكم، ولن تضنوا علي بالقول"الله يعطيك العافية!”

مع العافية سأواصل المشوار، ومن يدري فلعل الشعر يحدث بعد ذلك أمرا. *

 

* ملاحظة: بالإضافة إلى ما ذكرت من دواويني  أصدرت الأعمال الشعرية الكاملة في مجلدين (إصدار مكتبة كل شيء، حيفا – 2005)، و أحب الناس- 2010.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


 

الهوية الفلسطينية في كتاباتي

 

 

إن الهوية الفلسطينية بارزة في كتاباتي الشعرية،وذلك عبر التجليات التالية:

1-    ذكر الاسم"فلسطين” مباشرة وغير مباشرة، تعبيرًا عن الانتماء والهوية.

2-    ذكر الأماكن والمواقع الفلسطينية من خلال إبراز النغمة التي تشي بالألم، وخاصة وصف قرى مهدمة ومهجورة من خلال تبيان المأساة التي ألمت بالشعب الفلسطيني.

3-    رثاء بعض الشخصيات الوطنية الفلسطينية.

4-    التركيز على بعض المترددات (الموتيفات) الفلسطينية نحو:

“الشهيد”،"الأرض”،"العَلَم”......

 

1-  ذكر"فلسطين”:

 

قلت في مطلع قصيدتي"حبي فلسطيني” :

الأرض أرضي وليس الشوق يبريني

                                              الشوق   يحدو   إلى   حبي فلسطيني

(خاطرتي والضوء، ص5)

ففي هذه القصيدة تحدثت عن نشأتي في وطني وعن حكاية المعاناة التي كانت:

فشردوها قرى كانت برغدتها                        من بروة،بصة،ميعار دامون

أنى  نظرت مئات مثلها نزحت                       أمام    ناظرنا   أطلال قاقون

يا أهلها أهلنا    يا طير منزلنا                  اقرأ سلامي على أحزان  محزون

وهذه القصيدة طويلة تتحدث عن عمق الانتماء، وفيها حكاية التشريد، وكيف أن أهالي عين غزال (من أقربائنا) حضروا إلى منزلنا بجموعهم الكثيرة الحزينة.

 

ويظهر اسم"فلسطين” في عدة قصائد كذلك:

ففي قصيدة"الخلاص من نهر الظمأ” التي تنبأت تمامًا بالانتفاضة –كما أرى- وكانت قد كتبت في كانون الأول 1987 م، قبل أيام من اندلاع الانتفاضة، قلت:

“ويصير الطفل معبأ

ويتكاثر أطفال ورجال ونساء وصبايا

والكل فلسطين وحكايا

...

وفلسطين أحرفها تجمع مذخورًا لغويّا

أحرفها تتكرر في نطق الطفل

أول ما ناغى أمه

يأتي هذا"الأبيض”- هذا الزاعم أن فلسطين – فلسطين

فلسط يــ يـ يـ يـ ن بلاده

       (الخروج من النهر ص 19)

 

بالطبع فاِن في لفظة"فلسطين” ما يدل على عمق غضب" الراوي الشاعر”، ومدى اتصاله بأرضها.

وقد جعلت"التطريز” أو"الأكروستك” في قصيدة"جميلة”- أي أن أوائل السطور تجمع كلمة"فلسطين”، وما زلت أذكر كيف ولدت القصيدة، ففي سفري من مجيدو إلى حيفا كنت أشاهد على يميني سلسلة الجبال والهضاب والمنخفضات، ومن العجيب أنني وجدتها تؤلف معا بتضاريسها  لفظة"فلسطين” فالّفت على التو :

حروفها قرأتها على شفاهها :

ففـجرها لصوتها ترتيلة الأعياد

ولـؤلؤ بصمتها يضمها

سـعدت عندما رأيتها

طيورها ترافق الأولاد

يـجمعون الورد والأحلام

ونــورهم مسلسل الكلام

     (الأعمال الكاملة،المجلد الأول ص 238)

 

وعندما خاطبت الطلاب في قصيدتي"المعلمون والأبناء” لخصت تجربة المعلمين – وأنا منهم:

          فلسطين على ساحات قلبي                     برسم النصر يعلو للسماء

          فيورق دوحنا    فجرًا نديًّا                    ويزهر صوتنا نبض الفداء

           (قبلة بعد الفراق،ص 38)

 

2- المكان الفلسطيني:

 

  كتبت قصائد كثيرة فيها ذكر للمواقع وفيها التحام بالمكان،وخصصت قصائد خاصة عن القدس (أربع قصائد) وقيسارية وعكا ويافا وحيفا (انظر الأعمال الكاملة ص256،237،236...... وكذلك"ما قبل البعد”،ص 27،26،172،8)

قلت في قصيدة  لي عن القدس :

“وسر القدس يشرق في سرائرنا”

(ما قبل البعد،9)

وتُظهر لغة (نحن) الانتماء والمشاركة العميقة،غير أن لغة المفرد"أنا” تظهر كذلك للتعبير عن هذا الحلم بالتواصل:

“ وأنا امضي في كل سبيل

بيدي سبحة

من زيتون الأعلاق"

(ن. م،ص18)

 

وتحدثت في"حيفا” عن رفقة الدرب الذين تفرقوا أيدي فلسطين :

 

بحضن البحر يا حيفا                قرأنا   سورة   الحب

نطل عليك  من أعلى                 ونذكر   رفقة الدرب

(الأعمال الكاملة، 237)

 

وكنت أذكرها تمامًا كما أذكر موج يافا:

ليافا إذ يعانق شاطئيـــــــــها       توالي الموج في ذكرى انتزاحي

(ن. م،ص256)

وقد عبرت في أكثر من قصيدة – وبسخرية – عن هذا التحريف في الأسماء الذي برع فيه المعتدي، فعين حوض تصبح(عين هود) وإجزم تغدو (كيرم مهرال) وقس على هذين......

      (انظر"الخروج من النهر”،من 19)

وقد وقفت على أطلال الديار في عين غزال وإجزم والسنديانة، ومما سجلته من عذاباتي قصيدة"عذاب المدى”، فقلت وأنا أصف بناية كانت مدرسة في"ماضي الزمان” :

“أطفالنا مضوا

الآخرون من أتوا مكانهم

وجرحنا درى به طير يرف فوق إجزم.."

(خاطرتي والضوء، ص 14)

هذا الانتماء انعكس أيضًا في خطابي للناقد إحسان عباس – ابن عين غزال وهو قريب لي، فقلت:

“ وجدتي عائشة

تلك التي أعطت أبي عينين زرقاوين

خالتك التي

ظلت تعيد

“لا بد للغريب أن يعود”.

 

وتظل قصيدة"الشيخ والبحر” التي تتحدث عن مسجد قيسارية الذي أضحى – بقدرة ظالم- حانة، وهناك يعترف الراوي الشاعر أنه – طلب كأسا"ليذكر أو ينسى...  يذكر..... يجتر مهانة”.  والقصيدة تقع في خمسة مقاطع رقّمتها أو رتبتها حسب الحروف ب،ل،ا،د،ي، وما أجملها إذ تُجمع!

إن أنس لا أنس باقة بلدي، فقد كتبت لها أنشودة مطلعها:

يا باقتي يا حلوتي     تألقي كالنجمة

ولم أنس بئر باقة إحدى معالمها، فختمت بالقول:

جعل الإله الماء كنز حياتنا       فتباركت بئر وكانت موطنــــا

                                                                                  أحب الناس، ص 31-33

 

3- رثاء الشخصيات الوطنية الفلسطينية:

 

ما من مرثية كتبتها إلا وأظهرت فيها البعد الوطني، وكم بالحري إذا كانت القصائد أصلاً قد كتبت لرثاء وطنيين بارزين مثل راشد حسين وعصام السرطاوي وعبد اللطيف الطيباوي وسامي مرعي وفهد القواسمي (الأعمال الكاملة، من 159،360، 303، 305، 306)، وكذلك أبو جهاد (قبلة بعد الفراق،ص 15)، وتوفيق زياد (لما فقدت معناها الأسماء، ص80)، وإبراهيم بيادسة (أحب الناس، ص 76)، وغيرهم..

قلت مخاطبًا أبا جهاد :

 

“ غدا أبا جهاد

غدا تعود

شوق أمطار تحن إلى المطر

غدا تعود

إلى روابينا فداء"

 

وفي خطابي لسامي مرعي وهو صديق لي،وكان يسكن قرية عرعرة القريبة من بلدي قلت:

هذي فلسطين  التي    قدستـــــــها                 مدت معانـــــــــقة إليك فمًا، يدا

 هذي فلسطين   التي    أحببتــها                 حملت على صدر شريطًا اســودا

 


 

5-    التركيز على بعض المترددات (الموتيفات)الفلسطينية:

 

لاحظ خلدون الشيخ علي في كتابه"صورة الشهيد الفلسطيني في أشعار فاروق مواسي” (منشورات المركز الفلسطيني للثقافة والإعلام – جنين،1995م) أن لفظة"الشهيد” لدي بارزة،  ووصفي لها فيه نوع من التقديس، فيقول :".... الشهداء عند مواسي لا يموتون، بل يطلون ممتدين، يطربون الذاكرة الفلسطينية الواعية بالألحان المقدسة، يتصاعدون نحو النجوم، يحملون معهم كل الأفكار النقية، ويقتلون الطوفان القوي لليأس.." (ص20)

اما"الأرض” فلا تكاد تخلو قصيدة من لفظها ذكرًا أو إيماء، بل إن بعض القصائد عن الحبيبة فيها ما يرمز للأرض، وفيها هذا الدمج المتماثل الذي شرع نوافذه أولا شاعرنا أبو سلمى.

وقصائدي الثلاث عن يوم الأرض (ديوان"يا وطني” ص3-17) تؤكد على هذا الارتباط بالأرض والإنسان الفلسطيني عليها، كما أن القصائد عن كفر قاسم وعن العذاب اليومي الذي يمارس علينا كلها كانت دليلاً واضحًا على هذه الهوية التي أشعر أنها غُمطت وقُمعت في غفلة من الزمن. وفي تقديري أن قصيدتي عن مصطفى كبها وذاكرة الوطن فيها هذا العشق الذي أتجاوب فيه وهذا النشاط في معرفة التفاصيل الفلسطينية، بالإضافة إلى القصيدة عن"المفتاح" الذي يحفظه اللاجئ، و"الجدار"  الذي يضيق الخناق، وكأنه أفعى تساورنا. (أحب الناس، 17، 23،26)

أما العلم الفلسطيني فقد أشرت إليه تعميمًا –أولاً في قصيدة كنت أطمح أن تُختار لتكون النشيد الوطني الفلسطيني (هكذا عبرت عن ذلك في أكثر من لقاء /حوار في أوائل التسعينيات) والقصيدة هي بعنوان"تتويج”:

 

الأمل المخضرّ على صفحة قلبي

يسألني يومًا... يومًـا عن دربي

يسألني هل أملك

أن أحفظ عِرضي

أن أعشق أرضي

والأمل المخضر يقول"نعم”

البسمة تزهر في عين الأطفال

وتغطي كل ألم

والهمة تشرق في عزم رجال

ويكون علم......

(الأعمال الكاملة، ص87)

 

 وصفت العلم الفلسطيني في أكثر من قصيدة، فقلت في قصيدتي"فهد القواسمي والوعد”:

يرفرف فــي ذرا وطنــــــي                           بـــعيـــن عيونـــنا يــــــــبدو

فخضرة لونـــــــــه الزاهي                           بآمال الفـــدا تحـــــــــــــــدو

وأبيضه بلون الطــــــــــهر                           أنقى صـــــفوه       الـــــود

  وأحمره   دم     قــــــــان                          هـــــو النيـــــران والشهــــد

وأسوده يذكـــــــر مــــــــا                          يـــلاقــــــي غــــادر وغــــــد

 (ن. م، ص306)

وفي موضع آخر قلت:

 

أعلام أمـــتنـــا خــــــفاقــة        أبدا        نرنــو لـــها أملاً،  والرمــــز لـــم يـــغب

 فــي أخضـــــر اللون آمال بدوحتنا          في أحمـــر اللـــون دم دافـــق اللهـــــــب

  فـي أسود اللون عباس بيارقـــــهــم     في أبيض اللون  من صافي الهوى الرغب

(ن. م،ص267)

وقد عبرت عن عمق هذا  الانتماء في قصيدتي"مجلس الأحبة” حيث أهديتها إلى أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني- الذي انعقد في عمان في أوائل الثمانينات، فقلت:

عيوننا تراقب الخطى

وخطونا يسابق المنى

في أرضنا الخصبــه

نقايض الأحبة الوفاء

وقبلة على جبين متعب أمين

يسير في ثقــــه

القدس من أسراره

إن لم تكن حبه

(الأعمال الكاملة، ص268)

وتمضي القصيدة في خطابها"يا أخوتي” حتى تتداخل في لغة (نحن) وما أنا إلا جزء منها:

“على شفاه طفلنا وشيخنا

فينتشي شبابنا مضاعف الهوى

في رحلة النوى

الله يا وطن”

 

***

ثمة ملاحظة لا بد من ذكرها :

إن البعد القومي (العربي) لا يكاد يظهر في قصائدي اللهم إلا هذه الومضات التاريخية هنا وهناك، ففي رثاء لعبد الناصر قلت:

هو درس  قد ثقفناه

هو حب    وشربناه

(الأعمال الكاملة، ص27)

أما"بكائية ليست كالبكاء” فهي في رثاء عبد المنعم رياض، فقلت بنوع من المشاركة العميقة :”يا أمَّـــــهُ يا أمنا  !”.

ولكن مع هذه المشاركة تظل فلسطين في نفس القصيدة لها وقعها الحاد:

فلــــسطين معاناتي ووجدي       وموتي ثم بعثي سرمــديـا

فلسطين هي الشهد المصفى      ونخل يسقط الرطب الجَنيا

(ن. م، ص31)

وقصيدتي" ندّ على أضرحة عراقية" فيها بكاء على الأمجاد العربية التي تُداس :

من أعماق الأحزان استفتيت فؤادي

هل تقدر أن تثبت في وجه الإعصار

السافح دم حساسيني..   وورودي

(ما قبل البعد، ص 29)

وقد ظهرت عاطفتي الدينية الوطنية في أكثر من قصيده نحو"القدس“ من وحي السيرة النبوية (الأعمال الكاملة ص236، 232).

اما نغمة" الكنعانية" التي أخذت تتردد كثيرًا فليس لها  إلا اثر واحد في قصائدي وهو استخدام لفظة (يبوس)، وذلك في الرد على الرسائل :

-” من أي زمان أنت أيا شاهد؟

- اسأل تلك الزيتونه

أعرفها منذ يبوس"

وهذا الاستخدام كان للدلالة على الرسوخ والقدامــة.

ويعود السبب في أن إغفالي البعد الكنعاني هو بسبب ضرورة إغفال مسألة " الحق التاريخي" الذي يدعيه الآخر.  فأنا لا ألجأ إلى تكذيب التاريخ الآخر بتاريخ مواز أو أسبق، وإنما اردعه بالواقع والتواصل وبالارتباط الحميم بالآن وهنا.

