د . فاروق مواســــي
دراسات وأبحاث في الأدب العربي الحديث
دار آسيا - 1992
المقالات في هذا الكتاب
تجدر الإشارة إلى إنني كنت قد نشرت هذه الأبحاث والدراسات في الصحف الأدبية المختلفة، وحرصًا مني على إيصالها للقارئ مجموعة –بعد أن عز الحصول على كثير منها- فقد ارتأيت إعادة نشرها مجيزًا لنفسي في بعض الأحيان إجراء تغيير طفيف على الأصل، وإليك جدولاً يبين مواضيع النشر:
يرجى عن طريق البحث (crtl F ) الوصول لكل دراسة تطلبها من المادة أدناه
1- صلاح عبد الصبور شاعرًا مجددًا- نشر في كتاب منفرد صدر عن جامعة حيفا- 1979، وقد نفد.
2- الرموز والإشارات في شعر السياب- نشر في مجلة (مشاوير)- العدد 3/1979.
3- تحليل قصيدة للبارودي- صدى التربية، أيار- 1983.
4- رثاء الأب عند الشعراء المحدثين- مجلة (الأسوار)- شتاء 1990.
5- تطور اللغة الشعرية العربية - مجلة (الجديد)- أيار 1976.
6- كيف يصف الفيتوري تجربته الشعرية- مجلة (الجديد) - آذار 1990.
7- مراجعة في كتاب (دراسات في الشعر والعروض)- مجلة (صدى التربية)- كانون الثاني 1990.
8- هل جنى الأدب الجاهلي- جريدة (الأنباء)- 1/5/1970 بقلم: محمد إبراهيم.
9- القصة العربية في إسرائيل حتى الستينيات- مجلة (الشرق)- أيار- 1973 (ونشر في نسيلة منفردة).
10- تحليل قصة (سورة البقرة) ليوسف إدريس- (الشرق) صيف 1978.
11- معالم الإبداع في القص عند نجيب محفوظ- مجلة (48) عدد 3-1989.
12- رواية (زغاريد المقاثي)- مجلة (48 عدد2 – 1989.
13- عرض ونقد مسرحية (جبهة الغيب)- (الشرق)- عدد 1/1972.
14- المحسنات في اللغة العربية- صدى التربية، عدد آذار 1983.
..............................................................................................................
صلاح عبد الصبور: شاعرًا مجددًا*
شملت مظاهر التجديد كافة مراحل الحياة في العالم العربي، وأخذت معالم الحضارة الغربية تتغلغل فيه مشكّلة أساليب وأنماطًا جديدة في الفكر والتفكير.
وإذا بالشعر يتجدد شكلاً ومضمونًا بعد أن وقف وقفة طويلة يعيد الموضوعات والمضامين ذاتها بنفس القوالب (الإكليشيهات) للعواطف والمواقف، وبعد أن كانت التشبيهات والاستعارات متقاربة إلى حد المطابقة بنفس القافية الطنانة، والموسيقى القارعة الرتيبة ذات الأوزان الرنانة.
فكان لاحتكاك الشاعر بمنجزات الحضارة الجديدة أن اتسعت ثقافته نظرًا لحاجته إليها - حتى يكون أعمق رواية لحياته ومشكلاته وحقائق مجتمعه ومصير الإنسانية، وحتى يصبح أكثر وعيًا - فكان أن اكتسب الخبرة الفنية في الأداء الشعري على أسس علمية وفلسفية ؛ " كما أن اهتمامه بعالمه النفسي واللا وعي والعقل الباطني جعله يهتم باقتناص اللحظات النفسية العابرة والصور الحية المعبرة"(1).
على ضوء ذلك كان طبيعيًا أن يفتش الشاعر العربي عن شكل وأسلوب يناسبان تجربته، فاهتدى إلى شكل جديد، يخلصه من الجمود، إذ جعل التفاعيل حرة حسب إملاء التجربة الشعرية، ووزع القافية بلا تقييد، وخرج من التقريرية إلى التعبير بالصورة تعبيرًا بنائيًا.
ومن ناحية أخرى فإن الشاعر الحديث ساهم في دور الريادة والطليعة من أجل مُثُل يؤمن بها – نظريًا وتطبيقيًا -، وارتبط بالحياة الاجتماعية ، فكانت القضية التي تشغله ممزوجة بذاتية مستولدة من تفاعل حسه وفكره.
فمن الناحية الفنية لم يعد الشعر ليخاطب الناس في المحافل، أو ليطرب، أو أن يكون ملخصًا تجربة بحكمة مركزة يستطيع شاعر آخر أن ينحو نحوها، أو يناقضها دون معاناة حقيقية ودون انفعال شعري.
فالقصيدة القديمة ذات وحدات مستقلة، والجديدة كما يقول أدونيس "وحدة متماسكة حية متنوعة وهي تنقد ككل لا يتجزأ شكلاً ومضمونًا .(2)
والقصيدة القديمة كانت صناعة ومعاني، بينما الجديدة تجربة متميزة؛ والقصيدة القديمة كانت لغة ذوق عام، وقواعد نحوية وبيانية، بينما الجديدة لغة شخصية.
طوع الشاعر الجديد لغته ولم ينقَدْ إليها، أرادها أن تواكب تجربته وانفعاله، وإذا كان قد تحرر من تقديس اللغة بقوالبها المعجمية فقد ساقه ذلك إلى التحرر من الثبات والسكون.
وقد لخص موريه(3) العوامل التي أدت إلى تغيير نظرية الشاعر:
1- نبذ الشعراء نظرة الاكتفاء الذاتي بتراثهم الأدبي وتطلعهم نحو أدب إنساني عالمي.
2- الانتقال من وصف العالم الخارجي ومظاهر الأشياء إلى الغوص إلى أعماق العالم الداخلي النفسي والروحي والفكري للشاعر العربي.
3- التخلي عن نظرة تقديس أسلوب الشعر التقليدي ، وقد ساقهم بالضرورة إلى محاولة العثور على أسلوب جديد قريب من لغة التفكير والكلام الاعتيادي، ومحاولة العثور على هيكل إيقاعي جديد يلائم المضمون والأسلوب الجديدين.
والبواعث على التجديد أكثر من أن تحصر، لكنا نلمحها في شعر بعض الرواد كبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وغيرهم، ولا نستطيع قطعًا أن نعزو التجديد بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى إلى أحدهم قصرًا ، فربما تكون نازك الملائكة قد نجحت أكثر من غيرها في اتخاذ وحدة التفعيلة أساسًا للبناء الشعري، وربما يكون لويس عوض قد نجح أكثر من غيره في إعادة الشعر للحياة كما يقول إيليوت، وربما يكون عبد الرحمن الشرقاوي قد نجح أكثر من غيره في ربط الأيديولوجية بالشعر، وربما كان السياب قد استطاع أن يبلور رؤياه بصورة أكثر نضجًا من خلال الأسطورة (4). إلا أنهم جميعًا ينسجون وحدة حية متكاملة في زيادة مفهوم الحداثة في الشعر.
قلنا إن الشاعر الحديث دخل عوالم جديدة، وأخذت القضايا الإنسانية تشغله، وحرص على أن تكون القصيدة انعكاسًا صادقًا يمزج تجربته الشخصية بالقضايا العامة، فهو على الغالب صاحب قضية، أو بعبارة أخرى صاحب موقف.
والموقف الجديد يحتم عليه أن يغير الشكل القديم، لأنه لا يصلح لاستيعاب تجربته الجديدة التي يملكها بحرية مطلقة، لذا فقد جعل القصيدة ذات وحدة موضوعية - أهم مظاهرها ما يسمى بالفرنسية ENJABEMENT - الجريان أو التضمين بمعنى التتميم- وهو انسياب الأبيات انسيابًا مترابطًا وهذا مظهر شكلي ومضموني معًا .(5)
إن حرية الشاعر الجديدة جعلته يرفض أن يتقولب ضمن إطار محدد: في بيت من شطرين، وعدد متساو من التفاعيل في كل شطر، وقافية تتكرر عند نهاية البيت بقيود صارمة، فلجأ الشاعر الجديد إلى هذا التنويع في القافية، وإلى توزيع التفعيلات بحيث تتساوق هذه معه نفسه الشعري.
نظر الشاعر العربي إلى الشعر الغربي، فرأى عنده التكرار يضفي على القصيدة موسيقى جديدة، فلجأ إليها متجاهلاً ما كان يسمى بعيوب الشعر كالإيطاء والإقواء، ودخل إلى اللغة ينتقي من ألفاظها ما يلائم تجربته، حتى ولو كانت هناك كلمة عامية امتُهنت، لان المعجم لم يحوها بين دفتيه.
والتحرر من المصطلح القديم، قد مكّن الشعراء من استيعاب تراث الشعر الأوروبي، إنه لم يعد في نفوسهم مجرد فكرة تُقلد، بل أصبح استفادة في الصياغة، إذ أطل علينا الشاعر العربي الحديث بفنون أدبية جديدة كالبالاد، والسوناتا والمسرحية الشعرية ، وحتى قصيدة النثر.
وصلاح عبد الصبور هو أحد هؤلاء الرواد الذين أثْرَوا الشعر الحديث بأشعارهم وبنقداتهم، ودراسة شعره لها اعتبارها في الشعر العربي الحديث، أو بمعنى أدق لمدرسة "الشعر الحر"- حسب تعبير نازك الملائكة (6) أو " الشعر المنطلق " - حسب تعبير النويهي(7).
صلاح- حياته ومؤلفاته
ولد صلاح عبد الصبور في الزقازيق - إحدى مدن الوجه البحري سنة 1931م.
تخرج وهو في العشرين من كلية الآداب في القاهرة، واشتغل في التدريس ، ثم في تحرير الملاحق الأدبية لجريدة الأهرام ومجلة روز اليوسف ،وقد رأس أيضًا تحرير مجلة الكاتب المصرية.
بدأت محاولاته الشعرية كما يقرر ذلك بنفسه(8) سنة 1943 ، ولكنه كتب الشعر الجديد ( شعر التفعيلة ) سنة 1946.
توفي سنة 1981 في القاهرة.
مؤلفاته:
اشتهر عبد الصبور بوفرة عطائه الأدبي المكثف، وقد تمثل هذا العطاء في الشعر والنقد والترجمة والمختارات. توفي في القاهرة سنة 1981.
وإليك تصنيف أبرز هذه المؤلفات التي صدرت له ، ولن أذكر تفاصيل كل كتاب بسبب تعدد الطباعة:-
دواوين:-
الناس في بلادي، 1957.
أقول لكم، 1961.
أحلام الفارس القديم، 1964.
تأملات في زمن جريح، 1970.
شجر الليل، 1972.
ديوان صلاح عبد الصبور ( مجلد في جزأين ) ،1972.
مجلد ( الجزء الثالث ) ، 1977
مسرحيات شعرية:-
مأساة الحلاج، 1969.
مسافر ليل، 1969.
الأميرة تنتظر، 1969.
ليلى والمجنون، 1970 .
بعد أن يموت الملك 1977
كتب في النقد:
أصوات في العصر، 1959.
ماذا يبقى منهم للتاريخ، 1961.
حتى نقهر الموت، 1962.
قراءة جديدة لشعرنا القديم، 1967.
حياتي في الشعر، 1968.
وتبقى الكلمة، 1969.
مختارات شعرية:-
علي محمود طه، 1969.
مضامين شعره:
يكاد يكون نادرًا أن نجد شاعرًا حداثيًا يتزلف أو يرائي (9)، وخاصة في هذا الشكل المنطلق(10). إن الأصلاء فيه أصحاب مثل وقضايا، يحسون آلام شعبهم ويشاركون بمعاناة صادقة.
وصلاح أحد هؤلاء المجددين نلمس في أشعاره ميله، بل شغفه بالعدالة الإنسانية وحرية الكلمة، كما يتجلى لنا ذلك خلال مسرحية (مأساة الحلاج). وهو ليس مسؤولاً إزاء شعبه فقط، بل هو صاحب مسؤولية إزاء الوجود - في انتصار الخير على الشر، من خلال صراع طويل مرير، وذلك لكي يعود إلى براءته، فمسؤولية الإنسان هي أن يشكل الكون وينقيه في نفس الوقت. (11)
إنه رافض لكل عناصر الشر، وقصائده فيها تلميح عن الظلم الذي يعانيه المجتمع العربي، هذا المجتمع الذي يحس الشاعر أنه متخلف ورازح تحت أعباء تقاليد مضنية.
وما هو الشر؟ إنه كما يقول الحلاج: " فقر الفقراء جوع الجوعى". (12)
وما هو الفقر؟ إنه القهر والظلم "الفقر هو القهر... الفقر هو استخدام الفقر لإذلال الروح. الفقر هو استخدام الفقر لقتل الحب وزرع البغضاء" (13).
الشر يظهر أحيانًا على شكل طائر أجدل منهوم ، وآنًا على شكل طارق مجهول (14)، يتصارع معه وجهًا لوجه، بيد أنه لا يعرف الفرار أمام الموت (15) ، وهذا الثبات لا يعني أنه لا يخاف من المجهول (16)، وكيف لا يخاف وهو يواجه الموت- أقسى مصير يواجهه الإنسان فليس بدعًا أن يتساءل دائمًا:
حتى يلتف على صدغي وعيني
هذا الاستفهام المحكم
ماذا قد يحدث (17 )
والمواضيع التي يطرحها صلاح هي إنسانية تهم الإنسان أيًا كان، فقد أصبح يخاطب بلغة يفهمها ابن العالم، كل وفهمه الخاص:
ما غاية الإنسان من أتعابه
ما غاية الحياة يا أيها الإله (18)
وهذه المشاركة الإنسانية أدركها صلاح، وعرف أن الفنان الحقيقي هو ذلك الذي يحس بانتمائه إلى العالم، فإذا كان إنسان القرن العشرين- يعيش في تساؤلات ينوء بها، وهو ممزق- رغم مظاهر الترف والمادة فقد جسّد صلاح هذه التساؤلات التي يسألها الكثير من المفكرين:
ما سر هذه التعاسة العظيمة
ما
سر هذا الفزع العظيم
(19).
وفي "مساءلات أخرى" يسأل إليوار صلاحًا عن معنى الحرية، ويسأله بريخت عن معنى
العدل، ودانتي يسأله عن الحب، والمتنبي عن معنى العزة، والمعري عن الصدق، لكن
صلاحًا لا يملك ردًا إلا الصمت. (20)
إنه باحث عنها كما أنه باحث عن السلام (21)، ويعيش اللحظات المعذبة بحزنه ، وبالتأمل الصوفي، وفي حزنه وصوفيته احتجاج على أوجه القصور في الوجود البشري، فلنقف عند الصوفية ، وكذلك عند الحزن ، نموذجين - هما مظهران بارزان في شعر عبد الصبور، وهما نتاج التأمل، وما الأيام عند عبد الصبور إلا تأمل:
كلون أيامي التي ما استطعت أن
أعيشها حياة
فعشتها تأملاً (22)
الصوفية في شعر صلاح عبد الصبور:
من مظاهر الشعر العربي الحديث نزوعه نحو التصوف، وقد يكون ذلك ملاذًا يلوذ به الشاعر من أزمات اجتماعية وسياسية يعانيها ، وقد يكون بحثاً عن عالم أكثر صفاءً ونقاء – عالم روحاني فيه تجليات وحدس، تتلاشى فيه المادية والغرائز السلبية . وإذا كان التصوف في مرحلة ما خروجًا عن السائد ،وفيه من الرفض والتضحية وإنكار الذات ، وفيه من مقومات الحب والوجد وتجاوز الذات ، فإن الشعر الحديث كان منطلِقًا في بداياته – خاصة – نحو التعبير عن بعض ما تعبر عنه الصوفية ، وكانت الدعوة إليه أولاً من خلال النظرة إلى الفكرة والإيحاءات ، ينحو غالبًا إلى الجوهر ، ويتخلى عن العرض ، كما بدا أنه يصبو إلى الحق
و الحقيقة ، والجمال والكمال .
من هنا كانت الصوفية والحداثة الشعرية تبحثان عن غايات مشتركة ، منها هذه الدعوة إلى الصفاء والنقاء ، ومنها تلك الشفافية في القول غير المباشر ، وهذا المثول بين يدي الكلمة ، فالمتصوفة والشعراء استعملوا اللغة الشعرية الإيحائية ، وذلك للتعبير عن تجاربهم وأحوالهم ومقاماتهم كل بمجاهدته الخاصة به ، وبذوقه ، وباتصاله وبانفصاله ، بل إن التكرار وهو من مميزات الشعر الحديث سمة لازمة في أوراد الصوفية وأذكارهم .
الشاعر والصوفي كان لكل منهما معاناته وقلقه ، وبحثه المتواصل عن العدل وعن الحقيقة، ولكل منهما تأمله ومكابدته واغترابه ووحدته، وترقبه للحظة الإلهام أو التجلي . بل هناك من رأى أن أهل الفن كأهل الطريق ، وفي كليهما معاناة داخلية وصراع مع الذات للوصول إلى عمق التجربة .... لكن الشاعر " يتعمق الوجود كما يتعمقه الصوفي ، وهنا يلتقيان . وربما سمي المفكر والفيلسوف صوفيًا بهذا المعنى أيضًا ، بمعنى أن الصوفية إذا كانت هي عمق التجربة ، فكل صاحب تجربة ورؤية عميقة في الفن والحياة والدين هو متصوف بهذا المعنى " (23)
وقد أشار إحسان عباس إلى أن " الاتجاه الصوفي أبرز من سائر الاتجاهات في هذا الشعر
( المعاصر ) ، ولعل ذلك راجع إلى طول عملية التقدم ، والتراجع في الحياة السياسية ، ......كما أن هناك قسطًا من التصوف يربط بين الاتجاهات الثورية المتقدمة . ثم إن هذا الميدان خير ميدان تتفتح فيه ذاتية الشاعر وفرديته ، فهو ينفصل عن المجتمع ظاهريًا ليعيش آلامه – التي هي نفس آلام المجتمع بوجد مأساوي " (24).
* * *
الصوفية معلم بارز في شعر عبد الصبور(25)، وثقافته الصوفية برزت في بواكير أشعاره بدءًا من ديوانه الناس في بلادي ، ثم تطورت . وكانت ذروة ذلك أن أصدر مسرحية مأساة الحلاج، وخلع على هذه الشخصية الصوفية - الحلاج ( 858-922 م ) التزامًا، فجعل من الصوفية التي عرف بأنها ضمن دوائر السكونية- أي التي لا تشارك في قضايا المجتمع- صوفيةً متحركة تتمرد على التقشف والكبت والجوع والقهر والظلم ، وبعبارة أخرى – تقاوم الشر .
وهذه الصوفية التي أكثر عبد الصبور من تناولها - ربما كانت نتيجة حتمية لتساؤلاته الكثيرة وتأملاته في زمنه " الجريح "(26).
ابتدأ الشاعر عالمه الشعري وقد صاحبته الإشارات الصوفية ، فلا تكاد تجد قصيدة إلا وفيها إشعاعات صوفية يتعلق تعليلها بالمتلقي وقراءته(27).
نعاين هذه الملامح الأولى للصوفية في ديوانه الأول الناس في بلادي ، ومنها :
بالأمس في نومي رأيت الشيخ
محيي الدين
مجذوبَ حارتي العجوز
وكان في حياته يعاين الإله
تصوري ويجتلي سناه
وقال لي ".... ونسهر المساء
مسافرين في حديقة الصفاء...
.....
ويعقد الوجدُ اللسانَ.... من يبح يضل
....."
وقال لي وصوته العميق كالنغم.
" يا صاح أنت تابعي
فقم معي
ردْ مشرعي (28)
ولماذا هذا اللجوء إلى الشيخ؟
ذلك لأن قلبه كسير وجسمه مغلل، فلا بد له من أن يعود إلى الصفاء إلى الحب:
بل كلنا صغار....
الحبيب وحده هو الكبير(29)
وفي ديوان أقول لكم ينكر في قصيدته (القديس)(30) أباطيل فلسفة أفلاطون وماركس وأرسطو، وأصحاب نظرية الحلول والسوفسطائيين وفيثاغورس، ويرى أن الحب الإلهي هو مصدر الكون، وهو يقول :
ذات صباح
رأيت حقيقة الدنيا
سمعت النجم والأمواه و الأزهار موسيقى
"رأيت الله في قلبي "
ساعتها :
شعرت بجسمي المحموم ينبض مثل قلب الشمس
شعرت بأنني امتلأت شعاب القلب بالحكمه (31)
كذلك كان الشاعر يصف الصوفي في قصيدته ( الكلمات ) – ذلك الذي يطوف في الأرض أو يسكن خلوته :
حديثي محض ألفاظ ولا أملك إلاها (32)
وفي ديوان أحلام الفارس القديم يكتب لنا الشاعر عن مذكرات الصوفي بشر الحافي (867-841م) . وفي هذه المذكرات نعرف أن سبب سقوط الإنسان هو فقدان الإيمان. وهو الذي خلق جيلاً من الشياطين مكان بني آدم فيقول:
"حين فقدنا الرضا
بما يريد القضا
لم تنزل الأمطار
لم تورق الأشجار
لم تلمع الأثمار ..
...........
حين فقدنا هدأة الجنبِ
على فراش الرضا الرحبِ
نام على الوسائد
شيطان بغض فاسدِ
معانقي ، شريك مضجعي ، كأنما
قرونه على يدي
حين فقدنا جوهر اليقين
تشوهت أجنَّة الحبالى في البطون ..
..........جيل من الشياطين
جيل من الشياطين"
إذن نحن – في نظر الراوي الشاعر - افتقدنا رضانا بقضاء الله، فتشوهت حياتنا ، وأصبحنا بعد أن أخذ الشعر ينمو في مغاور العيون ، جيلاً من الشياطين ... ويمضي الشاعر قائلاً على لسان بشر :
تعالى الله هذا الكون موبوء ولا برء
ولو ينصفنا الرحمن عجّل نحونا بالموت ...(33)
قرأ صلاح قصة بشر الحافي بعد أن مال إلى التصوف ، فبِشر – كما يذكر الشاعر : "مشى يومًا في السوق ، فأفزعه الناس ، فخلع نعليه ، ووضعهما تحت إبطيه ، وانطلق يجري في الرمضاء ، فلم يدركه أحد ، وكان ذلك سنة سبع وعشرين ومائتين "(34).
وقد ذكر الشاعر في مقابلة معه أنه اطلع على القصة في كتاب طبقات الأولياء للشعراني (1492-1565)، فرأى فيها قصته هو نفسه "عندما يتصور أن الحياة أصعب من التصور"(35) فالكون لا يصلحه شيء.
تعالى الله هذا الكون لا يصلحه شيء
فأين الموت أين الموت أين الموت؟- (36)
يسأل بشر شيخه بسام الدين عن نهاية ما هم فيه من معاناة ، فيجيبه الأخير.....
يا بشر أصبر
دنيانا أجمل مما تذكر
ها أنت ترى الدنيا في قمة وجدك
لا تبصر إلا الأنقاض السوداء
ثم ما يلبث أن يسأل شيخه :
أين الإنسان؟ أين الإنسان؟ (37)
فيجيبه بسام الدين:
سيهل على الدنيا ركبه.
وقد توقف الباحث إبراهيم منصور على دراسة مستفيضة لهذه القصيدة " مذكرات الصوفي بشر الحافي ، وذكر أنها " مقسمة إلى خمسة مقاطع ، نسمع صوت بشر وحده في المقاطع الأربعة الأولى ، وفي المقطع الخامس نسمع صوتين : هما صوت بشر ، وصوت شيخه بسام الدين . في المقطع الأول يشكو بشر من الجدب والإمحال ، وهو جدب روحي بالطبع برغم أنه يعبر عنه بما يعني أنه جدب في الطبيعة :
لم تنزل الأمطار
لم تورق الأشجار
لم تلمع الأثمار
وهو يرى أن هذا الجدب نتيجة للجدب الروحي ....،(38) وفي المقطعين الثاني والثالث دعوة للصمت ...وينتهي المقطع الرابع أيضًا بتأكيد طلب الموت يأسًا .....
وهذه القصيدة تبدو وكأنها مقدمة لظهور الحلاج ومذهب الخير المطلق، فالصوفية في هذه الشخصية تصلح لتفسيرات الوثبات الوجدانية.(39)
إن البطل في مأساة الحلاج يتحمل أعباء المسؤولية حتى في ساعة الخطر المحدق ، يقول مخاطبًا الشبلي : :
لا ، إني أشرح لك
لم يختار الرحمن
شخوصاً من خلقه
ليفرق فيهم أقباسا من نوره
هذا .. ليكونوا ميزان الكون المعتل
ويفيضوا نور الله على فقراء القلب(40)
وكما لا ينقص نور الله إذا فاض على أهل النعمة
لا ينقص نور الموهوبين إذا ما فاض على الفقراء (41)
وفي مكان آخر :
الحلاج : هبنا جانبنا الدنيا
ما نصنع عندئذ بالشر ؟!
الشبلي : الشر
ماذا تعني بالشر ؟
الحلاج : فقر الفقراء
جوع الجوعى............
........
والمسجونون المصفودون يسوقهمو شرطي .....
ورجال ونساء قد فقدوا الحريه
........
الشر استولى على ملكوت الله
حدثني كيف أغض العين عن الدنيا ؟ (42)
استقى صلاح مسرحيته من التاريخ(43) ، وأعاد صياغة الأحداث بتشكيل جديد يتفق ومجابهة الشاعر لها ، فكان الحلاج هو القناع أو البديل الموضوعي للشاعر في معاناته .ولعله تعبير عن أزمة صلاح عبد الصبور ومأساته الخاصة ، أكثر من كونه تعبيرًا عن الحلاج ذي التجليات والشطحات . من هنا أكد عبد الصبور على كون الحلاج - في مسرحيته - شاعرًا ، وذلك حتى يلازم بين الشعر والموقف ، وكأنه يشير إلى دور الشعر في بناء الإنسان ، وفي عذابه أو خلاصه .. وبما أن عبد الصبور سلك درب الشعر ، فقد رأى أن يجعل قناعه أو شخصيته التي يعالج حياتها جزءًا من واقعه هو ، وبذا يكون الحلاج معبَرًا ومعبِّرًا عن صوته الشعري وموقفه الذاتي الذي يهدده الكبت السياسي المعيش ، خاصة وأن عبد الصبور في حياته اليومية سلك دربًا فيه من إظهار القبول بما تيسر وفيه من المهادنة ، لكن فيه كذلك الرفض المبطن – الأمر الذي أوقعه في حيرة موقفية .
ولم يكن الباحث ليجرؤ على هذا الحكم التماثلي لو لم يكن هذا التذييل الذي أورده الشاعر في ختام المسرحية :
" ثم عاد ( الحلاج ) إلى بغداد ليعظ ، ويتحدث عن مواجده .. يبث الآراء الإصلاحية ، ويتَّصل ببعض وجوه الدولة .. وهو : المجاهد الروحي العظيم .......وفي مقال ماسينيون إشارة إلى الدور الاجتماعي للحلاج في محاولته إصلاح واقع عصره ......فمما لا شك فيه أن الحلاج كان مشغولاً بقضايا مجتمعه ، وقد رجَّحتُ أنَّ الدولة لم تقف ضده هذه الوقفة إلا عقاباً على هذا الفكر الاجتماعي "(44).
استخدم الشاعر التناص بكثرة فضلا عن الاستشهاد بالمستنسخات والمقتبسات والشذرات العرفانية. فرأينا فيها الانزياح و الرموز الإحالية والعبارات الموحية الرشيقة.
يرى الباحث يوسف زيدان (45)أن الشاعر ألبس الحلاج ثوباً سقراطيًا يعكس مزاجَ صلاح عبد الصبور وصورةَ الشاعر / البطل ، عنده .. فسقراط أقبل على الموت راضياً ، حتى تبقى الآراء الفلسفية التي ما فتئ يعبِّر عنها فى سجنه الأخير -وهو ما عبَّر عنه أفلاطون ، بروعة ، فى محاورة : فيدون – ، فجاءت الصورة الحلاجية تتخذ الموقف نفسه في تصور صلاح عبد الصبور .. فالحلاج عند عبد الصبور ، يقول :
الحلاج : مثلي لا يحمل سيفاً .
السجين الثاني : هل تخشى حمل السيف ؟
الحلاج : لا أخشى حمل السيف ولكني أخشى أن أمشي به
فالسيف إذا حملت مقبضه عمياء
أصبح موتاً أعمى(46)
من هنا رأينا أن الشاعر عمد إلى أن يقلل من حدة الشطحات الصوفية لدى الحلاج ، ولم يذكر في مسرحيته إشراقات صوفية متطرفة عُرفت عن الحلاج ، بل جعل وكده الصورة الإصلاحية المتواصلة مع واقع الناس ، فيقول على لسان صوفي يخاطب المجتمعين :
يا قوم ،
هذا الشرطي استدرجه كي يكشف عن حاله
لكن هل أخذوه من أجل حديث الحب ؟
لا ، بل من أجل حديث القحط
أخذوه من أجلكمو أنتم
من أجل الفقراء المرضى ، جزية جيش القحط(47)
الفكرة الإصلاحية لدى الحلاج جعلها الشاعر منطلقة من نفسه هو ، وهو يعترف على لسان الحلاج ، ويمكن للمتلقي أن يماثل ، وأن يقرأ أن الراوي هو البطل :
لا أملك إلا أن أتحدث
ولتنقل كلماتي الريح السواحة
ولأثبتها في الأوراق شهادة إنسان من أهل الرؤية
فلعل فؤادًا ظمآنًا من أفئدة وجوه الأمة
يستعذب هي الكلمات
فيخوض بها في الطرقات
يرعاها إن ولي الأمر
ويوفق بين القدرة والفكرة
ويزاوج بين الحكمة والفعل (48)
كثرت رموز صوفية في تضاعيف هذه المسرحية توافقًا مع الشخصية التي درسها الشاعر ، ورأى أنها ضحية وبطل معًا ، ونسوق مثلاً :
الحلاج – قل لي يا شبلي ، أأنا
أرمد ؟
الشبلي : لا بل حدّقت إلى الشمس
وطريقتنا أن ننظر للنور الباطن
ولذا فأنا أرخي أجفاني في قلبي
وأحدق فيه فأسعد
وأرى في قلبي أشجارًا
وملائكة ومصلين وأقمارا
وشموسًا خضراء وصفراء وأنهارا (49)
فالشمس والطريقة والنور والباطن والملائكة والصلاة والألوان المختلفة ....هي من مصطلحات الصوفية (50) ، وهي مصطلحات يلبسها بعدًا فكريًا مألوفًا .
و نجد في هذا المثال نفسه ذلك التعبير عن الموقف بلمحة " أرخي أجفاني في قلبي " ، كما نجد الخيال الذي أضفى على الصورة عالمًا جديدًا متشابكًا من الحيوية والخلق ( فأرى في قلبي أشجارًا ....إلخ ).
فمن الحلاج المسالم المتمزق بين السيف والكلمات - كما يقول سامي خشبة – (51)
يحاول صلاح أن يجيب عن الأسئلة المطروحة على أصعدة الفكر الإنساني.
استقصى بعض الباحثين استخدام الشاعر لعبارات حلاجية بعينها ، فكانت تناصات في نسيج المسرحية ، فثمة أقوال أخذت من كتاب الحلاج الطواسين ، وألمع لها الشاعر دون أن يذكرها نصًا ، كأثر الحج في نفس الحلاج ، أو " تجديفات " هذا الصوفي ، والحديث عن
" الدورة " التي تكتمل بتقديم الحلاج نفسه ضحية وبذله دمه مختارًا . وهنا نرى أثر التراث المسيحي حول شخصية المسيح . فالشاعر الحديث كان يعيد صياغة كلمات الشاعر ( الحلاج ) في لغة عصرية دون أن يذكر الأصل – كما كان لدى الحلاج - بكل ما فيه من حرارة العاطفة ورمزية التعبير وروحانية النزعة .(52)
أشرت إلى أن اصطلاحات الصوفية تشرق هنا وهناك في مضامين شعره، ويبدو ذلك جليًا في القصيدة - في بنائها ، حيث تتولد بمصطلحات صوفية هي في نظر صلاح بالتحديد تأتي :
أ - كوارد، وقد يكون حين يرد إلى الذهن مطلع قصيدة.
ب - كفعل، وهي مرحلة التلوين والتمكين في مصطلحات الصوفية، وهنا يشبّه صلاح السعي وراء العمل الفني بالرحلة (53) ، بدلاً من تشبيهها بالصنعة.
ج- العودة لكي يبدأ المحاكمة النقدية.(54)
وتتبدى ثقافة صلاح الصوفية كذلك في أعماله الأخيرة استمرارًا وتطويرًا،، ففي مقدمته لقصيدة " البحث عن وردة الصقيع"(55)، يستشهد بـ ( موتو ) أو تعليقة القصيدة بقول ابن عربي (1075-1148م) ، وكأنه يريد أن يؤكد لنا منهجه هو في كتابة الشعر:
" ولم أزل فيما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية والتنازلات الروحية والمناسبات العلوية جريًا على طريقتنا المثلى".
وفي قصيدة "ذكرى الدرويش عُبادة " الذي كان ظلا قلقًا مجنونًا ، كان واختفى، نجد معالم الصوفي الحائر:
كان كثيرًا ما يحلم
حتى تصبح رؤياه أشباحًا مرتبكه
أو أشكالاً مشتبكه
......
أو أصواتًا متداغمة لا تُفهم
أسأل أحيانًا
هل كان يرى ما لا نبصر
أم يعلم ما لا نعلم
أم كان يحس بأن خيول الزمن العاتي
خلف خطانا تتقدم ؟!(56)
وقطعًا فهنا نلمح الفرق بين عبادة وبين الشيخ محيي الدين أول صوفي يبرز في شعر عبد الصبور؛ فالأول كان علامة الحيرة ، بينما الثاني كان علامة الصفاء. وكان الحلاج رمزًا للتضحية من أجل العدل ، بدأ رحلته بالكلمة ، وأنهاها بالموت .
وبين ظلال الصفاء والحيرة تظل صوفية عبد الصبور صوفية إيجابية بناءة وملتزمة، صوفية تأتّت بعد معاناة وحزن، أو كما سبق وأن قلنا بعد تأمل. وهذه الصوفية كما تجلت في مسرحية
مأساة الحلاج قد أضفت بعدًا جديدًا على الصوفية ، أو قل تفسيرًا جديدًا لمواقف وحالات ومقامات ، فجعل الوجد متحركًا يقاوم الشر ، وجعل البطل يُقبل على صلبه تضحية وبطولة وكأنه المسيح في العقيدة المسيحية ، فلا يتراجع عن كلماته ، وتبدأ حياته بالكلمة وتنتهي بالموت .
الحزن عند عبد الصبور
برزت أبعاد المأساة عند عبد الصبور بعد أن رأى الهوة السحيقة التي تفصل بين تصوراته، وبين ما هو واقع في حياته، وهو يبني عالمًا جميلاً:
لكن هذا الطارق الشرير فوق بابي الصغير
قد مد من أكتافه الغلاظ جذع نخلة عقيم
وموعدي المصير.
والمصير هوة تروع الظنون(57).