*   *   *

 

الشعر يخاطب العقل والعاطفة معًا، فلو كان مقصورًا على العقل لما كان شعرًا يعبر عن مشاعر وانفعالات، ولو كان عاطفة فقط لما حمل فكرًا وتأثيرًا وفعالية.
أجمل الشعر ما دعاك ودعا عاطفتك إلى اتخاذ موقف، أو إلى بناء علاقة إنسانية، وإلا فإن الشعر يظل بدون رسالة، وبدون معالجة تخالج المتلقي، فالرسالة من شأنها أن تدعو إلى التغيير، وكل تلقٍ حري به أن يدعو إلى ذلك.
فعندما أقول في قصيدتي" الشيخ والبحر":

"أطلب كأسًا

كي أذكر درسا

أذكر رأسا

أذكر أنسى أنسى أذكر أذكر أنسى

أجتر مهانة...."

فإنني أعبر عن عاطفة الغضب إزاء ما فعله الغاصب، وتراوحني مشاعر متفاوتة ومتباينة، ومن جهة أولى فإنني أدعو بفكرتي وبعاطفة منطقي أن يرفض المتلقي هذا الفعل المهين الذي جعل من المسجد حانة.

يستطيع الشاعر أن يتقمص همًا سياسيًا، وهمًا وجوديًا، وهمًا اجتماعيًا، فالخطاب الشعري يقاس بـ"كيف تقول"، لا بـ"ماذا تقول". وأدلل على ذلك مما أحبه من شعر توفيق زياد  (الذي كتب عنه عز الدين إسماعيل أنه أصدق الشعراء الفلسطينيين في كتابته):

"أناديكم

أشد على أياديكم

وأبوس الأرض تحت نعالكم

وأقول أفديكم"

ففي ندائه، بل بين حروف ندائه شاعرية مجسمة تتقمص أحاسيس – هي في التواصل الشعري ذات دينامية وتلاحم، وتترك أثرًا حميمًا ومحفزًا، وذلك رغم المباشرة التي لا أراها مخلة أو غامطة من شعرية النص.

 

تنتظم هواجسي وفق عوالم هي في الواقع، أو هي في الواقع الممكن، أحيانًا أرتبها، وأحيانا لا تنتظم في أي إطار لتنطلق مؤقتًا إلى فانتازيا، لكنها جميعًا تعبر وبصدق - وهذا هو خيط نسيجي- عن"أناي"،بكل تجليات الأنا، وتعارضاتها، وانعكاساتها، وبكل صورها ودواعي وجودها.

أمسك بيد غضبي وألمي وحبي، وأرافقها لنبحر في كلمات أسيانة، ونتقصى الشواطئ لعلنا نجد معًا مرفأ يتعاطف أو يرحب.

                               *              *                      *

البيئة هي الطبيعة والمجتمع، وما ينعكس فيهما من مرايا، وكتابتي لا تعمد إلى الطبيعة بما يكفي – رغم أنني كتبت عن البحر وعن مناظر في بانياس، وعن...

لكني أتركز على طبيعة المجتمع، وأنحي باللائمة على كل مظاهر القبح والشر والعدوان.
ومن جهة أخرى أستقصي مظاهر الجمال، وكم بالحري المرأة المخلوق الأجمل، فأراوغ وأناغي، وأداور وأحاور، وتطيب لي كل لحظة.

                      *                *                        *

أدبنا في الداخل له خصوصية تختلف عن أدب أهلنا في الضفة والقطاع، فنحن نخاطب اليهودي (ولا أعني الصهيوني أو المحتل) بإنسانية، بل نتعاون مع يهود يساريين في نضال مشترك ضد الاحتلال والغطرسة الحكومية العدوانية.

وعلاقتنا قائمة مع بعض الأدباء العبريين – الأمر الذي ينعدم لدى أخوتنا -، وذلك بحكم عيشنا المشترك، فنحن وبعض الأدباء العبريين نقيم أمسيات وندوات مشتركة، معظمها له موقف يدعم تطلعات الفلسطينيين وحقهم في إقامة دولتهم.

أود أن أشير هنا إلى أن بعض الأدباء العبريين  يعارضون القصائد التي لها تناغم سياسي، بدعوى أن السياسة تقتل الشعر، وهم في ذلك يلتقون مع بعض غلاة الحداثة لدينا.
هويتي في كتابي النثرية:

 

في القصة:

ثمة قصص تدل على الهوية التي يحاول الأعداء- أعني المتنكرين لحقي-  طمسها كقصتي التي عبرت فيها عنها- " لماذا شطبوا اسمي" (أمام المِرآة وقصص أخرى، ص 45).

أما قصه" حجر –علم" فهي تؤكد بفنية أنْ لا بد من قيام الدولة الفلسطينية (ص 7)....  بينما تـُظهر قصة (أين ولدي) واجب الذود عن  الوطن الفلسطيني (ص 101).

وظلت القصة-" أمام المرآة" تواصلاً عميقـًا مع غسان كنفاني الذي صرعته يد الغدر وهو  يلهج باسم وطنه (ص39)، وثمة عدد من القصص القصيرة جدًا تحكي حكاية الحال:"تيمائيل"،"حجر"،"حيفا"،"وطن"، يافا، وغيرها. (مرايا وحكايا، ص 34،73، 35، 20، 64).

 

أما في المقالات فقد تحدثت عن ضرورة الأغنية الجماعية الفلسطينية (حديث ذو شجون، ص3)، وعن ضرورة حفظ آثارنا الفلسطينية (ن. م، ص 21)، وعن أن الوطنية الحقة  هي المعاملة (ص7).

وفي كتابي (أدبيات –  مواقف نقدية) تحدثت عن ضرورة التعاون مع الأصوات اليهودية النقية التي تدعم قضيتنا (ص 88)، وكيف نعد أنثولوجيا الشعر الفلسطيني (ص 131)، و عن معنى أسماء القرى والمدن الفلسطينية (ص150).

كما ألفت كتابًا يتناول دراسات وقراءات في الشعر الفلسطيني (قصيدة وشاعر – الجزء الأول) يظهر فيه هذا التعلق بكل جميل في كتابتنا من إبداعنا نحن.

               

ولي عشرات الدراسات والأبحاث التي تتركز على الشعر الفلسطيني، وكذلك على القصة والرواية والبحث. ففي كتابي" هَدْي النجمة" كانت هناك دراسات أخرى في الشعر الفلسطيني نحو" شاهد على حصاد الجماجم" – عن مجزرة كفر قاسم، و” صورة اليهودي في الشعر الفلسطيني"، و" القدس في الشعر الفلسطيني الحديث"، (وكان هذا المقال قد نشر في كتيب منفرد، ثم طبعته وزارة الثقافة الفلسطينية في رام الله (سنة 2010) مضافًا إليه أنتولوجيا بالشعر الفلسطيني- قصيدة القدس). وكنت قد أصدرت أولاً- عرض ونقد في الشعر المحلي 1976، و الرؤيا والإشعاع – دراسات في الشعر الفلسطيني – 1984 م.

فيما بعد أصدرت نبض المحار (2009)، وفيه دراسات عن الأدب الفلسطيني، كما أصدرت كتاب محمود درويش- قراءات في شعره (2010).

***

وإذا عدت إلى الشعر فقد نشرت قصيدتي" شوق الأرض دليل". (الاتحاد 13 /4/2001) وفيها تلخيص للتجربة الانتمائية:

 

“ أهلي في الجرح الدامي النغّار

يا ويلي...

ويُلاحظ هذا الضمير (ياء المتكلم) الذي يقول لنا الكثير انتماء وعاطفة.  ولا يستطيع القارئ – أي قارئ – أن يسلخ هذه القصيدة عن الواقع الفلسطيني والانتماء العميق للقضية. 

وتسألني: هل الأديب ملتحم بالمجتمع؟

- وإلا فما معنى كتابته؟

 ولمن؟

 و هل هو مجرد نفح أو عبق أو إفراز يصدر منه؟

هل الإبداع لقوقعة الذات؟

لفظة" الأدب" في بداياتها مرتبطة بالمجتمع، سواء بمعنى الطعام، أم السلوك، أم الثقافة العامة، فما معنى أن نفصل بين الأديب وبين كيانه وكينونته؟!

الأديب مسؤول، وعليه تبعة القول والكلام حتى وسط الإعصار.

أقول ذلك موقنًا – مع ذلك - أنه لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فلا أطالب أديبًا أن يتصدى لنظام متغطرس بصورة مباشرة، فيقبع في غياهب السجون، ولا أطالب أديبًا أن يأتي إلى (التابوهات) أو المحظورات:السياسة، الدين، الجنس، فيتحدى بدون أن يتروى، ويطرح أفكارًا تنبو عن السائد المالوف وبصورة حادة.

فالرأي الأمثل أن يمسك الأديب العصا من وسطها، ويتصرف تبعًا لمقتضى الحال، فالمهم أن يكون في الصورةـ لا أن يصدق عليه القول:" لا في العير ولا في النفير".

 

على المستوى الشخصي أصدرت كتابًا نثريًا هو"حديث ذو شجون – مقالات اجتأدبية"، وبالطبع فقد نحتّ (اجتأدبية) من كلمتين:اجتماعية + أدبية، فكتبت عن ازدواجية السلوك، ومعنى الوطنية، وعن المعارك العائلية والقبلية، وعن القمع وقتل الأفكار، عن الرياضة وهوسها، وعن المتسلقين والمنتفخين، وكيف الحوار، وعن الشهادات"الأكاديمية" الكاذبة التي يشترونها وعن وعن....

فهذا الكتاب جاء ليؤكد أن الكتابة يجب أن تتلمس قضايانا اليومية.

أما في الشعر فقد كتبت من القصائد الاجتماعية" باسم الشرف" – عن جريمة قتل المرأة  باسم الشرف، ويستطيع المعنيّ أن يجدها في الشبكة، أو في أعمالي الشعرية. وكتبت عن بعض شباب اليوم وسلوكياتهم المرفوضة-"مأهاة من جيل اليوم"، وكتبت"جاهلية" عن الروح الطائفية / القبلية / العائلية التي تسود مجتمعنا، وهجوت  مظاهر مؤذية منفرة.

ويقيني أن كتاباتي السياسية الوطنية كانت تعبيرًا عن مشاعري ومشاعر أبناء مجتمعي.

ويحضرني قول شاعرنا محمود درويش في هذا السياق (أقصد محمود في بداياته لا في خواتيمه):

 

قصائدنا بلا لون ولا طعم ولا صوت

إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت

إذا لم يفهم البسطا معانيها

فأولى أن نذريها

ونخلد نحن للصمت

 

وأحب أن أعود إلى الصفحة الأولى في موقعي على الشبكة فهناك قدمت مبررًا لكتابتي في"جواز مرور":

 

"أكتب لأنني مضطر أن أقدم الثمرات وكأنني شجرة

قد تكون عذبة شهية، وقد لا تكون،

ولكني أحس أن هناك من يسعد بها،

يتلقفها/ يتغذى منها/ يستمرئها/ يلقي بنواتها التي قد تطلع شجرة أخرى.

كتاباتي قد لا تأتي طواعية وترفاً، بل تأتي تعبيرًا عن قلق ينتابني،

 أستحث التغيير نحو الأفضل والأمثل.

أبحث عن زمن ضائع قد أستعيده بصورة جديدة،

أو أناغي حاضرًا مؤلما،

أو مسعدًا  أخاف أن يمضي دون ذكر،

 أو أنتظر مستقبلأ.

أعيد تركيب الأشياء والعناصر كطفل،

وأتجشم مسؤوليتها كرجل،

وأنقد طبيعتها كشيخ.

أكتب حتى لا أموت!!!

 

من هنا تجد هذا التلاحم مع المجتمع، وتجد هذا الاهتمام بهم.

قلت في مناضل صديق يجيب عن التساؤل:

 

إني سمعتك عندما صمتت رجال

نمرًا وكنت الصوت لا تخشى الدجل

حييتُ فيك منافحًا أو ذائدا

عنا، وهذا الشوك وخز في المقل

فتحيله شوقًا إلى ضوء الأمل.

 

أخلص إلى القول: الأديب من المجتمع، وإلى المجتمع يعود.

 

 

 

 

 

 

......................................................................

1 حفزني على نشر هذا النص عن الانتماء – في حينه- طلب المرحوم عزت الغزاوي- رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين- فقد كان من المقرر قبل رحيله أن يجعله مادة في دراسته التي ستصدر في الإنجليزية عن"الهوية في كتابات أدبائنا”.

 


 

 

مع فدوى طوقان :

 

كانت قراءتي الأولى لفدوى كتاب"أخي إبراهيم” وأنا في الصف الثامن، لم يكن يهمني يومها إلا هذا الحب الحنون الذي توليه لأخيها إبراهيم.  وإبراهيم أعرفه، أو أعرف عنه، أليس هو صاحب قصيدة"ملائكة الرحمة” التي أحفظها؟

   وقرأتها ثانية في"وحدي مع الأيام”، وقد نشرته دار نشر في يافا أخذت تعيد طباعة بعض الكتب الصادرة في العالم العربي، وذلك في أواسط الخمسينيات. أذكر أنني انتبهت للشكل المقطوعي :

“حياتي دموع

وقلب ولوع

وشوق وديوان شعر وعود”

     إذن هكذا هي فدوى: حزينة ومتلهفة وفنانة.  وجذب نظري أنها كانت تهرب إلى سنابل القمح لتناجي وحدتها- كما في ديوانها- فهربها كان مثار تساؤلي في مخيلتي، ولكن: لماذا تفعل ذلك وهي فتاة؟

     وظلت قصائدها تصل إلينا  بين الحين والحين، نحفظها مرة، أو ندونها في دفاترنا مرات. 

 

     بعد أن أصابنا الدُّوار(وأي دوار؟؟!!) سنة سبع وستين أخذت فدوى تنشر قصائدها الوطنية الملتزمة في صحيفة"الاتحاد” ومنها:"مدينتي الحزينة”،"الطاعون”،"وحمزة”، وهذه القصيدة تقول فيها:

“هذه الأرض امرأة

في الأخاديد وفي الأرحام

سر الخصب واحد”

    إنها قصيدة أشبه بـ"البالاد” التي تذكرني بقصيدة ص.  عبد الصبور"شنق زهران”.

ظللت مشوقًا للتعرف إليها عن كثب، ذلك لأننا عندما نتعرف على الكبار نحقق ذواتنا ونزهو، فلماذا لا أفعل؟

    وهكذا قمت أنا وصديقي نواف عبد حسن – وهو صِنوي في الأدب- بزيارة إلى نابلس، ولم نسأل عن كنافة المدينة، فهناك شاعرة نتوق لرؤيتها وسماعها.

    جئنا أولا إلى بيتها القديم حيث أرشدونا إليه، فإذا هو قائم في السوق وعليه سور ضخم، وله باب حديدي أمامه شخص- أرشدنا إلى أنها تسكن في بيت خالتها غربي المدينة.

    استقبلتنا فدوى ببشاشة وأنس، كنت أنظر إليها وأنا أترنم بأبياتها:

“نادني من آخر الدنيا ألبي

كل درب لك يفضي فهو دربي

يا حبيبي أنت تحيا لتنادي

يا حبيبي أنا أحيا لألبي

...

كلما ناديتني جئت إليك

بكنوزي كلها ملك يديك

بينابيعي بأثماري بخصبي”

  

 تجاذبنا أطراف حديث الفكر والأدب والسياسة.  واطلعنا على مكتبتها، وفيها هذه الكتب التي كنا نحلم أن نراها.  حدثتها عن رحلتنا الأولى إلى القدس للصلاة في محراب المحتسب، وكيف نقعنا الغلة أو عثرنا على الكنز، كنا نجمع بين نقيضين – الاعتزاز بهذه الروائع،  والمذلة لهذا الوضع.

    انفعلت بهذه الزيارة فنشرت قصيدتي"حلم السلام”، وهي من قصائدي المنشورة الأولى، قلت فيها:

 فدوى فداؤك مهجتي وعزيمتي               شأني الوفا تأبى سواه شريعتي

والعهد يا فدوى يراودنا   إلى                     حلــم السلام لشعبنا المتشتت

والصبر يا خنساء   مر   علقم                   لكنـــه   مفتاحنا       للجـــنة

يا صوتك السحري يجمد مدمعي                يا سحرك الناري يرفد لوعتي

هذي الخطوب أتت لتنحت جانبي                الجن في جوفي، فلم أتفتـــت

فلقاؤنا  وكلامنا      وجراحنا                    أوحت إلي لأن أقول قصيدتي

   وكثرت رسائلنا، وكانت رسالتها الأولى بخطها المنمنم الجميل موضع اعتزازي وبهجتي، فعلى المغلف:"إلى الشاعر الرقيق.." إذن أنا رقيق بشهادة شاعرة كبيرة.....  فماذا يهمني بعدها ما ينكره  الآخرون؟

   وعلى ذكر هذه الشهادة فقد توجت كتابي"الجنى في الشعر الحديث” بمقتطفات من رسالة لها موجهة إلـي:

 

“استأثر بإعجابي –بحق- تناولك لأصول الصناعة اللفظية ومظاهر هذه المهارة الفنية التي تشكل أهم وسائل الشاعر لبلوغ غايته المتمثلة في خلق عمل فني متكامل. إن تناولك الذكي للقصائد المختارة ينم عن جهد كبير واجتهاد موفق استخدمت فيه كل ما تملك من حواس، ولا عجب وأنت الشاعر."  سأجعل هنا علامة الاكتفاء .... ".

ومع ذلك فعندما قرأها أحدهم ممن لا يعجبه العجب علّق قائلا:"إن فاروق هو الذي كتبها.."، فسامحه الله!.

     كنت أرسل لها قصائدها المترجمة إلى العبرية والمقابلات التي كانت تجريها الصحف، وأحيانًا أعيد لها صياغة الجمل إلى العربية حتى توازن بين ما قالته وبين ما نشر، وبذلك تفحص مدى أمانة الترجمة.  وقد راقت لي هذه الفكرة حقًا- أي الترجمة المعاكسة- لفحص الأمانة/الخيانة في الترجمة.

  ثم دعتني فدوى دعوة خاصة – النّقَرى- لحضور قراءاتها الشعرية في مكتبة بلدية نابلس.  وكانت هذه هي المرة الأولى –كما قالت لي- تشارك في لقاء أدبي جماهيري في مدينتها.

    قالت: شاركت في مدارس البنات بدعوة من هذه المعلمة أو تلك، ولكني اليوم أقف أمام حشد من أهلي الطيبين.

وكانت قراءاتها ممتعة شجية، ومتدفقة بالشاعرية، ها صوتها يتوتر في"نبوءة العرافة”:

“لكنما الرياح في هبوبها

تقول حاذري

إخوتك السبعة

تقول حاذري

إخوتك السبعة

تقول حاذري

إخوتك السبعة."

  كانت الدمعة تجول في المآقي وهي تقرأ"وقفة عند جسر اللنبي”:

“ليت للبراق عينا

آه يا ذل الإسار

حقدي رهيب موغل حتى القرار

صخرة قلبي وكبريت وفوارة نار

ألف هند تحت جلدي

 

  أذكر أن هذا السطر الأخير جعل القيامة تقوم في الصحافة العبرية – وذلك بُعيد نشرها، حتى أن ديان سألها عن هذا المعنى الذي شرحه له مستشاروه.

  أهدتني فدوى نسخًا من كتبها، كما أهدتني صورة جميلة لها على بطاقة لتظل صورة مصاحبة للكلمات.

  ثم حضرت فدوى إلى حيفا، وأجرت لها"الاتحاد” استقبالا حضره لفيف من أدبائنا. قرأت أمامنا"لن أبكي”، حيث وصفت فيها يافا:

“وفي فوضى حطام الدور

بين الردم والشوك

وقفت وقلت للعينين: يا عيني

قفا نبك."

 

   وفي هذه القصيدة غصّت قلوبنا بالأحزان عندما خاطبت شعراءنا في الداخل:

“وها أنا يا أحبائي هنا معكم

لأقبس منكم جمرة

لآخذ يا مصابيح الدجى

من زيتكم قطرة

.....

وكيف أمامكم أبكي

يمينًا بعد هذا اليوم لن أبكي”

   وكان لا بد أن يجيبها صوت محمود درويش المتفائل رغم عمق المأساة والجرح:

“نحن في حل من التذكار فالكرمل فينا

وعلى أهدابنا عشب الجليل

لا تقولي: ليتنا نركض كالنهر إليها

لا تقولي...

نحن في لحم بلادي وهي فينا."

***

  تناولت شعر فدوى في دراسة لي تحت عنوان"قصائد سياسية- قصائد غنائية” وقد صدّرت الدراسة بما قاله درويش في القصيدة نفسها:

“عندما كنت تغنين رأيت الشرفات

تهجر الجدران والساحة ترتد إلى حضن الجبل

لم نكن نسمع موسيقى ولا نبصر لون الكلمات

كان  في الغرفة مليون بطل”.

  

 وفي الدراسة رأيت أن شعرها تعبر عنه ضمن لوحة، ومنها ما هو قصصي – وليس بالضرورة فيها تقيد بقواعد القصة في مفهومها المألوف –، ورأيت أن الغنائية التي كانت تلجأ إليها كانت وسيلة اعترافية تنقل فيها مشاعرها الوطنية إلى القارئ، وذلك بأساليب الترابط والتكرار والإيقاع وتردد موتيفات"القمر” و”الطير” و”الزهر”، وذلك في إطار نماذج كلاسيكية ذات شحنات موسيقية.  (الرؤيا والإشعاع، 1984، ص23). وكنت بذلك أعبر أيضًا عن تحفظي من رأي الأستاذ س.  سوميخ الذي ذكره في مجلة"قيشت” بأن الشاعرة رومانتية بطبعها أولاً وقبلاً، وهذا هو الأصل.

***

ولما أن كنت من الفعالين في تغيير مناهج الأدب العربي في مدارسنا فقد كان لاختيار قصيدة فدوى"صلاة إلى العام الجديد” من مجموعة"أعطنا حبًا” قبول لدى معلمينا وطلابنا – رغم تحفظ بعضهم من شعر التفعيلة.

  فكان أن ألقيت أضواء على هذه القصيدة في كتابي المعد للطلاب"الجنى في الشعر الحديث”، وتوقفت بشكل خاص على التطور في بناء القصيدة والاتساق المتواصل وتراتيبية القصيدة.  فهي تبدأ بالمقدمة وبطلب الحب، ثم تأتي الأجنحة، فالنور حتى تصل الذروة، أو أن الترتيب يتعلق بالمكان: الأرض، بين الأرض والسماء، ما فوق السماء،.. 

  وتركت أسئلة للنقاش حول القضية التي دارت الشاعرة في فلكها – ولا بد من ذلك في كل قصيدة حديثة، إذا لم تكن هذيانًا: هل هي الوطن؟ المرأة؟ الإنسان العربي في فترة المد القومي؟ (كتبت القصيدة ليلة رأس السنة 1958).

  ولا بد لي من أن أسوق رأيًا لها أسمعتنا إياه في إحدى زياراتنا.

 قالت:"أحلم أن يكون في كل قرية من الوطن العربي الكبير من هو منكم يا عرب الداخل، ممن تعمد بالمعاناة وأخلص للقضية.."

 ولأني كنت أردد اسمها في مجالسي فقد حلا لبعضهم أن يشيع بأنني سأخطب الشاعرة، وقد نسي أنها ولدت هي وأمي في نفس السنة، ويبدو أن الذي يريد أن يشيع شائعة لا يهمه مدى إعمال المنطق قبلها.  أذكر ذلك لأدل بمدى المعزة التي نكنها للشاعرة، ولا بد من الاعتراف في كتابة كل سيرة.

  في زيارة أخرى قرأت لنا صفحات من سيرتها"رحلة جبلية رحلة صعبة”، وكانت متهيبة من نشرها. لكني أخذت بصدق الأداء وملكة التعبير وبعمق الثقافة التي تشع في ثنايا النص، فأظهرت إعجابي المتناهي بنصوصها، بل هو إعجاب أكثر مما هو من شعرها.

  يومها صاحبني أحد الأصدقاء، وقد استعار من مكتبتها كتاب جبرا"الحرية والطوفان” وكان هذا الكتاب مفقودًا في الأسواق –. غضبت فدوى- فيما بعد- لأن الكتاب لم يعد أدراجه وعبرت عن غضبها في كتابها"الرحلة الأصعب” (ص27-28) ناسية أننا جميعًا نفقد كتبًا من مكتباتنا، وقد لا نعيد كتبًا أخرى لأصدقائنا – سنة الله في أدبائه.

   وقد أشار إلى هذه الحادثة كذلك جبرا في كتابه"معايشة النمر وأوراق أخرى” (ص51)، وذلك في معرض حديثه عن استحصال الأدباء للكتاب، ولكن جبرا كان كريمًا، فقال مخاطبًا الشخص الذي"لطش” كتابه:

 "فليهنأ به إذن سارقي”.

في أواسط التسعينيات كثيرًا ما كنا ندعى للقاءات ومهرجانات أدبية فلسطينية، فكان أن التقينا فدوى في أكثر من لقاء- من أجملها سهرة ممتعة قضيناها بصحبة الأديب الدمث يحيى يخلف.

  في لقاء آخر للجنة المبدعين العرب واليهود (30 تموز 1994) جمعنا إميل حبيبي ويورام كانيوك في لقاء سلامي يدعو إلى إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وكان ذلك في نابلس،. يومها كنت مترجمًا في أكثر من محضر، وما زلت أذكر لقاء الشاعرتين فدوى ودالية رابيكوفتش، وكيف تحفظت فدوى من بعض أقوال الشاعرة اليهودية رغم مشاعرها الإنسانية المشاركة لقضيتنا ومعاناتنا. كنت أترجم، فإذا تعبت كانت اللغة الإنجليزية تحاول أن تجمع بينهما.

***

  دعتني جامعة النجاح في 18/11/1998 لحضور حفل تكريمها بالدكتوراه الفخرية (وذلك بعد بضعة أشهر من حفل آخر حصلت فيه الشاعرة على جائزة فلسطين في الشعر). اشترطت أن ألقي كلمة في تكريمها لما لها من مكانة في نفسي.

  ارتجلت كلمتي، وقرأت من شعرها ومن شعري، وكيف رسخت في ذهني.  وكانت فدوى تنظر إلي وعيناها مغرورقتان بالدمع.  بعد أن أنهيت كلمتي قبلتها على وجنتيها، وغالبًا ما أفعل ذلك كلما التقيتها- لأنني أحس بهذا القرب البريء الرائق الرقيق.

  دعينا لتناول الغداء جلسنا معًا، وكان ابن أخيها جعفر إبراهيم طوقان يجالسنا.  قلت لجعفر:"عندما تلقي كلمتك كنت أغمض عيني، أتدري لماذا"؟ قال: لا.

  قلت:"إن أكثر الأبناء يحملون في أصواتهم صوت الأب”.

  ويبقى أن نسأل فدوى عن مدى التشابه بين الصوتين. 

قالت:”قد تستغرب أن الصوت شبيه إلى حد بعيد، وكأنه هو- هذا ما أذكره من صوته المسجل في غرامافون قديم”.

  قلت لها: لقد جمع المتوكل طه كتابات لإبراهيم في كتابه"الكنوز- مؤسسة الأسوار 1998” ضمنها قصائد وتعليقات من آثار الشاعر وجدها بخط يد في منزلك بين أوراقه وأشيائه وصوره، ولكنه لم يحو قصة إبراهيم"متى الوفاء؟”.

 قالت: أنى لك هذه؟

 قلت: لدي عدد قديم من مجلة"الأمالي” البيروتية سنة 1940، ويظهر لي أن تصويبات القصة كانت بخط يده.

 قالت: أرجوك أن تزودني بها.  وأنا بالانتظار.

بعد أن أرسلت الأصل لها، وصورة عنه للمتوكل – خدمة للناحية العلمية- وردتني رسالة فدوى المؤرخة في 4/1/1999م:

 " أحييك وأشتاقك، وأتقدم إليك بأصدق مشاعر التقديم والامتنان إذ وافيتني بقصة إبراهيم، وقد تساءلت: أين ذهبت يا ترى؟!

  كم أسعدني حضورك الاحتفال، وكم كان يبهجني لو أنك أرفقت برسالتك نسخة من الكلمة التي شرفتني بها، فهل تفعل؟ أرجو ذلك...

                             أشكرك وأشكرك وأشكرك

  مع محبتي

                                                                                                    فدوى طوقان

 

وأخيرًا

يا عزيزتي فدوى

لعل هذه الصفحات تشرفني أنا، وأنا أكتب سيرتي لا سيرتك، فأرجو أن تجدي فيها محبتي كذلك. ملاحظة: اطلعت فدوى على هذه الرحلة معها، إذ نشرتها في أكثر من صحيفة، فكتبت لي بعد أن قرأتها:

فرحت بالمقال كثيرًا، وسأظل أعتز به كثيرًا.  أشكرك وأشكرك أيها الإنسان الجميل النبيل.

                                                                                   27 / 5 / 1999.

وأخيرًا.....

يا عزيزتي فدوى

لعل هذه الصفحات تشرفني أنا، وأنا اكتب سيرتي لا سيرتك، فأرجو أن تجدي فيها محبتي كذلك.

 

 


 

 

مع عبد الوهاب البيّاتــي:

 

كان لقائي الأول بالبياتــي في معرض الكتاب التاسع عشر في القاهرة. كان لقاء عابرًا، ولكنه مؤثر، فها هو الشاعر الذي كنت أقرأ له:

“ لاشيء يذكر، لم تزل يافا وما زال الرفاق

تحت الجسور وفوق أعمدة الضياء

يتأرجحون بلا رؤوس في الهواء

ولم يزل دمنا المراق

على حوائطها القديمة، واللصوص

...