يناضل الشاعر بكلماته لتحويلها إلى واقع، فإذا بها تصطدم في واقع لا شعري، لذلك فقد رأى أن هذا زمان السأم... نفخ الأراجيل سأم...
دبيب فخذ امرأة ما بين إليتي رجل سأم...
لا عمق للألم...
كالزيت فوق صفحة السأم... (58)
يباشرنا الشاعر بقوله (إني حزين) بل يرددها كثيرًا:
مكتمل الخلقة موفور البدن
حكايتي حزينة الختام
لأنني حزين(59)
وقد صاحب الحزن الشاعر، حتى أصبح صديقًا له في رحلته الشعرية، ونسأل صلاحًا عن سر هذا الحزن الطاغي عليه فيجيب:
" الحزن ثمرة التأمل، والحزن غير اليأس ، بل لعله نقيضه. اليأس ساكن فاتر، والحزن متعد ، والحزن أيضًا هو ذلك الضرب من الأنين الذي يغني النفس، إنه وقور عميق إنساني.
والحزن لا يعني الرضاء بان أمنية تموت
وبأن أيامًا تفوت
وبأن مرفقنا وهن
وبان ريحًا من عفن
مس الحياة فأصبحت وجميع ما فيها مقيت.
وقد أكون حزينًا لأنني أفكر في الموت كثيرًا،......أما أن أرد الحزن إلى حاجة لم أقضها أو فقد قريب أو شقاء طفولة فذلك ما لا أستطيعه(60).
عاش الشاعر أنواع الحزن كافة وبلاها وهو ملتو عليها، كالأفعوان، وبلاها حين فاض جدولاً من لهب يملأ منها كأسه، وهو يمضي في حدائق الذكريات، إنه حزن ثقيل معذب يطل حتى في ساعات الفرحة المؤقتة.
لكن حين ضحكنا أمس مساء
رنت في ذل الضحكات نبرات بكاء
حزني ثقيل فادح هذا المساء
كأنه عذاب مصفدين في السعير
حزني غريب الأبوين
لأنه يكون ابن لحظة مفاجئة
أراه فجأة إذ يمتد وسط ضحكتي
كأنه استيقظ من تحت الركام (61)
بعد سبات في الدهور
الحزن الغريب (62) ليس انفعالاً مؤقتًا تدريجيًا كرد أو استجابة لدافع معين، وإنما هو فلسفي، وهو القالب- "القالب الانفعالي الذي تنصّب فيه رؤية الشاعر لأبعاد واقعه الداخلي والخارجي"(63) .
إنه ابن التزاوج الحيوي بين هموم الشاعر الذاتية وبين صمت الواقع.
الحزن مكنون " قد يختفي ولا يبين"(64) لا يدري الشاعر سببه، لعله تذكار أو لعله الأسى.
والحزن أعمى- "يولد في المساء لأنه حزن ضرير"65)
وهو " حزن صموت.. حزن تمدد في المدينة.. كاللص في جوف السكينة... كالأفعوان بلا فحيح"(66) ، فحزنه حزن ذوي المصائر الكبرى عندما يعانون مصيرهم، وتتحول بهم المصاعب إلى التشاؤم والاسوداد، ورغم أن صديق الشاعر يخاطبه متفائلاً:
سنعيش رغم الحزن نقهره ونصنع في الصباح
أفراحنا البيضاء أفراح الذين لهم صباح (67)
إلا أن صلاحًا يؤكد أن الحزن يفترش الطريق، هذا الحزن يكتسب صبغة فلسفية في دواوينه الأخيرة
حزني لا تطرده الصلاة
قافلة موسوقة بالموت في الغرار
والأشباح في الحرار والندم
.........
حزني لا يفنى ولا يستحدث(68) بعبارة أخرى هو جوهر، وإذا كنا قد أطلنا البحث عن سر حزن الشاعر فلقد أورد لنا هو سر حزنه كما يراه:
كنت أحس سادتي الفرسان... أنكمو أكفان
وكان هذا سر حزني (69)
وفي هذا الربط بين الحزن والموت كانت نقمة الكآبة تطبع شعر عبد الصبور الإنساني، ومن هنا يكتسب عبد الصبور شاعرية ذات طابع إنساني، وفي تشاؤمه تفاؤل ناعم، فيها مواكبة لإيليوت وستويل وإلوار كما يرى محيي الدين محمد .(70)
عبد الصبور بين التراث والمعاصرة
لا شك أن استعادة الشخصيات الصوفية وإلباسها لبوسًا جديدًا من المسؤولية- بحيث تشيع في جنباتها الحب العميق والحزن المكثف- كانت من أهم بوادر تأثره بالتراث، فالقصص الديني كان عنده موضوعًا مكملاً يستخرج منها الحركات motifs.
وقد وجد كذلك في ألف ليلة وليلة شخصية (عجيب بن الخصيب) رمزًا للبحث عن الحقيقة، فانطلق في خيالاته ليقترب من الحقيقة التي ينشدها:
مدوا حول الكرة الأرضية نسج الشبكة
كي يسقط فيها ملككم المتدلي (71).
ومن الكتاب المقدس ينهج صلاح منهج الإصحاح الرابع من (نشيد الأنشاد)، فأخذ ينشد:
وجه حبيبي خيمة من نور
شعر حبيبي حقل حنطة
خدا حبيبي فلقتا رمان
جيد حبيبي مقلع من الرخام
نهدا حبيبي طائرن توءمان أزغبان
حضن حبيبي واحة من الكروم والعطور(72)
فالبيت الثالث من هذا المقطع ورد بنصه من التوراة .(73)
واقتبس صلاح من الشاعر القديم ليثري صوره الشعرية، بل إنه ليجعل البيت القديم جزءًا من المعنى الحديث، فعندما أراد أبو عمر القاضي أن (يعجّز) قاضيًا آخر بمسألة لغوية عجز الأخير بعد أن كان:
تلبد وتحمحم.. كحصان ابن زبيبة عنتر
فازور من وقع القنا بلبانه
وشكا إلي بعبرة وتحمحم
إني أروي آلاف الآلاف من الأبيات(74)
فقد أورد بيت عنترة العبسي)75) مستلهمًا صورة موحية. وإذا كان أبو نواس قال:
ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد(76)
فقد استخدمه صلاح بمعنى جديد فهو يخاطب سادته الأماجد:
أنتم هدية السماء للتراب الآدمي،
نحن حفنة الأموات
وشارة على اقتدار الله أن يخلق أمثالاً
من الفنانين، ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في عشرين(77)
وصلاح القارئ المثقف لم يقتصر في قراءته على أدبه العربي فقط، بل استفاد كثيرًا من الشعر الإنجليزي وأعلامه. وقد اهتدى موريه(78) إلى مقاطع عنده كان قد استفادها الشاعر من إيليوت وشكسبير، نذكر منها على سبيل المثال:
إنني خاو ومملوء بقش وغبار
أنا لا املك ما يملأ كفي طعامًا.
فقد نظر فيها إلى قول إيليوت في قصيدته (The Waste Land) :
We are the hollow men
We are the stuffed men
Leaning together
Head piece filled with straw, alas!
ويقول:
جارتي، لست أميرا
لا ولست المضحك الممراح في قصر الأمير
نظر إلى قصيدة إيليوت
The love song of j.Alfred prufrock
No! I am not prince Hamlet,
Nor was meant to be,
At times, indeed, almost ridiculous
Almost, at times, the fool.
لكن استفادة الشاعر الحقيقية لم تقتصر على جمل من هنا وهناك، وإنما في الفنون الأدبية كالمسرح الشعري وفي البناء الجديد للقصيدة، وهي بالطبع استمرار لتأثر الشاعر بالثقافة الغربية عامة والشعر الإنجليزي خاصة.
التشكيل في الشعر
اعني إن القصيدة لديه متلاحمة الأجزاء ومنظمة، وليست مجرد خواطر وصور مبعثرة كما كانت، ولها ذروة شعرية تقود إليها كل أبيات القصيدة، وتسهم في تجليتها وتنويرها، ويرى صلاح " أن هناك تشكيلاً دوريًا ترد فيه ذروة النهاية على فاتحة البدء، وتندمج فيها قصيدة دائرية، كما أن هناك قصائد تتوزع فيها الذرى الصغيرة التي تدور حولها ألوان من التداعيات، كما أن هناك قصيدة التنويعات على الموضوع الرئيسي.(79)
ففي قصيدة تنويعات يظل الهيكل العام للأقسام الثلاثة بنفس المشاعر متكاملاً في وحدة شعورية تنكشف أبعادها بعدًا بعدًا أنها غير مغلقة، ونحس بارتباط نغمي بين السطر والآخر:
كان مغنينا الأعمى لا يدري
أن الإنسان هو الموت
يدري أن الإنسان هو الموت
والعاهرة اللامعة الفكين الذهبيين
لم يك ساقينا مصبوغ الفودين
لم تك تدري أن الإنسان هو الموت
لكني كنت بسالف أيامي (80)
فجملة (الإنسان هو الموت) التي قالها الشاعر ييتس تكتسب عند عبد الصبور تصورات جديدة وآفاقًا أرحب .(81)
البالاد Ballads (82)
البالاد أغنية ذات عاطفة فياضة، يشترط فيها أن تردد حكاية، هي أغنية تقص قصة، صورتها شعر بسيط يصلح للحن بسيط، وهي مع أنها ضمن الأسلوب البسيط فقد يحمل بعضها تعقيدًا في الفكرة والعبارة.
وأول من اعتبر أن عبد الصبور كتب البالاد كان أستاذ الأدب الإنجليزي لويس عوض(83) - الذي ذهب إلى أن قصيدة "شنق زهران" بأصولها الشعبية ،كاصطناع السذاجة، وتكرار القرار، وتكرار الصور ، آنا بالمطابقة، وآنا بالتناقض، واعتمادها على مأساة بطل ، كل هذا يؤدي بها إلى محاكاة هذا الفن الأدبي المعروف Ballads
كان زهران غلاما
أمه سمراء والأب مولد
وبعينيه وسامة
وعلى الصدغ حمامة
وعلى الزند أبو زيد سلامة
وتحت الوشم نبش كالكتابة
اسم قرية
دنشواي..............
" إنكم إزاء شاعر ماكر يعرف أصول فنه ، فأول مقتضيات الشعر القصصي الذي يسرد أيام الأبطال الشعبيين ومآسيهم أن يصطنع هذه السلامة وهذه السذاجة ، وهذه الحركة السريعة لتتمشى صورته مع مضمونه ". (84)
أما الحكاية الشعرية قد طغت على شعر عبد الصبور ، يسردها صلاح مصحوبة بالوصف الدقيق لكل جزئيات الحدث...(85)
الأسطورة لدى عبد الصبور
حدثنا صلاح في كتابه حياتي في الشعر أن الأسطورة تعبير عن الذات الإنسانية في وحدتها وجوهرها... هي لا معقولة، بيد أنها ليست منافية للعقل. والدافع إلى استعمال الأسطورة في الشعر ليس مجرد معرفتها، "ولكنه محاولة إعطاء القصيدة عمقها أكثر من عمقها الظاهر، ونقل التجربة من مستواها الشخصي الذاتي إلى مستوى إنساني جوهري، أو هو حفر القصيدة في التاريخ، فمن حقنا أن لا نستعمل الأسطورة فحسب، بل كل المادة التاريخية المتاحة لنا من أساطير وقصص ديني وشعبي وأحداث حقيقية مؤثرة في حياة الإنسان"(86).
فعندما يتحدث صلاح عن السندباد لا يقصر حكايته الشعرية على رحلات السندباد القديمة، ولا يهتم بالظواهر الساذجة، وإنما يعرض علينا تجربته الخاصة ليكسب هذه التجربة بعدها الموضوعي، هو يبحث خلال هذه الأسطورة عن المجهول، فاللفظ عنده رمز، فحتى تصبح القضية شمولية على الشاعر أن يتبيّنها قائمة على التناظر بين حالة وحالة أدبية أخرى.
صلاح يفهم الأسطورة فهمًا خاصًا، ويستعملها بطريقته، فإذا كان يباشرنا بالقول: "إني حزين" فهو لا يباشرنا أبدًا بنثر الأسماء -سيزيف وعوليس... الخ كيفما اتفق، وإنما يرمز لقصصهم حتى يولد فينا إحساسًا انفعاليًا فنيًا(87) ، وحتى يبتعد عن المباشرة والتقرير والهتاف(88).
وعندما يقول:
الشعر زلتي التي من أجلها هدمت ما بنيت
من أجلها صلبت (89)
كان ينظر إلى المسيح.
وعندما قال " أخرج كاليتيم" (90)
كان يرمز إلى محمد.
وعندما خاطب القاهرة:
وأن أذوب آخر الزمان فيك
وأن يضم النيل والجزائر التي تشقه
والزيت والأوشاب والحجر
عظامي المفتتة...(91)
حين يلم شملها المنحوت من جميز مصر
كان يرمز قطعًا إلى أسطورة إيزيس(92).
لقد أضافت الأسطورة عمقًا وبعدًا، فأثارت تداعيات في ذهن القارئ، وجعلته ينظر إلى التراث الإنساني كوحدة متكاملة جعلته يتنقل في العصور والمعتقدات والحضارات، وأكسبت هذه الإضافات الشعر موسيقى الفكرة.
وبالإضافة إلى التداعيات التي تثيرها هذه الرموز فإنها تصوغ الشخصيات بصورة حية، وتجعل الشاعر أن يكون مراقبًا أقل تأثرًا في العاطفة وقادرًا على أن يكبح جماح مشاعره المتوثبة .(93)
الصورة الشعرية
الصور عند عبد الصبور غنية بالحيوية ومتحركة، تجمعها وحدة عضوية وهي تستجلي الحياة من خلال موقف نفسي عند الشاعر.
الصورة تحافظ على تداعياتها ، وليس للجمال أو للقبح اعتبار:
أرتد إلى هذه الفكرة كل مساء
مثل صدى يرتد إلى الصوت
مثل النهر إلى البحر
تتشكل أحيانًا في أقنعة
متشابهة متغيرة كالأيام
أو كالموت
تتجول في جسمي مثل دمي(94).
الصور مكثفة، والتنغيم متنوع يتحد في النهاية بوحدة عضوية، وكل صورة بحد ذاتها تمسك برقاب الصورة الأخرى، تحمل شحنة انفعالية جديدة، تتعدد المظاهر لكنها في موقف فني واحد:
الليل والأسلاك والحرس المدجج بالحديد
والظلمة البلهاء والجرحى ورائحة الصديد
ومزاح مخمورين من جند التتار(95).
وللقصص التاريخية والأساطير معان تثري الصورة الشعبية وتكسبها أبعادًا جديدة:
خطابك الرقيق كالقميص بين مقلتي
يعقوب
أنفاس عيسى تصنع الحياة في التراب
الساق للكسيح (96)
وصلاح يشكل الصورة الشعرية تتبعًا للسياق النفسي ، فعندما يشعر بالوحدة والفراغ، يجد نفسه قائلاً:
أتخيل هذا الردف يفارق موضعه ويسير
على شقيه
حتى يتعلق في هذا الظهر
أو هذا النهد يطير ليعلو هذا الخصر
(وأعيد بناء الكون)(97).
ونرى مثل هذه التركيبات في تصور الإنسان في مذكرات الصوفي بشر الحافي:
زور الإنسان الكركي في فك الإنسان
الثعلب
نزل السوق الإنسان الكلب
كي يفقأ عين الإنسان الثعلب
ويدوس دماغ الإنسان الأفعى
واهتز السوق بخطوات الإنسان الفهد
قد جاء ليبقر بطن الإنسان الكلب
ويمص نخاع الإنسان الثعلب (98)
فبرغم تعدد مظاهر الوجود نفسه فإن الشاعر في موقفه الفني الموحد يتخذها جميعا دلائل على نبض الحياة وتدفقها(99).
المسرح الشعري
يرى عبد الصبور أن المسرح ليس مجرد قطعة من الحياة، بل هو قطعة مكثفة منها، ولذلك فإن الشاعرية هي الأسلوب الوحيد للعطاء المسرحي الجيد (100).
ومسرحيات الشاعر بدءًا من مأساة الحلاج وانتهاء بـ" ليلى والمجنون "حافلة بالصور الشعرية والمواقف النفسية والفكرية، كتبت جميعها في إطار الشعر الجديد، وأدخل فيها العنصر الدرامي، وربما كان ذلك حوارًا نفسيًا على شكل (مونولوج) نستشف من ورائه النفس الإنسانية، وبالتالي شيئًا من حقائق الكون، وفي هذه المسرحيات تلوين حتى لا يصاب القارئ أو المشاهد بالملل، إنها من حيث الشكول (مونولوجات) داخلية، ومن حيث الجوهر رؤى حديثة للعالم، أبحرها راقصة ، وطبيعتها البساطة.
" فتحول عبد الصبور إلى المسرح كان نتيجة لتكوينات عبد الصبور النفسية، والتأثيرات الخارجية السياسية والاجتماعية، فقد أثرت عله الهزائم ، وبشكل خاص الموت والجفاف، فقد أراد أن ينتقل إلى الشكل الموضوعي للفن، كما نادى به إيليوت - الذي كان يرى أن الشاعر تموت عواطفه الأولى بعد سن الخامسة والعشرين، ويتحول إلى القوالب الموضوعية كالمسرح: أي قالب العواطف المتعددة التي يشكل العقل عاملا هاما في تشكيلها(101).
استخدم الشاعر أساليب المسرح الغربي، فـ (مسافر ليل) كتبت بتأثير (أوجين اونسكو) على رأي المؤلف(102).
وفي ليلى والمجنون يستعين الشاعر بإيليوت، ويستشهد به:
النسوة يتحدثن يرحن ويجئن
يذكرن مايكل أنجلو
حسان- ما معناه
سعيد- معناه أن العاهرة العصرية
تحشو نصف الرأس الأعلى بالحذلقة
البراقة
كي تعلي قيمة نصف الجسم الأسفل(103)
وفي ليلى والمجنون و مسافر ليل يستخدم (الفلاش باك).
ففي الأولى نرى سعيدًا يعود إلى طفولته الشقية، وهذا مشهد سينمائي، لكن الانتقال السريع كان في المسرحية الثانية ، إذ أن عامل التذاكر هو شخصية متعددة الجوانب يتنازعها الخير والشر، ومن خلال تشابك الشخصيات والصراع في كل شخصية على حدة تكمن القدرة الفنية في مسرح عبد الصبور.
فلنقف عند نواح من التجديد في كل مسرحية من مسرحياته، محاولين أن نعطي فكرة موجزة عن الموضوع الذي تطرحه.
مأساة الحلاج
ألقت هذه المسرحية – كما بينا أعلاه في حديثنا عن الصوفية في شعر عبد الصبور - قضية دور الفنان في المجتمع، وكذلك دور الفكر المسؤول الذي يحمل أعباء المسؤولية في ساعات الخطر:
الشر استولى على ملكوت الله
حدثني كيف أغض العين عن الدنيا (104)
أخذ صلاح مسرحيته من التاريخ، وأعاد صياغة الأحداث بتشكيل جديد يتفق ومواجهة الشاعر، أي أن الحلاج هو البديل الموضوعي للشاعر في معاناته.
المسرحية عامرة بالصور الشعرية التي تحدثنا عنها:
الحلاج- قل لي يا شبلي، أأنا
أرمد
الشبلي: لا بل حدقت إلى الشمس
وطريقنا أن ننظر للنور الباطن
ولذا فأنا أرخي أجفاني في قلبي
وأحدق فيه فأسعد
وأرى في قلبي أشجارًا
وملائكة ومصلين وأقمار
وشموسًا خضراء وصفراء
وانهارا(105)
فهنا لاحظنا وفرة الرموز : أرمد، الشمس طريق، النور، الباطن، الملائكة...، وفيها التعبير عن الموقف بلمحة " أرخي أجفاني في قلبي" ، وفيها الخيال الذي أضفى على الصورة عالمًا جديدًا متشابكًا من الحيوية والخلق – " فأرى في قلبي أشجارًا...الخ (106)
أما من حيث الشكل الفني فقد كانت المقدمة استمرار للخاتمة، والمشهد الأول يبرز فيه شيخ عجوز معلق على جذع شجرة أمامها ثلاثة من المتسكعين، وليس هذا الشيخ إلا الحلاج نفسه الذي سنراه في المشاهد التالية متطورًا في درامية غنية حتى يصل إلى القمة في المحاكمة التي تعتبر من أجمل فصول المسرحية.
مسافر ليل
تدور الأحداث في عربة قطار، والأبطال ثلاثة: الراوية (وهو يمثل دور الجوقة في المسرحية اليونانية) ، والمسافر ليلاً (وهو الضحية) ، وعامل التذاكر (وهو القاتل).
عامل التذاكر شخصية مختلفة الأبعاد، بل متعددة الشخصيات، فهو آنا يظهر بشكل الإسكندر، وما يلبث أن يتحدث بصفته (زهوان)- عامل التذاكر، وإذا به ينقلب إلى (سلطان) عامل تذاكر أقل درجة، ومرة هو (عشري السترة). يتهم المسافر بأنه قتل الله ومع أنه على يقين ببراءة المسافر إلا انه يقتله:
سأقول لهم في صحف الغد إني نفسي
قد أمسكت الجاني وقتلته
إنك رجل طيب
مخلوق من أنبل طينة
أهل التضحية الكبرى(107)
أما الراوي فقد تمثل بما يكسب الأداء حدة ، وعرض النتائج العاطفية لذلك الأداء، حتى لنراه مرتين، وذلك برؤيته أولاً، وبرؤية أثره في الآخرين، هو الكورس عند إيليوت يعبر عن عجزه المقهور عن فهم ما يجري كما في " جريمة قتل في الكاتدرائية" ، وليس لنا نحن المساكين السعي والحركة، بل الانتظار فحسب (108) الأمر الذي رأيناه عند الراوي العاجز، فقد أعان القاتل مرغمًا:
ماذا أفعل ماذا أفعل
في يده خنجر
وأنا مثلكمو أعزل
لا أملك إلا تعليقاتي
المسرحية تنتهي بتراجيديا، لكن عبد الصبور يسميها (كوميديا سوداء)، ويقول إنه تأثر فيها بالأدب اللامعقول، وخاصة مسرح (يوجين أونسكو). أما اللغة فقد استعمل فيها ألفاظًا وصيغًا جديدة على الشعر مثل: (عواميد السكة)، (حديد الأرضية) وغير ذلك.(109)
الأميرة تنتظر
الأميرة تنتظر حبيبها، يأتي (قرندل) شخص مشبوه تتوجس الأميرة من هيئته أمرًا، يقول أنه جاء ليتمم أغنية. الأميرة والوصيفات يمثلن قصة تبدو أنها قصة تبدو أنها قصة واقعية، فالأمير المنتظر هو قاتل الملك، والأميرة في حيرة من أمرها، أتَخلصُ لحبيبها القاتل أم لذكرى أبيها؟
أنت حبيبي وعمادي وقتلت أبي وعمادي(110)
وفي التمثيل تأخذ الأميرة في البكاء، وسرعان ما تنتزع النساء أقنعتهن التمثيلية، ويبكين في إيقاع موحد، وفي أثناء ذلك يدخل (السمندل) الحبيب المنتظر، ويتبين لنا أن (السمندل) تآمر على أبيها حقًا. وبعد حوار بين القرندل والسمندل يستل الأول سكينًا ، ويدفعها في صدر الثاني، ويقول : " تمت أغنيتي".(111)
أدخل صلاح في هذه المسرحية النكتة، حتى أنه جعلها جزءًا منن وصف الحياة اليومية:
رجل قال لزوجته:
البدر يفوقك حسنا
قالت زوجته
اذهب حل سراويل البدر
بدلا من حل سراويلي
(يضحكن)
الوصيفة الثانية:
لا بأس بها لكني أعرف أخرى مضحكة جدًا
رجل قال لصاحبه
آمراتي أشهى من كل نساء البلدة
فأجاب الصاحب
هذا حق
آمراتك أشهى من كل نساء البلدة (112)
ليلى والمجنون:
لعل هذه المسرحية سياسية - تتحدث عن تقييد الحرية الصحافة والفكر في مصر، حيث لا يجد الأحرار سبيلاً للهرب من واقعهم إلا تمثيل مسرحية مجنون ليلى، وإذا صح افتراضنا فما ليلى سوى مصر التي يكيد لها حسنين، وذلك بالرغم من أنها تندفع في هواه ، بينما هي تغدر بسعيد (المحبوس لوطنيته).
يبرز في هذه المسرحية:
أ- مزج النثر في الشعر، فبعد سرد خاضع للتفاعيل الشعرية عن منع الحب ، فإننا نجد هذه الكلمات التعليقية :
(لمحت عينا شرطي شابًا وفتاة في
إحدى المنحنيات الخافتة الضوء فترصد
لهما حتى امتدت كف الشاب تداعب كف
صديقته فانقض كما انقض الصقر
وساقهما للمخفر)
وقد لاحظت أن هذه السطور النثرية خاضعة من حيث الوزن للبحر المتدارك.
ب- وهذا يقودنا إلى اللغة الشعبية أعني لغة الحديث.
سعيد:
إنك ولد عاقل هل تذكر؟ هذا الرجل
الطيب ذو الحلباب الأسود يأتينا
في بعض الأحيان بين ذراعيه
خبزًا وإداما(113)
ج- استخدام الأغنية الشعبية، وقد كرر الموال أدناه مرتين :
والله إن أسعدني زماني لأسكنك يا مصر
وأبني لي فيكي جنينة فوق الجنينة قصر
وأجيب منادي ينادي كل يوم العصر
دي مصر جنة هنية للي يسكنها
واللي بنى مصر كان في الأصل حلواني(114)
وقد سبق أن تحدثنا عن (الفلاش باك) الذي نجده في هذه المسرحية(115).
الشكل والمبنى:
القاموس الشعري
في شعر عبد الصبور جرس موسيقي ونغمة إيقاعية، وفيه جسارة على اقتحام قدسية اللفظة، بل إلباس الكلمة العامية ثوبًا شعريًا، وقد كانت هذه الجرأة بفضل إيليوت كما يعترف صلاح (116) ، نحو :
مر زهران بظهر السوق يومًا
واشترى شالاً منمنم
ومشى يختال عجبًا مثل تركي معمم (117)
وبعد أن نشر صلاح قصيدته "الحزن" لاقى تهكمًا لاذعًا (118) على قوله:
فشربت شايًا في الطريق
ورتقت نعلي
ولعبت النرد الموزع بين كفي والصديق (119)
ودافع صلاح عن نفسه بقوله- إن اللغة الفقيرة تعني فكرًا فقيرًا، وإن التخلف قد انعكس على الفكر، فضيق أفقه، وأقنع الشعراء بلون من الكسل الذوقي والفكري... فلم يكن بهم حاجة إلى كثير من الرموز اللغوية ليعبروا بها عن قليل أفكارهم، فهناك لفظ أكثر صدقًا من غيره، وهو الجدير بالاستعمال والكلمة من أفواه العامة إذ دخلت السياق الشعري وكانت قادرة على التعبير وجلاء الصور فقد نجحت في تأدية أغراضها. (120)
وكان الشاعر العراقي كاظم جواد قد أنكر على صلاح قوله:
فشربت شايًا في الطريق
وقد رد صلاح عليه:
"فشربت... ألم تشرب قط... ألم تستعمل العرب المضرية والقحطانية هذا اللفظ؟ " شايًا" ، ما الفرق بين الشاي والخمر والماء والمرق؟ أليست كلها مما يشرب. لقد قاس إيليوت حياته بملاعق القهوة.
I have measured my life
With coffee spoons
....حمدًا لله أنني لم استعمل كلمة ملعقة أو فنجان، وإلا كانت كارثة وعم التصايح، لقد اقترح علي الدكتور عبد القادر القط أن أغير البيت إلى:
وحسوت كوبًا من رحيق ساخن ..."(121)
وصلاح لا تهمه اللفظة بفصاحتها وجزالتها بقدر ما تحمل من شحنات.
وكثافة اللفظة تستمد معانيها وإيحاءاتها من موقعها، وهو يرفض أن تكون لغة الشعر لغة خاصة ، وأن تكون معيار الشاعرية ألفاظ المعاجم.
إن التناول الأول هو الأهم، كيف يتناول الشاعر اللفظة، فتحيا وتكتسي مدلولاً جديدًا:
الشوارع مسفلتة (122)
هل تختفين في غابة الكؤوس والحشيش والأفيون (123)
كان يا مكان (124)
شفتك (125)
قال في نفسه (126) وكثير غيرها،
إلا أنه مع ذلك يبقى محافظًا على لغة ناصعة في رصيد لغوي واسع وكلمات موسيقية إيحائية، وبعضها ما يقع دائرة (الاونوموتبيا):
تقفقفني الألفاظ (127)
قضقضت ضلوع صدري
التكرار
يعمد صلاح كسائر الشعراء الجدد إلى التكرار، وذلك لإثراء التجربة، ولكي يقف طويلاً عندها يركز الأضواء على إحساساته وخلجاته، فيضفي عليه التكرار بعدًا وعمقًا، وبالتالي وحدة فكرية وعاطفية. فمن أنواع التكرار:
أ- تكرار اللفظة ، نحو (يا) النداء.
يا ربنا العظيم يا معذبي
يا ناسج الأحلام في العيون.. يا زارع
اليقين والظنون
يا مرسل الآلام والأفراح والشجون (128)
وتكثر هذه النداءات ليدل بها على عمق مناجاته النفسية واضطرابه أو استسلامه، وتتكرر الكلمات لتضفي نوعًا من الموسيقى الداخلية والتزيين :
فليبعث حلقك بالألفاظ فان الألفاظ هواء
من يمسكه أو يمسكها تلك الألفاظ الجوفاء
لكن هذي الألفاظ تهب هبوب الريح على وجهي
آنا تدنيني الألفاظ الحرى
وتقفقفني الألفاظ الباردة الرعناء (129)
ب- تكرار البدايات anaphore ، ويفيد التأكيد:
لقاك يا مدينتي حجي ومبكايا
لقاك يا مدينتي أسايا
لقاك يا مدينتي يخلع قلبي ضاغطًا ثقيلا
لقاك يا مدينتي ينفضني
لقاك يا مدينتي دموع (130)
ج- تكرار الجملة ويقصد به كذلك التأكيد والموسيقى:
أم أنت حق، نسيتني ،كونكم مشؤوم... (131) وغيرها.
وتكرر نفس الجملة بتوزيع موسيقى، وهذا التكرار يتأتى للشاعر لأنه يتصرف بحرية في عدد التفاعيل:
لا شيء يعنيك.. لا شيء يعنيك
لا شيء يعنيك.. لا شيء يعنيك
لا شيء يعنيك لا شيء
لا شيء يعنيك
لا شيء
لا (132)
د- تكرار القافية، وهي عدا عن الموسيقية ، فإنها تطمح إلى إشاعة الجو الشعري:
والخيل تنظر في انكسار
الأنف يهمل في انكسار
العين تدفع في انكسار (133)
ونحن هنا بالطبع لا نتحدث عن تكرار الفكرة، فقد كنا ألمعنا إليه عندما تحدثنا عن الشكل في الشعر (134)، وإنما اقتصرنا على التكرار من حيث الشكل (135).
البناء اللغوي
بالإضافة إلى أنواع التكرار التي ذكرناها عند الشاعر هناك تكرار الواو العاطفية:
الراية السوداء والجرحى وقافلة موات
والطبلة السوداء والخطو الذليل بلا التفات (136).
وهذا التكرار يجنح إلى إعطاء صورة شاملة لحالته النفسية التي يود أن يتحدث عنها، والصورة الشعرية هنا أجزاؤها متلاحقة تجعل القارئ محبًا للاستطلاع وكأنه يسأل : وماذا بعد ؟!.
ومن أساليب عبد الصبور استعماله (الجملة المعترضة)، وقد أكثر منها خاصة في ديوان تأملات في زمن جريح:
وأنت يا جارة الأحداق كالنجوم
يسيل من أشداقك الكلام ابيضًا ومملحًا
كالزبد المسموم
أنت ألم أدفنك أمس
كانت لكهل أشيب حكيم
ومات إذ ساموه أن يغترف الحكمة
بالمقلوب
إذ أنها تدحرجت من ساقه، لبطنه،
لرأسه كالخوف كالعطن (137)
وهذه الجمل الاعتراضية تجعلنا نتصور قرب الشعر إلى لغة الحديث اليومية:
فنور كل كوكب يخامر النور الذي يبثه رفيقه ولا يذوب فيه
أقولها صدقًا، ولا أزيد فيه (138) هذا (التكنيك) مأخوذ عن إيليوت (كما اعترف بذلك الشاعر(139)).
واستعمل صلاح في ديوانه شجر الليل التضمين بشكل جديد، فلم يجعل نهاية البيت استراحة له لمواصلة المعنى، بل جعل هذه الوقفة في السطر نفسه، وليس في القافية:
يعتريني المزاج الرمادي حين تصير
السماء رمادية حين تذبل
شمس الأصيل وتهوي على خنجر
الشجر النقط الشفقية تنزف
منها تموت بلا ضجة ويواري
أضالعها العاريات التراب الرميم(140)
وقد برزت في شعر عبد الصبور أساليب البلاغة القديمة كالمحسنات اللفظية: ولكنها أطلت بطعم جديد وموسيقى جديدة ، فمن الجناس:
النظر المسحور ويهوي في قاع النوم
المسحور (141)
......
لا أدري هل هذا يشفيني أم يشقيني (142)
ومن الطباق:
يتألف ضحكي وبكائي مثل قرار وجواب (143)
......أما الكلمات الحلوة والممرورة (144)
ومن القافية الداخلية:
لا بد من خوض الصباح إلى الجراح إلى
النواح
ماذا بوسع النازلين إلى الصبح بلا سلاح (145)
تتكرر عنده الكلمة، بل تتكرر الحروف لتطبع شعره بهذه الموسيقى الناعمة:
دخلنا الستر أطعمنا وأشربنا
وراقصنا وأرقصنا وغنينا وغنينا
وكوشفنا وكاشفنا وعوهدنا وعاهدنا (146)
ليس التكرار ضعفًا عنده، وليس قصورًا في لغته ، بل هو يستعمل الكلمة الواحدة في مداليل مختلفة، بالإضافة إلى ما يحمله التكرار من تموجات نغمية.
العروض والوزن
حتم النظام التقليدي على الشاعر أن يلتزم عددا ثابتًا من التفاعيل يوزعها على شطرين متساويين، وحتم عليه أن يختم كل بيت بقافية تتكرر. أما النظام الإيقاعي والوزن فإنه مبني على ترتيبات معقدة لتوزيع الحروف المتحركة والساكنة أو المقاطع القصيرة والطويلة.
وقد قام الشعر الجديد متممًا ومعدلاً حتى يتخلص من الصرامة والانضباط من الرتوب والإيقاع البارز(147).
تصرف الشاعر بحرية بعدد التفاعيل حسب موجات انفعاله العاطفي، وترك تقسيم البيت غيرَ متقيد بالقافية، بل جعل البيت – أحيانًا - متصلاً بتاليه في جريانه أو تضمينه.
والشكل الجديد يمضي في تشكيله للقالب الموسيقي حسب الدفعة الشعورية، وكل انفعال له مقدار معين من الامتداد ، يختلف من حالة إلى أخرى(148). وقد رأت نازك الملائكة أن شعر التفعيلة الشعر الحر- حسب تسميتها) تركز على ثمانية بحور من بحور الشعر العربي.(149)
وصلاح عبد الصبور يؤكد لنا أنه استفاد هذا الشكل الجديد من نازك الملائكة (150) ،فكتب ديوانه الأول الناس في بلادي بعد أن جرب الكتابة وفق النظام القديم، حتى استقر على وحدة التفعيلة ضمن البحر الواحد، ثم ما لبث أن أخذ يمزج بين البحور في القصيدة الواحدة.
ويحتل بحر الرجز مكانًا بارزًا في شعره، ذلك لأن هذا البحر يسمح لكثير من الزحافات والعلل، وفيه إمكانات للتوزيع الموسيقي (151).
وقد عاب صلاحًا الشاعر بدر شاكر السياب (1926-1964م)، وادعى أن الأبيات التي كتبها صلاح في قصيدة "غنية حب"هي مكسورة الوزن (أو سمها ما شئت غير أن تسميها موزونة)(152).
والأبيات هي:
1- شعر حبيبي حقل حنطة
2- صنعت من ضلوعي ذلك الصندوق
3- جئت بشأنك يا مليكة النساء
4- حدثتهم عن لوعتي يا جرحي المخضل
يا ذلي وكلهم مجروح
5- ولدت في جرابي بضعة من المحار
6- الليل يا صديقتي ينفضني
7- الخمر تهتك الأسرار
8- ويضحكون ضحكة بلا تخوم
9- السندباد كالإعصار إن يهدأ يمت
- 10 وشاطئ البحار ما يزال يقذف، الأصداف والتلال
ويختم السياب كلمته بقوله: " أفتونا أيها العارفون بعلم العروض" !
ونظرة إلى هذه الأبيات نجد أن عبد الصبور وقع - باعترافه – في أخطاء عروضية، بدليل أنه صحح بعضها في ديوان الناس في بلادي:
السطر الثاني أعلاه أصبح في الديوان " لقد صنعت"
..... وبهذا ينضبط البيت (153).
السطر الرابع ظهر في الديوان : يا ذلي وكلهم جريح (154)
السطر الخامس ظهر في الديوان :وعدت في الجراب (155).
السطر السابع ظهر في الديوان : الخمر تهتك السرار (156).
ونجد مثل هذا الكسر في ديوان أحلام الفارس القديم ، وكذلك في تأملات... (157).
ولم يكن السياب وحده قد أدانه بل إن الشاعر كاظم جواد (158) قال عنه "إنه اجهل الناس بالعروض" تعليقًا على قصيدته " يا نجمي الأوحد" ، واتهمته نازك (159) بأنه يفسد أنغامه في مرض الزحاف، وتعده مسؤولاً عن شناعة الإيقاع والنثرية، كقوله:
وحين يقبل المساء يقفر الطريق
والظلام محنة الغريب.
ففي رأيها أن تفعيلات البيت الست مصابة بالزحاف دون أن يعبأ الشاعر، ولقد أصبح البيت بسبب هذا الزحاف الثقيل المتعب ركيك الإيقاع ضعيف البناء منفرًا للسمع.
وقد رد عليها محمد النويهي (160) قائلاً إن البيت ينسجم انسجامًا رائعًا مع تصويره لزحف الليل على الكون (161)، والشاعر يصل إلى هذا التصوير الحي بإكثاره من الزحاف الذي تنكره الناقدة، ويرشدنا النويهي على القراءة الأصولية لهذا البيت مع توقيع النبر في مواضعه اللغوية من الكلمات.
ومن التجديدات العروضية التي أكثر منها صلاح استخدامه تفعيلة (فعلن) في المتدارك، لأنها قريبة إلى لهجة الحوار وفيها موسيقية راقصة، بل إنه يجيز ( –ب ب أيضًا:
أتحد بجسمي المتفتت في أجزاء اليوم الميت (162).
موسيقى تلتف وتتمهل
أن قد برز له نهدان(163)
كما أنه يستعمل البيت في نصف تفعيلة:
يا عجبًا كل مساء موعدي مع المضرج
الشهيد
كأن منديل الشفق
دمه (164)
أما الإضافات في عروض البيت الواحد فقد كانت متنوعة، حتى ليمزج بين البحور المختلفة وجوازاتها، وهو بهذا لا ينفرد وإنما يلجأ إلى ما يلجأ إليه سائر الشعراء المحدثين (165).
خاتمة وتقييم:
عبد الصبور له شخصيته وهويته الشعرية، فقارئه يستطيع أن يتبين صوته ونفسه، وهو في رأي الكثير من النقاد إمام مدرسة شعرية جديدة - حفلت في بلورة اللفظة الشعرية وتنقيتها من كل ما يشوبها من حشو، فاللفظة تقع في مكانها هادئة تتسلسل موسيقا وإيحاء، وتعكس ظلالا ومعاني.
في شعر عبد الصبور تكرار في اللفظة وفي مداورة الفكرة بالكلمات، يحمل شحنات جديدة من الفكر الذي يعمد إليه الشاعر محجوبًا بشفافية الحساسية الشعرية ورقة النزعة الدرامية. إنه يهتم بالتفصيل ليزيد الموضوع تركيزًا وتكثيفًا . ففي شعره نقف طويلاً على معانيه العميقة، و نتقبل منه الكلمة الدارجة على السنة العامة ، وهي تحمل جدة.
الصور لديه تنتظم، ويجمعها خيط هام هو الصدق الفني ، وما أقل من يعتبرونه ومن يولونه الاهتمام- مع أنه عماد الشعر وروحه.
الصدق الفني مع نفسه أولاً، حتى تتم الأصالة والمشاركة، ومع مجتمعه ثانيًا حتى ينفعل بانفعاله.
إن عبد الصبور في خروجه من القوقعة - أعني الاكتفاء بالتراث العربي - بما فيه من لغة وثقافة يعمد إلى الثقافة العالمية ، فينهل منها ، ويزيد من تكثيف شعره برؤى جديدة وإنسانية.
فشاعرنا مثقف ،وهو من الرواد الذين اخذوا يظهرون الشعر العربي بعالميته ، وليس على النطاق المحلي فقط . إنه استفاد وأفاد، استفاد من (تكنيك) الشعر الغربي، ومن ثقافته فهضمها ، وقدمها شعرًا رائقًا، ومسرحًا جديدًا .
وحبذا لو تتم لنا دراسة كتبه النقدية حتى نوفي صلاحًا شموليًا، وحتى نتعرف على شاعر فذ من مناحيه كافة.
المصادر:
1) كتب صلاح عبد الصبور
أ- المجموعات الشعرية
1- الناس في بلادي (الطبعة الثانية)، القاهرة، دار المعرفة- 1962.
2- أقول لكم، بيروت- منشورات المكتب التجاري- 1961.
3- أحلام الفارس القديم (الطبعة الثانية) بيروت، دار الأدب- 1969.
4- تأملات في زمن جريح، بيروت- دار العودة- 1969.
5- شجر الليل، دار الوطن العربي للطباعة والنشر- 1972.
ب- المسرحيات الشعرية
6- مأساة الحلاج، بيروت- دار الأدب- 1969.
7- مسافر ليل، بيروت- دار العودة- 1969.
8- الأميرة تنتظر، بيروت- دار العودة- 1969.
9- ليلى والمجنون، بيروت- دار العودة- 1970.
ج- النقد:
10- حياتي في الشعر، بيروت، دار العودة- 1969.
11- وتبقى الكلمة (دراسات نقدية)، بيروت، دار الآداب- 1970.
2- كتب أخرى
12- الكتاب المقدس، نيويورك مطبعة الجمعية الأمريكانية في ساحة إستور- 1861.
13- أبو نواس. ديوان أبي نواس( حققه وضبطه أحمد عبد المجيد الغزالي). بيروت: دار الكتاب العربي ، د.ت.
14- أدونيس. زمن الشعر. بيروت: دار العودة، 1972.
15- إسماعيل،عز الدين. التفسير النفسي للأدب. القاهرة: دار المعارف، 1963.
16- إسماعيل، عز الدين. الشعر العربي المعاصر. القاهرة: دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، 1967.
17- أنيس ، إبراهيم. موسيقى الشعر (الطبعة الثانية). القاهرة: المكتبة الأنجلو المصرية،1965.
18- الحاني، ناصر. المصطلح في الأدب الغربي. صيدا- بيروت: المكتبة العصرية، 1968.
19- خشبة ،سامي. شخصيات من أدب المقاومة. بيروت : دار الآداب، 1970.
20- رزق ، أسعد. الشعر في معركة الوجود .بيروت : إصدار مجلة شعر ، د.ت.
21- الزوزني. شرح المعلقاتالسبع . بيروت: دار الجيل، 1972.
22- شكري ، غالي. شعرنا الحديث إلى أين. مصر: دار المعارف، 1968.
23 - عباس ، إحسان. اتجاهات الشعر العربي المعاصر . الكويت : عالم المعرفة ، 1978 .
24- عوض، لويس. دراسات في أدينا الحديث.القاهرة: دار المعرفة، 1961.
25- فاضل ، جهاد . قضايا الشعر الحديث . بيروت : دار الشروق ، 1984 .
26- الملائكة ، نازك. قضايا الشعر المعاصر . القاهرة : مكتبة النهضة،د.ت.
منصور ، إبراهيم . الشعر والتصوف . القاهرة : دار الأمين ، 1999 .
27- النويهي ،محمد. قضية الشعر الجديد (الطبعة الثانية) .القاهرة :مكتبة- الخانجي ودار الفكر، 1971.
المجلات
1- مجلة الآداب البيروتية.
2 - مجلة الأفق الجديد - ( القدس ) .
4- مجلة الشرق ( القدس ، شفاعمرو ).
5- مجلة الطريق البيروتية.
6 – مجلة המזרח החדש (ירושלים )
* مواقع على الشبكة ذكرت لدى الاستشهاد بها .
الإشارات:
* جدير بالذكر أن هذه المادة عن عبد الصبور نشرت في كتيب مستقل ، هو :
مواسي ، فاروق . صلاح عبد الصبور شاعرًا مجددًا ، معهد التطبيق .جامعة حيفا،1979.
غير أن المادة عن التصوف في شعر عبد الصبور أعيد صياغتها سنة 2007 لتقديمها في مؤتمر عقد في إربد حول الصوفية في الأدب العربي .
1- موريه . "الشعر العربي الحديث ". مجلة الشرق (حزيران/ تموز 1972)، - ص 61.
2- أدونيس . "الشعر العربي ومشكلات التجديد". زمن الشعر- ص- 45.
3- موريه. " الشعر العربي الحديث" . مجلة الشرق (حزيران- تموز 1972)- ص 60.
4- شكري ، غالي. "غربة الشاعر الحديث" ، شعرنا الحديث إلى أين ص 203.
5- عبد الصبور ، صلاح . "مستقبل الشعر العربي الحديث "مجلة الآداب (يناير 1955)
ص7.
6- نازك الملائكة. قضايا الشعر المعاصر- ص 14.
7- النويهي ، محمد. "ثورة الشكل وثورة المضمون" . قضية الشعر الجديد- ص 453.
8- مقابلة مجلة الأفق الجديد،- العدد العاشر (اكتوبر 1965) - ص9.
9 – أعترف أن هذا الرأي هو انطباعي ، وليس علميًا دقيقًا .
10- النويهي . قضية الشعر الجديد، ص 468 ، وكذلك مقال محمود أمين العالم "الشعر المصري الحديث. مجلة الآداب (يناير 1955) - ص 19.
11- عبد الصبور. حياتي في الشعر - ص 87.
12- عبد الصبور. مأساة الحلاج - ص 35.
13- ن.م، ص 186.
14- عبد الصبور." رحلة في الليل" . الناس في بلادي- ص 46.
15- عبد الصبور. "تنويعات" . شجر الليل - ص 35.
16- عبد الصبور . "لحن" . الناس في بلادي - ص 90.
17- عبد الصبور. "مساءلات" . شجر الليل - ص 61.
18- عبد الصبور. " الناس في بلادي" ، الناس في بلادي- ص 66.
19- عبد الصبور. "4 أصوات- للمدينة المتأملة" . شجر الليل- ص 68.
20- ن.م، ص 62.
21- عبد الصبور. الناس في بلادي - ص 147.
22- عبد الصبور "انتظار الليل والنهار" . تأملات في زمن جريح- ص 49.
23 - منصور ، إبراهيم : الشعر والتصوف ، ص 146 .
24 - عباس ، إحسان : اتجاهات الشعر العربي المعاصر ، ص 208 ، ويجد الناقد مظاهر التصوف في اثنتي عشرة ناحية ، منها الحزن ، الإحساس بالغربة ، اتحاد الشاعر بالرموز المثقلة بالتضحية ، الظمأ النفسي لمعانقة الواقع .....وتحتاج هذه النقاط التي سردها الناقد إلى وقفة أطول ، ودراسة متأنية - الأمر الذي لم يستوف حقه .
25 - جدير بالذكر أنني كنت قد كتبت هذه السطور عن الصوفية في شعر عبد الصبور بصورة مختصرة ومختلفة حيث نشرتها أولاً في كتاب – صلاح عبد الصبور شاعرًا مجددًا ، شركة الأبحاث العلمية - جامعة حيفا ، حيفا - 1979 . أما إعادة الكتابة كما هي هنا فقد تأتت في تشرين الثاني 2007 .
26- للشاعر ديوان أطلق عليه " تأملات في زمن جريح " .
27 - لا شك أن المتلقي قد يجد تناصات وإلماعات من الصوفية لا يفطن لها قارئ آخر ، ولذا فمن العسير أن يحدد الباحث أو يحصر كل تناص وتناص .
28- عبد الصبور: ديوان صلاح عبد الصبور ج 1 ، ص 79-80 .
29 - ن . م ، ص 8. .
30 - ن . م ، ص 177 .
31- ن . م
32- ن . م ، ص 173.
33 - ديوان صلاح عبد الصبور ج 1 ، ص 267 .
34 - ن . م ، ص 261 .
35- المناصرة ، عز الدين : " مقابلة مع الشاعر عبد الصبور ، مجلة الأفق الجديد ، اكتوبر 1965 ، ص 11 .
36 - ديوان صلاح عبد الصبور ج 1 ، ص 267 .
37 - ن . م ، ص 268 .
38- منصور ، إبراهيم : الشعر والتصوف ، ص 150.
39- عبد الصبور : حياتي في الشعر ، ص 10 .
40- ديوان صلاح عبد الصبور ج 1 ، ص
41 - ديوان صلاح عبد الصبور ج 1 ، ص 468 .
42
- عبد الصبور ، صلاح : "مأساة الحلاج " - ديوان صلاح عبد الصبور
ج1 ، ص 469 – 471 .
ومع ذلك فالشاعرأو الراوي يشير بإصبع الاتهام على الجمهور- على الناس
الذين تلعب بهم السلطة ، وهو لا يبرئهم :
صَفُّونا .. صفّاً .. صفّاً /
الأجهرُ صوتاً والأطول / وضعوه فى الصَّفِّ الأول / ذو الصوت الخافت
والمتواني / وضعوه فى الصف الثاني / أعطوا كُلاً منا ديناراً من ذهب قاني /
برَّاقا لم تلمسه كفٌ من قبل / قالوا : صيحوا .. زنديقٌ كافر / صحنا : زنديقٌ
.. كافر / قالوا : صيحوا ، فليُقتل إنَّا نحمل دمه فى رقبتنا / فليُقتل إنا
نحمل دمه فى رقبتنا / قالوا : امضو فمضينا / الأجهرُ صوتاً والأطول / يمضى فى
الصَّفِّ الأول / ذو الصوت الخافت والمتوانى / يمضى فى الصَّفِّ الثانى ....ن . م
، ص 453 – 454 .
43 - يقول عبد الصبور أنه في هذه
المسرحية وفق بين أمرين ، أحدهما الشخصية التاريخية المعروفة ....الحلاج الصوفي
الشاعر ...، والأمر الآخر هو الفكرة المحورية التي أراد أن يكتبها على المسرح ، وهي
فكرة الالتزام ، أو أزمة المثقف في الستينيات من القرن العشرين ، ويضيف : " لقد
جاوزت التاريخ بإرادتي ، بل كنت أريد عرض الحاضر على الماضي " – من حديث للشاعر في
كتاب جهاد فاضل : قضايا الشعر الحديث ، ص 26 أما الحلاج فيرى الباحث علي
الثويني أنه " قد اخترقت الروحانيات كيانه وأصبح فكراً متحركاً ناطقاً لا يعبأ
بأي مصير غير ما
أوصلته إليه قناعاته.وأنعكس
ذلك جليًا في سلوكياته .وتناقل الناس كراماته وبلغوا
فيها مثلما هو ديدن البشر،-
بالرغم من وجود ما يقارب الأربعة آلاف صوفي غيره في
بغداد . وتلمس بعض العامة
كرمه وسخاءه مما يرده من كرماء القوم أو ما أسماه هو
(دراهم القدرة) التي ترده من
الغيب . فاجتمع حوله خلق كبير وآمن به صفوتهم ودهماؤهم
، ويمكن أن يكون هذا بداية ما
يبرر مناصبة بعض الشيوخ والفقهاء و"وعاظ السلاطين"
العداء له بعد ذلك. وقد تزامن
هذا مع مغازلاته السرية مع فرقة القرامطة التي
اعتبروها (مارقة) و انتقاده
اللاذع لفساد دوائر الدولة وتفشي الرشوة فيها " . ويضيف الباحث : " لقد كان
صوفيًا ثائرًا وربما استثنائيًا بما وسم به الصوفية من الدعة والخنوع و"الدعوى
للسلطان بطول العمر" . وتداخل
لديه الإيمان مع الاحتكام إلى المعرفة والإصلاح
الاجتماعي والسياسي للدولة
وكان يبشر بفكرة الحكومة المثالية . فانبرى بعض أقطاب
الدولة بمهاجمته ، ثم إدانته
بما ذهب إليه ، ثم رميه في غياهب السجن"
. - انظر دراسته : الحلاج
" بين خيال الشعروشطحات التصوف ومآرب الاستشراق" : http://www.islamic-sufism.com/article.php?id=1577
44 - عبد الصبور ، صلاح : "مأساة الحلاج " - ديوان صلاح عبد الصبور ج1 ، ص 606-607
45- موقع الدكتور يوسف زيدان للتراث والمخطوطات : http://www.ziedan.com/research/tagalyat.asp
46- - عبد الصبور ، صلاح : "مأساة الحلاج " - ديوان صلاح عبد الصبور ج1 ، ص 544.
47 . ن. م ، ص 506 .
48 .- عبد الصبور ، صلاح : "مأساة الحلاج " - ديوان صلاح عبد الصبور ج1 ، ص 586 .
49 - ن . م ، 467 .
50 - يتوقف إبراهيم منصور في كتابه الشعر والتصوف ، ص 134 على رمز الجبل ، ويسرد بداياته في القرآن ، ثم لدى العطار في منطق الطير ، وصولاً إلى جبران خليل جبران . ويستقرئ استخدام ( الجبل ) في قصيدته " نزهة الجبل " – ديوان صلاح عبد الصبور ج1 ، ص 9-10.
51 - خشبة ، سامي : شخصيات من أدب المقاومة ، ص 44 .
وللكلمة أهمية في المسرحية فالجزء الأول من المسرحية عنوانه (الكلمة) ، فالكلمة هي المنطلق الذي سعى إليه الحلاج ، وهي ما كان يتمني أن يبقى أثرًا وإرثًا ، هي تهمته التي اتهم بها ، وهي السلاح الذي سيقتله . هي النعمة وهي النقمة . أما السيف أو (الموت ) فهو عنوان الجزء الثاني ، وهو ما يسعى إليه ليكون فيه الخلاص – على غرار المسيح - ، ولتكون فيه الحياة .
52- للتوسع انظر : منصور : إبراهيم - الشعر والتصوف ، ص 157-159 .
53 - يقول عبد الصبور : " والواقع أن الصوفية هم أول من أشار إلى أن التجربة الروحية شبيهة بالرحلة ، وهم الذين جعلوا من سعيهم وراء الحقيقة سفرًا مضنيًا مليئًا بالمفاجآت والمخاوف في طريق موحش طويل ، قد ينتهي بسالكه إلى النهاية السعيدة إن وفق الله وأراد .
يقول أحدهم : انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بنفوسهم ، فإذا ظفروا بنفوسهم ، فقد وصلوا " . وتشير هذه الكلمة إلى غاية العمل الفني كما تشير إلى غاية التجربة الوجدانية ، فليست غاية العمل الفني إلا الظفر بالنفس ..." عبد الصبور ديوان صلاح عبد الصبور ، ج 2 ، ص 24 .
54 - عبد الصبور : : حياتي في الشعر ، ص 5 ، وما بعدها .
55 - عبد الصبور : شجر الليل ، ص 22 .
56 - ن . م ، ص 102 .
57- عبد الصبور. الناس في بلادي- ص 47.
58- عبد الصبور. "الظل والصليب". أقول لكم- ص 72.
59- عبد الصبور."الحزن" . الناس في بلادي - ص 47.
60- مقابلة مع صلاح عبد الصبور، مجلة الآداب أكتوبر 1960 ص 14.
61- عبد الصبور. أحلام الفارس القديم- ص 26.
62- أحلام... ص 26، تأملات ...ص 85، أقول لكم - ص 6.
63- صبري حافظ. "أحلام الفارس القديم" . الآداب ( مارس/ 1965) - ص 62.
64- عبد الصبور." الشيء الحزين" . أقول لكم - ص 5.
65- إيليا حاوي " شعر عبد الصبور بين المعرفة والتجربة" . الآداب نوفمبر/ 1957 )- ص
29.
66- عبد الصبور ." الحزن" . الناس في بلادي- ص 87.
67- عبد الصبور. ن. م، ص 88.
68- عبد الصبور.تأملات في زمن جريح- ص 25.
69- ن.م ، ص 30 .
70- محيي الدين محمد: " شاعر من مدينتي" . الآداب ( يوليه 1957 ) - ص 20.
71-عبد الصبور، "مذكرات الملك عجيب بن الخصيب" . أحلام ..- ص 95.
72- عبد الصبور. "أغنية حب" . الناس في بلادي ص- 80.
73- الكتاب المقدس. نشيد الإنشاد 4: 4.
74- عبد الصبور، مأساة الحلاج - ص 149.
75- الزوزني .شرح المعلقات السبع - ص 213.
76- ديوان أبي نواس، ص 454.
77- عبد الصبور. تأملات في زمن جريح- ص22.
78- מורה,ש . " השפעת השירה
המערבית ..." המזרח החדש( כרך ח – תשכ"ח – 1968 )– עמ' 21
وقد أورد المقارنات أيضًا أسعد رزوق في
"
بوادر التجربة الجماعية" . الشعر في معركة الوجود - ص
48، وغالي شكري في شعرنا الحديث.... ص 238، وعبد الله الشفقي:
" الناس في بلادي " . الآداب (يونيه 1957 ) - ص 34.
79- عبد الصبور. حياتي في الشعر- ص 19.
80- عبد الصبور. شجر الليل - ص 23.
81- اعتمدت في بناء هذا الفصل على مقال عز الدين إسماعيل "معمارية الشعر المعاصر" .الشعر العربي المعاصر- ص 260 ، وفيه يتحدث عن التشكيل في قصيدة "أغنية حب" .الناس في بلادي- ص 91 ، وكذلك : إسماعيل ، عز الدين . التفسير النفسي للأدب- ص 86.
82- الحاني،ناصر . المصطلح في الأدب الغربي- ص 47.
83- لويس عوض. دراسات في أدبنا الغربي- ص 193.
84- ن.م، ص 188.
85- انظر على سبيل المثال : الناس في بلادي ص 55، 77، أقول لكم: ص 38، أحلام ...ص 86 - تأملات ...ص 69.
86- عبد الصبور. حياتي في الشعر - ص 99.
87- ن.م ص 100.
88- شكري،غالي . شعرنا الحديث إلى أين- ص 135.
89- عبد الصبور. أحلام الفارس القديم - ص11.
90- ن.م، ص 62.
91- عبد الصبور. أحلام الفارس القديم - ص 16.
92- انظر كذلك عبد الصبور، تأملات في زمن جريح ص 113.
93- انظر - מורה ,ש : " השפעת השירה המערבית " , המזרח החדש כרך ח' תשכ"ח ( 1968 ) , עמ' 33 .
94- عبد الصبور : شجر الليل ، ص 19 .
95- عبد الصبور : الناس في بلادي ، ص 52 ، وتجد على غرار هذا الوصف الممتد في شعر البياتي والسياب وغيرهما .
96- - ن . م ، ص 105 .
97- عبد الصبور : " حديث في مقهى " ، تأملات ... ، ص 71 .
98- عبد الصبور. أحلام.... - ص 106.
99- انظر مقال محمد النويهي – " الوحدة العضوية في الشعر الجديد " . قضية الشعر الجديد - ص 108 ، وفيه يطيل الحديث عن الصور الكثيرة التي استملحها في ديوان الناس في بلادي ، وخاصة قصيدته " رحلة في الليل " ، وانظر كذلك مقال موريه –
מורה ,ש : " השפעת השירה המערבית " , המזרח החדש כרך ח' תשכ"ח ( 1968 ) , עמ' 24 .
100- عبد الصبور، حياتي ...- ص 118، وكذلك مأساة الحلاج - ص 207، وتبقى الكلمة - ص 5-19.
101- عز الدين المناصرة. مجلة الطريق (1/1971) - ص 120.
102- عبد الصبور. مسافر ليل - ص 93.
103- عبد الصبور. ليلى والمجنون- ص 95.
104- عبد الصبور. مأساة الحلاج - ص 37.
105- ن.م ص 32.
106- ن . م . ص 32.
107- عبد الصبور. مسافر ليل - ص 70.
108- عبد الصبور، ن.م، ص 77.
109- ن.م. ص 7 و 9.
110- عبد الصبور. الأميرة تنتظر - ص 58.
111- ن.م- ص 89.
112- ن.م- ص 33.
113- عبد الصبور. ليلى والمجنون - ص 84.
نلاحظ أنه كان يجب أن يقول ذا الجلباب الأسود.
114- ن.م، ص 100، 112.
115- ن.م، ص 80-87.
116- عبد الصبور. حياتي.. - ص 92.
117- عبد الصبور." شنق زهران" الناس في بلادي- ص 56.
118- مثلا في الآداب(يونيو 1955 ) - ص 67.
119- عبد الصبور. الناس في بلادي- ص 24.
120- عبد الصبور. حياتي.. - ص 92.
121- الآداب(يونيو 1955 ) - ص 67.
122- ديوان صلاح عبد الصبور ، ج1 - ص 198.
123- عبد الصبور، أحلام ...ص 93 ، 14.
124- ن.م- ص 57.
125- عبد الصبور. مسافر ليل - ص 17.
126- عبد الصبور. أقول لكم - ص 18، 19، 23.
127- عبد الصبور. أحلام...-ص 94 ، تأملات....- ص 104، 77.
128- عبد الصبور، أحلام ص 29 وانظر كذلك أحلام ص 55، 95.
129- عبد الصبور. أقول لكم - ص 18 ، أحلام ....-ص 9 ، وحول هذه الظاهرة انظر
مقال موريه : " الشعر العربي الحديث " . الشرق ( حزيران – تموز 1972 ) - ص7.
130- عبد الصبور. أحلام ..ص 15 ، أقول لكم - ص 75.
131- عبد الصبور. أحلام ...- ص 8، 30، 64، 82، 104 ، شجر الليل- ص 44، 114.
132- عبد الصبور. شجر الليل - ص 21.
133- عبد الصبور. الناس في بلادي - ص 52.
134- للاستزادة في ذلك راجع: حياتي في الشعر ص 19.
135- انظر مقال موريه أعلاه " الشعر العربي الحديث " : وفيه يذكر معاني التكرار في الشعر الجديد:
أ- تكرار بلاغي للتهديد والانتقام
ب- تكرار الاشتياق واللوعة
ج- تكرار الرثاء
د- تكرار الاستخارة، وقد اكتسب صورًا جديدة ،إذ تستخار هنا آلهة يونانية وشرقية.
هـ_ تكرار سيكولوجي وحديث المناجاة.
136- عبد الصبور. الناس....- ص 51، ص 52.
137- عبد الصبور، تأملات ...-ص 17 وانظر 8، 13، 47، 56، 57، 71، شجر الليل
- ص 11، 26، 27، 28، 53، 54، 55.
138- عبد الصبور. تأملات ...ص 21.
139- موريه " الشعر الحديث فنونه ومذاهبه" . مجلة الشرق (حزيران/ تموز 1972 )- ص
65.
140- عبد الصبور. شجر الليل ص 108 ،104، 110، 114 ، تأملات...- ص 21، 22.
141- شجر الليل - ص 47، أحلام ...- ص 17، 18، 53، 66.
142- عبد الصبور. ليلى والمجنون - ص 78 ، ص 20.
143- عبد الصبور . تأملات...- ص 80.
144- عبد الصبور. أحلام ...- ص 54.
145- عبد الصبور. الناس ....- ص 83.
146- عبد الصبور. مأساة الحلاج - ص 80.
147- النويهي. قضية الشعر الجديد- ص 51.
148- شكري ، غالي. "مفهوم الحداثة.." . شعرنا الحديث إلى أين؟ - ص 115.
149- نازك الملائكة. قضايا الشعر المعاصر - ص 34.
150- " لقاء مع عبد الصبور " . مجلة الأفق الجديد (آذار/ 1966)- ص 53.
151- أنيس، إبراهيم. موسيقى الشعر- ص 321 ،وفيه استقصاء لديوان الناس في بلادي.
152- نشرت القصيدة في مجلة الآداب (آذار/ 1955) ، وعلق عليها السياب في الآداب عدد حزيران- 1955- ص 66.
153- عبد الصبور. الناس في بلادي - ص 80.
154- ن.م-ص 81.
155- ن.م- ص 46.
156- عبد الصبور.أحلام .....- ص 34 : والروح روح صوفي سليب البدن.
157- عبد الصبور. تأملات ...- ص 96 : وداعا يا نجمي الأوحد.
158- كاظم جواد: نقد القصائد الآداب (يوليو/ 1956 ) - ص 65 يقول:
"ومع ذلك فهناك خمسة أبيات فقط من مجموع القصيدة قد سلمت من الخطأ العروضي الذي وقع فيه الأخ صلاح الدين عبد الصبور في جميع ما كتب من شعر على صفحات هذه المجلة".
159- نازك الملائكة. قضايا الشعر المعاصر - ص 108، ص 89.
160- النويهي. " نازك الملائكة والشعر الجديد" . قضية الشعر الجديد- ص 271.
161- ورد البيت في قصيدة "رحلة في الليل" . الناس في بلادي - ص 45.
162- عبد الصبور. تأملات ...- ص 80، وكذلك ص 81، 89، 103، 110.
163- عبد الصبور. مسافر ليل- ص 69.
164- عبد الصبور. الناس في بلادي- ص 149.
165- لم نعمد هنا إلى تتبع بحث الأوزان الشعرية لتي استعملها الشاعر.
.......................................................................................................................................................
إشارات ورموز عربيـــة في شعر السيــــاب
لقد صرح السياب مرة أنه ينتظر المؤلف الحديث الذي يجمع الرموز العربية في شعره من مظانها المتفرقة كيما يمكن الإفادة منها. ( 1 )
والحديث عن دور الأسطورة والرمز في الشعر الحديث قد يطول بنا إذا تقصيناه ، يقول السياب في هذا السياق :
هناك مظهر مهم من مظاهر الشعر الحديث هو اللجوء إلى الخرافة والأسطورة ، وإلى الرموز ، ولم تكن الحاجة إلى الرمز وإلى الأسطورة أمسّ مما هي عليه اليوم ، فنحن نعيش في عالم لا شعر فيه - أعني أن القيم التي تسوده قيم لاشعرية ، والكلمة العليا فيه للمادة لا للروح ، وراحت الأشياء التي كان في وسع الشاعر أن يقولها أن يحولها إلى جزء من نفسه تتحطم واحدًا فواحدًا ، أو تنسحب إلى هامش الحياة .
إذن فالتعبير المباشر عن اللاشعر لن يكون شعرًا ، فماذا يفعل الشاعر إذا عاد إلى الأساطير إلى الخرافات التي ما تزال تحتفظ بحرارتها ، لأنها ليست جزءًا من هذا العالم . عاد إليها ليستعملها رموزًا وليبني منها عوالم يتحدى بها منطق الذهب والحديد ( 2 ) .
وهو يعترف في مكان آخر أن الرموز والأساطير تخلص الشاعر من إلقاء كلماته بصورة نثرية وبلا واسطة ، وتضيف تداعيات لشعره . (3 )
ويرى ب . موريه أن هذه الرموز تساعد على خلق موسيقا جديدة – موسيقا الفكرة – بالإضافة إلى إيقاع الوزن ، وهذا النوع من الموسيقا يشبه التنويعات السمفونية – إنها عودة لنفس الفكرة التي تؤكد الموضوع الرئيسي للقصيدة ، وبالإضافة إلى التداعيات التي تثيرها هذه الرموز من التاريخ والميثولوجيا فهي تساعد في تجسيد التشبيهات بصورة حية ودقيقة أكثر، وتساعد الشاعر أن يكون مراقبًا حياديًا أقل عاطفة ،وقادرًا على كبح مشاعره ( 4 ) .
ومن خلال ملاحظتنا لرموز السياب نرى أنه يطعم قصائد بعناصر موحية ، وهي عنده كالكنوز يلجأ إليها مقارنًا بين ما كان وبين ما هو كائن ، وهو بها يعمق المعنى وينقل التجربة إلى جو إنساني يستمد الجذور من التاريخ الفاعل والمحرك .
وسنحاول هنا أن نصنفها ونحدد ماهيتها :
1- رموز من السيرة النبوية :
يقول السياب :
محمد اليتيم أحرقوه فالمساء
يضيء من حريقه ، وفارت الدماء
( ص 467 من المجموعة الكاملة 1 للسياب ) ويقول :
محمد النبي في حراء قيدوه
.........
ستأكل الكلاب من دم البراق
( ص 468 )
فهو بهذه الأبيـــات لا ينقل إلينا الجو الديني كما كان ، بل يقدم لنا صورة العذاب الذي عاناه محمد أكثر مما يجسم صورة النصر . ومحمد في التاريخ لم يكن شهيدًا – حسب الاصطلاح المتولد في بعد ، بل كان رمزًا للموقف والنضال . وهو يقول في ضوء السيرة :
ولا ملأت حراء وصبحه الآيات والسور
( ص 184 )
وحراء هو الغار الذي نزل فيه الوحي على النبي ، بيد أن السياب يخلط بينه وبين غار (ثور ) - وثور في الطريق إلى المدينة :
هذا حرائي حاكت العنكبوت
خيطًا على بابه
( ص 425 )
والعنكبوت حسب السيرة حاكت خيوطها على غار ثور (5) .