يافا نعود غدا إليك مع الحصاد

ومع السنونو والربيع

ومع الرفاق العائدين من المنافي والسجون

ومع الضحى والقبّـرات

والأمهات..."

(أباريق مهمشة،ص12)

ولعل قصيدته"الأعداء” والشتائم التي فيها، هي أكثر ما علق في حافظتي: و”القطط العمياء تلد القطط العمياء”،  إذن هذا هو البياتي.......  تشرفنا كثيرًا.

قال هو لا يدري أننا لا نستطيع زيارة الأردن: لماذا لا تأتي إلى عمان. سنلتقي حتمًا....  وهكذا كان، والتقينا.

 

***

استطعنا أن نزور عمان في أوائل آذار 1995.  اتصلت بالبياتي فرحب بي، بل كلّف  الشاعر العراقي علي الشلاه ليصحبني إلى مجلسه في"الفينيق”.

هناك تعرفت إلى مديرة "الفينيق” سعاد الدباح – بنت بلدنا دير الأسد-، وقدمت بعض نتاجي لها ولأبي علي، وكانت سهرة ممتعة.  فها أنا في صحبة الشاعر الذي حلّلت قصيدته لطلابنا في كتابي "الجنى"، وهي "سوق القرية” التي هي ضمن المقرر؟

وعدني أبو علي أن يزورني ظهيرة اليوم التالي في الفندق الذي أقيم فيه.

عندما حضر كان يحمل عددًا من مؤلفاته التي خصني بها، ومنها شعره المترجم إلى الإنجليزية –Love Death and Exile – ترجمة بسام خليل فرنجية، وكتب في الإهداء: إلى الأخ العزيز الشاعر الدكتور فاروق مواسي مع المحبة والتحية.

المخلص

عبد الوهاب البياتي

عمان 4/3/1995م

 

وثمة كتب أخرى عليها الإهداء بشكل مختلف، وهي تشي بمحبة هذا الرجل لنا – نحن الذين وفدنا إليه من الداخل لنسلم عليه – قال البياتي: قرأت كتبك التي أهديتنيها.

-         كتابك يا فاروق عن السياب من أجود وأجمل ما قرأت عنه، ويجب أن يُنشر ويُعرَّف عنه.  (لم تُجدِ هذه الشهادة لدى بعض دور النشر في عمان، ولا غيرها).
أما كتابك في المقالات النقدية"أدبيات”  فقد تناول موضوعات جدية ومهمة، وأرى أن تكون الدراسة الواحدة منه موسعة على مقالات أو حلقات تتناول ذلك بالتفصيل والإسهاب.

-         تحليلك لقصيدتي"سوق القرية” متميز، وسأنشره في أحد الكتب التي تتناول شعري.

ولكنه لم يذكر شعري بخير أو بشر، ولا يحق لي أن أظن سوءًا، فتقريظه غطى عينيّ.

حتى إذا حضرت زوجي من حفلة غنائية أحياها كاظم الساهر قلت لها على مسمع منه، وهو في فندقي: كنت تستمعين إلى أفضل مغن عراقي، وها أنا استمع إلى أعظم شاعر عراقي.  رحبت زوجتي به، فحيّاها وأوصاها علي، وقال جملاً سأبخس نفسي هذه المرة ولا أقولها، لأنها تقع في دائرة المجاملة والإطراءات المعهودة في الشعب العراقي  عامة.

عندما حدثته عن قصائد "أندلسيات”، وقرأت منها اقترح علي أن أكتب للملحق الإسباني في القاهرة، وأرفق القصائد، وذكر لي أنهم تحدثوا معه عن لقاء ثقافي يضم الشعراء العرب الذين كتبوا عن الأندلس، ووعدني أن يقترح اسمي ضمن الشعراء الضيوف.
  وعشت على حلم جميل. ..... وهيهات!!

ثم كانت لي زيارة أخرى إلى عمان (12/10/1996م) يومها استقبلني بدماثة ورقة معهودتين، وكان بصحبتي الصديق نواف عبد حسن، وحضر اللقاء نصيف الناصري (ساعده الأيمن)، وعلي عبد الأمير، ومحمد تركي الأنصاري.

وعندما استبدت به سَورة الشراب بدت على أبي علي أمارات الغضب والغيرة بسبب شهرة محمود درويش، فأخذ يطلق العبارات الجارحة، يسخر آنًا ويشتم آنا، يقص حكاية طويلة ليدل فيها على قبوله ولطافته، بينما الآخرون – وخاصة الشعراء المعروفين فلهم حكايات في البخل أو الضعف أو الفضائح.
 (عندما التقيت درويش في فندق عمان، وعرف أنني كنت مع البياتي سألني أول ما سال: ألم يشتم؟! قلت له: بالعكس، امتدحك.  قال: عجيب!!).

قلت لأبي علي: إلى متى هذا التنكر لأدبنا الفلسطيني الذي انطلق بعد الموجة الأولى؟!

قال: أنتم على حق.  لديكم طاقات عظيمة، وقد تعرفت إلى الكثيرين، ولا أملك إلا الاحترام لهم.  ولكن ما لا يروق لي – وبصراحة – أنكم تهاجمون بعضكم بعضًا.  ناشد البياتــي مريديه أن يكتبوا ويشجعوا الكتابة عن أدبنا، فهذا حق لنا عندهم.  وعشنا على حلم! وهيهات!

في زيارتي يوم 9/2/1997م إلى المقهى/ المطعم الذي اعتاد البياتــي الجلوس فيه التقيت الشاعر حسب الشيخ جعفر الذي كنت اقرأ له، وكان التعارف سريعا ينضح بالحب.
  حضر البياتــي وكان يحمل معه مجموعة من الكتب التي تتناول الفنون القديمة، وهي باهظة الثمن. كان مضيفًا لنا، وكان يتنقل بيننا وبين مائدة أخرى، ويبدو أنه استضاف المتحلّــقين حولها كذلك.

 

                                                                            ***

في شباط 1999م رأيته في القاهرة جالسًا ينصت إلى مناقشة كتاب صدر لهالة البدري يقدمها إدوار الخراط.  لم أشأ أن أزعجه مع أني توجست خيفة أن يكون هذا اللقاء لقاء أخيرًا معه.  جلست إلى جانبه، وطبعت قبلة سريعة على وجنته.  حياتي بحرارة كعهدي به، ولكني لاحظت أن وجهه شاحب، وعينيه غائرتان كليلتان تتابعان بجهد ما يقول المحاضر.

وبقدر ما كان يحسن الاستماع. كنا نتجاذب أطراف الحديث في الأدب والفكر، زودته بمجلة (الكرمل) الأكاديمية (الصادرة في حيفا)، وفيها مقالات د. رؤوبين سنير عن شعره.  قرأها وأُعجب بها أيما إعجاب.  بل قال إن دراساته فيها مكنة وعمق، ولكم أحبُّ أن تصدر في كتاب!
 (صدرت فيما بعد تحت عنوان:ركعتان في العشق، دار الساقي، لندن – 2002).

سألته: وهل يصعب أن توصي بنشرها في دار نشر عربية؟ لقد نشروا بعض كتب الأستاذ موريه.

قال: سأثير شبهات أنا في غنى عنها، ولكن إذا نُشر الكتاب في بلادكم فسيكون من السهل علينا إعادة طباعته هنا.

قلت لزميلي في كلية  غوردون – سنير ما قاله البياتي، فقال: ستنشر الكتاب"منشورات الجمل”، وأرجو أن يصدر الكتاب حتى أقدمه هدية له، وأرجو أن تنقل تحياتي له وتقديري كذلك.

***

...  وظل حديث أو حوار بيني وبينه يحمل صدى:

سألته: أفدني من خبراتك - هل تبقى أمتنا في هذه الانتكاسات والتشرذمات؟ أليس للمقاييس القبلية والمعايير الدينية دخل في تحديد هويتنا...  إن كان لنا اليوم هوية؟!

أجاب: نحن مررنا محنًا، وستمر علينا محن أخرى وعواصف أعتـى، ولكن لا بد مما ليس منه بد، فنحن شعب كالشعوب، المستقبل سيضيء حتمًا، وسيكون النور في نهاية النفق.

-         وهل هناك ضوء حقًا ما دام الحكام يسوقون الإملاق والعوز إلى شعوب تبحث عن اللقمة وتحاشي النقمة؟

-         طبيعة الأمر ستؤدي إلى صورة أبهى وأزهى، فنحن أمام عواصف عابرة.

 

***

بعد توجهه إلى دمشق حاولت الاتصال به أكثر من مرة، ولكني كنت أسمع عبر الهاتف أصواتــًا مبهمة، وكأنها من أعماق البحار تحمل كلمات ورموزًا غريبة.

ومع نعيه الذي آلمني أعود إلى كلماته وأشعاره، فأجد بها رموزًا، ولكنها ذات أصوات منطلقة داعية إلى جمالية الحياة ونبل الإنسان، فيها رفض للدجل ومباركة لكل أصالة.

 

***

كتبت في  صحيفة"فصل المقال” (13/8/1999م) تحت عنوان"البياتي في مدينة الموتى”:

“ هذا الشاعر العراقي المكنى أبو علي الذي بدا واقعيًا وانتهى صوفيًا كانت جلساته معنا أشبه برحلة شائقة ماتعة.  إنه يحدّث فلا تمل، يضحك، يشرب، يجود، ينصت، يسأل، يجيب.....

قلت له: من أين لك هذا الحب الذي يكفي لعشرات الحسناوات قبل الحديث عن حب آخر مفترض؟ (ذكرته برضا المصرية الباهرة إذ كانت ترمقه – من بيننا – وحده).

قال لي: مباهج الحياة ارتضتها، فماذا أطلب بعد؟

قلت له: عرفت السر يا من تعشق معنى العشق الأبدي في حلك وترحالك، ولكن كيف حال عائشة؟!

قال: هي تتبدل، لكن الجوهر واحد.

قلت: وهل عائشة حقًا كانت كاسمها عائشة حية؟

قال: نعم. جارة لي وارتحلت.

قلت: إلى أين؟

-         إلى بلد فيها"متى” و"أين”.

-         هل لقيتها عرضًا؟

-         لقيتها. لكن الدنيا تغيرت فأعرضت.

-         هل تسمح لي أن أعرض في حضرتك شعرًا لي قلته قديمًا، وربما بإيحاء منك؟!

-         قل، وأنا اسمع.

 

-   " آه يا اِمرأة حلت بقلبي فجأة

       أين أنت اليوم"؟؟

 

-         إن عائشتي ألهمتني، حفزتني، دعتني إلى موائد الإلهام.

-         ولكن، يا أبا علي لماذا فعلتها ومت؟ لماذا مضيت؟! لماذا رحلت؟

-         انا أحب المدن، فلأدخل مدينة جديدة – مدينة الموتى – ولن تكون كابوسًا، فربما سأجد هناك حوراء عيناء، أو سأجد عائشتي في العلاء.

-         ماذا ستفعل كذلك يا أمير الفقراء؟

-         سأنتظركم واحدًا واحدًا حتى نقيم ندوة شعرية، فلعل هناك من يصغي إليها!

 

 


 

مع نزار قباني:

 

 

أعترف أن لنزار قباني تأثيرًا على كتابتي، وعلى الكثير مما أدين به، وهذه مكتبتي تزخر بمجمل نتاجه شعرًا ونثرًا.

عندما قرأت نزارًا أول مرة كنت طالبـًا في الثانوية، أدهشتني جرأته في ديوان"قالت لي السمراء”" صدر سنة 1944” نقلت الكتاب بخط يدي، كعهد أبناء جيلي ممن يتعشقون الكتاب، ويستصعبون الحصول عليه. رددت أبياتـًا فيها جرأة لم أكن أحلم أن أقرأها، بل أرددها، فأمامي شاعر يموسق الكلمة، يضمّخها عطرًا، فأخذتْ عفويته تلامس شغاف قلبي، وتدلني على دروب الحب، ولا يهمني من تكون البطلة..  كنت أردد:

وشجعت نهديــك فاســـــتكبرا            علــى الله حتــى..  فلم يسجدا

 

جرأة في المضمون، وجرأة في الشكل -"حتى فلم.. .......".

 

سمراء صبي نهدك الأسمر في دنيا فمي

فكي الغلالة واسفري عن نهدك المتضرم

نهداك ما خلقا للثوب لكن للفم

مجنونة من مر عهد شبابها لم تلثم

***

تصوروا كيف يفعل هذا الشعر فاعليته على جيل مراهق، ولا أحسب المراهقة تنحصر في جيل محدد.

كان د. محمود غنايم في أواخر الستينيات يستكشف الأجواء الأدبية ويتعشقها، اقترحت عليه أن يجمع كل ما قاله نزار في" النهد”، واتفقنا أنه أبدع كثيرًا في رسمه، ولا أدري أين هذه المجموعة في أوراقه، وهل سماها” نهديات” كما اتفقنا؟ ويبقى من الموضوع فكرته.

بهرنا أنا وجيلي صوتُ فيروز وهي تغني:

 

لا تسـألوني ما اسمــه حبيبـي        أخشى عليـكم ضوعــة الطيـوب

واللـــه لـو بحـــــت بـأي حـرف     تـــناثـــر الـليلـك فـي الـــدروب

 

فرأيت في هذه القصيدة صدقًًا يلائم سرية عشق كل منا، وهناك الليلك لغة التخييل التي تجعله يتكدس في الدروب، ثم تكررت الأغاني"أيظن”،"ماذا أقول له”.........

فشعرت أن الشعر كالماء والهواء وتغريد الطيور الملونة، هنا مواكب الشعر- السهل الممتنع، المدينة الفاضلة للعشاق، وها أنا أكشف شاعرًا يجعل الشعر خبزًا وماء وطيبًا.

                                                        ***

في حصة الأدب- حيث كنت أدرُس في الجامعة-  طلب الأستاذ أن ألقي قصيدة" خبز وحشيش وقمر”، فقرأتها بانفعال استدعى التصفيق، لكني يومها لم أسبر غورها.

ومن يدري إن كنت قدمت لطلابنا شرحًا كافيًا لها في كتابي"الجنى في الشعر الحديث” - 1983، فهذه القصيدة مشحونة بالمتفجرات القيمية، وترفض حالة التخدير الشمولية- حالة الاستكانة ؛ يخاطب الهلال فيقول:

أيها الرب الرخامي المعلق

أيها الشيء الذي ليس يصدق

دمت للشرق لنا عنقود ماس

للملايين التي قد عطلت فيها الحواس...

 

  في أسئلة النقاش سألت :

 

“يرى البعض أن الشاعر انتقل في خطابه الهلال وأصبح وكأنه يخاطب الله،....  هل ترى ذلك؟"كيف تثبته أو تنفيه؟” (ولم يكن السؤال مجرد سؤال)، وكم بالحري إذا وافقت نزارًا على ما ذكره في مقدمة القصيدة – هذه القصيدة التي كان قد نشرها في مجلة الآداب، (آذار 1955)، حيث يرى أن وظيفة الفن هي تسليط النور على المشكلة، وفتح الستارة على المأساة دون تدخل في التفاصيل والحلول.