وفي قول الشاعر :
وهبّ محمد وإلهه العربي والأنصار
إن إلهنا فينا
( ص 402)
استعادة لمواقف النصر في تضامنه مع المغرب العربي ، وهو يشدد على كلمة ( العربي ) وصفـًا للإله حتى يؤكد عروبة المغرب ، أو ليظهر عروبته هو بصورة حادة بعد أن مر بتجربة الشيوعية .
2- وإشارات التراث العربي القبلي نجد أصداءها عند الشاعر ، ففي قوله :
كما أكلوه إذ جاعوا
إلههم.......
( ص400)
إشارة إلى بعض قبائل العرب ( روي أنهم بنو حنيفة ) ، إذ كانوا يصنعون آلهتهم من التمور ، فإذا جاعت القبيلة أكلت ما صنعته .
ويقول الشاعر :
أشم فيه عفن الزمان والعوالم العجيبة
من إرمٍ وعاد
( ص 605 )
وشاعرنا يتعامل مع ( إرم وعاد ) الواردتين في القرآن الكريم كأنهما دلالة للعفن ، بيد أن السياب يختار في قصيدة ( إرم ذات العماد – ص 602 ) رواية لقصة إرم - عن صياد من الجنوب ( جد أبيه ) الذي تحدث عن أيام صباه ، وأنه رأى جنة عاد الضائعة ، ثم اختفت عنه ، وظل يبحث عنها ....وقد حاول السياب هنا من خلال هذه الأسطورة التعبير عن حنينه للماضي ، فمن قصص الحب المأثورة يضمّن الشاعر أبيـــاته :
وهي المفلـّية العجوز وما توشوش عن حزام
وكيف شق القبر عنه أمام عفراء الجميلة
( ص 318 )
ويعلق السياب في حاشية القصيدة :
هكذا أصبح اسم الشاعر العاشق عروة بن الحزام عند العامة الذين يروون قصة حبه لعفراء وموته ، ويرددون معاني قصيدته بشعر عامي .
وتأخذ القصة مسارًا حزينًا وهو غريب على الخليج ، وإذا كان قد استذكر قصة عروة وحزام فلا بدع أن تجد قصة عنترة وعبلة أصداءها كذلك :
......ذاك عنترٌ يجوب
دجى الصحاري إن حي عبلة المزار
( 604 )
ويعلق عز الدين إسماعيل في مقاله " الشعر المعاصر والتراث العربي " :
يستغل السياب قصة الحب البدوي التي تردد في التاريخ العربي ، وهي قصة عنتر وعبلة ، وذلك في قصيدته - إرم ذات العماد - ولست في حاجة أن أعيد هنا ما قلته في هذا التلاحم بين المأثور والواقع النفسي للشاعر ، فقد وجد الشاعر في هذه القصة القبلية توجيهًا نفسيًا كافيًا يجدد لنا المسار النفسي لشعوره الراهن . ( 6 )
وأبو زيد الهلالي - رمز البطولة العربية الملحمية له مكان أسطوري في ثنايا قصائده ، حتى يتوافق مع اندفاعه وحماسه للعروبة :
والأمل الخالق من توثب الصغير
ألف أبي زيد تفور الرغوة
من خيله الحمراء
( ص221 )
3- رموز من التاريخ العربي :
في قصيدة ( مرثية جيكور ) نجد حشدًا من الإشارات التاريخية ساقها الشاعر في معرض استهتار ، فهو يرمز للتاريخ بعصر ( تعبان بن عيسى ) ، وربما كان الاسم الأول ليسقط تعبه هو :
لا عليك السلام يا عصر تعبان بن عيسى وهنت بين العهود
ها هو الآن فحمة تنخر الديدان فيها فتلتظي من جديد
ذلك الكائن الخرافي في جيكور هومير شعبه المكدود
جالس القرفصاء في شمس آذار وعيناه في بلاط الرشيد
يمضغ التبغ والتواريخ والأحلام بالشدق والخيال الوئيد
ما تزال البسوس محمومة الخيل لديه وما خبا من يزيد
نار عينين ألقتاها على الشمر ظلالا مذبحات الوريد
كلما لز شمره الخيل أو عرى أبو زيده التحام الجنود
شد راحًا وأطلق المغزل الدوار يدحوه للمدار الجديد
( ص 407 )
فالشاعر مل حالة الخواء التي خلص إليها أخيرًا من جراء مضغ التبغ والتواريخ والأحلام ، وقد لاحظنا حشدًا من الأسماء : الرشيد – رمز البذخ ، والبسوس – معركة بكر وتغلب ، ويزيد هو الذي أمر الشمر بقتل الحسين ، وكان مرتديًا ثيابًا حمرًا ، وأبو زيد اشتهر بملاحمه..... وفي هذه الإشارات جميعًا رمز للحرب التي نجتر تفاصيلها بلا جدوى ، وهو يؤكد ثانية فيقول :
لا عليك السلام يا عصر تعبان بن عيسى وهنت بين العهود !
4 – ومن الصوفية رأينا الشاعر يستعمل ( ابن حلاج ) ، وهو تحريف للحلاج ( 858م – 932 م ) ، إذ يقول :
ويا عهد كنا كابن حلاج واحد
مع الله إن ضاع الورى فهو ضائع
(ص 354 )
ويرى د . إحسان عباس أنه استخف بفكرة التأليه ( 7 ) ، وهو هنا لا يدل على عمق إيمانه ، فيقول السياب :
الحسن البصري جاب أرض واق الواق
ولندنَ الحديد والصخر
فما رأى أحسن عيشًا منه العراق
(ص301)
فهو يتخيل نفسه الحسن البصري الذي يمكن أن يكون أحد الاثنين أو كليهما معًا :
1- الحسن البصري الصوفي (ولد في البصرة 642م – 728 ).
2- الحسن البصري الرحالة الوارد في قصص ألف ليلة وليلة ، والباحث عن الكنوز، ويبدو لي من خلال معاينة أن الاحتمال الأول أكثر إقناعًا ، بسبب ارتباط الشاعر بالبصرة ، وبسبب الشعور الديني الذي لازم السياب ساعة مرضه . ونحن مع ذلك لا ننكر هنا أن ذكر ( واق الواق ) يدفعنا إلى التفكير في الاتجاه الثاني .
* * *
5- فيما وراء التاريخ من أساطير وقصص دينية – وأبرز رمز يستعمله الشاعر هو السندباد- صاحب الرحلات السبع ، وفي حياة السياب ضياع ، والسندباد قالب أو قناع يصب فيه الشاعر معاناته واقتحامه وجوَبانه ، فيقول عن نفسه :
....... مثل سندباد يسير حول بيضة الرخ ولا يكاد
( ص604)
ويخاطب زوجته المنتظرة :
وجلست تنتظرين عودة سندباد من السفار
( ص 229 )
وبينما هو :
فلك سندباد ضل في البحر
حتى أتى جزيرة تهمس في شطآنها المحار
( ص654)
وقصة قابيل وهابيل الواردة في الكتب المقدسة يستعملها الشاعر رمزًا للشر في قابيل ، ورمزًا لضياع الحق لدى هابيل ، وهو يصرخ :
قابيل فينا ما تهاوى أخوه
( ص383 )
والشاعر لا يريد أن يكون وريثا لقابيل خوفًا من أن يُسال السؤال الوارد في التوراة بصورة إنكارية :
ولا أكون وريث قابيل اللعين سيسألون
لمن القتيل فلا أقول
أأنا الموكل ويحكم بأخي
...........
إن قابيل المكبل بالحديد
في نفسي الظلماء .....
( ص552 )
يرمز هنا إلى قافلة الضياع ، وهي اللجوء .
لكن الفيتوري في نقده لقصيدة ( قافلة الضياع ) يذكر أن الأسطورة التي تعتمد عليها القصيدة تختلف اختلافًا جذريًا عن مأساة اللاجئين في ارتكازها على التجربة .( 8 )
ويرد ذكر قوم يأجوج ومأجوج في القرآن الكريم على أنهم مفسدون في الأرض ( سورة الكهف 94 )، لكن الشاعر يستعمل الأسطورة وقد شرحها في حاشية ( ص 529 ) أن يأجوج ومأجوج يلحسان السور بلسانيهما كل يوم حتى تصبح في رقة قشرة البصل ويدركما التعب ، فيقولان غدًا سنتم العمل وفي الغد يجدان السور على عهده من القوة والمتانة .....وهكذا حتى يولد لهما طفل يسميانه ( إن شاء الله ) – فيحطم السور :
يأجوج يغرز فيه من حنق أظافره الطويله
ويعض جندله الأصم وكف مأجوج الثقيله
والسور باق لا يثل وسوف يبقى ألف عام
لكن ( إن شاء الإله )
طفلاً كذلك سمياه
سيهب ذات ضحى و يقلع ذلك السور الكبير
( ص529 )
وبعد ، فقد عرضت بعض هذه الرموز والإشارات في سياقها ، وأبنت مدى تداخلها في نسيج السياب الشعري . ولا شك أن هناك رموزًا أخرى فثقافة الشاعر وقراءاته قد لا تكون مسبورة الغور دائمًا ولدى مختلف القراء المختلفة ثقافاتهم .
إذن ، لتكن هذه جولة استكشافية في شعر السياب وتصاديه مع التراث العربي في الرموز والأساطير .
ولمن يهمه الأمر أشير إلى أنني كنت قد أصدرت كتابًا حول الأصداء القديمة في شعر السياب - كما يتمثل ذلك في لغة القرآن ، وأساليب الشعر القديم ، وقد صدرت الطبعة الثانية عن مطبعة الحكيم ، الناصرة - ( 2006 ) .
الهوامش
1) عبد الجبار البصري : دراسة جديدة في الشعر العربي المعاصر ، الآداب ، نوفمبر 1964 ص 4 .
2) أخبار وقضايا ، مجلة شعر ، العدد الثالث، السنة الأولى ، ص 111- 113 .
3) ن.م - ص 112
4) همزراح هحداش ( بالعبرية ) ، العددان 1-2 /1968 ، ص 33 .
5) ابن هشام : السيرة النبوية ، ج2 ص 13 .
6) الآداب شهر آب 1956 ص 64 .
7) إحسان عباس : بدر شاكر السياب ،دار الثقافة ، بيروت – 1969 ، ص267 .
8) الآداب شهر آب 1956 ، ص 64 .
...............................................................................................................
تحليل قصيدة البارودي (1) :
أبابل رأي العين( 2 )
القصيدة :
أبابلُ رأيَ العَينِ أم هذه مصرُ
فإني أرى فيها عيونًا هي السِّحرُ
نواعسَ أيقظن الهوى بلواحظٍ
تدين لها بالفَتكة البيضُ والسُُّمرُ
فليس لعقلٍ دون سلطانِها حِمى
ولا لفؤاد دون غِشيانها سِتر
فإن يكُ موسى أبطل السحرَ مرة
فذلك عصرُ المعجزات، وذا عصرُ
فأيُّ فؤادٍ لا يذوبُ صبابةً
ومُزنةِ عينِ لا يصوبُ لها قََطْر ؟
بنفسي – وإن عزَّت علي – ربيبةٌ
من العِينِ في أجفانِ مقلتها فَتر
فتاةٌ يرفُّ البدرُ تحت قناعِها
ويخطرُ في أبرادها الغصُنُ النَّضر
تريكَ جُمانَ القطرِ في أقحوانةٍ
مفلَّجةِ الأطرافِ قيل لها ثَغر
تدين لعينيها سواحرُ بابل
وتسكر من صهباءِ ريقتِها الخمر
فيا ربةَ الخِدرِ الذي حالَ دونَه
ضراغمُ حربٍ غابُها الأسَلُ السُّمر
أما من وصال أستعيدُ بأنسِه
نضارةَ عيشٍ كان أفسدَه الهَجر؟
رضِيتُ من الدنيا بحبِّك عالِمًا
بأن جنوني في هواك هو الفخر
فلا تحسبي شوقي فكاهةَ مازحٍ
فما هو إلا الجمرُ أو دونَه الجَمر
هوًى كضمير الزَّند لو أن مدمعي
تأخَّر عن سقياه لاحترق الصَّدر
إذا ما أتيت الحيَّ فارتْ بغيظِها
قلوبُ رجالٍ حشوُ آماقِـها الغدر
يظنون بي شرًّا ولست بأهلِه
وظنُّ الفتى من غير بيِّنة وِزر
وماذا عليهم إن ترنَّم شاعرٌ
بقافيةٍ لا عيبَ فيها ولا نُكر ؟
أفي الحقِّ أن تبكي الحمائمُ شجوَها
ويَبلَى فلا يبكي على نفسه حُرُّ
وأيُّ نكيرٍ في هوًى شبَّ وقدُه
بقلبِ أخي شوقٍ فباح به الشِّعر ؟
فلا يبتدرْني بالملامةِ عاذلٌ
فإن الهوى فيه لمعتذرٍ عُذر
إذا لم يكن للحب فضلٌ على النهى
لما ذلَّ حيٌّ في الهوى وله قَدر
وكيف أسومُ القلبَ صبرًا على الهوى
ولم يبقَ لي في الحبِّ قلبٌ ولا صبر ؟
ليَهْنَ الهوى أني خضعتُ لحكمه
وإنْ كان لي في غيرِه النهيُ والأمر
وإني امرؤ تأبى لي الضَّيمَ صولةٌ
مواقعُها في كل معترَكٍ حُمر
أبِيٌّ على الحدْثانِ لا يستفزُّني
عظيمٌ ولا يأوي إلى ساحتي ذُعر
إذا صُلتُ صال الموتُ من وكراتِه
وإن قلتُ أرخى من أعنَّتِه الشِّعر
*****
قراءة :
يعتبر شعر البارودي عند الكثيرين (3) بداية النهضة الأدبية ، وبالذات لما في شعره من التزام بتقاليد الشعر أو ما اصطلح عليه بعمود الشعر (4) ؛ فهو الذي أعاد إلى اللغة أصالتها بعد أن مرت بفترة جمود طويلة .
وقد اختار موريه ضمن منتخبات كتابه الشعر العربي المعاصر (5) هذه القصيدة نموذجًا يمثل شعر البارودي النيؤكلاسي ، وقد رأيت في هذه القصيدة ما نستطيع أن نقيس عليه قصائد أخرى تمثل هذه الفترة التي عاشها البارودي - حيث كانت العناية كبيرة بإحياء التراث .
موضوع القصيدة وصف للواعج الشوق التي يعانيها الشاعر ، ومع ذلك فهو الصابر ، وهو البطل .
بدأ الشاعر قصيدته بوصف عيون بنات مصر الساحرة التي لا تبطل سحرَها معجزة ،ثم ما لبث أن وجد مفتاحًا يروي به قصته ويبرر حبه الذي ربما سينكره المنكرون :
فأي فؤاد لا يذوب صبابة
ومزنةِ عين لا يصوبُ لها قَطر ؟
وما دام ذلك مستحيلاً في نظر الشاعر فإنه يتجرأ ويفدي بنفسه فتاة عيناء تدين لعينيها سواحر بابل " وتسكر من صهباء ريقتها الخمر " . هي امرأة يصونها رجال أشداء كالضراغم يحولون دون الوصول إليها ، ولكن شوق الشاعر وجنونه من جهة أخرى تدفعانه إلى الدنو من حيّها ، يرجو وصالها الأنيس ليستعيد بالتالي نضارة عيشه . يُقدم على ذلك وهو عالم أن أهلها عيونهم مفعمة بالمكر والغدر:
إذا ما أتيت الحي فارت بغيظها
قلوب رجال حشوُ آماقها الغدر (6 )
فلا يستبق إليه بالملامة عاذل ، فقد خضع لحكم الهوى حتى لم يعد له قلب ولا صبر- رغم ما عرف عن صولته وإبائه .
ونسأل أولاً : هل هناك ترابط منطقي بين أجزاء القصيدة ؟ أو هل هناك نوع من الوحدة الموضوعية ؟
إن الجزم في جواب شاف يكاد يكون صعبًا ، ذلك لأن للقصيدة سياقًا ساقه الشاعر حسب مفاهيمه هو : من مقدمة إلى ذكر صفات المحبوبة ورجاء وصالها ، إلى خضوع للهوى ، وبالتالي إلى المفاخرة ، وهذه بمجموعها تشكل موقفًا شعريًا نستطيع أن نتفهمه إذا عرفنا كون الشاعر محاربًا من جهة ، وشابًا لا بد له من حب في يفاعته ، وشاعرًا مفيدًا من مخزون الشعر القديم بفضل حافظة لاقطة عُرفتْ عنه.
ولكننا من ناحية ثانية نستطيع أن نقدم ترتيب بعض الأبيات ، أو نؤخره من غير أن يختل المعنى في القصيدة .
وعلى سبيل المثال :
إذا لم يكن للحب فضل على النهى
لما ذل حي في الهوى وله قدر
فهذا البيت يمكن وضعه في أكثر من موضع ، وهذه ظاهرة مألوفة في الشعر القديم - وهي استقلالية البيت الواحد عما سواه . وقد أشار لها العقاد في معرض هجومه على شعر شوقي (7 ) .
ثم إن التفكك في أبيات القصيدة ليس قائمًا بشكل بارز يجعلنا نبتّ أن الوحدة الموضوعية معدومة .
والقصيدة بمجموعها فيها أصداء الشعر العباسي ، فلو قرأت البيت الواحد منها على أذن أَلِفت الشعر العباسي لما شك هذا السامع أن هذه القصيدة قريبة من قصيدة أبي فراس الحمداني التي مطلعها :
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر (8)
فهناك قوالب لفظية تتردد في أشعار العباسيين ، وهناك التشبيهات الحسية المشتقة من حياة البادية والطبيعة الساكنة : فالحمى والستر والأسل ، والفتاة التي يرفّ البدر قناعها ويخطر في أبرادها الغصن النضر . كل هذه الصور لا يصعب علينا إيجاد مُشابهات لها في الشعر العباسي .
والقصيدة تحوي افتعالاً للمواقف والعواطف ، وفيها مبالغة : فالفتاة حال دونها ضراغم حرب ، وشوقه دونه الجمر ، وجنونه فخر ، وفتاته مثقلة بالتشابيه المكرورة التي عدمت روح المعنى ، فهو لم يخلق لها أوصافًا حية ، وإنما قدّم لها ألفاظًا قُدمت لغيرها : فالعيون سحر ، والوجه بدر ، والقامة غصن، وهذه كلها أوصاف لا تستطيع أن توحي بشيء عن طبيعة خاصة بهذه الفتاة ، ثم إن هذه الأوصاف يمكن أن نخلعها على أية حبيبة أخرى من غير أن تثير فينا إحساسًا خاصًا بجمالها .
وعاطفة الشاعر المتأججة لم تدعُ القارئ للمشاركة ، فشوقه الذي يصفه بأنه ليس فكاهة مازح ، وصدره الذي يكاد يحترق ، كل هذا يثير التعجب عند البعض أكثر مما يثير العاطفة .
ثم إن في القصيدة بعدًا عن واقع الحياة المعيش ، فأين السيوف والرماح التي تخضع لعيونها الناعسة ؟ وهل كان بكاء الحمائم يشغل الشاعر حقًا ؟
*** ***
أما من حيث الشكل ، فقد استعمل البارودي أساليب البلاغة من بيان ومعان وبديع حتى يجعل شعره مسبوكًا بصورة تؤدي إلى ما اصطلح عليه بالجزالة .
ففي قوله : أبابلُ رأيَ العين أم هذه مصر
فإني أرى فيها عيونًا هي السحر
نرى التساؤل على طريقه " تجاهل العارف " ، فيه مزج الشك باليقين ، فقد أخرج ما يعرف صحته مخرج الشك حتى يزيد تأكيد ما يرمي إليه . و "تجاهل العارف " مألوف في الشعر القديم ، يقول المتنبي :
أريقك أم ماء الغمامة أم خمر ؟ (9)
وتقول الخنساء :
قذى بعينك أم بالعين عوّار ؟ (10)
ثم إن الشاعر استعمل الاستعارة والمجاز، فنقل العبارة عن موضع استعمالها ليبين أو يؤكد أو يبالغ : فالبدر يرف ، ويخطر في أبرادها الغصن ، وتريك جمان القطر في أقحوانة.
والطباق فن من فنون البديع يزيد الشعر إيقاعا وتوكيدًا :
تدين لها بالفتكة البيض والسمر
وان كان لي في غيره النهي والأمر
فالشاعر يقيم قصيدته حسب تخطيط فني وتزويق لفظي .
وفي القصيدة نوع من الترصيع - قافية داخلية - :
فليس لعقل دون سلطانها حمى
ولا لفؤاد دون غشيانها ستر
فأي فؤاد لا يذوب صبابة
ومزنة عين لا يصوب لها قطر ؟
وفي القصيدة تجنيس " رأي ... أرى "، " يصوب .. صبابة " ،
وفيها تشطير وهو أن يتوازى المصراعان والجزءان وتتعادل أقسامها مع قيام كل واحدة منها بنفسه واستغنائه عن صاحبة (11) :
فليس لعقل دون سلطانها حمى
ولا لفؤاد دون غشيانها ستر
أبيٌّ على الحدْثان ، لا يستفزني
عظيم ، ولا يأوي إلى ساحتي ذعر
إذا صلت صال الموت من وكراته
وإن قلت أرخى من عانته الشعر
كما تزخر القصيدة بضروب الإنشاء الطلبي وغير الطلبي من نهي واستفهام ونداء وتمن والتماس على غرار قوله:
" فلا تحسبي شوقي فكاهة مازح !"
والاستفهام الإنكاري يقصد به هنا التعظيم وتجسيم الصورة والتأثير :
" وأي نكير في هوى شب وقده ؟! "
" أفي الحق أن تبكي الحمائم شجوها ؟! "
ومثل هذه الأساليب البلاغية لا يكاد يخلو منها بيت في قصيدته .
قلت سابقًا إن الشاعر يستوحي معاني السابقين فتخرج في قوالب جديدة . وهذه القوالب أراها شبيهة بشعر " المعارضة " الذي نستطيع أن نعتبره شكلاً وصيغة أكثر منه مضمونًا .
يقول البارودي :
فيا ربة الخدر الذي حال دونه
ضراغم حرب ، غابها الأسل السمر
وهذا المعنى أورده الطغرائي في لاميته (12) :
فالحب حيث العدا والأسد رابضة
حول الكناس لها غاب من الأسل
ولا نكاد نرى جديدًا جاء به البارودي هنا ؟
ولننظر إلى بيت آخر عند البارودي :
أفي الحق أن تبكي الحمائم شجوها
ويبلى فلا يبكي على نفسه حر
فنستذكر بيت نُصيب الأكبر (13 ) :
أأزعم أني هائم ذو صبابة
بسعدى ولا أبكي وتبكي الحمائم
ثم إن جو قصيدة أبي فراس " أقول وقد ناحت بقربي حمامة " (14 ) . ليس بعيدًا عن الجو الذي حلق فيه البارودي . ولا يصعب علينا إيجاد مُشابهات أخرى تجعلنا نؤكد أن البارودي مرتبط جدًا بتقاليد الشعر القديم وخاصة العباسي .
وإذا تعدينا المشابهات فإننا نرى التداعيات ، فبعض شعره يعيدنا إلى القرآن الكريم ، وبعضه إلى الشعر القديم ، ومن شأن هذه الإيحاءات والأصداء أن تضفي عمقًا وبعدًا تراثيًا ، الأمر الذي يزيد القصيدة تكثيفا باتجاه واحد .
ففي قوله :
" فإن يك موسى أبطل السحر مرة " يعيدنا إلى قصة موسى وعصاه التي تلقفت ما يأفكون . ( 15 )
وقول الشاعر: " وظن الفتى من غير بينة وزر "
يذكرنا بقوله تعالى : { إن بعض الظن إثم } (16) .
وجدير بنا أن ننبه كذلك إلى الجوازات العروضية التي ترد في الشعر القديم بشكل أبرز مما نلاحظه في الشعر الحديث ( وهذه ظاهرة تستحق البحث ) كصرفه الممنوع من الصرف : بلواحظٍ ، بابلٍ وتسكينه المتحرك : نضْر بدلا من نضِر وتحريكه الساكن : الغصُن بدلاً من الغصن ، وإسقاط الهمزة : ليهنَ الهوى بدلا من ليهنأ .
ومع ذلك فالقصيدة لها إيقاع فخم وموسيقا صاخبة ، والبحر الطويل الذي كتب الشاعر فيه قصيدته يستطيع أن يقوم بهذا الدور لكثرة ما ألف فيه الشعراء القدماء من قصائد - وخاصة القصائد الحماسية شأن بحر الأيامب عند شعراء الملاحم .
نجمل القول إن البارودي في هذه القصيدة يستمر على نسق الشعر القديم رغم الملامح القليلة التي تعبر عن ذاتية الشاعر وواقعه – ( إذ تساءل في مطلع القصيدة : أم هذه مصر ؟ )
وعليه فإننا نستطيع التأكيد عبر هذه القصيدة على اصطلاح " الإحيائية السلفية " الذي أشار إليه أدونيس في معرض حديثه عن البارودي (17 ) .
الهوامش
1) البارودي ( 1838- 1904) : محمود سامي البارودي شركسي الأصل ولد في القاهرة ، كان رجلاً عسكريًا تقلد الوزارات المختلفة ، وأصبح رئيس وزراء ، غير أن مساهمته في ثورة عرابي باشا أدت إلى نفيه طيلة سبعة عشر عامًا في جزيرة ( سرنديب ) ، وقد تأثر بلغة الشعر العباسي ، ويعتبر مجددًا للشعر العربي بعد أن غرق الشعر في الصنعة في فترة العثمانيين .
2) قصيدة " أبابل مرأى العين " ، ديوان البارودي ج2 القاهرة – 1942 ص130 -135 ، وقد كتب القصيدة في منفاه.
3) ا نظر مثلا : عز الدين يوسف ، في الأدب العربي الحديث ، الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1973 ص160
، ضيف شوقي : البارودي رائد الشعر الحديث ، دار المعارف بمصر – 1964 ص97 ، Moreh,S modern Arabic poetry , leiden – 1976 , pp -
4 - شوقي : البارودي ، دار المعارف ، القاهرة ، د . ت -( الفصل عن العناصر القديمة ص 97 ) .
5) موريه . ش : الشعر العربي المعاصر ، دار النشر العربي تل أبيب – 1968 ،ص 20 .
6) وهكذا يذكرنا بما فعل عمر بن أبي ربيعة حين قدم إلى حمى حبيبته في قصيدته الرائية حيث يقول :
وليلة ذي دوران جشمتني السرى
وقد يجشم الهول المحب المغرر
أريتك إذ هنّا عليك ألم تخف
رقيبًا وحولي من عدوك حضّر
انظر: ديوان عمر بن أبي ربيعة ، الشركة اللبنانية للكتاب ، بيروت – 1968 ص 100 .
7) العقاد عباس والمازني إبراهيم : الديوان في الأدب والنقد ط 3 ، دار الشعب ص 132 .
8) ديوان أبي فراس الحمداني ، دار صادر – بيروت – د.ت ص 157 .
9) ديوان المتنبي ، دار صادر بيروت – د.ت ص 62 .
10) الأصبهاني ، أبو الفرج : كتاب الأغاني ج 15 ص 67 .
11) العسكري ، أبو هلال : كتاب الصناعتين ، دار إحياء الكتب العربية – 1952، ص 411.
12) البتلوني ، شاكر : نفح الأزهار في منتخبات الأشعار ط 6 المطبعة الأدبية ، بيروت – 1899 ص 54 .
13) الأغاني ج1 ص 304.
14 ) ديوان أبي فراس ص 238 .
15) سورة الأعراف آية 7 .
16 ) سورة الحجرات آية 49 .
17 ) أدونيس ، صدمة الحداثة ، دار العودة ، بيروت – 1968 ص 76 .
...................................................................................................................................................................................................................

رحلـــة تصفحيـــة في المراجع
اللفظ والمعنى أو المضمون والشكل - من المواضيع التي بُحثت على مدى العصور الأدبية بعضهم فصل كلاً منهما ، وبعضهم رأى التلاصق بينهما كالروح والجسد (1). والأدب - كما نعلم - يتبين بالأسلوب ، ففي الأسلوب يتم خلق الفكرة ، حيث تلبس لباسها الملائم ، وفيه جهد يبذله الأديب وهو يحاول أن يربط الأفكار والألفاظ .(2)
لا شك أن اللغة هي وعاء الأفكار (3) ، وكلما كانت مطابقة للفكرة نجح الكاتب في إيصالها ، ولغتنا العربية لغة غنية المفردات ، فيها الكثير من المترادفات والمشتركات ( كلمة لها أكثر من مدلول ) وفيها الأضداد ( كلمة لها معنى ونقيضه ) ، وفيها قدرة عظيمة على الاشتقاق والنحت والقياس(4) .... ولغة الأدب الجاهلية متشابهة برغم كثرة المفردات (5)، وأفكارها محدودة ، لأنه ليست هناك فروق ظاهرة في كثير من المترادفات. (6)
ويرى البعض أن الكلمة جاهلية كانت مطابقة لواقع البدوي ، فقد حاول مصطفى ناصف أن يربط الكلمات الجاهلية بالحياة ، وأظهر أن فاعلية اللغة أو تفاعل كلماتها هو الذي يخلق المعنى ويبرز معلمه ،وهو يتابع جمالية اللغة حتى يوصلها إلى أصول أسطورية ورمزية (7)، وعند تمازج العرب بالشعوب الأخرى رأينا قدرة العربية على استيعاب الكلمات العلمية والفنية (8) ، ورأينا الجملة العربية تخضع للمنطق ، فالنثر اتجه إلى الأدب الرمزي ككتاب ( كليلة ودمنة ) ، وفيه نقد للحكام ، وإلى الاتجاه الفلسفي الذي يجعل من الفلسفة العربية جسرًا موصلاً لعصر النهضة ، وإلى الأدب الشعبي كما في ألف ليلة وليلة ، ولا ننكر أسلوب المحسنات اللفظية في المقامات والرسائل الذي كان تدبيجيًا يماثل شغف الناس بالتوشية في مأكلهم ولباسهم ، وقد جرى ما يوازي ذلك في الشعر العباسي في التركيز على المضمون آنًا ، وعلى الشكل آنـًا آخر.
ويذهب أحمد أمين إلى أن الأدب الجاهلي ، وخاصة الشعر جنى على الأدب العربي ، فظلت الأفكار تدور حول القديم ، وظلت اللغة جامدة .....(9)
ونظرة إلى نماذج من الشعر العباسي فـإننا نجد كثيرًا من الوقوف على الأطلال ، أو استخدام الرموز القديمة ، فهذا مهيار الديلمي(10) - وهو شاعر فارسي - يقول :
يا نداماي بسلع هل أرى ذلك المغبق والمصطبحا
فهو يستعمل ( سلع )- وهو مكان في
الحجاز(11)،كما
يستعمل ( مغبق )و(مصطبح ) شراب المساء ومكان شراب الصباح ، وهما كلمتان
مستمدتان من الأدب الجاهلي . إلا أن أمين غالى في إظهار جانب التقليد ، ذلك لأن
هناك من أظهر التجديد اللغوي (12)،
فأبو تمام قد استعمل المجاز ، وعلى سبيل المثال يذكر "ماء الملام "(13)،
وعندما ينكرون عليه هذا الاستعمال يسألهم :
إيتوني بجناح الذل ...(14)
ومن الجدير أن نذكر أن أبا تمام من أبرز الشعراء العرب الذين ضمنوا شعر السابقين وتمثلوه في أشعارهم على طريقة إيليوت فيما بعد .(15)
أما في عصور ما سماها المستشرقون - الانحطاط فقد برزت المحسنات البديعية على حساب المعنى ، فالشكل كان المقرِّر ، والمعنى غالبًا ما كان مجترًّا في بداية العصر الحديث (16). ومع ظهور المطبعة وبتأثير الحملة الفرنسية عاد العرب إلى دراسة مصادر الأدب القديم ، وتأثروا بها ، فكانت المرحلة الكلاسية أو الكلاسية الجديدة .
وبعد الاطلاع على روافد الشعر العربي وتياراته رأينا من اتجه الاتجاه البرناسي (17) - الذي له أساس -حسب رأيي - في ما ذهب إليه الجاحظ من أن المعاني مطروحة في الطريق ، وإنما الشأن في إقامة الوزن ، وتمييز اللفظ ، وإنما الشعر صناعة ، وجنس من التصوير(18) ، ومنهم من يمزج الكلمات المألوفة بغير المألوفة ويرون رأي أرسطو أن فن الشعر مزيج من الألفاظ المألوفة وغير المألوفة ، والتغير أو العدول عن الألفاظ الواضحة الأصلية إلى غيرها يعد تجديدًا في اللغة (19) ، ومنهم من يكون غامضًا ، ولعل سبب الغموض أن الألفاظ غريبة ، أو مشتركة المعنى ، وهذا يقتضي تبسيط اللغة ، وخاصة إذا كان المعنى مبنيًا على مقدمات غير معلومة للقارئ (20). وأصحاب مدرسة ( شعر ) اللبنانية الذين قلدوا الشعر الأوروبي بكل (موداته ) قدموا لنا محاولات تركيبــية جديدة لنظام الجملة وطبيعة اللفظة فيها (21)، فالشعر هنا صور ..... ويحدد أدونيس الكلمة فيها - أنها تزخر بأكثر مما تعد ،وتشير إلى أكثر مما تقول (22). فالشعر عنده ثورة ، والكلمة معول هدم يجب أن تفرغ من الماضي ، وهو يعني بثورة اللغة أن تصبح الكلمة - وبالتالي الكتابة قوة إبداع وتغير تضع العربي في مناخ البحث والتساؤل والتطلع والعمل. (23)
والنثر – وخاصة القصة والمسرحية – يتلاقى في اتجاهاته العديدة هو والشعر من حيث الغموض ، فالكاتب يعمد إلى أن يقفز بدفعة واحدة إلى حيث يريد ، وعندما يتشبث به القارئ متوسلاً أن يصاحبه يخلّفه في الطريق ، حيث يبحث عنه ، أو يعزف عنه ، وغالبًا ما يعزف عنه .
وهنالك قضية أخرى ذات أهمية أخرى في لغتنا ، وهي الفصحى والعاميــة ، فكثيرًا ما اتهم دعاة العاميــة بالضعف أو بالدعوة إلى الشعوبية(24) ، ونحن اليوم في سبيل لغة وسطى ، بسبب انتشار التعليم ووسائل الإعلام ، بالإضافة إلى أن الفصحى ذاتها قد طرأ فيها تغيير كبير - في هندسة الجملة ، وذلك بتأثير لغات أخرى ، فالفصحى والعاميــة في صراع خفي ، وربما يكون يصب هذا في مصلحة العرب ، واللغة يجب أن تتطور حتى لا تصبح مجدبة عقيمة . ولكن الأولية تبقى للفصحى . و اهتماما بدورها نرى الكثيرين ينقحون أعمالهم الأدبية ، فإذا ما استعمل كاتب كلمة عامية فـإنه يحاول أن يغيرها إلى كلمة أقرب إلى اللغة التي يكتب بها أعلام الأدب القدماء ، وهو يحاول أن يبتعد عن لهجة يقبل عليها الأقــلاء ، وثمة الكثير من شعراء الحداثة يمازجون بين الفصحى والعاميــة ، وربما بتأثير إيليوت القائل إن العلاقة الصحيحة بين الألفاظ هي التي تخلق التناسق والحيوية (25)، ويمكننا اعتبار هذا تجديدًا لغويًا ضروريًا في كل عصر وفي كل لغة .
![]()
(1)
- انظر مثلا مدكور : في اللغة والأدب ص 16 ، عباس : فن الشعر ص
191 ، طبانة : قضايا النقد الأدبي ص 201 ، ونجد :في النقد القديم
من أنصار تقديم اللفظ على المعنى : ابن خلدون ، المقدمة ص 856 ؛ ومن
أنصار تقديم المعنى على اللفظ ابن رشيق : العمدة ج 1ص 28 ، العسكري : كتاب
سر الصناعتين ص 55 .....ويرى الجرجاني أن هناك ما هو أكثر من اللفظ
والمعنى كبناء الجملة والذوق : دلائل الإعجاز ص 40 ، 70 ، 307 ، 320 .
(2)
- انظر - الشايب : الأسلوب ص 67 ، وما بعدها ، وكذلك الزيات : دفاع
عن البلاغة ص 62 وما بعدها .
(3)
- في اليونانية تعني
logos
العقل واللغة
انظر
(4)
- انظر- أنيس : من أسرار اللغة ص 7 .
(5)
- انظر- عبود : الرؤوس ص 28
(6)
- نظرة في كتاب الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف فستجد أن ليس هناك
فروق كثيرة وجوهرية مثلا في أسماء الخمر .
(7)
- ناصف - نظرية المعنى ، ص 18 ص 122.
(8)
- انظر كامل - دلالة الألفاظ العربية وتطورها ، ص 14 وما بعدها انظر-
زيدان : اللغة العربية كائن حي ، ص 48 وما بعدها .
(9)
- انظر - أمين : فيض الخاطر (ج 2) ص238 .
(10)
- انظر - ضيف : الفن ومذاهبه في الشعر العربي ص 371
(11)
- انظر مادة ( سلع ) في معجم البلدان لياقوت.
(12)
- على سبيل المثال - هدارة : اتجاهات الشعر العربي ص 535 – 565 .
(13)
- أورد هذه القصة عز الدين إسماعيل في كتابه : الأسس الجمالية في النقد
الأدبي ص 186 ، ولكني لم أجد لهذه القصة مصدرًا قديمًا ، ففي أخبار أبي
تمام للصولي ص 37 نجد القصة في معرض دفاع المؤلف عن الشاعر، وليس الشاعر عن
نفسه ...أما البيت فهو :
لا تستقني ماء الملام فـإنني صب قد
استعذبت ماء بكائي
(
ديوان أبي تمام ص 10 )
(14)
- جزء من آية رقم 24 في سورة الإسراء ، والمقصود بهذا الرد أن القرآن كان قد
استعمل الاستعارة ، مما يجيز الشاعر أن يفعل.
(15)
- انظر مثلا رمز أبي كرب ورمز مية وغيلان في ديوان أبي تمام ص 15، ص 6 .
(16)
- انظر - الموجز في الأدب العربي ( أدب الانحطاط والنهضة ) .
(17)
- انظر عن البرناسية في - عباس : فن الشعر ، ص 58 ، الزيات : دفاع عن
البلاغة ص 131 .
(18)
- انظر عن شرح عبارة الجاحظ في كتاب الحاوي : نماذج في النقد الأدبي ص 719
.
(19)
- طبانة : قضايا النقد الأدبي ص 158 .
(20)
- ن . م ، ص 157 .
(21)
- انظر مثلا : مجلة شعر عدد 23 – 24 ص 17 ص 31 .
(22)
- انظر - أدونيس : زمن الشعر ص 19 .
(23)
- ن . م ص 45 ، ص 199 .
(24)
- انظر - بنت الشاطئ : لغتنا والحياة ص 94 ، المبارك : عبقرية اللغة
العربية ص 7 .
(25)-
انظر- درو : الشعر كيف نفهمه ونتذوقه ، ص 12 ، وانظر كذلك اختلاف تقييم
كلمة (أخدع ) في كتاب- طبانة : قضايا النقد الأدبي ص 23
.............................................................................................................................................................
رثاء الأب لدى الشعراء المحدَثيـــن
عودة إلى القديم :-
الرثاء الذي قاله الشعراء العرب على مدى العصور يجاري الدموع التي سالت ،
وغالبًا ما قيل للتكسب والتزلف من أرباب الجاه والسلطان ، حتى وُصف الشاعر العباسي
بأنه ( مدّاحة نواحة ).
ومن الغريب أن الشعر الذي قيل في الأهل قليل جدًا ، وربما يكون ما وصلنا منه
هو الذي جعلني أحكم بنوع من اليقين أن النتف الشعرية الرثائية كانت تعميمًا تصلح
لكل شخصية ، وتفتقد الحس العميق والهوية الشخصية للراثي والمرثيّ . ففي رثاء
الزوجة ( الزوج) عرفنا جريرًا في بضعة أبيـات يستهلها بأن الحياء يحول دون
استعباره وزيارة قبر حبيبته . أما غريمه الفرزدق فلا يملك في رثاء زوجته سوى
أبيــات جرير نفسها يرددها . وفي حماسة أبي تمام نقرأ مقطوعة لشاعر مغمور هو مويلك
المزموم يرثي زوجه أم العلاء
(الحماسة 1
ص 402 ) (1)
وفي رثاء الزوج وجدت رثاء لعاتكة بنت زيد بن نفيل ، ولأم قيس الضبية ، ولأسماء
بنت أبي بكر في أبيـات قليلة باهتة المعنى .
ونجد نماذج في رثاء الأخ لدى المهلهل ودريد بن الصمة والخنساء . وفي نهاية حماسة
البحتري فصل في مراثي النساء . كما نجد فصلاً آخر في نهاية
ديوان الخنساء فيه
شعر لبعض شواعر العرب المغمورات ممن تحدثن عن السجايا والشيم ، كما تجلت في
المرثيّــيـن . وفي حماسة أبي تمام نقرأ لنهار بن توسعة وابن عمار الأسدي والعتبي
وطريف العبسي .
وتظل هذه القصائد معدودة إزاء الكثرة الكاثرة من شعر الرثاء ، بالإضافة إلى أنها
لشعراء مغمورين .
وفي رثاء الابن قرأنا أشعارالسلكة - أم السليك ، وقصائد ابن الرومي( وهي قمة في
الوجدان ) ، وابن عبد ربه، وعبد الله بن الأهثم، وأبي صخر الهذلي وغيرها .
ونادرة هي القصائد في رثاء الابنة أو الأخت أو الأم (2) ، نذكر منها قصيدتي المعري
في رثاء أمه ( سقط الزند
ص 39-46 ) وبضعة أبيـات لأبي فراس في رثاء أخته ، وليس السبب يعود لكونها أنثى -
كما يخيل للبعض ، فـإن حظ الأب ليس بأفضل .
ففي رثاء الأب وقعت على بيتين لامرأة ترثي أباها ، وهي تؤكد أنه لا يساوي أباها
أحد
(
الحماسة
لأبي تمام 1 ص 452 ) ، كما وردت أبيـــات متفرقة لهند بنت عتبة ( زوج أبي سفيان
) في رثاء والدها الذي قتل يوم بدر (
الأغاني ج 4 ص 212
- 214 ) . وفي نفس الفترة رثت قُـتيلة بنة النضر بن الحارث أباها ، وعاتبت الرسول
r
لأنه قتله بعد أسره في بدر .
وسأسوق مثلاً على رثاء الأب من أروى بنت الحباب ، حيث رثت والدها في ثلاثة
أبيـــات :
قل للأرامل واليتامى قد ثوى فلتبك أعينها لفقد
حباب
أودى ابن كل مخاطر بتلاده وبنفسه بقيا على الأحساب
الراكبين من الأمور صدورها لا يركبون معاقد
الأذناب
ويبدو أن الشعر الذي قيل في رثاء الأب في معظمه وارد من نساء، فبالإضافة إلى من
ذكرت تروى أبيـات قليلة لعمرة بنت الخنساء ، وآمنه بنت عيينة ، وكذلك أشعار بنات
عبد المطلب قبيل وفاة أبيهن ... ( راجع القصائد في ملحق
ديوان الخنساء )
غير أن قصيدة المعري في رثاء والده (
سقط الزند
ص 13 ) كانت من القصائد النادرة ، فأبوه :
مضى طاهر الجثمان والنفس والكرى وسهد المنى والجيب والذيل والردن
كما يتحلى أبوه بالوقار والحجى والجرأة والسماحة ، ثم ما يلبث المعري أن يقف أمام
الموت والدنيا ، ويعرض آراءه وأفكاره ، وينتــقل إلى العاطفة ، فيتمنى لو أن
أباه موارى في جفنه ،فأبوه ( لؤلؤة المجد )....... وتصل القصيدة ذروتها الوجدانية :
فهل أنت إن ناديت رمسك سامع نداء ابنك المفجوع بل عبدك القن
وأحمل فيك الحزن حيًا فـإن أمت وألقك لم أسلك طريقا إلى الحزن
وبعدك لا يهوى الفؤاد مسرة وإن خان في وصل السرور فلا يهنى
وبرغم هذه القصيدة المعبرة فـإن القصائد التي قيلت في رثاء الأب هي قليلة ، أو
مغمورة ، وهي لا تقول الكثير .
وما ذكرته من نماذج اهتديت إليها لا يدعى الحصر رغم كل اجتهاد ، فثمة نماذج أخرى
لا أرى أنها تغير من أفق التوقع .
في
الشعر المعاصر
:
وقبل أن ألج الموضوع لا بد من التأكــيد على أن الشعر المعاصر بوظيفته
الاجتماعية انتبه إلى قيم جديدة ، فأُفرِدت ولأول مرة كتب تناولت رثاء الزوجة
منها ( من وحي المرأة
) لعبد الرحمن صدقي (3) و (
أنات حائرة )
لعزيز أباظة ، بالإضافة إلى قصيدة البارودي الدالية في رثاء زوجــه .... وقس على
ذلك أشعارًا ترددت هنا وهناك في رثاء الابنة ( المازني ) والأم
( شوقي ) .
وسأقف تخصيصًا على رثاء الأب كعينة من خلالها أتوصل إلى أن الشعر المعاصر- وبالأدق الشعر الحديث - هو الذي استطاع التعبير عن عاطفة الشعر بجدارة ، هو البؤرة التي تستقبل الأشعة وتفرقها .
سأقف أولاً على قصيدتين لأحمد شوقي ولأحمد زكي أبي شادي، حتى أصل إلى أدونيس ونزار قباني وصلاح عبد الصبور، متركزًا على قصيدة سميح القاسم - كنموذج حي ومتفاعل ومعبر ، عن المشاعر الذاتية والإنسانية معا .
* * *
رثى أحمد شوقي أباه عليًا سنة 1897 ، وكأنه مسوق إلى قول لم يعتد عليه الشعراء
، فيبدأ قصيدته :
سألوني لمَ لم أرث أبي ورثاء الأب دين أي دين
أيها اللوام ما أظلمكم أين لي العقل الذي يسعد أين ؟(4)
(
القصيدة في الجزء الثالث من
الشوقيات ص 154
_156 )
ثم ما يلبث شوقي أن يؤكد بدهيات - أن كل الناس يموتون وحتى الرسول مات :
يا أبي ما أنت ذا أول كل نفس للمنايا فرض عين
هلكت قلبك ناس وقرى ونعى الناعون خير الثقلين
غاية المرء وإن طال المدى آخذٌ يأخذه بالأصغرين
ونحن نكاد لا نجد عاطفة للشاعر بأحاسيس منفعلة ، فهو يتحدث عن قوة الموت ، وأن
الطبيب يعود خائبًا بخفي حنين ، وأن الموت ينفذ الجو على عقبانه ، ويلاقي الليث
ويحط الفرخ من أيكته .
ونجد في ثنايا القصيدة ما يحوي لنا بالعلاقة معه :
وتمشينا يدي في يده من رآنا قال عنا ( أخوين )
طالما قمنا إلى مائدة كانت الكسرة فيها كسرتين (5)
غير أن هذه العلاقة تكتسب طابعًا صوفيًا على المستوى الشكلي على غرار قول الحلاج
:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا
فيقول شوقي :
أنا من مات ومن مات أنا لقي الموت كلانا مرتين
وفي ختام القصيدة :
وإذا مت وأودعت الثرى أتلقى حفرة أم حفرتين ؟
وبالإجمال فـإن هذه القصيدة لا تنقل لنا ( العدوى ) العاطفية على حد تعبير
الشعراء الرومانتيين .
ويبدأ أحمد زكي أبو شادي ( 1892- 1955) قصيدته في رثاء والده محمد أبي شادي بك ،
وكان صحافيًا ورئيس نقابة المحامين ، وعضوًا في مجلس النواب وقد توفي سنة 1925.(6)
يبدأ الشاعر قصيدته :
أرثيك والحب الصميم رثائي
(انظر الشفق الباكي
لأبي شادي ص 133 - 14 )
ويعدد الشاعر الفضائل التي تحلى بها والده ثم ما يلبث أن يكرر ( لهفي على
..........)
فيتلهف على جوده ، وحدته لصون العدل وقلمه المصلح وأدبه المفكر وخلقه وعمله وظرفه
ووده الكريم وشممه وشيمه التي لا يستطيع إحصاءها .
وبالإجمال فـإن في هذين النموذجين من شوقي وأبي شادي شيئًا مشتركًا ، وهو الوضوح
والمباشرة والتقريرية في تكرار عبارات الأسى واللهفة عند كليمها ، وإذا كان شوقي قد
عكس طريقته في كتابة الشعر من معارضة وحكمة وخطابة واستطراد ، فـإن أبا شادي قد
رثى والده بتفصيل عبارة وبناء متماثل ، وهو يعكس على الأقل شخصية نموذجية من
شخصيات مطالع هذا القرن أكثر من كونه والدًا له معه أكثر من وشيجة .
فإذا انتقلنا إلى نماذج من شعر " الحداثة " فـإننا نطالع قصيدة أدونيس (الموت )
، وهي مؤلفة من ثلاث مراثٍ نشرها في مجموعته الأولى
( قصائد أولى ) (
1947 - 1955 ) ففي المرثية الأولى ( ص 116 ) يبدأ قصيدته بالإشارة إلى أن أباه
تركه وهو واثق من مستقبله المفتوح ، وإلى أن حياة الشاعر مع والده كانت سهلة فقد
كان :
( أبي غد يخطر في بيتنا شمسا
وفوق البيت يعلو سحاب )
ويؤكد لنا الشاعر ( أحبه ) ثلاث مرات... في المرة الأولى " أعظما " ، وفي
الثانية " سؤالا عصيًا دفين ....وجبهة ملفوفة بالتراب " وفي الثالثة " وأحبه
صدرًا رميمًا وطين " ،
ثم يعود في المرثية الثانية (ص 117 ) ليؤكد أن الأب كان قد شد بصدر الشاعر
للسماوات ، وحمله الماضي وخلى صدى منه ينادي للمستقبل ( وفي هذا عود لمعاني المرثية
الأولى) ، ثم
يخاطب لهب النار الذي ضمه قائلا لها إنها مقدسة لم يفن فيها :
" هي كالشمس تأفل
عن أجفاننا وهي وراء الشمس لم تأفل"
وهذه القصيدة غارقة بالفكر والذهنية ، ونحن نتساءل فيها : لماذا قرن بين والده
والنار المطهرة ؟ أكان ذلك بتأثير البوذية أم أن في عقيدته بعض الإشارات الخاصة أن
فكرة الشمس تعود في المرثيــتين الأولى والثانية ، وأن الشمس لها دلالة رمزية كذلك
.
أما المرثية الثالثة ( ص 118 ) فهي سطران معبران فيهما تمازج استعارات وسببية مبالغ فيها ، لكنها مترابطة ومتعانقة والبيتان هما :
" على بيتنا كان يشهق صمت ويبكي سكون
لان أبي مات أجدب حقل وماتت سنونو "
وفي تقديري أن البلاغة متأتية بسبب مخالفتــه لسُنة الطبيعة ، ومن حق الشاعر أن
يرى زوال الصيف والخيرات في لحظات حزنه العميق . غير أننا نلاحظ في المرثيــتــين
الأوليين نوعًا من التحدي للقوة الإلهية ففي الأولى :
" أحبه أعظمًا في القبر تستعصي على الخالقـــين "
وفي الثانية : " ترمد الزند الذي طالما شد بصدري للسماوات " ،
ثم بنوع من المفارقة للآية " يا نار كوني بردًا وسلامًا " يقول أدونيس :
" يا لهب النار الذي ضمه
لا تك بردًا ولا ترفرف سلام
ففي صدره النار التي كُـوّرت
أرضـًا عبدناها وصيغت أنام "
إذن فأبوه فوق طاقة البشر ، فمنه الأرض التي عبدناها ، وصيغ منها البشر ، ومهما حاولنا القبض على معاني أدونيس فـإنها سرعان ما تتسرب منا ...... لكن القصائد الثلاث تلتقي في رؤية وجدانية ذات صبغة تأملية . لقد رأى أدونيس في موت أبيه علاقة إيجابية ، فصاغ معاني ولم يصغ عاطفة .
* * * *
وقصيدة نزار قباني في رثاء أبيه - انظر مجموعته ( قصائد ) ، الطبعة الثامنة ص 157 - 161 ) تبهر القارئ بلغتها ووزنها وطاقتها الموسيقية ونحت كلماتها ، لكنها أسوة بأشعار نزار في كثير من قصائده تشع للحظة وتتوهج آنيــًا بشكل لا يوازي أي إشعاع ، ولكن دون أن تترك أثرًا كبيرًا ، أو حكاية وراءها حكاية ، أو نفسية ممزقة .... فنزار قباني لا يصدق موت أبيه ، لأن السبب أنه ما زال فيه " روائح رب وذكرى نبي " ، فركنه وأشياؤه تتوالد " تفتق عن ألف غصن صبي " ، وكأنه لم يذهب .
والمبالغة تأخذ دورًا بارزًا في القصيدة فبقاياه " بقايا النسور على الملعب " ،
وحينما يمر على الزوايا " يمر معشب " ، والأب ما زال حيا يسامره ، و " الدوالي
الحبالى توالد من ثغره الطيب " ، والأب له كروم بذاكرة الصيف وبذاكرة الكواكب ،
وعيناه ملجأ للنجوم " فهل يذكر الشرق عيني أبي ؟ " وأبوه "معنى من الأرحب الأرحب "
. وبعد هذا الإغراق في المبالغات التي عبرت عن شاعرية وصفية أكثر من كونها إحساسًا
منقولا - يصل بنا الشاعر إلى أنه هو وأبوه متماثلان :
" حملتك في صحو عيني حتى تهيأ للناس أني أبي
أشيلك حتى بنبرة صوتي فكيف ذهبت ولا زلت بي ؟ "
وهنا نجد الصدق في تساؤله العميق على بساطته والوحي بتلقائيــته ، والبعيد عن
تقريرية شوقي في المعنى نفسه .
إن نزارًا متأكد من عودة أبيه ، فهو كالمسيح المنتظر..... هو تموز :
" فتحنا لتموز أبوابنا ففي الصيف لابد يأتي أبي "
وبالإجمال فـإن هذه القصيدة فيها تشبيهات من مقلع رخامي صقيل . فيها تقديس للأب في أداء مشحون بالمبالغة . ولعل قوله واصفًا بقاياه - " بقايا النسور على الملعب " ما يشي بذلك بصورة جلية .
* * *
أما صلاح عبد الصبور ( 1931 - 1981 ) فرثاؤه لأبيه كان على شكل قصة ( انظر
ديوانه
الناس في
بلادي ص 23 ) ، ونحن نتعرف إلى سبب موت أبيه في تضاعف القصيدة ،
ونتقرّى في تجميع جزيئات القصيدة مصرعَ أبيه في ( صخر الجبل ) ، وكانت الذؤبان
تعوي والرياح.... وقد أتيَ به إلى الميدان " مشجوج الجبين " حمله أشخاص ( لعلهم
عمال جنود )
في وصف درامي :
" وبأقدام تجر الأحذية
وتدق الأرض في وقع منقـــر
طرقوا الباب علي ..."
يصف الشاعر الجو عندما أتاه نعي أبيه ، فيجعله ملائمًا للحدث ولنفسية الحزن الذي
أطبق عليه :
" كان فجرا موغلا في وحشته
مطر يهمي وبرد وضباب
قطة تصرخ من حول المطر
وكلاب تتعاوى "
ويقف الشاعر موقفًا جديدًا أمام الموت ، ويصفه بالبحر الكبير، وبالدرب المضلل ،
والقدر الذي لا يخطئ ، والسكون..... ثم ينتقل وكأنه فطن إلى عمق ماساته - إلى
تساؤلات عن سبب غيبة الأب ، فيبدأ كل سؤال : " ما الذي.....؟ " " لمَ ....؟ "
في تكرار بداية -
ANAPHORE
يثير كوامن الحزن .
وإزاء لإغراق في وصف الأب عند نزار فـإننا نجد صفات الأب هنا بصورة إيحائية ، فهو
محبوب من مجتمعه ، ورفاق قبلوه خاشعين ، وهو عطوف على أولاده يداعبهم ويناغي
تارة رأسي وطورًا منكبي ، وهو عنوان العائلة ، وهم كالقطيع غاب راعيه وطالت
رحلته ، وهو قوي البنية .... وأبي يثني ذراعه كهر قل ، وهو فقير ، وجلسنا
نأكل الخبز المقدود .
ومن ملامح الواقعية في القصيدة أنه يذكر والده في مواقف بعينها :
" جنت الريح على نافذتي
وفي مسائي فتذكرت أبي
وشكت أمي من علتها
ذات فجر ، فتذكرت أبي
عض الكلب أخي ...
وهو في الحقل يقود الماشية
فبكينا
حين نادى
يا أبي !!! "
وإذا كان شوقي وقباني قد اعتبرا أنفسهما جزءًا من الأب وصورة له فـإن عبد
الصبور يعبر عن ذلك بطريقة أخرى وبواقعية تصويرية :
" ثم جمعت حياتي
وهي بعض من أبي "
ويصف عبد الصبور جو القتامــة من بعد أبيه ، فهو يراه بين الضباب :
" ونرى طلعته بين الضباب
وأرى الموت فـــاعوي يا أبي "
ولفظة (أعوي ) و " صرير الباب " في "صوت كئيب " فيها تماثل وهذه القتامة ، وتتميز قصيدة عبد الصبور ( القصصية ) بالإضافة إلى شعبيتها وصدق تجربتها بالتكرار الذي تردد على الكثير من مقاطعها ، وخاصة ما يتعلق بالنعي أو بالجو المتلبد الذي صاحب النعي ، وفي قوله المعبر ( إنه مات ) تكرار يلائم المضمون .....وهو نابع من الشك أن الموت فعلاً قد وقع ....وحالة الذهول ساقته إلى التكرار غير المفتعل والمعبر عن إنسانية مرهفة .
* * *
وتقع قصيدة سميح القاسم في ستة مساقات ( انظر
GRATA NON
PERSONA
ص
42 - 48 ) تارة يكتب شعر التفعيلة ، وطورًا يلتزم الشعر العمودي ، وفي هذا
التراوح توزيع لآهاته ، وتنفيس عن لواعج ذاتية مضطربة .ففي المساق الأول يبدأ
القول :
" كبرت
وصرت
من الأهل في منزل الحزن "
يفضي لنا الشاعر بسرائره فقد تغيرت ملامحه ، وصوته ترهل ، وضاقت خطاه ..هرم..
وغام وصاحب تغير ملامحه تغير في طبائع الأشياء - فقد العشب من نضارته ، وتلون
الصبح بالصفرة والورد بالغبرة ، وقد تغيرت ملامح الأفق والشمس .
وفي المساق الثاني يلجأ إلى البحر الخفيف بقافية مقيدة :
كان قبري فكيف أصبح قبرك
وهو سري أم أنه كان سرك
يا أبي والدي أبوي ويابا
فيك وحدت والردى فيك أشرك
ولا يخفى أن البيت الأول يلامس بيت شوقي الذي ورد سابقًا ، لكن الأصوات المجسمة
لنداء الأب وبكل نغمة ولغة تضفي جوًا مأساويًا ، كما تتميز هذه المفارقة الحادة
بين التوحيد والشرك على عمق الصورة النابعة من عقيدة التوحيد الدرزية - ( سري ،
وحّدت ) .
إن الشاعر يشتهي أن يسمع نداء أبيه العذب ( يا ابني ! ) ليجبه ( أمرك ).....
وهو أسوة بنزار وعبد الصبور لا يصدق بأنه غاب عنه :
" غبت عني ! هل غبت عني ؟ هذا
طيفك الحي بيننا يتحرك
لم تزل تملأ العبــاءة بيتي
من ترى يملأ العباءة غيرك (7)
وبالطبع فـإن الشاعرين رمزا من ورائها إلى هيبة الأب وديمومته.
وفي المساق الثالث يقول إن وجه أبيه السمح " قصارى الرضا" ، وإن همسة الطيبة غاية
الرزق ، والشاعر يكرر طريقة الأب في تحية الصباح ، وتشبّع الابن بجو الأبوية -
يبوس يديه...يلثم ردن عباءته المعشبة ( تعبير نزاري ) .....يملأ روحه برائحة البن
والتربة الطينية ....يملأ قلبه بحكمته السمحة المرعبة .....
يعود الشاعر ليؤكد أن أباه حي مثل جبل حيدر المتاخم لقريته ( الرامة ) ، بل هو أحلى
وأكبر وأعلى وأنضر .
وفي المساق الرابع يتوقف لدى زيتونة في قطعة أرض تابعة له ، ويخلع عليها طاقة
إنسانية مستقاة من شعور سميح بدوره ، فالزيتونة تهب الوجود لأمة العرب ، ونشرت
على الآفاق خضرتها ، وتفجرت نورًا مدى الحقب... عرفت الزيتونة ( وهي رمز بارز في
التراث الفلسطيني ) هذا الأب ، فعند زيارة الشاعر لها تعاجله بالسؤال ، أو هو
يعاجلها ( أين أبي ؟ ) وكأن الزيتونة والأب صنوان.
وفي المساق الخامس يحدثنا عن عواطفه إزاء " جسر روحه " ، يقول له :
" ساعتك الأوميغا استسلمت للزمان
قلبك في جسدي موضعه
أتفتح أبواب حزني
وتغمض عينيك عني
أبي لا تدعني ! "
ويحس الشاعر بطفولته وهو يتلهف إلى لمسة من يدي والده ، وهو يتشوق إليه ، ويكرر
" أبي لا تدعني !!" .
وفي المساق السادس يقول لنا إنه لم يَضع ( يعلق ) صور والده على الجدار ، لأنه
لا يعرف كيف يلاقي نظره.... وضحكة قلب الشاعر انتهت ، وأصبحت دمعة فوق تراب دثر
والده :
يا أبي ما زلت في منزلنا
ماثلا لم ننس حتى نذكرك
ومرة أخرى يعود الشاعر ليركز على كونه طفلاً ، وهي ( الموتيف ) في القصيدة :
" كم تماديت وكم باركتني
غافرا من قبل أن استغفرك
طفلك المتعب مشتاق فمن
يا أبي ، عن موعدي قد أخرك
وقصيدة سميح تشي عن وصف ذاتي لشخصيتــه هو ، فالأب صديقه ، وفارسه ، وإمامه ، وهو يجد في هذه الشخصية انعكاسًا لطموحاته الوطنية الأصـيلة . ولعل من الجدير أن أذكر أن الشاعر يربط باسم والده ( جبل حيدر ) و ( خلة القصب ) .... وعند شرح معنى اللفظين يلجأ إلى شاعرية التعبير مستمدة من واقعة الذي وصفه :
*جبل حيدر الذي يحمل الرامة على زنديه مثل طفلة ترفض النوم .
* خلة القصب - قطعة أرض تنبت زيتونًا وأجيالاً وتاريخًا .
وأخيرًا ، إن في هذه الوقفة عند قصيدة القاسم دليلاً على الزخم في المشاعر والحيوية ، وفيها تاكيدًا على أن الشعر الفلسطيني لم يكن في موقع ريادي بفضل القضية ومعاناتها فقط ، بل لأن الطاقة الشعرية هي التي أهلت بعض شعرائنا للدخول في محراب الشعر الرفيع .
ولا بد من التأكيد من خلا ل متابعة قصائد المحدثين أن هذا الشعر عبر عن عواطفنا الإنسانية بعمق وشفافية ، وبمضامين مصوغة بحيوية وألفة ، فإذا ترجمت هذه القصائد لأية لغة فـإنها لا تفقد حلاوتها وطلاوتها .... وفي ذلك نموذج على تناول موضوعات كثيرة قصر فيها الشعر القديم وجلّى فيها الشعر الحديث ، وفي ذلك عبرة لمن بقي في مكانه يرفض حداثة الشعر والتجديد في صياغته .
(1) - انتبه إلى قول الشاعر :
ولعمري ما العجز عندي إلا أن تبيت الرجال تبكي النساء
ومن العجيب كذلك أننا لا نكاد نجد شاعرًا تغزل في زوجه ، وكأن الغزل قاصر على
المحرمات فقط ، غير أن نعمات فؤاد في كتابها
( خصائص الشعر الحديث) ص 57 تورد أبيـــاتًا
ثلاثة لشاعر قديم.... وهي ليست أبياتًا موزونة تمامًا :
بينما نحن بالبلاكث فالقاع فالعيس تهوي هويا
إذ خطرت ذكراك على القلب وهنا فما استطعت مضيا
دعاني لك الشوق فقلت : لبيك وللحاديين حثا المطيا
(2) - رثى المتنبي جدته في قصيدة مشهورة مطلعها :
ألا لا أري الأحداث مدحًا ولا ذما
فما بطشها جهلاً ولا كفها حلما
لكن هذه القصيدة تعتبر فخرًا للشاعر ، وليست رثاء محضًا .
(3) - يقول العقاد في مقدمة هذا الديوان إن المرأة ( لم تعد قــينة مملوكة أو ربة
بيت أو شهوة ......) وجدير بالذكر أن نزار قباني كتب مرثية طويلة بعنوان (
بلقيس ) صدرت عن
منشورات نزار قباني ، بيروت -1982 ، وتتميز بمعانقتها للموقف الذي يعبر عنه الشاعر
من حرية المرأة خاصة ، وحرية الإنسان العربي وقيمته .
(4) - وازن و هذا البيت :
ويُسأل في الحوادث ذو صواب فهل ترك الجمال له صوابا
(5) - يلاحظ القارئ أن في الشعر خطأ لغوياً - هو استعمال ( أخوين ) والصواب (
أخوان ) .ٍ
(6) - لحافظ إبراهيم قصيدة أخرى في رثاء أبي شادي الأب :
ديوان حافظ ، ج2
، ص 217 .
(7) - لأدونيس قصيدة بعنوان ( العباءة ) في مجموعة (
قصائد أولى ) يقول
فيها:
في بيتنا عباءة فصلها
عمر أبي
خيطها بالتعب
..............
ألمح في ثقوبها
ذراعه المحتضنة .
...............................................................................................................................................................

محمد الفيتوري شاعر سوداني من سلالة زنجية ( 1930 - ) ، وهو من رواد الشعر الحر ، وقد واصل العطاء الأدبي بهمة لا تكل – ولو أنه يكتنفها بين الفينة والفينة بعض الغياب - .
وقد قرأت له مقالاً منشورًا في مجلة ( الدستور – لندن ) عدد 3 أكتوبر 1989 ص 64 – بعنوان " تجربتي في الشعر" .
أسعفتني ذاكرتي على التو بمقال آخر له - بعنوان " تجربتي الشعرية " ، وكان قد نشر في مجلة الآداب البيروتية – عدد آذار 1966 ص 9 (1) .
ارتأيت ضرورة الدراسة المقارنة حتى نتوصل إلى فهم مدى التجربة - رغم مرور ما يناهز ربع قرن على نشر المقال الأول - ، وذلك لدراسة التغاير / التباين الذي جرى في تفكير شاعر يمثل وجهًا بارزًا من وجوه حركتنا الأدبية العربية .
ويعنينا في هذه الدراسة أيضًا ذكر المؤتلف والمختلف في حديثه ، من باب موازنة الشاعر مع نفسه قبل موازنته مع سواه .
والعنوان ( تجربتي الشعرية ) فيه اختلاف يسير عن العنوان ( تجربتي في الشعر ) ، فالأول هو ممارسة وتطبيق ، والثاني هو معرفة حول الموضوع وفيه ، تمامًا كأن تقول " تجربتي الدينية " و " تجربتي في الدين " .
وعنوان ( الآداب ) أتاح للشاعر أن يحدثنا عن طفولتـــه ، ومنابع ثقافته ، وكيف يدرس سيرة عنترة بن شداد ، لأنه عربي أسود مثله ، وقد عرفنا على عناصر الحزن والغربة وشكوى زمنه الغادر ورثاء شبابه الغض :
فقير أجل ودميم دميم ..
بلون الشقاء بلون الغيوم
يسير فتسخر منه الوجوه ..
وتسخر حتى وجوه الهموم
ولكنه أبدًا حالم ....
وفي قلبه يقظات النجوم .....
ويحدثنا كيف أنه فرح بقصيدة ( المواكب ) الجبرانية كالأطفال ، وضمها إلى صدره ، وأخذ يتعبدها بخشوع . وقد تعرف إلى بودلير ، واهتم به اهتمامًا خاصًا ، وببطلة أزهار الشر – جان ديفال ، فأحس أنه ينتمي إليها بصلة ما ، وذلك لكون البطلة سوداء البشرة .
وننتــقل إلى الثوابت التي بقيت في خلد الشاعر ورؤيته النقدية في ( الآداب ) ، وذلك من خلال الموقف من الشعر :
" الشعر يتشكل وفقًا لقوانين خاصة تفرضها مجموعة الظروف والعلاقات الاجتماعية التاريخية المحيطة بصاحبها " .
وهذا الفهم الماركسي يعود الشاعر إليه ، فيؤكد في ( الدستور ) :
" إن الشاعر هو ابن بيئته ومجتمعه الذي ينتج من التفاعلات السياسية والاقتصادية والثقافية " .
وفي المقولتين هاتين وعي بحقيقة الأوضاع الاجتماعية ، وإدراك المتناقضات - وهو ما يدعى بالمادية الديالكتيكية في لغة ماركس ، وتبعًا ذلك فهم الفيتوري أن الشعر هو موقف " وليس هناك شعر حقيقي دون موقف اجتماعي " - ( الدستور ) . والطائر الملتزم بسربه هي صورة الشاعر حسب تصوره ، أما أولئك الذين انفردوا عن مسيرة السرب فله رأي ثابت نحوهم ، يقول أولاً - " إن الشاعر بغير العوامل الثقافية والمؤثرات التي تحرك التاريخ يعزل نفسه عن حركة الحياة ، وكثير من الشعراء ماتوا لأنهم ظلوا داخل قواقعهم الذاتية - ماتوا لأنهم ظلوا بعيدين عن الشمس والهواء " .