لم يكن إدخال القصيدة في مناهج التدريس سهلاً، وأذكر أنني دُعيت إلى المحكمة في حيفا لأكون شاهد دفاع مع معلم في ثانوية أم الفحم، وكانت البلدية قد أقالته بسبب تعليمه الإلحاد من خلال هذه القصيدة، وذلك في قول نزار:

 

....  الملايين التي تركض من غير نعال

والتي تؤمن في أربع زوجات وفي يوم القيامة

أبدًا ما عرفت شكل الدواء

 

قلت يومها:إن الشاعر رافض للقيم الشكلية،- لكنه ليس بالضرورة – متصديًا للدين في الجوهر، فالأدب فيه رموز وإشارات يمكن أن تكون دلالات لمعان أخرى، فليس كل من قرأ يحسن التأويل إلى درجة الحكم. وسرني بعد ذلك أن سوي الأمر.

وصرت من حبي لأدب نزار أبحث عن نتاجاته في مكتبة من لا يقرأها، وأستأثر بها، من باب التحليل للذات القارئة- بدلاً من وضع الكتاب على  رفوف في أحضان الغبار.

نشر نزار قصيدته"هوامش على دفتر النكسة” فهزتني مع الهزة في حزيران الذي لا ينسى، وكم رددت بين سياق وآخر:

 

ما دخل اليهود من حدودنا

وإنما تسربوا كالنمل من عيوبنا....

يا وطني الحزين

حولتني بلحظة

من شاعر يكتب شعر الحب والحنين

لشاعر يكتب بالسكين..

خلاصة القضية

توجز في عبارة

لقد لبسنا قشرة الحضارة

والروح جاهلية.

 

وقد جذب نظري كذلك موقف الشاعر من سلطة المجتمع المتنكرة للمرأة العربية:

 

يا سيدي

يا سيدي السلطان

لقد خسرت الحرب مرتين

لأن نصف شعبنا ليس له لسان

 لأن نصف شعبنا محاصر كالنمل والجرذان

في داخل الجدران..

 

نزار إذن  يريدها ثورة قامعة للقديم، ولا يرى إلا الأطفال مناطًا للآمال، وما أصعب الحال حيث ظل الممثلون- الحكام متربعين على دسوتهم:

 

احترق المسرح من أركانه

ولم يمت- بعد الممثلون

 

ظل نثر نزار يشدني لا أقل من شعره- إن لم يكن أكثر....

 قلت في كتابي" أدبيات- ص96”:

“ ما أقرب نثر نزار على أنفاس شعره.  لغته هي هي، تحمل نبضه وهيامه، تعكس خفايا روحه وأحلامه، تعيش في أعماقه، تحلق في آفاقه، تجري دافقة بين ذاته وموضوعه.  وصدق نزار إذ سمّى طريقته في الكتابة"مدرسة” ودعاها"النزارية”.

وهذه النزارية لها عشاقها ومريدوها، ولها المتحفظون منها أو النافرون عنها، ولكنهم جميعًا يترقبون كل إبداع جديد فيها، ولا يستطيعون أن يمروا عنها مرورًا عابرًا”.

 

****

سألتني المذيعة: هل يقدر الرجل على أن يعبّر عن مشاعر المرأة أكثر منها؟

أجبت: نعم، ونزار الدليل، نجح في تفصيل الجزئية، أغرقها بالعطر، شحنها بالدفء، وشعره أصبح دليلها، ولا تعرف صحة كلامي إلا كل عاشقة جدية.

سألتني: وأين ابن أبي ربيعة منه؟

أجبت: قرأت كتاب نزار قباني وعمر بن أبي ربيعة لماهر حسن فهمي، وفيه موازنات بين الشاعرين في موسيقى الشعر وفي اللغة والأساليب وثورة المضمون، وفيه ترجيح للطاقة الشعرية التي خلبت الجماهير وقربتها للكلمة الشاعرة.

 

                                                         ****

عارضت نزارًا في مقال" صباح الخير أيها الشعر” الذي نشرته في مجلة (الحصاد)-رام الله"العدد 27-1988”، وفيه تشفى من الشعراء الذي لم تلق كتبهم رواجًا في معرض الكتب في بيروت، وكان قاسيًا.  فكتبت مقالة"شيوع الأدب لا يعني جودته"- العدد 29- 1988، وأعيد نشره في كتابي"الرؤيا والإشعاع”، ص131”، ومن جملة ما قلت :

" ومن كنزار يعي كيف يخدَّر جمهورنا بقراءة الأدب التافه الرخيص...،

إنه يدرك أن ذيوع القصيدة عنده وانتشار كتبه لا ينفي كونه شاعرًا مبدعًا وأصيلاً، كما أن ذيوع شعر غيره لا يعني إطلاقًا أنه أفضل ممن خيمت على كتبهم العناكب...  وإذا كان نزار حزينًا لما أصاب الشعر الكاسد من مذلة وانكسار فإنني حزين أكثر لأن شاعرًا كبيرًا يؤمن بالاستفتاءات الثقافية...".

 

تناولت قصيدة نزار"أبي” في دراستي"رثاء الأب عند الشعراء المحدثين” (كتابي: دراسات وأبحاث في الأدب العربي الحديث، ص91)، وقلت إنها تبهر القارئ بلغتها ووزنها وطاقتها الموسيقية ونحت كلماتها، لكنها أسوة بأشعار نزار في كثير من قصائده" تشع للحظة وتتوهج آنيًا بشكل لا يوازنه إشعاع – دون أن تترك أثرًا كبيرًا أو حكاية وراءها حكاية، أو نفسية ممزقة...  وبالإجمال فهي  تشبيهات من مقلع رخامي أصيل”.

 

                                              ***

دعيت في تموز 1988 إلى لندن لحضور المهرجان الثقافي العربي، حيث  دعا إليه رياض نجيب الريس، وكانت الدعوة بتوصية من رئيس اتحاد الكتاب العرب سميح القاسم (شغلت يومها منصب النئيس- نائب رئيس الاتحاد-).

لم أكن أتصور أن التقي هناك كبار الأدب العربي، وأن أجالسهم وأحاورهم. كان نزار وجهًا بارزًا في وسامته رغم كبر سنـــه، وقد اتسم بعذوبة ألفاظه ورقته.

استمعت إليه وهو يلقي قصائد عن بيروت، فيا للإلقاء!!!

وسعدت عندما أهداني كتابه (جمهورية جنونستان”لبنان سابقًا”)، وكتب عليه إهداء بخطه المنمنم المبهج الذي أود لو صورته لكم هنا:

“ إلى صديقي الحبيب الشاعر فاروق مواسي

مع أصدق مشاعري واعتزازي الكبير."       نزار

                                

حدثني نزار عن قصائده الأخيرة" أطفال الحجارة”، وحدثته عن بالغ إعجابي بالحوار الذي أجرته معه مجلة (الكرمل)"العدد 28/1988” تحت عنوان" لعبت بإتقان، وها هي مفاتيحي”، وكانت المقابلة ذات أهمية خاصة في نظري، ذلك لأن الشاعر جابه فيها خمسة محاورين حاولوا أن يمكروا به، وأن يحشروه في خانة"النثرية”. 

سر نزار لأن الحوار راق لي، وأخذ يحدث مرافقًًا له عن هذه المقابلة وعن حكايتها.

***

عندما ودعت نزارًا في اليوم التالي قدمت له مجموعتي"الأعمال الشعرية الكاملة”" المجلد الأول”، شكرني، وقلب الكتاب وقال:” هذه فقط....؟"

 شعرت بالحرج، فكتاباتي نزر يسير إزاء كتابات نزار.

 قلت له في الحال: أرجو أن أكون كما وصف الزيات أحد الأدباء"مقل مجيد”.

قال"أعدك أن أقرأك”،  ولكن لا تنس أن تسلم لي على كل ذرة تراب فلسطينية، على كل نبتة، على كل طفلة وطفل، على الوطن، على..  على...".

حضرت رنا القباني – ابنة أخي الشاعر، وسألتني أن أهديها بعض نتاجي، وخاصة"الجنى في الشعر الحديث”، لتقرأ ماذا كتبت عن عمها، فلعل ذلك يضيف لها شيئًا في رسالتها الأكاديمية – هكذا قالت- قلت لها في حضرة الشاعر:

ما أحوجنا إلى الإفادة من عمنا نزار، فهو المبتدأ والخبر في رؤى القصيدة، عمّر لنا بيوت الشعر ووضع عليها بطاقات الحب السامي، وهو الذي أراد أن يشعر فغنى، لا سواه.

 شكرني نزار بحرارة، وتوادعنا.

كتبت لنزار رسالة له وهو في جنيف، ولم أحصل على رد، ومما كتبت:

“ ثلاثية أطفال الحجارة – شهادة أخرى لك على صدق ذودك عن القضايا العربية عامة، والفلسطينية أخص، فاعلم أولا وقبلا أننا نحبك..".

***

لن أتحدث عن الألم بعد النعي، ولن أتحدث عن مبادرة قمنا بها لزيارة سوريا، والاشتراك في تشييع جثمانه، لكن من الحق أن اذكر نص برقية العزاء التي"فكسلناها”:

سيادة الدكتور عيسى درويش – سفير سوريا في القاهرة

اسمحوا لنا أن نعبر عن عميق الحزن والأسى لرحيل علم شامخ في أدبنا العربي – شاعرنا الرائع نزار قباني الذي بذل من فؤاده عطاءه، فوافانا إبداعًا وأصالة.

سيظل شعبنا العربي ذاكرًا تفرده ومقدرًا مواقفه.

أغدق الله عليه واسع الرحمة، وبقيت من بعده روعة الكلمة – فاتحة للحب.

يا حبيبنا نزار: سنظل نقرأك، وستظل معلمنا.

“ توقيع سبعة أدباء فلسطينيين من الجليل والمثلث”


 

مع عبد اللطيف عقل:

 

فاجعًا كان موت عبد اللطيف عقل الشاعر والمفكر.

كان لقائي الأخير به يوم 24/5/1992م في مهرجان التضامن مع الشاعر شفيق حبيب في دار الثقافة العربية في الناصرة.

يومها قدم لكل منا النائب عبد الوهاب دراوشة صينية نحاسية مكتوب عليها:

" تكريمًا للشاعر....، وتقديرًا لعطائه في مجال الشعر الوطني”.

والتقطت الكاميرا هذه الصورة التي ينعم فيها عبد اللطيف النظر بالهدية الرمزية ويعلق:

“ لا تعجبوا إن كانت هذه هي المرة الأولى التي يقدم لي أحد فيها شيئًا أو يكرمني بشيء”، وأتبعها بالقول:"أليست هذه مفارقة؟!”.

قرأ عبد اللطيف يومها قصيدته"بيان العار والرجوع”، وكانت صيحته أو لازمته"هلا” تطن في القاعة ساخرة من هذا الزمن الرديء الذي قلبت فيه الموازين. 

أصر صاحبنا في القصيدة على فلسطينيته، وعلى حياة التقشف فيها مع كرامة متأصلة في وجدانه. وهذه القصيدة على الصعيد العملي الفعلي استمرار لقصيدة سابقة كان يردّ فيها على دعوة مشبوهة بالتخلي عن الوطن، إذ يقول في ديوانه"حوارية الحزن الواحد”:

أنا نبـــض الــتراب دمي، فكيـف أخون نبض دمـي، وارتحل؟

وأعود إلى كتب الشاعر وإلى طريقة إهدائه الكتب لي، فأجد اللمحات الفنية حتى في العبارة النثرية.

- كتب لي في إهداء" قصائد عن حب لا يعرف الرحمة”:

وفي إهداء كتاب"هي أو الموت”:

-         “أيها المتشرد من أجل أن تظل الكلمة مصلوبة على شفتي الجرح”.

 

كيف بدأت الكتابة عن عبد اللطيف، وماذا كتب عني؟

 

كان ذلك أولاً مراجعة لكتابه الأول" أغاني القمة والقاع”، فكتبت في"عرض ونقد في الشعر المحلي” (ص61):

“عبد اللطيف عقل شاعر مسؤول أمام الكلمة والقيمة. أطلق ذاته المغتربة من وهج المأساة، وأوفدها للقارئ الواعي أمانــة في عنقه – أمانة عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها، وحملتها إلهة الحزن التي تتقن رقص الأوبرا في القمم والقيعان..... لأنه كما يقول الشاعر" لا بعد بين قمة الوجد وقاعه”.

وقلت في المقال نفسه:"شيء مغر في ديوان عبد اللطيف – وهو انتقاؤه للعنوان، فعنوان القصيدة أجمل في نظري من مضمونها. العنوان فستان ينتقيه لحبيبته ويحسن انتقاءه بذوق، لا تكاد تخطر حتى تشرئب الأعناق. والقصيدة عنده ملخص تركيزي لقصائد سابقة، فيها تكرار للذات بشكل أعمق، وكل قصيدة تهمس لي: أنا أجسد تجربة عقل”.

 

أما بداية المعرفة الشخصية فكانت أولها متابعة عبد اللطيف عقل لقصائد مجلة"الشرق” المنشورة في العدد السابق (شباط 1972).  يومها تناول قصيدتي"ليلة ابن المعتز”، وأشار إلى أنني قصرت في المعاناة، ولو تركت القصيدة بتجربة غير مفتعلة لقدمت القصيدة بشكل أفضل.  ويومها أثار عقل غضبي.

وفي العدد التالي كتبت"ردًا على نقد” فقلت:

 

“ ما أحسبني بحاجة إلى التوكيد أن هذا التضمين واستخدام الموروث كان طبيعيًا وتمثلاً، بل تصعيدًا لهذا الموروث على ضوء المعطيات الحياتية المعاصرة، فدراسة القصيدة لغويًا، ورجوعًا إلى خلفية ثقافية هو السبيل الأصولي قبل أن نخوض لجتها فنحكم اجتراء”. (الشرق عدد آذار 1972، ص42).

ثم عاد عبد اللطيف عقل إلي  ليعالج قصيدتي الأخرى"صورة جديدة لامرئ القيس” ولكن بلهجة مغايرة، فبدأ بالقول:

“ لماذا أحببت هذه التجربة لفاروق. إنها تجربة حقًا، وكما أرى استطاع فاروق هنا أن يسبق نفسه، وهو بين قصيدة وأخرى يقطع المسافات الطويلة في زمن قليل.  إن هذه الصورة الجديدة تقفز من الرمز (الملك الضلّيل) إلى الواقع – الرمز المحدد الضيق إلى الواقع الفسيح المرير الذي عاناه فاروق بحدة الواعي المتمرد” (الشرق-  عدد نيسان 1972، ص47).