ويقول ثانية :
" فلا شك أن مواقفهم تلك إنما هي حصيلة انطوائهم على أنفسهم أو انتمائهم الضيق للفئات أو القوى الاجتماعية التي ينتمون إليها ، أو ربما خضوعهم لمغريات ومصالح أنانية انحرفت بهم عن أداء رسالة الشعر " ( الدستور ) .
ومن ناحية ثانية يشترك فيتوري اليوم مع فيتوري أمس بالتأكيد على موسيقا شعره :
" لقد ورثت إيقاعات الطبول وارتجافات الدفوف ودقات النحاس " – ( الآداب ) ،
و " إن لدي صدى موروثًا من مستوى الإيقاع " – ( الدستور ).
وهذا الرصيد لا يستطيع اختياره وفق هواه ، فإيقاعاته مفروضة عليه لا تتـشكل ، أو تلبس جسدها الإيقاعي الذي يفرض ذاته عليها .
أما التمايز أو التباين فيتركز أولاً في ( الآداب ) على أنه منتم إلى أفريقيا بالدرجة الأولى : كانت أفريقيا بالدرجة الأولى اعترافه وهويته :
من الذي يطلب مني أن أكون غير ما أنا عليه
الأن وجهي أسود
ولأن وجهك أبيض
سميتني عبدا ؟؟!
لقد كان يحس أنه جزء من أفريقيا كلها ( لاحظ كيف وصف الموسيقا آنفًا في جو إفريقي محض ) ، كان يتصور أنه يتحدث إليها جميعها - بعراياها وجياعها وحفاتها وأكواخها القذرة ومستنقعاتها الملوثة ، وكان يسأل :
" كيف كان يمكن أن يصل إليهم صوتي " ، وكان يشعر أنه واحد من مجموعة شعراء : سيزار ، ليوبولد سنغور ، دافيد ديوب..... " ، و " هل لأني أكتب باللغة العربية يجب أن أنفصل عن ترابي عن ذاتي ؟.... إنني لا أومن بوجود أي تناقض بين أسلوبي كعربي ورؤيتي كإفريقي – " ( 2 ) .
هذه الرؤية الإفريقية أضحت في مقاله الأخير رؤية عربية صافية ، فهو إنسان يتحرك راضيًا أو مكرهــًا ضمن دوائر هذا الخراب الهائل الذي تعيشه أمتنا العربية " .
وبرغم أنه اعترف في مقاله الأخير بالأحلام التي كانت تراوده هو وأبناء جيله ، إلا أن المشترك بين الرؤيتين - الأفريقية والعربية – كما أتصورها – يتعلق بالخواء وانعدام الحرية ، والقيود في الأرجل ، والسلاسل في الشفاه ....
يحدثنا الشاعر اليوم كيف " تكرس عجز الجيل العربي الحاكم عن قبول التحدي وإمكانية المواجهة " ، وذلك في هزيمة 1967 . وفي السبعينيات " أمكن للخيانة وحدها ولروح الهزيمة أن تسود الساحة، وان تشق لها طريقًـًـا متعـرجة عبر النضال المسدود . ومع تتابع حلقات سلسلة النماذج أو المواقف المفزعة تستفحل ظواهر عقمنا الفكري والسياسي ، ويزداد الواقع العربي ضعفًا وفسادًا بانتظار قدوم الثورة الاجتماعية " . ( 3 )
وبينما كان نقاشه مع محمود أمين العالم كما أشار إليه في ( الآداب ) حول الدفاع عن أفريقية ، وهل كان الصراع لونيًا أم ماهيًا – " بين المستعمر والمستعمر والمستغل والمستغل فـإن مثل هذا النقاش غير قائم الآن ، وكأنه أصبح من المسلّمات ، وأصبح ما يزعجه اليوم ويؤلمه أن - " كل مظاهر مسخ معالم الوعي والإرادة في شخصا نية الإنسان - كل إنسان " .
ويعترف الشاعر اليوم أنه قديمًا كان يتفجر بالمعاناة طامحًا لتجسيدها بغض النظر عن الكيفية التي تنصب فيها تلك المعاني ( الدستور ) ، ولكن ذلك لم يذكر في ( الآداب ) ، وإنما ألمح إليه في مقدمة ديوانه ، فيقول :
" إن عملية الخلق الفني عملية خفية - إذا صح هذا التعبير - ، إنها حالة انشطار الإنسان شطرين - حالة صراع داخلية ، يسقط ضحية لها في أغلب الأحيان وجود الفنان الصناعي الخارجي ليرتفع فوق أشلائه ذلك الوجود الحقيقي الآخر الكامن أبدًا فيه " ، إلا أن الرعشة المقدسة التي تأخذ الفنان حينذاك يستحيل التعبير عنها إلا ضمنًا .....ضمن هذا النسيج النفسي الفكري الموسيقي الذي يسمى بالقصيدة الشعرية " - ( ديوان الفيتوري ج1 ، ص 32-31 ) .
أما اليوم فـإنه لا يعترف بهذا الجو الإلهامي ، بل هو يخطط ويعد قائمة نفسية بما يريد أن يقوله :
" ....أصنع البذرة عن سابق وعي ( سواء كانت سياسية أو اجتماعية ) ، ثم أنتظر بعض الوقت حتى تزدهر فيّ ، كما في باطن الأرض لتبدأ تتشقق في داخلي ، وتشقني في نفس الوقت ، ثم تبرز شيئًا فشيئًا حتى تأخذ شكلها الخارجي الذي سوف تواجه به الآخرين " - ( الدستور ).
كان هدفه في مقتبل عمره أن يطهر نفسه مما ورثه عن أبيه ، لأنه أراد أن يخلص إلى الواقع كإنسان في هذا العصر .
أما هدفه اليوم فهو التخلص من ظروف التخلف التاريخية التي ما زال يعاني منها الإنسان العربي المعاصر ( الدستور ).
وهذا الاختلاف هنا وهناك في موقف الشاعر ورؤيته يبرره الفيتوري وبحق :
إنني مجمل المعاناة الإبداعية ، والتجارب الفنية تكتسب كل مرحلة قيمتها بأن تضعها ضمن شروطها الزمانية والمكانية " - ( الدستور ).
ولعل في هذه المقالة استيعابًا لقول برجسون : " ما من أحد كالشاعر يحس الزمان " .
أما أسلوب الكتابة في النصين فهو جدير بالوقوف عنده :
ففي النص الأول كان أسلوبه على غرار أسلوب طه حسين ، من حيث السرد بلغة الغائب ، بل في استعماله لفظة ( الفتى ) عينها ، لكنه كان ينتقل من موضوع إلى موضوع دون ترابط ضروري ، وكأنه يجيب عن أسئلة معينة حددتها هيئة التحرير ، ثم حذفت الأسئلة المطروحة . ( 4 )
أما النص الثاني فهو مقسم إلى خمس فقرات رئيسية تتلاحق في تصويرها لرؤيته الشعرية ، وهي متماسكة تبدأ من نقطة يركز عليها ، لينتهي بها من خلال موقف واضح ورؤية متألمة لواقع ممض .
الهوامش :
1 - أعيد معظم هذا المقال في مقدمة ديوان الفيتوري – المجلد الأول بعنوان " حول تجربتي الشعرية " أرخ سنة 1970 ، وصدر هذا الديوان عن دار العودة بيروت – 1972 ، وسأشير إلى هذه المقدمة في حالة الضرورة .
2 - من الطريف أن اذكر أن هذا الإحساس الحاد في إفريقية لم يسجله في المقدمة ( ديوان الفيتوري ) .
3 - وتتمة الاقتباس :
" و الشاعر العربي العظيم " ، وهذا الانتظار يوحي بأن الشاعر هو المهدي المنتظر، وقد ورد مثل هذا الافتقاد عند أكثر من شاعر- أذكر منهم محمود درويش حيث يقول :
" فلا يستطيع الشاعر الفرد أن يوقع على هذا النص الساخن المفتوح بلا حدود ، وعلينا أن ننتظر لعل شاعرًا ما يكتب في هذه اللحظة قصيدتنا الجديدة " ( الكرمل – قبرص العدد 33 / 1989 ص 167 ) .
4 - أجرى الكاتب تغييرات على مقاله المنشور في ( الآداب ) ، وظهرت هذه التغييرات في مقدمة الديوان ج 1 ، وكان ثمة ترابط أقوى في مباني الجمل ، وخاصة في المقدمة ، وقد لاحظت أن النقلات هادئة ، وليست طفرات متسارعة .
وجدير بالذكر أن الشاعر تطرق في هذه المقدمة إلى تجربته الصوفية ، حيث لم يرد ذكر هذه التجربة في
( الآداب ) و ( الدستور) ، ويهمنا تأكيد على كونه الصوفي الثوري ، وليس الصوفي الذي تعبث به الأحلام ( ص35 ) .
..............................................................................................................................................................

( أبو خضرة ، فهد : دراسات في الشعر والعروض _( 1 ) ، مكتبة الجيل ، كفر ياسيف – 1989 ، وقد طبع الكتاب طبعة ثانية : مطبعة النهضة ، الناصرة – 2004 ، وهذه الدراسة تعتمد الطبعة الأولى من الكتاب ) .
يضم
هذا الكتاب بين دفتيه سبع دراسات نقدية وبحثية ، اثنتان منها في مفهوم الحداثة ،
وثلاث حول الشعر المحلي ( أدمون شحادة ، فوزي عبد الله ، وجمال قعوار ) ، ودراسة
عن قصيدة قديمة ( تأبط شرًا ) ، وأخرى في العروض العربي .
وهذه الموضوعات لا ينظمها سلك واحد ، سواء من حيث المضمون ، أو من حيث الاتجاه ،
فتارة نحن أمام نقد ووجهة نظر ، وطورًا نحن أمام بحث مستفيض ينطلق من بؤرة ليشع
على جوانب متفرقة لها علاقة ما بمركز انطلاقها .
ففي المقال الأول ( مفهوم الحداثة في الشعر العربي المعاصر ) يتبين لنا أن هذا
المقال ما هو إلا محاضرة ، وعندما أعيد نشرها لم يحاول الكاتب توثيقها والإحالة
إلى بعض إشاراتها .
يقول الكاتب :
* الحداثة- في الشعر العربي المعاصر مصطلح استعمل منذ أو آخر الخمسينيات من هذا
القرن ، وما زال يستعمل كمقابل للمصطلح
modernity
( ص 1 من الطبعة الأولى )
* وقال بعض الدارسين إن الحداثة ثورة على نفسها
( ص 8 )
* ومن الجدير بالذكر أن عددًا من الدارسين وقرائهم قد رأوا في مقاومة هذه الحداثة
واجبًا قوميًا ، وذلك بسبب موقفها من التراث
( ص 10 )
* وقد وُصفت ( الحداثة ) خلال ذلك بالعبث والفوضى والتخريب والتزوير والجنون
والضحالة والركاكة والعدمية ( ص 15 )
* وشعراء الحداثة في أوروبا عامة وفي روسيا خاصة وجهت إليهم تهم عديدة
( حاشية في ص 15 )
وهذه
الأقوال التي ساقها الكاتب فيها خطورة ، ويطغى عليها التعميم الذي يطلقه ، ونحن
أحوج ما نكون لمعرفة قائليها ، وكيفية سياقاتها ، بل إن بعض آرائه بحاجة إلى بحث
مستقل - كقوله عن محاولات تعديل مسار التراث في شعر الحداثة بأنه :
تغير جذري شامل لا يكاد يبقى من المسار شيئا . ( ص 9 ) .
ثم إن الكاتب يعمد إلى تقسيمات وتعريفات يقترحها : فالشعر الجديد يشترط أن يختلف
عما كان سائدًا قبله ، دون أن يصل إلى قطع الصلة مع ما سبقه من توجّهات ( ص 2 ) ؛
وشعر الحداثة هو تجاوز لكل ما سبقه من توجهات ( ص 7 ) ، وهو ثورة مستمرة على كل ما
هو قائم أو مألوف من المفاهيم والمقاييس والنظم والأشكال .
والشعر الحديث يُخصص للناحية الزمنية ، على أن يكون الحديث للفترة القريبة منا ،
ويمكن أن نحددها بثلاثة عقود .
والشعر الحر هو الذي لا يتقيد بأي وزن أو قافية ، ووجه الإشكال يتركز أولاً على
تحديد القصيدة وتصنيفها ( ص 7 ) .
من هنا فإني أسأل :
أين وفي أي خانة نضع قصيدة ما لصلاح عبد الصبور أو الماغوط ؟
بل أين تقع قصيدة أدمون شحادة ( الشهاب ) التي أعجب بها الكاتب لما فيها من
علاقات متشابكة بين الرؤيا والبنية والأسلوب ؟ وهل هي ضمن شعر الحداثة أم لا ؟
ثم إن مصطلح الشعر الحر الذي ابتدعته نازك الملائكة معادلاً للمصطلح
vers irre`gulier
هو المصطلح السائد ، ونحن لا
تهمنا صحة المصطلح بقدر ما يهمنا شيوعه وتواصليته ، علمًا بأن محاولات التسمية على
نحو : الشعر الجديد ، شعر التفعيلة ، الشعر المنطلق ، شعر الشكل الجديد ( انظر
مثلا كتاب النويهي – قضية الشعر الجديد ص 453 ) لا تؤدي إلا إلى الخلط
والارتباك .
وفي تصوري أن هذا التعبير ( الشعر الحر) هو الشائع عند الأكثرية الساحقة من
نقاد الأدب العربي الحديث ، ولم يبق إلا أن نجتهد في تبريره ، فالشاعر حر في توزيع
التفاعيل في السطر الواحد، وهو حر في اختيار القافية .... والحرية – كما نعلم – لها
قيود ، وقيود حرية الشاعر تتأتى في الوزن والبحر الذي تسبح فيه تفاعيله .
أما عن مصطلح ( شعر الحداثة ) فيجدر بنا ذكر رأي أدونيس فيه - من خلال بيان
الحداثة
( انظر فاتحة لنهايات القرن ، دار العودة بيروت – 1980 ص 313 ) ، حيث
بين الأوهام التي تتداولها الأوساط الشعرية حول الحداثة :
منها الزمنية - إذ يجب ألا نربط الحداثة بعصر ، فالحداثة خصيصة تكمن في
بنية ذاتها ، فهو يرى في شعر أبي تمام حداثة لا تتوفر عند نازك .
والوهم الثاني الذي يعمد إليه البعض هو المغايرة ، وهذه نظرة آلية ، تقوم
على فكرة إنتاج النقيض.
والوهم الثالث هو وهم المماثلة ، ففي رأيهم أن الغرب هو مصدر الحداثة ،
وهم ينعون على الشعر العربي تخلفه ، ولذلك يجب أن تكون الحداثة كتابة الذات
الواقعية الحية .
والوهم الرابع هو التشكيل النثري ، حيث لا تكون قصيدة النثر بالضرورة شعر
حداثة ، كما لا يكون الشعر الموزون بالضرورة خارجًا عنها ، فينبغي على القارئ /
الناقد إذن أن يواجه في تقييم شاعر ما ثلاثة مستويات : مستوى النظرة أو الرؤيا ،
مستوى بنية التعبير ، ومستوى اللغة الشعرية .
ويصل أدونيس في نهاية بيانه إلى القول :
ينبغي التأسيس لمرحلة جديدة : نقد الحداثة ، فالحداثة انتقال نحو سمة - رؤية ما
، حساسية ، تشكيل ما - ليست الغاية ، وليست في حد ذاتها ، ولذاتها قيمة بالضرورة
.الأساسي هو الإبداع من أجل مزيد من الإضاءة... من الكشف عن الإنسان والعالم .
والإبداع لا عمر له لا يشيخ ، لذلك لا يقيم الشعر بحداثته بل بإبداعه ، إذ ليست كل
حداثة إبداعًا ، أما الإبداع فهو أبديًا حديث . ( ن . م – ص 340 ، وانظر كذلك
يوسف الخال : مفهوم القصيدة الحديثة ، الحداثة في الشعر ، دار الطليعة ،
بيروت – 1978 ، ص 18 ) .
نخلص
إلى القول إن الكاتب كلف نفسه ...، وذهب إلى تحديد مصطلحات تناولتها الأقلام
واعتادها الأدب ، بل إن مفهومي ( الحديث ) و ( الحداثة ) يتناوبان بشكل متطابق ،
وهذا ما تجيزه العربية ، فما الفرق بين قولنا ( شعر الجاهليين ) و ( الشعر الجاهلي
) ؟ وكذلك
( شعر الحداثيين ) و( الشعر الحديث ) ؟
* * *
وفي الدراسة الثانية : الإغراب في الشعر الحديث يقف الشاعر موقف المعارض لشعر الحداثة ( لاحظ انه استعمل المصطلح الشعر الحديث في العنوان ) ، ويستشهد بنموذج شعري لتيريز عواد ، ويعلق على التشبيهات فيه أنه لا يُقصد بها كلها إلا الإغراب ، وإلا فما هو الإبداع الذي تحققه ؟ وما هو الإيحاء الذي تثيره ؟
ويعيد مثل هذا التساؤل في مكان آخر ، ولا أظن أبدًا أن في مثل هذا اللعب تعميقًا
.( ص 29 ) ؛ ويقول عن شعر أنسي الحاج ولا نجد إلا حلمًا فقد عفويته ص (19
)..... ومثل هذه الجمل هي آراء ذاتية يسوقها الكاتب - ناسيًا أن لغيره مقاييسه
وأدواته التي ينظر بواسطتها إلى الشعر ، وهذا لن يشفع له أن يقف موقفًا عدائيًا من
مادة لم نسبر غورها - ربما بسبب النفور منها ، أو بسبب ظروف لم تتصاف
والقصيدة..... فجمال الشعر يتأتى من خاصية بقائه مفتوحًا نغالبه ويغالبنا ، وليس
شرطًا أن نلج الباب إلى عالم الدهشة ، أو عالم الحلم الذي فقد عفويته .
ويستشهد الكاتب بخالدة سعيد التي تعلق على شعر أنسي الحاج بقولها :
ولذلك استطاع أن يحفظ للإحساس والفكر تشوشه وطبيعته .... ، فيستنتج الكاتب أن
الناقدة تعترف بان هذه الصور تعكس تشوش الفكر والإحساس ، وبالطبع فـإن الفرق بين
المعنيين واضح ، فخالدة أكدت على صدق التجربة ، بدليل حرصها على كلمة ( يحفظ )
، بينما فهم الكاتب المعنى بصورة سلبية تخدم غرضه .
وقد حدث مثل هذا الفهم غير الدقيق قي تفسير قول خالدة :
وعندما يسقط الشاعر عالمه الداخلي على هذه الأشياء يقدم لنا صدى التجربة أو طيفًا
لها - لا فعلها الأصلي ، وإن كانت تأتي أزهى وأكثر لمعانًا وأسهل إدراكًا
وتقبلاً ....
فقد فهم الكاتب قولها بصورة ميكانيكية : ، وكأن خالدة تعترف بأن الصور الغامضة
تأتي أقل لمعانًا وأصعب إدراكًا وثقلاً من الصور العادية ذات العلائق الخارجية ،
ناسيًا أن الناقدة تقف موقفا إيجابيًا من شعر أنسي الحاج.
ويبدو أن معالم الحداثة – حسب تصور الكاتب – كما هي في الغرب مقبولة عنده ، بديل
أنه يقبل في بعض الأحيان الأسس النظرية التي تستند إليها هذه المظاهر ، ولكنه
يتابع – إننا
( ؟ ) لا يمكن أن نقبل مثل هذا التطبيق الذي أشرنا إليه ( ص 30 ) .
ومع ما في هذه الجملة من فضفاضية يحضرني مثل هذا السؤال : كيف تقع أشعار كمنجز
cummings
( 1962 – 1894 ) في مقاساته ؟
ولن أسوق له عشرات الأسماء عربًا وغير عرب ، لأطلب منه عملية فصل في النظرية
والتطبيق .
إن الشعر اليوم – سواء كان عربيًا أم غربيًا – فيه جموح وانطلاق ، تبعًا لطاقة
الشاعر وإبداعاته ، وما لا أفهمه وأعيه قد يفهمه الآخرون - حتى وإن قل عديدهم .
ويورد الكاتب رأيًا أو موقفــًا فيه جدة الطرح (2) ، رغم ما فيه من مزا
لق .
يقول :
وإذا عدنا إلى الشعر الحديث ( ؟ ) ، وتعمقنا النظر إلى ما فيه من إغراب ،
وجدناه لا يختلف كثيرا في حقيقته عما ساد في القرن الرابع الهجري وفي ما تلاه من
قرون الفرق الأساسي بيننا وبينهم - أن معظم اللعب عندهم كان لفظيًا ، في حين أن
معظم اللعب عندنا يقع ذهنيًا ( ص 31 – 32 ) .
ووجه الموازنة غريب إذا تأكدنا كون اللعب الواقع في الذهن هو إحياء وتعمق وتصور
وإدراك وتفتيح للقدرة العقلية ، بينما اللعب الشكلي هو لفظي خارجي قشرة ، ليس
غير .
* * *
وفي دراسة لقصيدة الشهاب
لأدمون شحادة يبني الكاتب دراسته للقصيدة على المقطع الأول – حسب تقسيمه – الذي
يعكس صورة الماضي ( ص 34 ) ، وهذا المقطع هو:
يمتطي الفرسان خيل الباديه
كشهاب يمتطي غيم السماء
ولا أدري ما الذي ساقه إلى الماضي غير كلمة ( الفرسان ) كدلالة ماضوية بيئية ، مع
أن هذا المعنى هو حضاري / مستقبلي نابع من واقع معين يسلمه الشاعر سياسيًا ووجوديًا
، وقد أوهم الكاتب نفسه بزمن مفروض بنى عليه ، فأخذ يسوّغ استعمال المضارع بأنه
يعطي للحدث بعدًا دراميًا عنيــفًا ( ؟؟) إذ يضعه في منطقة تجاذب مستمر بين الزمن
المنطقي المفروض ( الماضي ) والزمن الأدبي المستعمل ( صيغة المضارع ) - ص 37 .
وثمة أحكام وتقريرات أخرى بحاجة إلى توضيح ، كقول الكاتب :
علينا أن نلاحظ هنا أن الشاعر لم يراع بذلك أصول البلاغة العربية القديمة (
حاشية ص 35 ) ، وهو بذلك ينكر وجود تشبيه على غرار تشبيه الفرسان بالشهاب في
البلاغة العربية القديمة . ومهما يكن من أمر فـإن مثل هذه الجملة بحاجة إلى تحديد
ودقة .
ويكرر الكاتب جملة تتردد كثيرًا في الدراسات اللغوية في الأدب ، وهي على نسق :
لا نستطيع حذف أو إضافة أو تغيير أية كلمة .
والكاتب يستعمل مثل هذه المقولة عن قصيدة أدمون لا يمكن أن تحذف منها أو تضاف أية
كلمة دون أن تشوه الصورة تشويهًا .......
ولن أقوم هنا بتمرين لأغير هنا وهناك ، فقد يكون الأمر افتعالاً واقتسارًا ، ولكن
محاولاتي –التي لن أسوقها هنا – أقنعتني بأن حكم الكاتب كان فيه مبالغة .
وقد يكون الافتعال في بعض الدراسات اللغوية يتبدى في التركيز بشكل مغالى فيه على
تسبيق كلمة وتأخير أخرى ، ففي تكرار يمتطي في المقطع الأول من قصيدة أدمون يشرح
الكاتب - لماذا تقدم الفعل في السطر الأول ، وتأخر قليلاً في الثاني ، وذلك حتى
لا يوحي بالجمود ، وقد آثر الشاعر أن يكون الانتظام مطلقًا ( ص36 ) .
ثم يعمد الكاتب إلى تصنيع لتفسير الصورة الوصفية ، فيشرح( كشهاب يمتطي غيم السماء
) بأن غيم السماء يوحي بالمطر رمز الخصوبة والنماء وتجدد الحياة (انظر أيضًا
ملاحظة 2 ص 47 ) علمًا بأن التشبيه البائن - هو أن الشهاب المضيء ينشق عن ظلمة
وسواد ووضعية حالكة ، حتى يظهر أثر الإضاءة أسطع على خلفية معتمة .
* * *
وفي دراسة الملامح الرمزية في شعر جمال قعوار يتصور الشاعر أن التشبيهات
العادية هي رموز ، وهذا التقديم لم يكن أساسيًا في حساب المدرسة الرمزية - كما
تعارف عليها النقاد ( انظر إيليا حاوي : الرمز والسريالية في الشعر الغربي والعربي
، محمد فتوح أحمد : الرمز والرمزية في الشعر المعاصر ) ، فسمة الرمز الجوهرية وما
يعطينا معناها الرمزي إنما يتمثل في الأسلوب كله - أي طريقة التعبير التي
استخدمت هذه الصورة ، وحملتها معناها الرمزي ، ومن ثم فـإن علاقة الصورة بالرمز من
هذه الناحية أقرب إلى علاقة الجزء بالكل ، أو هي علاقة الصورة البسيطة بالبناء
الصوري المركب الذي تـنـبع قيمته الإيحائية من الإيقاع والأسلوب معًا ( انظر عدنان
الذهبي: سيكولوجية الرمزية مجلة علم النفس – مجلد 4 العدد 3 – 1949 ص 365 ) .
أما قول جمال :
وذبحت للغربال أغنيتي لما التوت في وجه تيار
يا ضائعًا في قلب زوبعة لا موطــن فيها لأحرار
..............................
ورميتها بين الكلاب على تابوت أفكاري وأشعاري
فهذه تشبيهات واستعارات وصور بيانية لم تصل إلى مفهوم الرمز إلا إذا كانت موتيفًا
متكررًا في القصيدة ، أو في قصائد سواها .
ثم كيف يجيز الباحث لنفسه دراسة أشعار لا يؤمن هو بكونها شعرًا ، فيقول :
سأعتبر هذا الديوان شعرا على سبيل
الاستثناء لا القاعدة ( ص64 ) ، لكنه ما يلبث أن يعود إلى مثل هذا الاستثناء ثانية
في تناوله لكتاب الفارس يترجل لفوزي عبد الله ( ص 48 ) ، وثالثة في تناوله قصيدتَي
جمال : ( حديث أم ) و ( الدروع ) - من ديوان أقمار في دروب الليل ( ص 67) ثم
يعود إلى رأيه ثانية ويمضي في التحليل ، وكأنه حقيقة ( ص 68 ) .
ومن التقريرات الحادة التي تفاجئ القارئ قوله عن مجموعة غبار السفر :
لا نستطيع أن نرى فيها أي مظهر من مظاهر الكسل الذهني الذي يدفع الشاعر إلى
الاعتماد على إنتاج السابقين باعتباره مادة جاهزة وفي متناول اليد ( ص66 ).
غير أن الكاتب كان موفقًا حيث توصل إلى أن كتابات جمال تنحرف انحرافًا حادًا
باتجاه السهولة التي تصل في بعض الأحيان إلى النثرية الكاملة ( ص 68 ) و هذه
النثرية تشكل خطرًا
حقيقيًا على شعره .
* * *
أما
دراسته عن الأدب القديم قراءة جديدة لقصيدة قديمة فيتناول فيها قصيدة لتأبط
شرًا ، وهي تتحدث عن محاولته للتخلص من بني لِحيان والهرب منهم عن طريق التزلج على
العسل الذي كان يشتاره - حسب الروايات الأدبية القديمة - ، أو على الصخر- حسب
الفهم الجديد للكاتب - ، وثمة ملاحظات لي على البحث أشير إليها :
* ليس هناك ضرورة لنفي قصة العسل ما دامت أساطير كثيرة ترافق قصص تأبط شرًا ، وما
دام هذا الغلو قائمًا في أشعار الصعاليك . ( انظر قصة لقائه الغول ، وقصص هجماته
على القبائل وحده ، وخبر مقتله - الأصفهاني : الأغاني ، ج 21 ، ص 144 –
198 ) .
على ضوء ذلك فلا ضرورة حتمية للمنطق والتعليل العقلاني في تحليل أشعار تعتمد أصلاً
على الإيقاع وعلى الغلو .
ويتطرق الكاتب إلى بيت القصيدة :
إذا المرء لم يحتل وقد جد جده أضاع وقاسى أمره وهو مدبر
فيبني استنتاجات هنا وهناك على اعتبار أن هذا البيت هو هو المطلع ، مستندًا بذلك
على روايتي التبريزي والمرزوقي للحماسة .
وهذا التيقن في شعر يمت إلى العصر الجاهلي وقبل التدوين غريب ، خاصة إذا علمنا أن
صاحب الأغاني يورد المطلع على أنه :
أقول للِــحيانَ وقد صفرتْ لهم وِطابي ويومي ضيق الجُحر مُعور
وليس
هذا المطلع بغريب على نسق الشعر القديم ، فالقصائد التي تبدأ : أقول و ... أكثر
من أن تحصى ، ولا يشفع للباحث أن يحترز وهو يقول :
إن الاعتماد على الأصفهاني وحده لا يكفي للخروج إلى على الرواية الشهيرة – ( ص 83
) ، وعلى إثر ذلك يرفض الباحث البيت الذي أضافه الأصفهاني ، ولا يعتبره جزءًا
من القصيدة ، والبيت هو :
فإنك لو قاسيت بالــلَّصبِ حيلتي بلقمان لم يقصر بي الدهر مقصر
وسبب دعواه في الرفض أن البيت يشوه خاتمة القصيدة كما رآها بوحدتها .
وهذا الفهم بحد ذاته فيه منطق معاصر ، ووعي مستحدث لمفهوم الوحدة العضوية ، وهو كما أرى ليس ضروريًا أن يُطبق تراجعيًا على الشعر القديم . فالشاعر الجاهلي كان يقدم وحدات معان ويؤخر أخرى ، وأية دراسة لرواية اللغة والشعر ( وحتى الحديث والقرآن )ستوصلنا إلى قراءات متباينة .
ولا
أدري كيف ولج الكاتب هنا إلى نقاش حول الوحدة الموضوعية ، وساق لنا آراء بلند
الحيدري ، وإبراهيم العريض مشيحًا بقلمه عن الحاتمي والجرجاني وابن رشيق وابن
طباطبا - وهم أحق أن نعتمد على مقاييسهم وتطلعات نقدهم .
وفي رواية البيت :
فأبت إلى فَهم وما كدت آئبًا وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
يورد
الكاتب رواية أخرى : وما كنت آئبًا ، ثم ما لبث أن أكد أن الرواية الأولى ( وما كدت
...) هي الأصح ، بسبب أنها تحوي خطأ لغويًا ، فيقول :
من المعروف أن القراءة الأصعب هي الأقدم ، فالمنطق يقول إن التغيير يتناول الشاذ
والمشكل ليجعله مألوفًا ، وليس العكس ...
وهذا المنطق لا أراه ، ذلك لأن الروايات – كما أشرت – تتباين وتتغير ، ولا ضرورة
لأن نزج أنفسنا في نقاش قد لا نصل فيه إلى إجابة مسوّغة ....ثم إن القول وما كدت
آئبًا ورد في شواهد الشعر القديم على اعتبار شذوذ في عمل ( كاد ) ، وبهذا قبل ابن
منظور هذه الرواية بمنطقه . ( انظر : لسان العرب - مادة كاد ) .
ويعترف الكاتب بان كلمة ( أصادي ) في قول الشاعر :
وأخرى أصادي النفس عنها وإنها لمورد حزم إن فعلت ومصدر
لها أكثر من تفسير : أداري ، أساتر ، أداري ، أعارض.... إلا أنه ما يلبث أن يقول :
ولا اعرف في اللغة العربية تعبيرًا آخر يمكن أن ينقل لنا هذا الموقف بشكل أدق وأتم
وأكثر اختصارًا من تعبيره هذا .
وبالطبع فـإن هذا الحكم فيه تمثل خاص للكاتب لطبيعة حركة الفعل من غير بيان له
وتأويل .
ولست أدري لماذا يخوض الكتاب في دراسة حول البحر والوزن والزحافات والعلل
وتكرار الحروف ما دام يعترف :
لا ينبغي من وراء هذا البحث في التجنيس الحرفي أن نحمّل النص ما ليس فيه ... ( ص 92
) ، ويقول كذلك :
ولكن البحث عن هذا الدور في كل مقطوعة أو قصيدة بأي ثمن يجعل الأمر مصطنعًا ...ولست
أرى في هذا النص الذي نحن بصدده أي مبرر للخوض في هذا الموضوع .
أضف إلى ذلك حكمه القاطع :
بالنسبة للقافية نستطيع أن نلاحظ بسهولة ائتلافها التام مع الوزن والمعنى- الأمر
الذي جعلها تبدو مستقرة في مكانها بعيدة عن أي قلق أو أي تكلف ( ص 92 ) .
وهذا الحكم فيه ذاتية قد لا تكون مقنعة بشكل أو بآخر ، وخاصة في القافيتين - معور
وتصفر ، بدليل أن الكلمة الأخيرة مثلا لها أكثر من معنى ( تجبن ، تخلو، تحزن ،
تتأسف ) .
أما دراسة الكاتب ( في العروض العربي ) فتحتاج إلى متابعة متأنية بسبب جرأة الأحكام فيها ، وقد أعود إليها في وقفة أخرى .
وتبقى تحيتي ومحبتي لنشاط أستاذنا الجم ولعطائه الذي لا يُنكر .
..............................................................................
1 - أبو خضرة ، فهد : دراسات في الشعر والعروض ، مكتبة الجيل ، كفر ياسيف – 1989 ، وقد طبع الكتاب طبعة ثانية : مطبعة النهضة ، الناصرة – 2004 ، وهذه الدراسة تعتمد الطبعة الأولى من الكتاب .
ملاحظة : سبق أن نُشرت الدراسات السبع في مجلات أدبية مختلفة ، وهذه الدراسات هي : مفهوم الحداثة في الشعر العربي المعاصر ، المواكب العدد ( 87- 1987 )
الإغراب في الشعر الحديث – الكرمل – أبحاث في اللغة والأدب العدد 2 ( 1981 )
الشهاب والرؤيا المستقبلية – الكرمل – أبحاث في اللغة والأدب 3 ( 1982 )
الفارس يترجل – الشرق عدد 2 ( 1981 )
الملامح الرمزية في شعر جمال قعوار – الكرمل - أبحاث في اللغة والأدب العدد 4 ( 1983 ) قراءة جديدة لقصيدة قديمة Arabica مجلد 35 ( 1988 )
في العروض العربي – الكرمل- أبحاث في اللغة والأدب العدد 7 ( 1986 ) .
2 - من الذين أشاروا إلى مثل
هذه الملاحظة عبد الجبار الشريف في مقاله الأصالة ومحاولة التجديد في الشعر ( مجلة
الشعر
( تونس ) العدد 5/ 1983 ص 93 ) ، وفيها يقول : لماذا تجنينا كل هذا التجني على
شعراء الفترة المظلمة . لقد أولع أولئك الناس – بحكم دوار عصرهم وتمزقهم وضياعهم
بزخرفة شكلية كانت تبدو لهم (جديدًا ) ، وقلد بعضهم بعضًا إلى حد قتل أنفسهم . لقد
عنوا بالطباق والجناس والمجاز والاستعارة بأنواعها ، ونعينا عليهم كل ذلك،وسمّينا
فترتهم ( مظلمة ) ....... ونقرأ شعرنا هذه الأيام : كم من قصيدة تكتب اليوم
لتعطينا أكثر من هذه الزخرفة اللفظية ؟؟ .
ومثل هذا انظر كتاب محمد حمود : الحداثة في الشعر المعاصر ، الشركة العلمية للكتاب – 1986 ص 350
................................................................................................................................................................................................................
هل جنى الأدب الجاهلي ؟
أحمد أمين عالم بحاثة نستشف إبداعه من خلال مطالعتنا لإسلامياته وفيض خاطره، بالإضافة إلى الكثير من البحوث الاجتماعية والأدبية التي استقصاها ملتزما الصدق الأدبي، فكان بذلك رائدًا أصيلاً من الرعيل الأول الذي فتح لنا باب الدراسة الجادة ودلنا على العلمية في المنهج.
وقد وقفت معجبًا بمقالة "جناية الأدب الجاهلي"- الجزء الثاني من فيض الخاطر- لما فيها من عرض واقعي ونقد منطقي وجرأة . ولكني تحفظت من بعض النقاط التي أثارها، وأتهيب من معارضته لما له من شخصية أدبية مرموقة. وإنصافًا لنفسي وله أوثر أن أسردها لما للموضوع من جدية ولو قَدُم.
يدعو احمد أمين في مقالة الآنف الذكر إلى نبذ الدب الجاهلي وجعله قصرًا على المتخصص، ذلك لأن هذه القدسية التي أضفيت عليه جعلت أدبنا لا يمثلنا على الوجه الذي نراه في آداب الأم الأخرى، فلقد كان التجديد في أوزان الشعر في العصر العباسي ضئيلاً ، وبحور الشعر وقوافيه كانت سببًا في نقص الشعر الملحمي في أدبنا، بالإضافة إلى ما تقحمه القوافي من معانٍ لم يقصد إليها الشاعر أساسًا. وهذه اللغة عند الشاعر العباسي لم تكن تحمل الشحنات العاطفية الصادقة - إذ ما معنى أن يظل حزينًا في حبه بينما الجواري والقيان في كل صوب؟ وكيف نقبل منه أن يذكر "الشيح والقيصوم" وحيوانات الصحراء وهو لا يألفها وربما لا يعرفها ؟
ثم ما معنى العودة إلى حكاية الأطلال التي ما أرانا نقول فيها إلا معادا من قولنا
مكرورا ، فرغم محاولة النواسي- الذي در دره – إلى رفض ذلك ، إلا أنه عاد ووقف
قاعدًا كما شاء . حتى حافظ إبراهيم في العصر الحديث كان يرثي الإمام محمد عبده
ويقول:
"قفا بي في عين شمس قفا بي".
ثم إن تشبيهات الشاعر الجاهلي كانت حسية مادية، يصف الحيوان بحيوان آخر، وسنام الجمل كالقصر وهكذا... فلماذا بقي العباس عند هذه التشبيهات، ولم يدرك التشبيه المجرد ، بل وصف سرعة الفرس بالبرق ، وشبه لمعان السيف بومض الكواكب؟- وكذلك نظر الجاهلي إلى المرأة كجسد ، ولم يدرك أنها مصدر وحي والهام ونفس بشرية ، فقال :
وَبَيْضَةِ خِدْرٍ لا يُرامُ خِباؤها
تمتعتُ من لهوٍ بها غير مُعجلِ
فلماذا تظل بعد ذلك عند الشاعر العباسي شهوة عارمة؟
والأمثال الجاهلية التي كانت في طبيعتها تميل إلى التركيب أكثر من التحليل، فقد كانت تمثل البدوي في صحرائه ، فما معنى أن تبقى عند العباسي بنصها؟ ولماذا يترجمون الأمثال والحكم اليونانية والهندية والفلسفة بما فيها من كفر أحيانًا، بينما يعزفون عن الشعر التراجيدي والكوميدي؟
ثم انه لم يكن في أدبنا ما يمكن أن يسمى "شعر الطبيعة" ، فما من شاعر وصف جمال الزهر والطيور والكواكب إلا لمامًا، وإذا ذكرنا ابن خفاجة فشعره بلا روح ، ويعتقد احمد أمين أن الأدب العربي كان سببًا رئيسيًا في تدهور المسلمين وانحطاط مجتمعهم- إذ أنه عندما بدأ السقوط كان من الواجب أن يقوم أدب تحليلي يضيف ما آل إليه المجتمع، ويناهض الفساد ويخلق المجتمع الثوري. أما ما كان وجرى فهو التزلف إلى القصر ، وخلع الأوصاف على السلطة ، فهذا كالشمس أو القمر أو البحر أو الأسد.....
ولا ينكر أحمد أمين دعوة أبي العلاء التي كانت في رأيه انصرافًا عن ملاذ الحياة وزهدًا لا إصلاحًا إيجابيًا بناء.
على ضوء ذلك يرى أحمد أمين أنه يجب أن نختار للقارئ العادي نماذج من الأدب الحديث، وآيات من القرآن الكريم الذي رفض مصطلحات الجاهلين ، وأن نجعل في متناول يديه قاموسًا فيه الكلمات الحديثة الحية ، لا الكلمات الميتة، ونعمل على تبسيط اللغة ، بحيث يستشعرها الطفل ، ويلتذ بها القارئ ، ونسمعها في المسرح لغة عذبة. ولا ضير إذا ترسمنا خطى الغربيين الذين قلدوا في مؤتنف الأمر وبواديه الأدبين اللاتيني واليوناني، فأضافوا إلى غذائهم ما يلائم معدهم ، وطرحوا النوى من الثمر.
ويرى أحمد أمين أيضًا أن ننزع عن لغتنا هالة القدسية التي تسوقنا إلى الجمود، فما دمنا نقول عن أدبنا إنه خير أدب ، فنحن نغالط أنفسنا، ويجب أن نحكّم الذوق في الشعر.
وبعد....
فلا يمكننا أن ننكر التجديد العظيم وعملية الخلق عند الكثير من الشعراء العباسيين ، هذا الإبداع الذي انطلق به بشار فنًا يعبر عن الحالة الفردية، وسار به أبو تمام الذي ابتكر المعنى غير المألوف والصورة الغامضة والعمق والجهد والتأمل في الشعر.
ومهما يكن لا ننكر ما كان من أبي نواس وأبي العلاء والمتنبي والبحتري وابن الرومي الذين جددوا الكثير- كل بطريقته ، وخلدوا بعد أن فرغوا من الشعر الجاهلي وهضموه جيدًا ، فالشعر يحيا بقوة الدفع الموروثة، والانفصال يقتل الشعر كما يقول أدونيس.
ولماذا نتهم القافية بأنها المسؤولة المباشرة لعدم وجود الشعر الملحمي؟ ألا يمكن أن
نفترض كما افترض الدكتور زكي مبارك أن سبب ذلك يعود إلى تعالي العرب عن هذا الأدب
وإيثارهم لشعرهم، فالجاحظ يذكر أن للعرب البيان، والفلسفة لليونان ، والحكمة
للهنود، فهل كانوا يعلمون أننا سنتلهف على هذه الآداب –ملهاة ومسلاة- ؟ وهل كانوا
يقيّمون الأمر بمنطلق اليوم؟
ونسأل : ترى هل كانت هناك أشعار نقد للسلطة كأشعار دعبل الخزاعي ، ولكن عفا عليها
الزمن؟ تساؤلات من حقها أن تُسأل. ثم كيف نحكم الذوق في الشعر والناس أجناس ذوي
مشارب وثقافة متباينة، وهل يكفي الحكم "يعجبني" وسط تيارات أدبية قوية تأخذنا ذات
اليمين وذات الشمال؟
والدعوة إلى كسر عمود الشعر القديم، وكذلك بحور الشعر دعوة ليست صادقة، لما فيها
من عدم التسامح، فما أجمل الشعر أن يكون فنًا جميلاً له قافية ملائمة مقبولة، سواء
تقيدت بالخليل أم انطلقت في شعر غير مقيد بوزن . ولا ندري أي الحجتين أقوى حجة أحمد
أمين عندما يقول أن القرآن بعيد عن المصطلحات الجاهلية ، أم طه حسين في "الأدب
الجاهلي" الذي يرى أن خير ما يمثل اللغة والعقلية الجاهلتين هو القرآن الكريم؟
ثم لماذا نتهم الأدب الجاهلي عامة بأنه جنى على الأدب العباسي خاصة ، والأدب
العربي عامة، ونضرب عصفورين بحجر- ما دمنا نعرف أن الأدب الجاهلي مثّل العقلية
البدوية خير تمثيل، وشتان بين الشاعرين.
فالشاعر الجاهلي كان شاعر ارتباط بين المثال والواقع كيّف حاجته للمجتمع، أما الشاعر العباسي فقد كان- في كثير من نماذجه - شاعر رفض وتمرد ، وكان له رأيه الجديد.
فكم يجمل بنا لو درسنا خير ما في الأدب الجاهلي،وخاصة مختارات من ديوان الشعر العربي الذي اختاره علي أحمد سعيد- أدونيس- بذكاء وبصيرة ناقدة، وكذلك يجمل بنا أن نتفهم الشعر الحديث ونقرأه بتسامح ، وخاصة ما جادت به قرائح المشهورين من الغربيين، وبهذا يتأتى ما دعا إليه الأديب الكبير - رحمه الله - الذي كان شجرة باسقة في أدبنا العربي.
..............................................................................................................................
القصة العربية في إسرائيل
وانعكاس قضية التجديد الاجتماعي فيها حتى نهاية الستينات
افتتاحية ونظرة تاريخية:
عاشت الأقلية العربية التي بقيت في إسرائيل بعد عام 1948 في وضع أشبه بالحصار الثقافي والسياسي، وكانت الكتب التي تتسرب إلى مكتبة المثقف هزيلة على وجه الإجمال.
ومع ذلك لم نعدم أن نجد بين ظهرانَينا الشاعر والقاص وكاتب المقالة، بذرات تأتّى لها أن تعطي أكلاً وتبسق بفضل استعدادها ودأبها. كما كانت الصحف الحزبية بمختلف تياراتها تستقبل ما تنتجه القرائح فتحث على المضي قدمًا.
وإذا اعتبرنا الأدب تعبيرًا تسجيليًا لواقع نعيشه، فالقصة- أحد أركان هذا الأدب، أحرى بالتسجيل من غيرها لما لها من علاقة بنائية بالوصف في نقل الصورة ، مضافًا إليها ما يجعل فيها ذائقة ونكهة.
وها نحن في معالجة لقصص أدبية ليس حتمًا أن تعبر تاريخًا عن مرحلة اجتماعية، هي صورة التقطتها عدسات القاصين، صور ليست غريبة عن واقع كان، أو حقيقة كائنة، وإنما فيها من البساطة والصدق ما يمثل قطاعًا من الناس من الصعب تحديده.
وفي مجتمعنا العربي في إسرائيل مررنا بخطى ومراحل كادت أن تكون طفرة بعيدة المدى عل المستوى الحضاري، لذا فمن الطبيعي أن نجد هذا الاصطراع بين التقليد والتجديد. وبين حدودهما وقفت القصة المحلية تسجل هذه التفاعلات النفسية والإرهاصات الفكرية.
ونحن هنا نريد أن نستقصي ما كتبه القصاص حول نوعية الحياة التي كان يعيشها آباؤنا وما زالت آثارها متغلغلة في بعض العقليات المحافظة، هذه العقليات التي وقفت تستقبل الجديد مشدوهة، يكتنفها جو من الحيرة والتمزق، خائفة وجلة من مستقبل مشوب بالغموض، فمن حق الأب الذي يهتدي بسنة آبائه أن يرفض أفكار الابن الذي ينزع إلى الاستقلال الذاتي في الرأي، والابتعاد عن الرسميات العائلية، فلا غرو أن نرى الآباء بغالبهم يلعنون أبناء هذا العصر لما وصلوا إليه من فسق وإلحاد.
وإذا كان العربي في إسرائيل قد تغيرت نظرته إلى الحياة، وأقبلت الحياة عليه بفضل امتزاجه بشعب حضاري، فقد مرت القصة أيضًا عبر نقلات سريعة من حيث قيمتها البنائية والإنسانية.
أخذنا نقرأ القصة أو اللوحة تصور المواقف الإنسانية، أو تصف التقاليد، أو ترمز إلى الوضع السياسي الحرج الذي تعيشه الأقلية العربي في إسرائيل.
وبالتالي فقد حظيت قصتنا بالتفات النقاد، فهذا الأستاذ شمعون بلاص يترجم لبعض قاصّينا أذكر منهم توفيق فياض وحنا إبراهيم، كما ترجم توفيق شموش أيضًا بعض القصص المحلية لزكي درويش ومصطفى مرار، وترجم بنيامين زكاي ونير شوحيط بعضًا من قصص محمود عباسي، وترجم أنطون شماس قصتين لزكي درويش- كل هذا إلى العبرية. وهذه صحف الأدب في العالم العربي تشيد بقصتنا المحلية، فقصص إميل حبيبي وطارق عون الله ومحمد نفاع يطريها أحد النقاد ويصفها بأنها تمتاز " بأصالة التجربة وصدقها وحرارتها(1)
لسنا هنا بصدد تقييم فني للقصة المحلية، فقد اخترت القصص التي تساعدنا في هذا البحث بغض النظر عن قيمتها الأدبية،مع أني أدرك أني أغفلت قصصًا كثيرة ناجحة.
القميص والطابور
لو أردنا أن نعالج قصة رمزية نستخلصها في هذا الصراع وتشير إلى ما سنذهب إليه في معالجة هذا التباين، لما وجدنا خيرًا من قصة زكي درويش "القميص والطابور". فهو يعالج هذا الصراع الخفي الدائر في نفسية الأب وكيف انساق هذا الأب لمتطلبات العصر.
فالتقليد يتمثل في قميص قديم يعبر عن السلطة الاجتماعية التي تتشبث بموروث عقائدي يتـناقله الخلف عن السلف، والقميص أيضًا رمز لما ينوء به هذا المجتمع من قيود رسف بها، وأغلال كبلته بلا طائل.
كان صاحب الأملاك يلبس هذا القميص، ويسير بخيلاء في الطريق الزراعي، في يمناه هراوة أغلظ من الهراوة التي كانت مع أبيه.
ورغم أن القميص لا يناسب لابسه الجديد فهو ممزق بحيث لا يمكن غسله، وهو كريه الرائحة بحيث لا يمكن أن تطاق، ومع هذا فقد بقي الأب محافظًا عليه، ويلبسه عندما سلمه الميراث.
والتجديد يتمثل في ابنه الذي توسل إلى أبيه أن ينزع القميص عنه.
- " ولكن هذا القميص لا يناسب.
- هذه المرة اخرس تمامًا. احترم الأجداد يا حيوان(2).
هذا الابن يطلب من أبيه أن يتعلم، فيظن أبوه أن به مسًا: "وبعدها نبتت في رأسه فكرة مجنونة. أراد أن يتعلم تأكدت أن الفتى أصيب بالجنون".
ويقع الأب في المدينة فريسة لسخرية أبناء المدارس الذين يتهكمون عليه:
- من أين اشتريت هذا القميص يا عم؟
- هذا الرجل يصلح لمعلم التاريخ. من أي عصر أنت يا عم؟
وألفى الرجل نفسه مطوقًا وحوله هذا الجيل الصاعد، فأحس حياله بالوهن، وكاد أن يستسلم، ولكنه أخيرًا يذكر أباه وجده، فيندفع إلى الأمام مؤمنًا، ويقتحم الدائرة بعزيمة مستمدة من عاطفته، لكن الأولاد يطاردونه.
يسرع فيسرعون، فيحس بالضعف ثانية، وعندما وصل إلى داره خلع قميصه وهو صامت، تردد قليلاً، ثم ألقى به داخل الموقد.
ابتسم بالبداية وهو يشاهد النار تأكله، ولكنه عندما رآه وقد تحول إلى رماد قهقه بصورة غريبة. فرح الابن لهذا التصرف المفاجئ، وبدلاً من (علقة) منتظرة، وحرمان من المدرسة وجد نفسه في موضع حنان من الأب.
ها هو الأب بعد أن حرق القميص المشؤوم بكل ما يحمله من اتصال بموروث لا مبرر في الحفاظ عليه، تتغير نظرته إلى الحياة والى ولده، فيقول لابنه: "سأرسلك إلى المدرسة في المدينة".
* * *
هذه القصة بارزة في إشارتها إلى هذا الصراع الذي عاشه المجتمع العربي في إسرائيل خاصة والمجتمع العربي عامة، وهي واحدة من القصص التي كتبها أصحابه عن ذاتية خاصة غير مدفوعين بتيارات التغيير بإيجابية وسلبية، ومجموعة العوامل الثابتة والطارئة التي أحاطت بمجتمعهم ككل، وأحاطت هم كأفراد، وأثرت على تصرفاتهم ووجهتهم وجهة معينة.
لسنا نفترض في هذه القصة أو مثيلاتها ما نضعها على المستوى الذي نفترضه من معاناة حقيقية لجوهر الحياة، فيندر أن نجد القصة المشفوعة بالتحليلات النفسية أو الدراسات الشخصية المتعمقة في السلوك والاجتماع.
لننظر إلى الصورتين المختلفتين، ونحاول أن نجد الصلة بينهما رابطين القصة المحلية بحالات اجتماعية وظروف خاصة. ولا يهمنا تاريخ كتابة القصة بقدر ما يهمنا تمثيلها لفترة زمانية.
القرية في مرحلتين
من الصعب تحديد الزمن الذي يساير المجتمع فيه تغيرًا، فأي تغير لا بد له من استعداد مسبق وتمهيد، لكنا نجرؤ أن نقول هنا وفي هذه المعالجة إن الحد الفاصل البارز هو بعد قيام إسرائيل ببضع سنوات.
كانت حياة القريبة كما صورها كتاب القصة مريرة، فيها تناقضات طبقية: إقطاعي يستغل وفلاحون مستَغلون راضخون تحت مشيئته.
وبيت الفلاح بسيط، هو يسكن في جحر تحت الأرض بلا منافذ أو شبابيك لا يعرف الشمس ولا الهواء النقي.
"وما دمنا في سيرة البيت آسف: الجحر فيجب أن أقول لك أن مساحته أربعة أمتار طولاً وثلاثة وبضعة سنتيمترات عرضًا، سقفه أخشاب معوجة مشققة بلغت من العمر عتيًا(3)......
" ويغطي قسم من أرض هذا الجحر حصير فقدت معالمه الأصلية بين كثرة رقع الخيش التي عالجته بها أمي لتطول حياته، وفي وسط الحصير ينتصب كانون نار صنعته أمي من اللبن ،وبجوار الحصير طاولة صغيرة عليها ما يشبه الفراش مغطى ببطانية سوداء مرقعة برقع متنوعة الألوان. وفي الجهة المقابلة طاولة أخرى إحدى رجليها مكسورة -وهي مطبخ دارنا عليها ثلاثة صحون وملعقتان ونصف!"..... "" وبجوار الطاولة قدر سوداء تراكم عليها السناج، أما الحمام -نعم الحمام- فهو بلوعة بجوار عتبة الجحر".
وفي مثل هذه الظروف السكنية كان يعمل الفلاح بنشاط بين الغلس والغسق صيف شتاء، لا يعرف الراحة إلا في أيام معدودات في المواسم وأيام المطر.
" كان الكل يعمل جادًا.. حتى يتم له جمع كفايته السنوية من المزروعات الشتوية والصيفية، وطبعًا الزيت والزيتون، ولم يكن أحد يغفل عن قوت دوابه، فكان الكل يجمع حاجتها السنوية من التبن والكرسنة والجلبانة " (4) ، فإذا تم ذلك " كان يشعر براحة كبرى كأنه ملك".
يقتل الفلاح وقته في ليالي الشتاء دون أن يحمل نفسه عناء التفكير الجدي، فلياليه لعب ورق. ومن ينل حظوة يشارك الشيوخ في جلساتهم ويستعيدون ذكرياتهم أو قفشاتهم البريئة وغير البريئة في بعضهم.
" ولكن أمتع مجالس الشتاء كانت تلك الحلقات التي يجتمع فيها الشيب، والشباب نساءً ورجالاً ليصغوا إلى بطولات أبو زيد الهلالي وذياب بن غانم" ، فكانت هذه الحكايات تفعل في نفوسهم فعل الأساطير.
وفي الصيف كان اللعب على البيادر فوق عرمات القش، وبعد السهرة يسطو بعضهم على مقثاة أو كرم، فيحتال أسعد على أبي جعران، ويختلق حكاية الغول التي أخافته، فيهرب الحارس أبو جعران، ويقوم أسعد بتنظيف المقثاة من الخيار(5).
تمر الأيام باهتة اللون " تجر أقدامها دون أن يحدث شيء يستحق الذكر(6) ، وربما كدر صفوها جباة الضريبة وموظفو دائرة الأراضي والمختار (7).
والقرية كما قلنا فيها طبقتان اجتماعيتان متفاوتتان: طبقة السادة، وطبقة الفلاحين. فزيارة الوجهاء والمختار بركة للبيت، ولكنه مع ذلك خراب. بركة لأن هذا الزائر إنسان كبير يتملق إليه الجميع له الشرف والصولة، وخراب من ناحية سياسية –(8) أو اقتصادية (9).
يقوم صاحب العزومة لينبش جميع الصناديق والبقج بحثًا عن نصف رطل من الأرز ليحضر العشاء لابن الزعيم، ثم يذبح شيخ الدجاجات لابن شيخ البلد حتى يلوح لعابر السبيل أن بالدار عرسًا أو جنازة.
ولا تخلو القرية من أصحاب الحِرف الحرة، كان أبرزها التجارة. يخرج الواحد منهم "ليلحق السوق ويبيع بأفضل ثمن، فكان لهذا يسير خلف حماره حافي القدمين ولا يضعها في الحذاء العجوز إلا عندما يبلغ طريق السيارات المعبد المؤدي إلى المدينة (10)".
هذه الصور مألوفة في القرية، لكن يد التغييرات أخذت تعمل دائبة وبنشاط. فيقوم الأبناء ببناء دار جديدة، والأمر لم يكن في بدايته يسيرًا، فقد نظر الأب بعينين ملئهما الحقد إلى أكوام الرمل والحصى المعدة لبناء الدار الجديدة "، وأخرج ولاعته لكي يتفادى السقوط في الحفر المعدة لإرساء قواعد البناء المشؤوم (11)" .
وغضب الأب يعود إلى قطع الكرمة التي شاء (المهندس) أن تقلع حتى يكون البناء مربعًا، وهو يرى في هذه الكرمة رمزًا للحفاظ على ما يملك، رمزًا لسلطته الأبوية، لذلك فهو يصر كل الإصرار ألا تقطع حتى ولو لم يقم البناء..
لكن البناء يقوم شامخًا تحت ضغط وإلحاح من الأبناء، وما تلبث البيوت الحديثة أن تتسلق جبال القرية " شبيهة بالعمارات اليهودية (12).
* * *
أخذت القرية تغير من مظهرها عندما خرج الشباب إلى مرافق العمل في المدينة، تركوا الزراعة التي لم تكن تسد رمقهم، فانبهرت أبصارهم لهذه الحياة التي لم يألفوها، رأوا حياة ديمقراطية تسود أبناء الشعب الآخر، فلا سيد ولا مسود، ثم رجعوا إلى القرية وقد تفتحت بصائرهم وما عادوا يستسيغون أن يُستخدموا لدى السيد، فتقابل هذه الحركة التحريرية، وهذا الانطلاق، بشيء من الإنكار عند العوائل المتباهية بحسبها ونسبها:
"إن عائلتنا - آل الجليل- معروفة في المنطقة بكرمها، وفي القضاء ببطشها، وفي القرية بسيادتها المطلقة، لقد كنا حتى الأمس القريب نستخدم جميع أبناء عائلة الحطاب في أراضينا الشاسعة... وهل يعقل اليوم أن يقوم أحد أبناء هذه العائلة بشتم عائلتنا؟ (13)".
وطبيعي أن تثور العواطف ويقع الصدام بين أفراد العائلتين، ولكن بدلاً من استعمال القوة وسيطرة الطبقة الإقطاعية تأتي قوات من الشرطة لتأخذ العشرات إلى التحقيق.
قلنا إن الكثير من السكان خرجوا إلى العمل، فلم يعد حتى للمختار سطوة أو هيبة وحتى أبو الحمولة تمرغت هيبته:
" آه على أيام عزك يا أبو الحمولة! يا عمي الوقت تغير (14)" وتغير الوقت بالنسبة له يتجسد في ضعفه إزاء غريمه فالقانون يحمي هذا الغريم:
" إذا ضربناه هيه نعلق فيها وننام سنة في بيت خالتنا هي الحكومة أمه والا أبوه؟ أي والله في أيام قبل كان الواحد بكسر أمثاله ولا حكومة تسأل".
ولا يعرف أبو الحمولة كيف يتصرف غير أن يرثي لنفسه:
" تفو عالوقت اللي صار أزعر ابن هاملة يبهدلك يا أبو الحمولة" ، وهو مصر على لقبه أبو الحمولة، وليكن ما يكون، يسأله الشيخ حامد عن سر غضبه فيجيبه:
" الدنيا تشقلبت يا شيخ حامد. هذا الوقت ما يحترم الشايب ولا اللي ع حافة قبره" (15).
والمختار كان يمثل سلطة، لكن أثره أخذ يتضاءل تدريجيًا، فسكان القرية يعرفون أن المختار لم يعد له تلك القيمة، وربما غالى بعضهم في نظرتهم إليه فهو " كالليمونة المعصورة ......والأصح كروث البقر في شوارع وأزقة القرية لا يثير اهتمام احد لأن الطوابين انقرضت" .(16)
هذه بعض ملامح القرية، والتي برزت في صورها الجديدة بعد أن مرت عليها يد التغيير. كان هذا التغيير وما يزال في القرية يقع في تناقضات بين القول والتنفيذ، يدعو بعضهم إلى نبذ العائلية وترك المعتقدات البالية، ولكنها ما زالت في النفوس تختفي لتبدو بحدة أكثر ثم تعود وتختفي لتظهر بشكل آخر.
ومهما يكن من أمر فإن القرية وأهلها قد تغيرت مفاهيمهم. وإذا حصل بعض التردد في نقل أسباب الحضارة عند أهل القرية فإن قصتنا المحلية قلما سجلت هذه الهواجس التي دارت بإخلاد أهل القرية وهم يستقبلون أمورًا جديدة.
الشباب المثقف في القرية
كان من الطبيعي بعد نشر التعليم الإلزامي والمجاني أن تكوّن كادر من المثقفين الذين تلقوا الصدام الأول بين التقليد والتجديد. وبعبارة أخرى بين الآباء وبين آرائهم الذاتية، فمنهم من خضع لسلطة الأب، ومنهم من تمرد بتطرف. وإذا كان هناك من المثقفين من يمثل المرحلة الانتقالية في قصتنا المحلية فإنه لن يكون متمردًا رافضًا ولا قابلاً. فهذا ابنٌ مثقف يجد نفسه ممزقًا ولا يهتدي إلى حل أمام تصرفات أبيه الغريبة... يشعر نفسه أنه رقيق في أرض أبيه فيقوم إلى شهادة خضوري الزراعية التي تزين صدر غرفته يمزقها، لأنه لم يعد لوجودها معنى ولا قيمة " وما لرقيق الأرض حاجة به (17)" .
ومع أن اعتبارنا تصرفه هذا غريبًا إلا أن دراسة سيكولوجية فقط تستطيع أن تسبر غور هذه الفعلة ، وأيًا كان التفسير فلا شك أن هذا الابن قد ساير أباه ونهج ما انتهجه.
وإذا كان ما رأينا هو تململ من الابن في هذه القصة فسنرى بعد حين حيرة الأبناء إزاء الأب المتعصب الذي لا يفهمهم ، وهو يتساءل عن كلمة "مودرن" التي يرددونها(18) .
ومن المثقفين من يتمرد إطلاقًا بعد أن أعيته الحيلة ،فهذا محمد علي طه في "كتاب في القرية " (19)يحدثنا عن مصير كتاب، وأغلب الظن أنه كتابه الأول الذي قابله سكان القرية باستهجان.
تبدأ الجلسة بالحديث عن الدخان كعادة بعض الفلاحين الذين يرجعون الذكريات: "سقا الله ورق الشام". والقرية ببساطتها تحب أبناءها وخاصة المتعلمين. ها هم يستمعون إلى ابن بلدهم باعتزاز، وقد التأموا في حلقة. ظنوا بادئ ذي بدء أنه سيحكي لهم كما كان يحكي لهم عن عنتر وأبي زيد الهلالي والخليفة زيناتي وغيرهم، وعندما يخبرهم الكاتب عن فحوى كتابه ، وأنه يحكي عنهم بالذات ملأوا الديوان ضحكًا، وفتل أبو العبد شاربيه، وتململ أبو عمشة في قلب عباءته المرقعة:
"عنا يا أستاذ؟ أي بلاش نكت. إحنا مين؟
يا ريت يصير أبو عمشة بطل مثل أبو زيد! وقال أبو عمشة: اتق الله يا شيخ ! فال الله ولا فالك ...إحنا أكلنا زوادة بطنك بدك تقطعنا مثل بني هلال يسوى ع العدا".
ويفشل الأستاذ في شرح وجهة نظره وفي إقناع هذه الجلسة ، ويبقى ضحْكة أمامها، فيغضب ويخرج محتجًا.
هنا نلاحظ هذا التمرد الذي كان طبيعيًا في حياة المثقف في القرية ، وهو يرى بأم عينيه مدى الهوة والتناقض بين ما يعتقد وبين ما يتمثل أمامه على مسرح الحياة.
والابن في قصة "القميص والطابور" هو الذي تمرد أيضًا ضد إرادة الأب وضد الحفاظ على القميص الذي يرمز إلى التعصب الأعمى، بالإضافة إلى تمثيله للسلطة الاجتماعية القائمة. كان هذا الأب عندما سلم الميراث إلى ابنه يذكر حصيلة العمر الطويل: "هراوات ترتفع ورؤوس تشنق، سكاكين تلمع، ودماء تسيل في وهج الشمس المحرقة، ومطاردات يتم أكثرها في ليل دامس، وعمليات مشبوهة شهدتها النجوم فقط (20)".
فهذه العمليات وأضرابها كانت في أواخر الأربعينيات أمورًا طبيعية، لكن الابن لا يؤمن بهذه الأساليب، ويقف حجر عثرة أمامها، ويقف معه كذلك أبناء الجيل الصاعد الذين أحدقوا بالأب وأرغموه أن يغير من موقفه، فيعود إلى البيت ،ويلقي بقميصه ومعه مخلفات قديمة عفا عنها الزمن.
لم يكن الانتقال بهذه البساطة شيئًا طبيعيًا في تاريخ أي تطور، ولكنا إزاء تغيير في المفاهيم بشكل جذري، فهذه المرأة كانت لسنين خلت حبيسة فأطلقت من عقالها، وهذا الدين لم تعد له تلك السيطرة، وهذه العادات القديمة والخرافات أخذت تضمحل وتتلاشى ووعى الفرد نفسه شيئًا فشيئًا.
المرأة القروية
للمرأة وضع حساس في تقاليدنا، فمع أن القرآن أعطاها فرصًا للمساواة في أمور دينية ودنيوية، إلا أنها كانت وبتعبيرنا الشائع "ضلعًا قاصرًا"، وهي "مصنع تفريخ للأولاد" تعمل بشقاء طيلة النهار. والويل كل الويل لامرأة لا تنجب الذكور، فمن حق الزوج أن يطلقها (21).
والزواج من اثنتين ظاهرة مألوفة في المجتمع القديم، وها هي أم عائشة تؤكد لابنتها أن الكأس تدور عليهن جميعًا:
" لقد تزوج والدك علي ، وتزوج والدي على أمي، وبنات عمك لاقين نفس المصير... أؤكد لك يا عائشة انه سيؤثر في النهاية (22)".
ولعل سبب الزواج يتأتى أيضًا بسبب الغنى والثراء، فيقوم الزوج باقتناء هذه السلعة.
ما عسى المرأة أن تفعل وهي رهن إشارة مستعبدة تباع بآلاف ويتزوجها أكثرهم سخاءً.
يحدثنا إلياس عوض في قصته "الضحية من" على لسان البطلة:
"وأبي كم توسلت إليه ألا يزفني إلى أبيك الهرم القذر، وكم بكيت، لكنه رفض كانت العشرة آلاف ليرة أعز عليه من سعادة ابنته، ولم تكن تحميني من ظلمه، ولما رفضت الإذعان إلى مشيئته ضربني ضربًا مبرحًا، وهددني بالقتل، والتجأت إلى أبيك، واختليت به ذات مرة قبل عقد الكتاب، وأفهمته أني لا أرغب بالزواج منه ، ورجوته أن يطلق سبيلي.. ولكنه نظر إلى جسدي وضحك" (23)!
والمهر سُنّة غير أن قيمته لا تحدد. فالقرآن الكريم يقول {فأتوهن أجورهن}. ولا يحل للأب أن يأخذ منه شيئًا إلا إذا {طبن منه نفسًا} ، لذا فإننا نلاحظ والد حسناء يضع الستة آلف كاملة أمامها حسب السنة، فتغتاظ وتود لو تلقي بالمبلغ في الموقد تعبيرًا منها عن غضبها للزواج القسري(24) .
وإذا كان المهر حاجة ملحة فقد ترتب على ذلك اجتهاد الشباب للحصول على المال، وربما أدى إلى نتيجة سلبية - وهي اللجوء إلى الاختلاس (25) .
وبعض أبناء هذا الجيل كانوا يضاعفون المهر ويغلونه مدلين بذلك على رفض المصاهرة (26). وما زالت هذه العادة موجودة وملموسة في قرانا.
* * *
والزواج يتم بواسطة الخاطبة التي تنتقي للشاب عروسه، وغالبًا ما يكون صدفة- كزواج البطل في قصة "الوردة اليابسة":
"ألم أقل لك إنني لا أحبها ولم أحبها يومًا. إنها أصبحت زوجتي صدفة، كنت صغيرًا، قبل سبع سنوات وأفقت يومًا من أحلام صبيانية وإذا أنا زوج وبجانبي على الفراش زوجة...وبعد أسابيع انمحى الحلم، وعرفت أني لا أحبها ، ولن أحبها وعشت سنوات من الحرمان، من العذاب (27).
وظاهرة الزواج المبكر ظاهرة مألوفة في القرية. يقول مصطفى مرار: "في أيامهم كانوا يزوجون أبناءهم وبناتهم قبل أن يبلغوا الحلم كي يضموا إلى الدار يدًا عاملة جديدة- هي زوجة الابن. تخرج معهم إلى الحقل وتحصد وتقطف وتعشب الأرض ،أوتبقى في البيت تعجن وتخبز وتكنس الحظائر ".(28)
الحب ممنوع في القرية ، وإن جرى فليس على عيون الأشهاد، وما من لقاء إلا ويخيم عليه جو من الخوف العنيف، ففي قصة "هل تغفر له":
" وتجرأ ذات يوم وقال لها: بدنا نشوفك يا صفية. فاجأها فتضرج وجهها بحمرة الخجل والحياء، وتابعت سيرها وهي تختلس النظر إليه، فأردف وشفتاه تبتسمان ضراعة:
صفية مالك بترديش؟
- دير بالك ليكون حدا شافك عمال تحكي معاي.