أذكر أنني زرت عبد اللطيف في منزله في نابلس. عندها ترك فيّ انطباعًا أنه ما من شخص أحضر منه بديهة، أو أقدر منه على الكلمة أو النكتة أو السخرية أو التعبير عن المرارة وحتى على الشتيمة، فشتائمه عجيبة من قاموس خاص لا يحسن صياغتها إلا الأقلاء من الأذكياء.  قال لي منكرًا علينا لقب (عرب 48) :

ألا تكفيكم مصيبة واحدة حتى ربطوا اسمكم بسنة زفت؟؟!

 قال لي منكرًا قلة القراء للشعر: أتكتب شعرًا لتقرأ نفسك؟

أخذ عبد اللطيف يحدثني بتشاؤم ومرارة تارة، وبإيمان ومثابرة تارة أخرى...  ويا الله ما أكثر نقده وما أحد غضبه!

زرته في جامعة النجاح حيث كان عميدًا لأحد الأقسام في الجامعة.  يومها عرفت أن للرجل مكانة ومهابة خاصة، ولكنها  تتلاشى أمامي إلى طيبة وأصالة فلاحيـّة حين أزوره في بيته الذي تنقل في أماكن مختلفة في نابلس، أو في منزل عائلته في دير استيا.

ولكني إن أنسَ لا أنس تألق عبد اللطيف في مؤتمر الشعر الفلسطيني الأول الذي عقد في فندق غراندنيو – الناصرة 27/11/1986م – يومها كان يتحدث بلغة غريبة طريفة مثيرة، يكثر من ألفاظ باهرة على غرار"الزمكان” – قبل أن تتردد على الألسنة. وأحس شاعرنا أنه عريس اللقاء.  وحتى أسوق لكم بعضًا من لغته المثيرة الخاصة اقرءوا معي ما قاله في الذكرى الأربعين لرحيل د. سامي مرعي:

“ أنا لا أحاور الموت، فهو إمكانية الشخص الأخيرة، ولكني أحاور سامي متصورًا ماذا كان يمكن أن يقول قصدًا، لو أسعفته تلك الأصابع السوداء الناعمة بعض الوقت.

كان سيقول: إذا تعلم الأطفال جدول الضرب بأسلوب تربوي إنساني فإن الغش في سوق الخضار سيباشر الاختفاء”.

ويخطر عبد اللطيف في ذاكرتي في مشهد آخر رواه لنا صديقنا سعود الأسدي يوم أن سافر وإياه إلى طبرية، حيث كانا يتشاطران هموم الكرب بعد الحرب.  يومها قرأ له سعود قصيدة تقليدية. وكان عقل يقود سيارته (الفولكس فاجن) دون أن ينبس ببنت شفة، ويحدثنا سعود عن خواطره إزاء هذا الصمت المريب، حتى إذا قرأ سعود قصيدة بالعامية التي ختمها بالقول :

 

“بخاف بكرا إن متت عيني

تجمد وهيكي يطبقوا جفوني

وما عود أحظى بشوفة بلادي"

 

يقول سعود:وعندما قفلت القصيدة بالبيت الأخير، وجدت رأسي فجأة يضرب بزجاج السيارة الأمامي.  قلت له: ما هذا يا أستاذ رحت تقتلني بضربة هالبريك!

 قال لي:بل أنت الذي  قتلتني. وراح أبو الطيب  يتناول مسجل صوت صغير من خزانة السيارة أمامه، وقال بإصرار:"أعد القصيدة من أولها!” (انظر الجديد:العدد الثاني سنة 1991،ص 59).  مثل هذا التصرف الذي رواه سعود يعكس لنا أننا أمام ذوّاقة مرهف الذوق، ووطني حتى النخاع.

ما زلت أذكر كيف أنه كان يسأل عن أدبائنا المحليين، وأحيانًا مع تعليقات ساخنة طريفة هنا وهناك.  كان يعجب بقولة طه محمد علي :"ذبحوني على العتبة مثل خروف العيد”.

فكتب له تقديمًا قبل قصيدة" عن حب لا يعرف الرحمة” إهداء :” إلى طه محمد علي وبيننا حزن كبير.”

وما دمت أتحدث عن علاقته بأدبائنا وكتابنا فلا أنسى لقطة سمعت عنها جديرة بالتسجيل.

  أجرى محمد وتد معه مقابلة، وكان أن استفزه محمد بشكل ما، فما كان منه إلا أن أصر على إلغاء المقابلة أو يتحققَ مبتغاه. سمعت عن هذه الحكاية من عبد اللطيف نفسه، وذكرها لي محمد، ولكن ذاكرتي لا تسعفني الآن للتفاصيل، لان الموضوع أصلاً لم يكن يشغلني لسبب أو لآخر. أذكرها لأؤكد أنه لم يكن يهادن ولم يكن يرائي.

قبل سنوات استضفنا في الورشة الأدبية في باقة الغربية  شاعرنا عبد اللطيف عقل.  يومها قرأ الأدباء الواعدون من نتاجهم. كنت أتوقع أن يقسو عليهم، لكنه فاجأني بحنوه البالغ واستعداده للمساعدة، وإذا بمقاييسه الصارمة تنقلب إلى حريرية رئيفة، سألته عن سر ذلك:

قال:"ألا يكفي أنهم يقرأون، أنهم يكتبون في هذا العصر الذي يتلظى فيه الشرق بالعار، وشعر القدس محلول على ظهر الجسور المشرعة”.

أظن أنني قدمت لقطات حضرتني، وبغيتي أن أعرّفكم بعمق معرفة حميمية بشخص عز علينا جميعًا، ليكون ذلك تخطيطًا يعكس ملامح رجل عظيم.

  عظيم في شعره وفي فكره وفي إنسانيته، وكم تعلمت منه!

أتساءل أحيانًا بعد أن تحضرني لحيته: هل حقًا رحل إلى غير عودة؟؟!!!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


 

مــــن رحلتــــي النقديــــة

 

 

عندما دخلت القوات  الإسرائيلية قريتي (21/5/1949) تركَـنا معلمونا- الذين وفدو إلينا من نابلس وضواحيها، وصرنا أضيع من الأيتام، وليس بيننا وبين العربية إلا إذاعات لا تكاد تبين، وكتب نادرة تمزقت لكثرة ما استعيرت.

كان والدي قارئًا، كنت أرقبه وهو يجلس إلى آلة الخياطة يتصفح صحيفة أو يقرأ كتابًا دينيًا.  وكان يسافرأحيانًا إلى يافا للاتجار بالبضائع القديمة، وكثيرًا ما كان يحضر معه بعض الكتب التي كنت أتصفحها، فهذا مثلا كتاب"العمدة” لابن رشيق- عليه اسم صاحبه – موسى عبد المجيد سمور (دير ياسين).

 ولكن، أين موسى اليوم؟؟!!

كنت قد قرأت  بدءًا  من الصف الثامن عشرات الكتب الأدبية- أولها تاريخ الأدب العربي للزيات، حيث قرأت هذا الكتاب من غلاف إلى غلاف، وأكثرت من قراءة القران وحفظه، لأنه المفتاح الأول لمعرفة اللغة.  وكثيرًا ما كنت أسأل والدي بلهجة ناقدة عن معني هذه الآية أو تلك، وكنت أشعر أنني أضايقه، فهو يعتبر أن في سؤالي كفرًا وتجديفًا.  لذا فقد طلب مني أن أبتعد عن كتابات سمع أن فيها إلحادًا –ككتابات خالد محمد خالد-"هذا هو الطوفان”، "من هنا نبدأ”-  الأمر الذي حفزني على قراءتها سرًا، وعلّمني أن اتخذ موقفا مستقلاً.

ما زلت أذكر أنني كنت أبدي رأيي بقصائد"المحفوظات”، فأبدي إعجابي بهذه القصيدة، وأحفظ قصيدة أخرى لا تروق لي مرغمًا، وأنا ألعن الشاعر والمعلم معًا.

ولجت عالم الأدب وفي طبعي نقد للظواهر الاجتماعية والسياسية المختلفة، وهكذا مضيت في تلخيص الكتاب الذي أقرأه، وفي التعليق عليه؛ وكم من كتاب أعود إليه هذه الأيام- لأجد في الحواشي ملاحظاتي التي قد أستغربها، أو أعجب بها.

*****
تعرفت إلى مجلة"الآداب” البيروتية في مكتبة جبعات حبيبا أولاً، ثم في جامعة بار إيلان، فراق لي خطها الوطني، راقت لي تجربة الشعر الجديد فيها. وكنت أتابع"قرأت العدد الماضي من الآداب” التي أخذت تصقل من حاستي النقدية، فتعرفت إلى أسماء لامعة في الأدب العربي الحديث، وأفضيت إلى عالم ممتع جميل.*

 

...............................................................

(جدير بالإشارة إلى أن  د. سماح إدريس محرر الآداب كلفني -فيما بعد- بتحرير ملف خاص  بالثقافة الفلسطينية في الجليل والمثلث، فصدر العدد تحت عنوان: فلسطينيو 48 - حجر الزاوية. العددان 7-8 تموز 2003)

 

أما مقالي النقدي الأول فقد كان موازنة بين كتابين (صحيفة"اليوم”18/9/1960) وهو مقال تربوي، ثم نشرت مقالة بعنوان"مناقشة لفيلم الوسادة الخالية” (اليوم17/2/1961) وهي مقالة فنية.

غير أن مقالات النقد الأدبي بدأتها في صحيفة"المرصاد” بدراسة عن ديوان" موعد مع المطر” لفوزي عبد الله ( العدد 9 /1961) حيث جر علي هذا المقال شتائم حذفها الرقيب من مقالة فتحي قاسم بعنوان- نقاد بلادي. 

ثم كتبت"لقاء مع تسعة شعراء” وناقشت تسع قصائد لشعراء محليين. فلم يرض الشاعر جورج فرح على ما قلته عن قصيدته، وأثنى سعود الأسدي على ما كتبته عنه.

إذن هناك من يرضى، وهناك من يغضب – وهذا هو الدرس الأول.

 

ثم نشرت في مجلة"الجديد” في حزيران 1967 مقالاً بعنوان"شوائب ومغالطات في محاضرات الدكتور شموش“ (وكان المقال قد صدر قبل ذلك في كتاب مشاعل في طريق الأدب - عكا- 1967). كان هذا مقالي الأول في مجلة مهمة وجادة كنت قد عكفت على قراءتها وأنا يافع.

ثم كتبت زاوية في صحيفة"الأنباء” وهي"قصيدة وشاعر”، وكانت الحلقات التي تربو على العشرين مطعّمة بنفَس مارون عبود  الذي قرأته وأعجبت به- وفيها أستاذية وتناص كثير من المقروء، وخاصة من التراث.  وما زلت أذكر قولا للأستاذ الأكاديمي س.سوميخ قاله لي:" أنت تكسب لقاء كل مقالة كذا مبلغًا وتخسر صديقًا”.
 وأعترف أن مقالاتي كثيرًا ما تثير زوابع وردودًا قاسية أكثر مما يجب، حتى أن بعضهم يرى أن الحركة الأدبية لا تنشط إلا إذا ألقيت في بئرها حجرًا،  وقد يصدق  صاحبنا إذا علمنا بالمعارك التي أثيرت بعد كتابات"أحمد منير" وقبلها عند تأسيس رابطة الكتاب، وبعدها عند إعداد مناهج الأدب العربي للمدارس الثانوية أو عند  جوائز التفرغ أو...

                                                         ******

في دراستي الأكاديمية في بار إيلان التقيت أساتذتي س. سوميخ،  د. صيمح،  ش. موريه (وهم من يهود العراق)، فقدمت لهم  الأبحاث والدراسات التي نشرت بعضها في الصحف.  وكانت رسالة الماجستيرعن" لغة الشعر عند بدر شاكر السياب وصلتها بلغة المصادر القديمة"بإشراف الأستاذ سوميخ  (صدرت الدراسة سنة 1993، وقد أثنى عليها الشاعر عبد الوهاب البياتي  على الرغم من علاقته غير الإيجابية بالسياب- بما يدعوني إلى الاعتزاز بشهادته).

كنت قد نشرت دراستي عن"صلاح عبد الصبور شاعرا مجددًا” جامعة حيفا 1979، وقد تسنى لي أن أهدي الكتاب للشاعر نفسه-  في زيارتي له في  الهيئة المصرية العامة للكتاب، ومع أنه تناول الكتاب متعجلاً، إلا أنه أفسح لي مجلسًا في ندوة  أصدقاء كانت في المكتب، وكان فيها مجاهد عبد المنعم وفوزي العنتيل وكمال نشأت وعبد المعطي أبو النجا، وكنت أدلي بدلوي في مواضيعهم، وأشعر بأنهم يقدرون متابعتي لحركة النشر والثقافة.  وقد أهداني عبد الصبور كتابه"مأساة الحلاج” مدونًا:

     "الأخ الكريم الشاعر الناقد الأستاذ فاروق مواسي مع خالص التقدير1980/8/ 19”.

في هذا الكتاب يقرأ القارئ عن لقائي بالشاعر.


أما أطروحة الدكتوراة" أشعار الديوانيــين – العقاد والمازني وشكري” – بإشراف الأستاذ م. بيلد فقد قدمتها في جامعة تل أبيب، ولاقيت فيها"الأمرّات”.... ولها حكاية طويلة...

وبالطبع فإن الدراسة الأكاديمية جعلتني أطالع مئات المصادر، وجعلتني جادًا ودقيقًًا ما استطعت.  واعترف أن المسابقات التي اشتركت فيها أواسط الستينيات عن المتنبي والخنساء والمعلقات والأدب المهجري والقرآن الكريم  وفوزي فيها، بالإضافة إلى متابعة حركة النشر، جعلتني أمتلك الثقة بالنفس، فأنصب نفسي حكمًا. ولكوني معلمًا فقد كنت أتوجه بأستاذية ما- هي مبررة حينًا، وغير مبررة أحيانًا.

لكني أقول اليوم – بصدق – إنني لم أكن مغترًّا أبدًا، فكم شعرت بالنقص والتعطش للمعرفة،  وكم تعلمت من طلابي ومن زملائي"، يدفعني إلى ذلك اقتناعي بأنه ما من أمر مبتوت فيه نهائيًا، وأن الحقيقة نسبية لا مطلقة.

                                                        *****

 

صدر كتابي النقدي الأول  –”عرض ونقد في الشعر المحلي" (1967)، وهو أول كتاب نقدي يصدر في بلادنا – أعني في الداخل في الجليل والمثلث، وقد جمعت فيه المقالات التي كنت قد كتبتها عن شعرائنا المحليين، وزعمت لنفسي في تصدير الكتاب أنني أنتهج” المنهج الوسطي” فقلت:

“ولا بد من الإشارة إلى أن منهجي يأخذ من  الأكاديمي الدقة في الاستشهاد والحذر في الأحكام، ويأخذ من الذوقي ذاتيــة جمالية أستشفها من خلال التجربة.”

ثم كان أن أقمت"الورشة الأدبية” التي نشطت في الثمانينيات – خلية نحل يشتار طلابها من المتأدبين ما يستصفون من جنى، فكانت الورشة تستضيف كل مرة أديبًا من أدبائنا الذين رسخت أقدامهم وعُرفت أقلامهم، فيصغي الضيف  لقراءات الشبان ونقاشاتهم، ثم ما يلبث أن يسوق رأيه، فأخذت الورشة تتعرف إلى مصطلحات"التأويلية”"التفكيكية”"البنوية” الخ.  وكنت حيويًا فعالاً في تنشيط الحركة الأدبية، ولا شك أن لقاءاتنا مع الجمهور في المدارس وفي النوادي هنا وهناك كانت تحفزنا على مواجهة مسائل نقدية يستفتي فيها الجمهور، وكان من الطبيعي أن يكون لي رأي في القضايا وفي إشكالات مطروحة أمام المتلقين.

ثم صدر لي"الرؤيا والإشعاع"(1984) وفيه مقالات أخرى عن الأدب الفلسطيني، وكان قد صدر بعضها في  مجلة"الجديد” أخص منها زاوية نقدية مستحدثة هي"مونولوج نقدي”. 

وهذه التجربة بحاجة إلى معاينتها من جديد، لأنها لون مستجد، ولم اقرأ على غراره من قبل ومن بعد (هذا بالطبع لا يعني أنها موفقة).

ثم أصدرت كتابي:”الجنى في الشعر الحديث” و” الجنى في النثر الحديث، وأسميت الكتاب على اسم ابنتي جنى، فيسرت الأدب الحديث لطلابه وقرائه، ففي الشعر أقمت معيارًا أو منطقًا يندرج في :

أ- إجمال المضمون

ب-الوسائل الفنية وخصائص النص

ج- توظيف اللغة والألفاظ، وكيف تُوظف اللغة في خدمة المعنى

د- إثبات بعض الإشارات الثقافية للدلالة على مَعين الشاعر الذي استقى منه، حتى يتجلي لنا تداخل التناص.

لكي أثري  الحوار حول النص أبقيت أسئلة للنقاش. وفي تقديري أن هذه الأسئلة هي من أصعب ما في الكتاب، فالسؤال-كما نعرف- يستلزم صياغة فنية ومعرفة عميقة.

وما زال الكتابان ماكثين في أيدي الطلاب لنفعهما، ويضيئان للمعلمين قبل الطلاب معالم جديرة بالاهتمام. ويظل الحكم فيهما للقراء، بل ظل جيلاً بعد جيل.

                                          ******

 

أما في البحوث حيث الدراسة الأكاديمية المحايدة التي تحلل وتعلل من غير تدخل فإنني أمتحن نفسي بما يلي:

1- هل قرأت أغلب ما نشر سابقًا عن الموضوع المدروس؟

وهل أنا أمين في ذكر ذلك للقارئ؟

2- هل أورد  فكرة جديدة من اجتهادي وتصوري،  أم أنني سأنسخ أو أترجم؟

3- هل تكون الاقتباسات دقيقة أم عشوائية؟ وهل هي ضرورية وموظفة أصلاً؟

       إن الأبحاث التي كتبتها لا تقتصر على الأدب فقط، بل تجدها تتناول مسائل لغوية، أما النقد فغالبًا ما يدور في فلك الشعر، وقليل منه في بعض الروايات والقصص.  وقد جمعت بعضًا من هذه الدراسات في كتبي"دراسات وأبحاث في الأدب العربي الحديث”(1992)، و”هدي النجمة(2001)، و نبض المحار (2009)، محمود درويش- قراءات في شعره (2010)..

لجأت في كتابتي بين الفنية والأخرى إلى التوقيع باسم مستعار، فكان أن نشرت بعض المقالات بتوقيع”لؤي جعفر” للدفاع عن نفسي بعد أن هوجمت، وكان صعبًا علي أن  أحاور المبتدئين في الأدب ممن يتطاولون بدون رصيد أو معرفة، فآثرت أن أصدهم  من  وراء قناع.   

 

أما تجربة"أحمد منير” فكانت مثيرة حقًًا:

كُتبت في أواخر عام 1991 وحتى  أواسط العام التالي زاوية في صحيفة"الاتحاد” تحت عنوان"مداعبة / معاتبة”. كتبت ست عشرة حلقة حول أدباء محليين، وبدأتها بمناقشة الربذي (اسم مستعار لسميح القاسم). ورغم كون المقالات قصيرة إلا أنها كانت مكثفة، وأخذ القراء يتساءلون: من هو أحمد منير؟

الطريف أنني نقدت فاروق مواسي، في الحلقة التالية، بشكل فيه بعض القسوة الجارحة، وذلك حتى أبعد الشك عني، ثم إني في بعض الحلقات أقسمت ثلاثـًا أن (أحمد منير)هو اسمي الحقيقي- الأمر الذي أثار تساؤلاً أكثر(وما درَوا أن قسمي صحيح، ذلك لأن اسمي في شهادة ميلادي هو أحمد منير- كما سجله جدي موسى في مكتب الداخلية في طولكرم).

كنت أرقب الكاتب منا يفتح الصفحة الأدبية ليقرأ أول ما يقرا زاوية أحمد منير.  وكنت أستمع إلى المحاورات الكثيرة حوله، وأعرف أن أعضاء كنيست من الجبهة وشخصيات أخرى كانوا يتحرون عن حقيقة هذا الكاتب، فأسعد بهذا التكتم الذي ساعدني فيه محرر"الاتحاد”- سالم جبران.

وظل الأمر محتملاً وسرًا، حتى نشرت الحلقة الأخيرة "جرد حساب الأدباء”، وأظن أنني أخطأت فيها الخطأ الجسيم، وذلك بسبب التعميم.  عندها قامت القيامة، وأصيب أحدهم بنوبة قلبية خفيفة، حيث اشترط صاحبنا على سالم جبران قبيل زيارته له في المشفى- أن يفصح له  من هذا الكاتب الذي"تطاول عليه”، وقال إنه لا جديد في شعره.

 وهناك كاتب آخر غضب، لأنه لم يُذكر إطلاقا في المقال، حتى في باب المآخذ. وخرجت الشتائم القلمية واللسانية والقصائد الهجائية، فيتلقاها أحمد منير، كما كنت أتلقى أنا-  مباشرة-  بعضها ممن كانوا يسربون اسمي في مقالاتهم الهجومية، والعجيب أن صحيفة"الاتحاد” كانت تبقي على اسمي الصريح، وكأنها توافق الكاتب على ذلك، أو كأنها تعتذر للكتاب على"التجني”الذي مسهم.

صدر كتابي أو كتاب"أحمد منير” في نحو عشرين مقالاً وقصيدة جمع مقالاته محمود مرعي تحت عنوان"  مداعبـــة / معاتبـــة" - باقة الغربية، إصدار خاص – 2001.

ظلت تجربة أحمد منير تثير أصداء، فثمة كاتب آخر أخذ ينشر في صحيفة"الصنارة” بتوقيع”أحمد منير“ دون أن أعرف حتى الآن من هو؟ وهناك صحف ألحت علي أن أعيد الكرّة، وأكتب باسم مستعار، فجربت ذلك مرة واحدة حفاظًا على ود صديق (بتوقيع صادق شامي).

 

والحق أن تجربة الاسم المستعار مجدية- إذا ظل السر مكتومًا، وإذا حافظت عليه هيئة التحرير – وذلك للأسباب التالية :

1-    لأن عنصر المجاملة و”أخذ الخاطر” يقل، فالنصَّ النص قبل العلاقة.

2-    لأن النقاش القاسي الجارح الذي يندفع به بعضنا سيكون موجهًا للاسم المستعار،والقراء- بأغلبهم- لايعرفون من هو، فلا يكون الهمز واللمز مباشرة.

3-    لإغناء الحركة الأدبية في مناقشات من شأنها أن تزيد اطلاع الأدباء ومتابعتهم الثقافية.

كان غرضي شريفـًا، ولكن سبل الهجوم المر والسخرية والمتجنية وطريقة الخطاب أوحت لي أن ضيق الأفق في الساحة الأدبية نابع من كون أدبائنا – معظمهم- يعتبرون أنفسهم في مستوى لا يصح أبدًا أن تعالجه معاتبة أو حتى مداعبة، ولم تُجدِ لازمة الزاوية التي كنت أختم بها كل مرة"وتحية حب رغم كل ذلك”.

أما كتابي" قصيدة شاعر”- الجزء الأول فقد اخترت فيه ست عشرة قصيدة لشعرائنا المحليين

 (صدر سنة 1996) -قصائد أحببتها، فكتبت عنها. فيها تنويع في الأداء والمضمون، وفيها تلوين يعكس حركة شعرنا الفلسطيني في الجليل والمثلث، فهنا ذوقي في الاختيار، وذوقي في القراءة، ومعرفتي في التحليل وصولاً إلى المتلقي، وكان في نيتي أن أصدر جزأين آخرين أتناول فيهما الشعر في الضفة الغربية وفي قطاع غزة ثم في المنفى، ولكني آثرت سبيلاً آخر لأسباب شخصية محضة.

صدرت دراستي عن"القدس في الشعر الفلسطيني الحديث“- 1996، بينت فيها أن" قصيدة القدس" –موضوعًا متكاملاً متضافرًا، هي قصيدة مستجدة قبيل وبعد النكسة 1967 م، فكان أن ناقشها الكثيرون بحدة لا لسبب، إلا لأنني لم أورد اقتباسًا من أشعارهم التي مر فيها ذكر القدس عرَضـًا. ترى الواحد منهم يؤكد أنه كتب" قصيدة القدس"، وذلك لأنه استعمل اسم المدينة في بيت من الشعر، وقد نسي هؤلاء أن الدراسة انتقاء، تأخذ ما يسعفها في طرحها، فالموضع هو الذي حتم الضرورة، ثم ليس كل من كتب عن القدس أهلاً لأن تأخذه مأخذ الاستشهاد. ويومها عرفت كم هي مهمة كلماتي في نظرهم، وإلا فلماذا يغضبون؟!

ثم صدر الكتاب نفسه ثانية عن وزارة الثقافة الفلسطينية (2010) بتنقيح وإضافة، إذ جمعت نحو عشرين قصيدة هي ضمن المصطلح الذي ارتأيته، وأضفت كذلك نقاشات حول"قصيدة القدس" ومفهومها.

أما الكتاب الذي أصدرته وعبرت فيه عن مواقفي النقدية فهو"أدبيات" (1991)، فقد عالجت مسائل وقضايا تتردد في الأوساط الأدبية نحو الذوق والمعرفة، العلمية في الأدب، سر النص الأدبي، إشكالية المصطلح، السرقة في الأدب، هل الترجمة خيانة...  الخ.  وأنا أعتز كثيرًا بهذا الكتاب الذي ضم خمسة وأربعين مقالاً نشر أكثرها في" الاتحاد" وبعضها في مجلة" الناقد" التي صدرت في  لندن.

إن هذا الكتاب خلاصة تجربة، فكلما عدت إلى قراءته وجدتني مذهولاً به على غير عادتي – فالغالب أن المقال الذي أعود إليه أتمنى فيه إضافات أو حذفًا.

إذن- هي كتب أصدرتها تصل إلى ستة عشر عنوانًا (بما في ذلك طباعة أطروحة الدكتوراه 1995).

إن هموم النقد لديّ كثيرة، وأدعو القارئ إلى أن يقرأ ما كتبت في مجلة" مواقف" عدد أيار 1993م (ص24)، فهناك يجد أنني أتنزّى ألمًا بسبب موقف الصحافة، حيث تفسح المجال أحيانـًا للشتيمة، فتُؤثر (أوثر) السلامة أحيانًا، وتقارع أحيانًا أخرى.

مما أتميز به أنني تابعت وأتابع كل ما يصدر لدينا، أشجع الأقلام التي أتوسم في أصحابها خيرًا، لا أحجم عن رفض ما لا يستحق، ولا أخاف لومة لائم أو لائمة، وحبذا جرأتي لو أني لم أُخلق حساسًا جدًا ومنفعلاً، فهذه آفتي.

لقد حاولت أن أضع مصطلحات نقدية كألفاظ"الواقنسية“"التأدنُس""الشعر الأفيوني“ وغيرها فلم تجد لها سوقًا. كما أغلقت" الورشة الأدبية" أبوابها، وتوقفت النشاطات سواء من
"رابطة الكتاب“ أو غيرها، وقلت المحاورات بين الأدباء في لقاءاتنا بسبب ما تؤدي إلى اللجاجة والخلف والمناكفة، وليس إلى البحث والتنقيب.

لقد علمني ابن قتيبة في مقدمة" الشعر والشعراء" درسًا في الموضوعية ظل أثره قائمًا في نفسي. وقد رسخه ما قرأته للناقد ريتشاردز في كتابه"  The practical criticism 

فقد عمد هذا الناقد إلى قصائد مختلفة، وقدمها غُـفْلاً لطلابه، فعالجها الطلاب بحيادية ودون تأثير مسبق، وكانت محصلة هذا البحث تقديم دليل لصياغة الذوق في الأدب وفق رؤى موضوعية وإشعاعات تفرضها لغة النص.

قلت: ما أحوجنا إلى أن نتخلص من بريق الأسماء وقدسيتها، وقد قمت بتجربة مماثلة ذكرتها في كتابي"أدبيات“:

قدمت قصيدة"الإبرة“ لسعدي يوسف لكثير من النقاد والأدباء ليبدوا رأيهم فيها. ويشهد الله أنهم خسفوها أرضًا واتخذوها هزوا (إلا واحدًا منهم حاول أن يذكر السلب والإيجاب فيها).

ترى لو قدمتها ممهورة باسم صاحبها مباشرة فهل سيكون رد الفعل مماثلاً؟!

 

في صيف سنة 1997 دعيت إلى مؤتمر النقد الأدبي السابع في جامعة اليرموك، وهذه هي الدعوة الأولى (بمبادرة من البروفيسور بسام قطوس) التي توجهها جامعة عربية لي (ولماذا لا أقول"لنا“ نحن العرب في الداخل). كانت ورقتي" إشارات الصدق في لقصيدة الوجدانية كما يستشفها المتلقي".

تعرفت إلى عشرات النقاد والباحثين، وبرزت مداخلاتي وملاحظاتي، وقد كلفتني إدارة المؤتمر أن أرأس إحدى الجلسات، فكان ذلك مبعث اعتزاز لي، وقلت لنفسي" تعبك يا فاروق لم يذهب هدرًا“.  وتلتها دعوة لحضور مؤتمر عن الحداثة وما بعد الحداثة في جامعة فيلادلفيا في نهاية العام 1999 م، فمشاركة أخرى في الجامعة الأردنية (أيار2001)، وتوالت الدعوات تترى، وكم كسبت من أصدقاء، وتعرفت إلى علماء وأدباء.

قد يرى البعض أنني أدّعي هنا وهناك، وحتى أظل صادقًا فإنني أعترف بقصوري إذ لم أصل إلى القارئ الأجنبي، ولم أنشر(حتى اليوم)  دراساتي في مجلات أجنبية محكمة، وباللغات التي تصل إلى العالم، وظللت أراوح مكاني (مكانك عد). فعوضت عن ذلك بنشر كتابي بالإنجليزية الذي قدم له البروفيسور شموئيل موريه:

Studies in Modern Arabic Literature, Garant, Belguim-2007

ومعظم مواد هذا الكتاب كان في الأصل دراسات كتبت بالعربية، ثم ترجمت إلى الإنجليزية.


إنني أطمح إلى أن أشارك باستمرار في مؤتمرات أدبية ونقدية عالمية، وأنا على يقين أن ذلك سـيتحقق لي ما دامت عافيتي بخير.

سأعود إلى ذكر الإيجاب:-

عند انتهائي من هذا الفصل رن الهاتف، فإذا بباحث من غزة يستفتيني في ما يخص دراسته الأكاديمية، وما أكثر ما يصل إلي –كذلك- من رسائل عبر البريد الألكتروني من طلاب الماجستير والدكتوراة، ومن طلاب المعرفة في العالم العربي، فقد أودعت بعض الأسئلة وإجاباتي في موقعي على الرابط:

http://faruqmawasi.com/answers.htm.

هل هذه إشارة إلى أنني أقدم خدمتي، ومكتبتي لطلاب المعرفة.
نعم، فهذا جزء من قدري أن أعطي وأعطي.

إن النقد أصلاً – هو اتخاذ موقف فيه عنصرا  التقويم والتوجيه، وحتى لو كان وصفيًا مجردًا  فإن ذلك كله يصب في نهر العطاء وخدمة هذا المجتمع الذي نعيش بين ظهرانَيـــه.

لعل ما يشفع لي إن عشرات الكتب المهداة لي يقدمها لي أصحابها: "إلى الشاعر الناقد”، ومعظمها من أعلام بارزين يشار لهم ببنان الحب والتقدير. 

شكرًا للأستاذ هاشم ياغي الذي ذكرني في كتابه"حركة النقد الأدبي الحديث في فلسطين”،- 1973، ص 322، وهناك ذكرني بإشارة عابرة-"الناقد الحصيف”- صفة تبعث على الاعتزاز، فما كان من د. يوسف بكار، وبعد سنين، وفي لفتة ذكية، أن كتب لي على إهداء كتاب له: إلى الحصيف حقًا!

 ولكن هل أنا كذلك في نظر نفسي؟!

 

 



 


 

جولاتــــي القصصـــيـة

 

 

مع أن أبي كان محدثًا يسرد حكاية ما جرى معه أو مع سواه بأسلوب مشوق، ويتابعه ضيوفه منتظرين النهاية  إلا أنني لم أنتبه للقص في الأدب، باستثناء ما قرأت وكررت قراءته  من روبنسون كروزو وسيف بن ذي يزن، وبعض قصص ألف ليلة وليلة.
كنت أتابع الطريقة التي يصف أو يصور بها الکاتب جزءًا من الحدث أو جانباً من جوانب الزمان أو المکان اللذين يدور فيهما، أو ملمحاً من الملامح الخارجية للشخصية،أو يتوغل إلی الأعماق فيصف عالمها الداخلي، وما يدور فيه من خواطر نفسية، أو حديث خاص مع الذات.

كتبت القصة الأولى "فقر للبيع" بعد أن أخذت الفكرة من برنامج أدبي أذاعته محطة الشرق الأدنى.
 ونُشرت في عدد أدبي خاص من مجلة المصور التي رأس تحريرها فؤاد شابي، العدد 45 ، ص 16 سنة 16/5/ 1962. من هنا يبدو لي أن بداية النشر الأدبي كانت لدي القصة لا القصيدة أو الدراسة، وهذه معلومة فوجئت بها وأنا أوثق سيرتي.
ثم وبحكم لقاءاتي مع الصديق محمد علي طه وقراءاته على مسامعي نماذج من قصصه أخذت أتابع القراءة ليوسف إدريس، وزكريا تامر خاصة، وكل ما يصل إلينا من قصص وروايات عامة، فكنت أتابع  ما يروي الكاتب لآخرين عما رأی أو سمع أو تصور، وذلك لأنني أبحث عن نفسي من خلال المرويّ عنه، وعن الظروف الواحدة من حياة ممكنة أو متوقعة، وعما تخالجنا من أوهام ورؤى واحدة أو متقاربة في حالات الشدة والرخاء والحزن والفرح.
كنت أتابع الشخصية التي تبث عنصر الحرکة والحيوية في مسار الحدث، ولا تهمني إن كانت نامية متطورة أم مسطحة ثابتة، فالمهم أن تقنعني، تمامًا كحالنا نحن في عالمنا الذي نعايشه، فما يهمني من الشخصية التي ألتقيها، أن أقبلها كما هي، ولا ضرورة لتبدل الدور أو المفاجأة أو المفارقة، فماذا يضيرني إذا بقيت على طبيعتها، ولماذا كانت مسطحة أصلاً، ومن قرر ذلك؟  فورستر؟ صاحب أركان القصة؟

أهتم بالطريقة التي يتناول فيها الکاتب الحدث،وکيفية رصده، و ربطه بعناصر القصة الأخرى ربطاً عضوياً بحيث لا يبدو وکأنه عنصر منفصل أو مفقود لذاته. ولا يهمني ما يراه البعض من أن سير الأحداث يجب أن يتم وفق نظام العلة و المعلول، أو السبب والمسبب، بحيث لا يجری حدث إلا وهو نتيجة لحدث سابق أو مؤثر سابق، ولا يعنيني أن يكون تسلسل الأحداث تسلسلاً رتيباً متوقعاً، بل قد تأتي غير متسلسلة، وقد تبدو متناقضة في الظاهر، ولکن هناك خيطاً شفافًا ينتظمها، ويربط بين أجزائها ويفسر تعاقبها أو عدم تعاقبها.
في رأيي ليس هناك حدود ما للبيئة التي يرسمها القاص،وتتحرك من خلالها الشخصيات وتتعاقب الأحداث، مع أن وظيفة الزمان والمكان في العمل القصصي هي خلق الوهم لدی القارئ بأن ما يقرأه قريب من الواقع أو جزء منه. ومع ذلك فقد تكون الشخصية في أكثر من مكان وأكثر من زمان حسب تطور الحدث وملابسات تنقل الشخصية.
في السرد كنت أحب الحوار، وأعرف صعوبته، ولكم جربت أن أجري حوارًا طويلاً له معنى مسرحي أو درامي فما أفلحت. من هنا كان سبب عدم كتابتي المسرحية، وكم من مرة طُلب مني أن أعد مسرحية طلابية، فكانت خطابية مباشرة أكثر من كونها مجالاً لإبراز عناصر الصراع الداخلي والخارجي بين الشخصيات.
كما أنني لم أفكر في نشر روايتي اليتيمة الحب البعيد، إذ بقيت في الدرج، وأنا أخشى أن أعود إليها، أو حتى أروي لكم حكايتها، مع أن هناك ناشرًا أراد نشرها "على الغميض"، ثقة منه بي، ولكني رفضت ذلك، فأنى لي أن  أكون روائيًا وأنا لم أقرأ روايات عالمية وعربية بصورة تشفع لي ولوج هذا اللون أو النوع.
سألتني مجلة الشرق (العدد الرابع تشرين الأول،1996، ص 5):
  القصة القصيرة... هل تعتبر نفسك ذا خصوصية فيها بعد أن أصدرت مجموعة أمام المرآة سنة 1985، وأعدت نشرها مضافة إليها قصص أخرى سنة 1995؟
أجبت: القصص جميعها لدي فيها تكثيف، وفيها لغة السرد الذاتي (الأوتوبيوغرافي)، تجمع القصة لديّ زخمًا أو طاقة فنيّة، هي أشبه بالقصيدة، فما عجزت عنه شعرًا في رثاء غسان كنفاني – مثلاً – عبّرت عنه قصتي "أمام المرآة"، كما يعرف دارس الواقعية معنى قصة "أنفة" – إذا قرأها، ويحضرني هنا قول القاص سهيل كيوان عن هذه القصة "أرغمتني دائمًا على تخيل حركة حمدي السكاك".

أما د. نبيه القاسم فقد ذهب في مقالته "أمام المرآة والمرايا التي يجب أن تتكسر" – الاتحاد 7/6/1985 إلى أن كل قصص المجموعة (لاحظ كل؟؟!! وبعد قليل سيستثني واحدة) لأي قاعدة من قواعد فن كتابة القصة القصيرة، ويمكننا أن نرى فيها لوحات أدبية متفاوتة، ولكننا لا نسمح لأنفسنا بتسميتها قصصًا قصيرة، ما عدا قصة "صرخة" حيث يمكننا أن نتغاضى عن بعض العيوب، واعتبارها قصة. ويضيف أن التعليقات الجانبية زاد  من ابتعاد  بعض اللوحات عن كونها أدبًا، ثم يذكر أنني جئت بالتشبيهات والصور الساذجة مثل: "يقذفون دموعهم البيضاء بين نهودهن"، "ريشه كأنه قد بلله القطر، والثاني يتقافز وراءه وأمامه"، وقد استغرق نبيه في بيان الركاكة في كتابتي القصصية، و"الابتذال" والميوعة العاطفية،  والهروب من مواجهة الواقع، ويتساءل: هل نكتب القصة لمجرد تسويد الصفحات والتسلية؟...إلخ-
 الأمر الذي جعلني أرد عليه في الاتحاد بمقالة عنوانها :"أين النباهة يا نبيه؟!"، ولم أعد نشرها في أي كتاب من كتبي، مع أن نبيهًا أعاد نشر مقالته أكثر من مرة، وكأن الأمر فتح في نقده الهجومي هنا.
أجيز لنفسي هنا في سيرتي السردية أن أسرد عليكم  ردي عليه إنصافًا لنفسي أولاً.
بعد أسبوع من نشر مقالته أي في 14/6/1986 سألته: "هل هناك قواعد ثابتة لكتابة القصة يا نبيه؟
أما زلت تفكر أن القصة مقدمة فعقدة فحل؟
هل قرأت قصص الطيب صالح ويوسف إدريس وزكريا تامر كلها؟ أم أن قصصهم لوحات؟
أقول: إني أرى ألا قاعدة ثابتة للقصة، ومقياسها فقط قول كاتبها إنها قصة، وبعدها نتعامل معها وفق أذواقنا ومواهبنا.
تقول يا نبيه إن التعليقات الجانبية أبعدت "اللوحات" عن كونها أدبًا، وجوابي: ألم تسمع بالمونولوج الداخلي وتيار الشعور، ان هذه التعليقات هي أصداء لأصوات عبر تمزقات داخلية.
والأنكى أنه يسوق نماذج تشبيهات وصور، ويجعلها ركيكة أو ساذجة، فالكاتب فهم "الدموع" بسذاجة،  فجعلها هو مجرد دموع، وفهم "يتقافز" بدون حركيتها وضرورة الموقف.
يرفض نبيه كتابتي السياسية، فإن رمزت قال "إبهام"، كما في قصتي "أمام المرآة"، وهي تجل شفاف لاغتيال غسان كنفاني، وإن  عدت إلى التراث لأستوحي منه، في نحو  "وخرجت زرقاء اليمامة"، وذلك لإثارتها قومها كي يطردوا الدخلاء ولكي تحذرهم منهم، قلت "رمز تقليدي ساذج". وإذا جعلت الرمز واضحًا "يا ولدي" قلت: "هذا عرض سردي بعيد عن التعامل الأدبي"، وأقول بعد كل هذا: "احترنا يا قرعا".
عجبت  لعدم فهم المغزى الأخلاقي لقصتي "عندما غازلت ابنتي"، وعدم فهم قصة "عبد الحي"، وعجبت أكثر لأنه لم يجد قصة واحدة -أو حتى لوحة كما سماها- يحدث عنها بإيجاب. فهل النقد هو بحث عن "المثالب"؟!
ختمت مقالتي: "لعل ما يشفع لنبيه أنه كتب، وحتى لو لم تكن كتابته مقنعة، أو جدية، فنحن بحاجة إلى أصداء، وإلى تجاوب، ونقاش، بل  إلى معارك أدبية، وذلك من غير أن نكسر مرايا بعضنا البعض، فكل زهرة لها الحق أن تعيش، وليس من حق أحد أن يحكم بالعدم على أي نص لكاتب.

نشرت قصصي الأولى في صحيفة الفجر الأدبي التي حررها  الشاعر علي الخليلي، كما نشرت فلسطين الثورة بعضًا منها، وعلق الشاعر فيصل قرقطي على قصة "وخرجت زرقاء اليمامة" تعليقًا ذكيًا ومستقصيًا.

في المجموعة الثانية أمام المرآة وقصص أخرى أضفت إلى القصص السابقة سبع قصص، أولها "حجر...علم" التي تتوقع الدولة الفلسطينية، و"شيخ وأمنية" وهي قصة قصيرة مهمة جدًا – اسمحوا لي أن أزكي نفسي- تتناول مدينة القدس، وكانت قصة "عيد للصدق"، و "أنفة"، و "وقوف على الضريح" قد أعيد نشرها في منشورات ومواقع كثيرة.
في تصدير هذا الكتاب كتبت:

لا شك أن بعض القراء المتابعين لكتاباتي سيتساءلون: ما لصاحبنا والقصة؟! حسبه النقد والشعر والمقالة، وكأني بهم ينكرون علي أن أدلي دلوي فيما أنا مضطر فيه، فالإبداع يبحث عن مخرج أو طريقة يتفتق فيها مَعِـينه، ويعلم الله أنني لا أقبل على لون إلا لأن أخاكم مكره لا بطل.
في كتاب د. حبيب بولس أنتولوجيا القصة العربية الفلسطينية – 1987 ورد ما يلي:
" فهو – أي مواسي يخربش في قصصه سير الزمان ولا يحدد المكان" ؟
لكنه يتابع:
" قصصه تعتمد السرد، ولكنه سرد مكثف موجز بعيد عن الترهل، ويكتنف معظم قصصه الغموض والرمز. مواضيعه فلسطينية، ولكنها تحرق المسافة بين الخاص والعام. من قصصه يبدو الكاتب متأثرًا بالقصة الأوربية الحديثة، وخاصة وليم فوكنر" (ص 381).
مِن أنصف ما نُقدتْ به قصتي تحليلاً وتعمقًا كانت دراسة محمد علي سعيد بعنوان "أبعاد المضامين في مجموعة فاروق مواسي القصصية" - قراءات في الأدب المحلي، مطبعة الشرق، 1995 (ص71-81)، إذ انتهى الكاتب إلى القول:
"إننا أمام مجموعة قصصية ناجحة تمتاز بتعدد الأبعاد، وهذا ما حاولت الوقوف عليه، وأما الناحية الشكلية المبنوية فإنها تحتاج إلى دراسة مستقلة".

لم أنشر أية قصة قصيرة بعد صدور كتابي نهاية سنة 1995، حتى إذا اشتهر أمر القصة القصيرة جدًا وجدت لي مسلكًا جديدًا، فأخذت أنشرها في المواقع، وحفزني أكثر م