أجابته وهي تنظر حولها وجلة خائفة.
- لا فيش حدا " .(29)
وسبب خوفها هذا، سطوة الأب، الذي يستعد لعملية قتل إن لاحظ شبهة. ألم تقتل صفية الأخرى ابنة الحاج خليل- الرجل الذي لا يفارق المسجد. أما صفية هذه فتقول مرتعدة:
- "وإذا عرف أبوي يذبحني، ثم قالت بصوت منخفض حذرة مرتعشة: والفضيحة؟ (30)".
وتشهد الزريبة لقاءات الحبيبين حتى لا يفتضح أمرهما، أو يحدث ما لا يحمد عقباه. ولعل تعاطي الحب بحد ذاته يدل على فترة انتقالية مبتدئة في اتجاه جديد للسهم.
ومهما كانت الصور الآنفة التي طالعناها فما زالت بقاياها في مجتمعنا في بعض القرى وفي بعض العوائل، لكنها في طريقها إلى الزوال، وذلك بعد أن تعزز دور العامل في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للعرب في إسرائيل. إذ أن المرأة بقيت وحدها بعد خروج العامل من القرية ، فاضطرت أن تساهم في حل مشاكلها مع مجتمعها القريب في المجلس المحلي والمدرسة، في العيادة القريبة، كما أنها أخذت تحل خلافات معينة مع جيرانها، وبهذا أصبحت المرأة صلة بين العائلة والمجتمع المحيط. وخرجت كذلك بعض الشابات إلى العمل فحصلن على استقلال اقتصادي ينمو ويتدرج إلى أن يصبح استقلالا فرديًا.
وتنال بعض الفتيات حظهن من التعليم أسوة بالفتيان، وتتردد الدعوة إلى حرية المرأة
على ألسنة المثقفين خاصة، وتقف الفتاة التي حظيت بنور العلم معززة هذه الدعوة
إيمانًا منها برسالتها نحو بنات جنسها.
تجد المرأة في بداية الأمر صعوبات في مسيرتها الحضارية، فيوسف بشارة بطل قصة
"صراخ في القفص الذهبي "(31) يكتب مقالاً يدعو فيه إلى تحرير المرأة:
"تعالي ننبذ التقاليد التي حكمت عليك بالموت البطيء تحت أقدام الملل" ، وتقرأ إحدى المثقفات مقال يوسف بشارة، ويمر أمامها شريط يسجل حياة المرأة العربية، هذه المرأة التي تنتظر فارس الأحلام يأتي وينتزعها من القفص الذهبي ليلتقي بها من جديد في قفص الحياة المنزلية. وكانت نتيجة لهذا الاستعراض أن بعثت برسالة تشجيعية إلى الكاتب تفضي بها عن عاطفتها نحو خلاص المرأة. خرجت لأول مرة إلى دائرة البريد حيث تنتهشها أعين المارة، كي ترسل رسالة لشخص غريب ليس بينها وبينه صلة إلا هذه القرابة الفكرية التي تتحدى كل مفاهيم القرية المتعصبة.
وإن كان يوسف بشارة قد هزئ بمقاييس المجتمع الذي يكبل المرأة بأثقل القيود، وهزئ باعتبار المجتمع رسالة فتاة إلى شاب جريمة لا تغتفر، فإنه هو نفسه ذئب يتربص لكل فتاة باسم نصرة المرأة. إذن فطريق المرأة ليست مفروشة بالورود ،وها هو احد المثقفين قد أساء إلى حركة تحررها.
وعملية التحول مستمرة بفضل مساهمة المدرسة وقانون التعليم الإلزامي للجنسين، كما أن التقليد للجيران له مساهمة لا تنكر. لولا أن تعلمت سعاد لما أقبلت سهام على التعليم. وهذا بالتالي خلق نوعًا من التنافس كان خيرًا وبركة على مجتمعنا.
ومجرد وجود ناد نسائي في القرية حدث جديد لا بد أن يؤدي دورًا إصلاحيًا. فهذه سكرتيرة النادي تطلب من السيدة نظيمة أن تكون عضوة عاملة في الهستدروت توجه وتعلم وتقود، لأنه لا نهوض لمجتمعنا إلا بتثقيف المرأة العربية، والعمل هو الذي ينهض بالفتاة، ويزودها بالأسلحة ضد التيارات المتعاكسة- العمل القائم على المعرفة.
ويسري حب المعرفة إلى خادمة البيت. تقول لها السكرتيرة:
"هل تحسنين القراءة كما تحسنين صنع القهوة؟
الخادمة: يا ليت(32)"
وعندما تطلب السكرتيرة من السيدة أن تسمح للخادمة بالاشتراك في دورة تقول السيدة: "الضرر أن خادمتنا تصبح سيدة" ، وتنجح السكرتيرة في إقناع السيدة بالسماح لها، ولا تكتفي بذلك ، بل هي تصر على أن يحاضر الزوج في مواضيع تحرير المرأة.
* * *
وتستمر عملية التعليم بشجاعة الفتيات ومبادرتهن، حتى تلتحق بعض الفتيات بالجامعة.
وتعود "جهان " (33) إلى بلدها المتواضع تحمل شهادة جامعية ، وهي تشعر أنها لا تمت إلى عالم قريتها بصلة، هم غرباء عن روحها ، لأنهم في عالم يسوده الحقارة والجهل "والبلدة خاملة بعيدة عن الرقي والعمران" ، لا تجد لها صديقة تفضي لها مكنونات صدرها، وتبعد عنها آلام الوحدة والخمول.
هي لا تستطيع أن تتجول بحرية في بلدها المحافظ، لا تقدر أن تتنزه وحيده في المزارع لئلا يظن بها الظنون، فماذا عساها تفعل غير قتل وقتها وهي تستمتع إلى أحاديث العجائز التافهة.
وتدأب أم جهان في إقناع ابنتها أن تلبس أجمل الثياب وتتحلى بالأسورة، كي تتفاخر الأم وتتباهى بها أمام الجيران: "جهان كاملة الصفات حسناء ومتعلمة وتملك مجوهرات". وهذا الخبر بدوره يقرب ابن الحلال.
لكن جهان تظل تشعر بخواء. ولا يسد رمقها إلا النظرات التأملية إلى المكتبة، وهذه النظرات كانت فارغة النتيجة، إذ ما قيمة الكتب؟ أ لعلها ستحدث أم يعقوب أم أُم احمد عن شكسبير أو تولستوي؟ وتتأكد جهان أن محبطها وأوضاعها لا تستوعب ثقافتها، وهذا من شأنه أن يخلق لها مشاكل " فالأفضل أن ترحل من هذا البلد إلى بلد آخر يلائم ثقافتها، إذ أن القرية التي تضطهد المرأة لا تلائمها، " فالمرأة هنا تقضي وقتها في الحقول وتحت أشجار الزيتون، تحمل الحطب حينًا والجرة على رأسها حينًا آخر. هن يتزوجن مبكرات، ويلدن أطفالاً.. باختصار في جهل وفقر ومرض.."
ومما يعزينا في موقفها أنها تحب أهل القرية في قرارة نفسها، هي تحب البساطة، لذا رفضت فساتين التفتا والسواريه والأزياء ذات الأزرار والكشاكش، فثياب الفلاحات على رأيها طبيعة أكثر.
واتفق أن كان ولي الأمر إنسانًا واعيًا يدرك ما للثقافة من حق. يدرك أن خدمة المجتمع هي الهدف الأول والأخير لكل ثقافة، لذلك فقد ترك وصية لابنته: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى" ، إذن فعلى جهان أن تعمل بوصية أبيها، أن تساهم في بناء مجتمعها المريض، والناس لا يحق لنا أبدًا احتقارهم، فلهم أفراحهم وأشواقهم، ألا يعرفون عن نواحي الحياة الأخرى أكثر ما تعرف.
وتهدأ ثائرة جهان، وتقتنع أن تبقى في القرية عاملة جادة في خدمة من هم في حاجة إليها.
وإذا كانت جهان قد مرت صراعات مختلفة انتهت بها إلى مواكبة مجتمعها، والسير في طريق تتمشى مع ظاهرة صحية، فإن بعض الفتيات قد غالين أو جنحن، فامتلكن الحرية الكاملة في الحب..
فهذه هيام تهرب مع سميح وتبرر موقفها في رسالة لأمها: " لكننا يا أماه نعيش في عصر تبدلت فيه المفاهيم، ولم يعد للخجل والخوف مكان في نفوسنا، حتى نكبت مشاعرنا، وندفن عواطفنا في سجن من التقاليد ولعادات السخيفة (34)" .
الشباب والجنس
خرج الشاب من القرية التي تحظر الحب الفعلي ، وتقتله في المهد- إن تيسر لها- وخلّف وراءه نساء ينتظرن عودتهم نهاية الأسبوع، وبقيت الفتيات محرومات مكبوتات تداعبهن خيالات فارس الأحلام.
واستقبلت المدينة أفواج السباب بأفانين الإغراء، فمزجت بينهم وبين الفتيات الأخريات ممن يدركن معنى الحياة.. فكرع هذا الشاب الجائع من حياة الملذة ، حتى إذا عاد عشية السبت تذمر من زوجته البسيطة - تلك التي ألفى نفسه زوجًا لها، من حيث لا يشعر، ولا يجد حرجًا في أن يطلقها لو تمكن )35). وجد الشباب نفسه في المدينة حرًا في أن ينظر إلى العابرات ويطيل النظر، فتثير أعصابه هذه الأزياء الحديثة التي تطلع بها بنات المدينة، تثيره هذه المناظر التي يراها تحت المصابيح من فتاة تقف، وقد أسندت رأسها إلى كتف شاب، إلى صديق وقد "علق على ذراعه فتاة شقراء (36)،... لهذا فهو يهيئ نفسه "لمعاناة طويلة في المساء "(37)، وعندما تفقد الأشياء معانيها يجلس على السرير يعرض أمام نفسه صورًا، وإذا ما تبين للشباب أن الناس تشتري الأجساد واللحم في الأزقة المظلمة، يجد الشاب نفسه مدفوعًا بالانفراد بفتاة في زاوية مظلمة، أو يفتش عن وسائل أخرى ينفس بها طائلة جوعه الجنسي.
سليم خوري يحدثنا عن أول تجربة يدخل بطله فيها ناديًا ليليًا: "دخلت المقهى الليلي مع صديقي عزيز، فكلماته ترن في أذني: مقهى من النوع الممتاز بكل شيء، يمتاز بالشقفات الجميلات ذوات العيون الجائعة والأجسام الناعمة (38)".
ومع أن عزيز قضى وقته واستمتع، إلا انه تمنى لو يستطيع الحصول على طاقية الإخفاء ساعة خروجه، فهو قد رفض نداء عيون الراقصة، ورفض أن يستدعي فتاة المقهى، أو أن يومئ لها، لأن الحفاظ على تقاليده ودينه حالت دون إبداء شهوته الجامحة.
هذه هي بعض الظواهر الملازمة لشبابنا المنطلق إلى المدينة، حياء أو بعض حياء، ثم تردد، ثم ابتداء، ثم إغراء.... حتى وصل أبطال قصص محمد علي طه إلى أن ينالوا الفتيات بكل وسيلة، هم يضجون بالحياة، والحيوية، رموا العيب والحرام من خلف ظهورهم.
"أي شيء أطيب وأشهى وأدسم من امرأة في السرير... الشرف الرفيع. الشرف الغليظ العريض عبارات جميلة لكن ساقيها أجمل " (39)
أما الذين بقوا في القرية وهم قلة، فقد ظلوا يؤمنون بالتقاليد أو يعملون حسبها ، ولكن بشكل أخف، بسبب احتكاكهم بالشباب العامل في المدينة، ومن منطلق مسايرة العصر، فالخطبة تتم أحيانا في جيل مبكر، وحسب اتفاق سابق، وأحيانًا يتم الأمر إلى اتفاق، فللقربى حق لا يمكن إنكاره (40).
ومهما يكن من أمر فإن القرية أخذت تنفض عن كاهلها هذه الالتزامات لدى خروج أبنائها إلى المدينة، فإذا كان تصرف يوسف بشارة(41) غير طبيعي فإن له ما يبرره: هو كونه يعيش في مجتمع مغلق ، ثم ما يلبث أن ينتقل إلى مجتمع مفتوح، ويرى فيه مئات الوقائع المشابهة فينسى أن بدء الطريق يحتم عليه الأمانة.
وبطل قصة " المشوهون" الطويلة - سعيد يبادل فتاته الحب، هذه الفتاة التي التقاها في المدينة. تتحول حياته إلى جنس صاخب، ويتعرف إلى جارته في السكن "نادية" ، فيقيم معها علاقات جنسية ، وتسعى هي إلى هذه العلاقة ، لأن زوجها العامل يقضي الأسبوع خارج المنزل ليحصل على قوت عياله (42). وهو يشعر بالقلق والضياع ويبحث عن الجسد، ولو مع المرأة المجنونة في قبو المقبرة.
الدين وتأثيره
كان من أهم دواعي العزوف عن الدين والخروج من حرمته هو هذا الجنوح المتواتر من الشباب في استقلالهم الفردي وانتهابهم الملذات. وانطلاق الشباب في رأيي يتناسب طرديًا مع هذا الجنوح الذي أشرنا إليه.
وفي قصتنا المحلية رأينا هذا الخروج، فبطل سليم خوري عندما يدخل النادي الليلي يعرف في قرارة نفسه أن هذا حرام، وتحت ضغط وإلحاح من صاحبه يقدم على شرب الويسكي لأول مرة. ولكن هذا الشاب الذي يقوم بأول تجربة يود لو أخفته طاقية إخفاء، بينما يصل بعضهم إلى جرأة غريبة. وببطل قصة "كتاب في القرية" يتحدث أمام جمهور محافظ عن الكأس والطاس، لذا فإن رد الفعل المتوقع شتائم تنهال عليه:
" يلعن الزمن. هاي كتب. الناس فسقت".
وفي أثناء القراءة كان "أبو مهاوش" لشدة خوفه من عاقبة الكفر يقرأ سورتي الفلق والفاتحة ويمسح جبينه براحتيه (43).
فإذا ما رفض الشباب نصائح الشيخ وأهملوه هو وأقواله قال: "هذه علامات القيامة.. الفسق والإلحاد والكفر.."، وإذا كان تمرد بعض الشباب على الدين ملحوظًا من خلال علاقاتهم الجنسية وارتشافهم الخمرة وعدم أداء الشعائر (44) فإن الخشوع ما زال ملازمًا كثيرًا من النفوس، والغيرة الدينية تعتمل في نفس الشباب كلما وقع احتكاك أو خصام مع أبناء الديانات الأخرى، ولكن هذا التعصب والتزمت أخذا يتضاءلان أمام المحبة الشاملة والاختلاط مع أبناء الديانات الأخرى، وإزاء المعرفة أن " الدين لله. والوطن للجميع " (45).
ولا ندري مدى صدق الصور التي ينقلها محمد علي طه:
"في هذه الأيام تركوا الصلاة تقريبًا ..وفي قرى كثيرة لا تتم صلاة الجمعة، فكيف بصلاة اعتيادية (46) " .
لنحاول أن نربط هذا التغيير في فهمنا للدين مع تغيير وضعية المرأة الاجتماعية ووضعية الشباب، وسنرى أي خروج عن الدائرة أخذنا نتعايش معه.
الإيمان بالغيبيات
تكاد لا تخلو قرية من قبر ولي تضفى عليه هالات التمجيد، ويوقد له البخور، وترفع إليه الرايات. وأسمار القرية وأحاديثها عامرة بالقصص المفزعة والإيمان بالأرواح، وبقدرة الحجاب على صنع المعجزات، فإذا ما استعصى على أحد أي حل ، فإنه يلجأ إلى كل وسيلة لتحقيق بغيته. فالأب يزور قبور الأولياء لمنع أولاده من بيع الأرض، والمرأة الخائفة تعلق التمائم في عنقها، والنسوة يعملن للإيقاع ببعضهن، فتكتب الواحدة حجابًا للكيد بالأخرى. لذا فإن رسمية في قصة "القزم" (47) تؤكد أن سبب زواج بعلها من امرأة أخرى يعود إلى العجوز (الكرنيبة) أم ضرتها، التي استعملت الحجاب والسحر حتى جذبته إلى ابنتها.
وعندما يسألها قريبها هل تؤمن بالسحر، فإنها تتردد وتقول "أومن ولا أومن" وربما يعود هذا التردد لكونها تسكن في وادي الحليصة، حيث هي قريبة من المجتمع اليهودي الذي يقل فيه مثل هذا الإيمان نسبيًا.
ولو عدنا إلى "حكاية أبي جعران"(48) لسمعنا أسعد وهو يحدث صاحبه عن غولية "المرشقة" -الأرض التي ينطرها، يحدثها عن زعيقها ومخالبها وأسنانها وشعرها الطويل المنفوش. وإذا كان أبو جعران قد أبدى استخفافًا أول أمره فإنه صار مستغربًا ومستهجنًا، ثم ما لبث أن انقلب خائفًا.
فهذه الأساطير في القريبة هي التي أخافت أبا جعران وجعلته يتنازل عن صولته، وذلك لأن من الاعتقادات التي ما زالت آثارها في القرية ذلك الشعور بأن الدار مسكونة بالجن أو الأرواح الأخرى.
وبعض الآبار تحوي أسرارًا، فهذه "بئر أبي زريق 49" حاكوا حولها ألغازًا - منها أن أرواح مئات الجنود الأتراك والألمان الذي ألقي بهم أحياء في البئر هم سكان هذا البئر التي لا قرار لها. ويقسم لك الفلاحون أنهم يسمعون الأنين والشكوى يرتفعان على أعمدة من الشعاع الأحمر إلى السماء.
ولم يكن بد إلا أن يرسل عميد الأسرة في طلب أحد المغاربة المشهورين بفك الطلاسم لكي يكشف المغربي عن مكان الكنز الذي أخفاه أجداد الأسرة الأوائل.
ويبقى الأمر لغزًا والبئر أحجية حتى يعود إلى القرية شرطي مثقف لا يؤمن بخرافة البئر، ويقف متحديًا زنزانة الجهل التي حشر بها فلاحو قريته.
والزوجة في قصة "السنديانة" لزكي درويش تحدث زوجها عن أحلام غريبة: شيوخ بثياب بيضاء وعمائم خضراء طوال القامة، نحاف الجسم. ويكاد يقع الزوج المثقف أسيرًا للهلوسة ، لكنه بالتالي لا يملك إلا أن يتناول عود ثقاب مشتعلاً، ويرميه في أحضان السنديانة ذات القصص الأسطورية المريعة.
"بقيت السنديانة المحروقة مدة من الزمن. ثم تسابق الناس في أيام الشتاء لأخذ ما تبقى من ساقها وجذورها لمواقدهم، وهم يسخرون من الولي الذي لم يثر، واختفى اسمه من أفواههم إلى الأبد " .(50)
الارتباط بالأرض والشعور بالغربة
كانت الأحداث التي أدت إلى قيام الدولة شيئًا هائلاً في نفسية العربي، وجد نفسه منقطعًا لا يعرف هويته ولا علمه، ولبست القضية لبوسًا مأسويًا في نفسيته:
"هناك في الجليل قرى مهدمة صامتة تحدق حجارتها بالمارة لتروي مأساة شعب مشرد لاجئ.. لا يزال سكانها ضمن الحدود وقد بيعت قراهم وأراضيهم، وقد تسنى لبعضهم أن يكونوا أجراء في أراضيهم " (51)
فهذا الأجير في أرضه يشعر أن أرضه جريحة وأنها تئن، وعندما تحاول أن توقفه زوجته على الواقع، وتخبره أن هذه الأرض ليست له يطردها من أمامه.
ونتيجة لمصادرة الأراضي خرج الكثيرون إلى العمل في المدينة:
"أما اليوم فأبو الحمولة بلا أم.. بلا أرض بلا دجاج ،وجاء ليعيش في المدينة مع حشمه وأولاده. محل ما ترزق الصق" .(52)
ثم ما لبث الفلاحون أن اشتغلوا عمالاً في المصانع والمزارع اليهودية ينتابهم خلال احتكاكهم باليهود شعور بالنقص بحق أو بغير حق: "...عربي وتطالب الناس أن يتكلموا بأدب"، " إن لوننا أحيانًا يشقينا في بلدنا".(53)
وفي "سداسية الأيام الستة" لإميل حبيبي نلمح عدم الارتياح أو القلق الذي يعانيه العربي هنا: (فجلة) نفّس عن غيظه عندما نفس عجل سيارة البوليس (54). والمدرس الثانوي ينكر كل علاقة مع صديق أو قريب مشاغب على السلطة خوفًا على لقمة عيشه. والصديقة الحيفاوية تقول: "إنني أشعر أنني لاجئة في بلاد غريبة".
ورغم هذا الشعور الملازم بالاغتراب فقد ظلت طائفة من الناس داعية إلى سلام حقيقي. إلى وئام يجمع بين شعبين جمعهما وطن واحد، ولكن هؤلاء بالذات كانوا موضع شك أحيانًا وموضع إهمال آنًا (55 ).
الإشارات:
1- محمد دكروب: سداسية الأيام الستة، الآداب، العدد العاشر- 1969.
2- زكي درويش: القميص والطابور، الشرق، آذار، 1971، ص 33.
3- محمد علي طه: متى يعود أبي، لكي تشرق الشمس، ص 53.
4- إلياس عوض: أبو جعران، البئر المسحورة، ص9.
5- ن.م
6- عطا الله منصور: صراخ في القفص الذهبي، البئر المسحورة، ص 73.
7- محمد علي طه: قرش صاغ، سلامًا وتحية، ص 44.
8- ن.م
9- مصطفى مرار: انتقام العذارى، الخيمة المثقوبة، ص39.
10- مصطفى مرار: وفيات الأعيان، البئر المسحورة، ص 146.
11- زكي درويش: الكرمة لا تموت، شتاء الغربة ص 63.
12- محمود عباسي: القزم، البئر المسحورة، ص 128
13- عط الله منصور: ن.م ص 59.
14- محمد علي طه: علقة سوداء، سلامًا وتحية، ص 72 .
15- ن.م- ص 73.
16- ن.م ص 16.
17- إلياس عوض: الضحية، البئر المسحورة، ص 21
18- زكي درويش: القميص والطابور، شتاء الغربة، ص33.
19- انظر: البئر المسحورة، ص 122.
20- زكي درويش: القميص والطابور، شتاء الغربة، ص 33.
21- البئر المسحورة، ص 122.
22- نجوى فرح، رماد، لمن الربيع، ص44.
23- البئر المسحورة، ص 25.
24- مصطفى مرار: ستة آلاف، طريق الآلام، ص8.
25- البئر المسحورة، ص 94.
26- ن.م- ص 155.
27- محمد علي طه: الوردة اليابسة، لكي تشرق الشمس، ص 74.
28- مصطفى مرار: لك مستقبلي، صحيفة الأنباء، عدد 9/4/1971.
29- البئر المسحورة، ص 96.
30- ن.م- ص97.
31- ن.م- ص 54.
32- ن.م- ص 207.
33- انظر قصة نجوى فرح: دروب ومصابيح.
34- قصة نجيب سوسان، البئر المسحورة، ص 185.
35- محمد علي طه: الوردة اليابسة، لكي تشرق الشمس، ص 74.
36- زكي درويش: شتاء الغربة، ص 75، 101.
37- ن.م.
38- البئر المسحورة، ص44.
39- محمد علي طه: الجوع، سلامًا وتحية، ص 100.
40- البئر المسحورة، ص128.
41- ن.م- ص54.
42- توفيق فياض: المشوهون، ص 34.
43- محمد علي طه: كتاب في القرية، سلامًا وتحية، ص 83.
44- زكي درويش: شتاء الغربة، ص 85.
45- البئر المسحورة، ص 200.
46- محمد علي طه: سلامًا وتحية، ص 13.
47- البئر المسحورة، ص 135.
48- ن.م- ص 14.
49- ن.م- ص35.
50- السنديانة، ص39، قارن هذه القصة وقصة الطبيب صالح "دومة ود حامد".
51- نجوى فرح: أجير في أرضه، لمن الربيع، ص81.
52- محمد علي طه: علقة سوداء، سلامًا وتحية، ص 87.
53- ن.م- ص 53،55.
54- إميل حبيبي: سداسية الأيام الستة، ص 57.
55- هذا البحث بحاجة إلى متابعة وتطوير، وخاصة في الوعي السياسي لدى الجماهير العربية.
...............................................................................................................................................
- عندما يستبد الفضول -
قصة ليوسف إدريس وقراءتها
القصة : سورة البقرة (1)
يوسف إدريس
ما
كادت الفاتحة تقرأ ويسترد يده من يد الرجل، ومبروك ! ويتأمل مليًـا البقرة التي حصل
عليها، ثم يتوكل ويسحبها خارجًا ، حتى بعد خطوات قليلة وضع فلاح شاب طويل مهول
يده فوق اليد الممسكة بالحبل، وبقوة الضغط والعضلات أوقفه قائلاً:
- ألا قول لي يا شيخ.. بالذمة والأمانة والديانة.. وقعت بكام؟
وحتى لو لم يذممه فقد كان يريد قول الحقيقة لكي يعرف من وقع الرقم إن كان هو
الخاسر أم الكاسب في الصفقة، أجاب:
- بالذمة والأمانة والديانة بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار..
ولم يتح له أن يقرأ شيئاً في وجه الشاب الضخم، فما كاد يقول الرقم حتى كان الشاب وكأنما انتهى غرضه منه تمامًا، فسحب يده ومضى إلى حاله مغمغماً بكلام مضغوط لا يلوي على شيء.
وبعد باب السوق بخطوة اندفع ناحيته رجل بشارب هائش وصوت مزعج عال وكرش، قائلاً:
- سلام عليكم
- سلام ورحمة الله.
- بالذمة والأمانة يا شيخ بكام؟
وبصوت واضح، وحرص شديد هذه المرة على ألا تفوته بادرة، فالبقرة أيام جده كانت
بثلاثة جنيهات، وكان أبوه رحمة الله عليه يقول له أن أول بقرة اشتراها في حياته
كانت بخمسة ، قال:
- بالذمة والأمانة بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
قال الرجل من تحت شاربه المهوش:
- هم.. هيه.. فيها لبن؟
أجاب وأمره إلى الله :
- ما فيهاش.
- وراها عجل؟
- ما وراهاش.
- معشرة ؟
- طالبة عشر.
ومرة أخرى قال الرجل، بغيظ مكتوم لا يعرف سببه، وبحزن لا يعرف سببه أيضًا:
-هم.. هيه.. مبروكة عليك.
ومشى.
وعند أول منعطف للطريق الجانبي الماضي إلى الطريق الزراعي العام، رفع فلاح كان يعزق الأرض المجاورة صوته سائلاً:
- بتقول بالذمة والأمانة بكام؟
فقال: بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
فعاد الفلاح يصيح مرة أخرى:
- بتقول بكام؟
ورفع صوته عاليًا جدًا أعلى بكثير مما يجب، لا ليسمعه الفلاح فقط إنما ليصل إلى كل الرجال القريبين والبعيدين حتى يكفوه مئونة رد آخر:
- - بسبعة .. وتمانين.. جنيه.. وربع.. وبريزة للسمسار...
وقبل أن يسمح لنفسه أن يسمع الرد أو التعليق كان قد أغلق أذنيه ومشى.
وحين وصل إلى الطريق الزراعي الموصل إلى بلده كان قد سئل ثلاث مرات، وأجاب ثلاث إجابات، نقض الذمة والأمانة في ثالثتهما حين كسل أن ينص على بريزة السمسار.
كانت الدنيا لا تزال ضحى، والسوق منتصبة منذ الشروق هذا صحيح، ولكن كان هناك على
الطريق قادمون كثيرون ، أولئك الذين لا يريدون ضياع اليوم فأنهوا بسرعة أعمالهم ثم
اقبلوا مهرولين يلحقون السوق.
وعلى أول الطريق الزراعي سأله شيخ معمم بجبة كالحة وقفطان:
- دفعت فيها كام بالذمة والأمانة والديانة إن شاء الله ؟
فقط
لو أنهم لا يذممونه ويستحلفونه بالأمانة والدين!
- سبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
وبعد خطوة واحدة إذا برجل وكأنه عمدة، يمتطي ركوبة ويستظل بشمسية يزعق بصوت
مسلوخ:
- بتقول بكام.
- سبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
- غالية شوية إنما تتعوض.
وما
كاد يخرج عليه الدخان ويبدأ في لف السيجارة حتى حود عليه رجل مسن له لحية اختلط
فيها السواد بالبياض:
- سلام عليكم.
- سلام ورحمة الله..
- دستورك منين؟
- - من هرية.
- شارى ولا بايع؟
- مانتاش شايفني راجع، شاري.
- واصل ع الشيخ منصور؟
- واصل إن شاء الله.
- طب بذمتك وحياة الشيخ منصور على قلبك، بكام؟
- بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
- يا راجل أنا ذممتك وحلفتك بالشيخ منصور؟
- وحياة الشيخ منصور والذمة والأمانة والديانة ، وحياة شيخ العرب السيد بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
- يا راجل أنت اشتريت وخلاص، برئ ذمتك وقول الحق.
- وأنا يعني ح اكدب عليك ليه، ما قلت لك الحق.
- بقى بذمتك وديانتك والأمانة عليك وبركة الشيخ منصور وديتها رقبتك بسبعة وتمانين جنيه وربع؟ - وديني وما أعبد وحياة ربنا اللي أكبر من الشيخ منصور ومني ومنك ومن الدنيا كلها بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
- طب روح يا شيخ الهي إن كنت كدبت ما توعى تعلقها في المحرات.
وتركه ومضى. ولو كان قد بقى أمامه لحظة أخرى لما كان قد استطاع كبح جماح الخاطر الذي كان يلح عليه باستمرار.. أن ينتف ذقنه شعرة شعرة.
وما كاد يمشي أربع أو خمس قصبات حتى- برجاء حار- استوقفه شخص كان منتحيًا جانبًا، يعمل مثل الناس على حافة الخليج الموازي للطريق، وحتى قبل أن ينتهي وهو لا يزال القرفصاء لوى رقبته وسأله:
- بالذمة والأمانة بقد إيه؟
- بسبعة وتمانين وربع وبريزة.
- إيه اللي سبعة وتمانين وبريزة. هم مش يبقوا سبعة وتمانين وخمسة وتلاتين صاغ؟
- طب يا سيدي ما تزعلش سبعة وتمانين وخمسة وتلاتين صاغ.
- أمال الأول قلت وبريزة ليه؟
- عشان هي بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
- بقة أبقى محلفك بالذمة والأمانة وتكذب.
- أنا كدبت؟
- مش قلت بريزة للسمسار. هي البريزة تخش في التمن؟
- ما دام دفعتها تخش.
- لا ما تخشش.
- تخش.
- لا ما تخشش.
- تخش.
- أنت كداب.
- أنت بارد.
- تفوه عليك نفر.
- تفوه عليك وعلي خلفوك.
وهو لا يزال متشبثًـا باستماتة في حبل البقرة اندفع ناحية الرجل يريد أن يطبق عليه وينتهي منه، وكان الرجل هو الآخر قد أوقف ما كان يقوم به واندفع ناحيته ويده مستميتة هي الأخرى على (دكة) السروال المفكوك. وبيد متشبثة والأخرى طليقة تريد أن تغور في زمارة رقبة الآخر، كادا أن يتماسكا، لولا أن أولاد الحلال وما أكثرهم على الطريق حالوا بينهما في آخر لحظة، وبعد محاولات لصلح فاشل، اندفع كل منهما، الرجل إلى حافة الخليج، وهو ناحية بلده ، وبينهما حبل طويل غليظ من الشتائم ظل يمتد ويرق كلما ابتعدا حتى انقطع وسكت مخنوقـًا. ومد يده يبحث عن العلبة ليلف السيجارة غير أنه اكتشف أنه فقدها في الخناقة، وبلغ الغيظ حد أنه لم يحتمل مجرد فكرة العودة للبحث عنها في مكان الخناقة.
وهو في قمة غيظة إذا برجل، يرتدي في عز الحر عباءة، مؤدب وقصير، وما كاد يفتح فمه ويقول: بالذمة والأمانة عليك، حتى كان قد رفع يده إلى آخرها دون أن يدري ثم هوى بها على صدغ صاحب العباءة الممددة في أدب ووقار.
وارتاع الرجل حتى سقطت العباءة من فوق كتفيه، وفكر أن يمسك بخناقه ولكنه في اللحظة التالية كان قد راجع نفسه ، وحين تلفت حوله فلم يجد أحدًا من المحتمل أن يكون قد رآه وهو يصفعه عاد للسير وكأن شيئاً لم يحدث وهو يقنع نفسه أن الرجل لا بد مجنون هارب من مستشفى المجاذيب.
وما كاد هذا يحدث حتى وجد صاحب البقرة نفسه يضحك ضحكًا عاليًا متواصلاً وكأنه قد جن فعلاً، وبلغ به الاستهتار حد أنه حين سمع السؤال يلقى عليه من جانب الطريق، اندفع ناحية السائل ورفع يده يحاول أن يهوي بها على صدغه، ولكنه فوجئ بيد حديدية تقيد يده في مكانها، وبكف كأنها من بلوط تهوي على صدغه هو بأربعة أقلام سخية نظيفة جعلت عينيه تقدحان شررًا، بل أعمته إلى درجة لم ير معها ضاربه، ولا فطن إلى أنه ضرب إلا بعد أن أصبح بينه وبين المعتدى مشوار ومشوار.
وعند كشك المرور تمامًا سأله تاجر قمح تخين كان يفرش على جانب الطريق يشتري
بالأقداح والشروات من الذاهبات إلى السوق:
- إلا قولي يا شيخ العرب، بالذمة والأمانة بكام؟
ولم يكن عربياً أو شيخ عرب، ولكنه بمنتهى التأدب أو بهدوء غريب لا اثر مطلقًا لأية ثورة فيه أجاب: - بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
وكأنه لأول مرة يدرك- وبصفاء أيضًا- أنه باع كل شيء ليشتري هذه البقرة بعدما ماتت جاموسته في أول شعبان، بل فطست ولم يلحقها الجزار بالسكين حتى، ولثلاثة أشهر وهو يدبر، وعلى المحصول الذي لا تزال أمامه أربعة أشهر طويلة، ومحفظته إن كانت لم تسرق في الخناقة فليس بها غير جنيه وربع هي آخر ما تبقى معه من نقود الحياة.
-
بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
قالها مرة أخرى، وبصوت مخنوق أعلى حتى حدق فيه التاجر مذهولاً لا يستطيع النطق.
وما
كاد يلتفت حتى هبط من فوق جسر السكة الحديد رجل كان يحمل عنزة فوق كتفه، وما أن فتح
فمه لينطق حتى قال:
- بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
وبعد برهة قابلته امرأة تحمل مقطفًـا ثقيلاً وتنوء بحمله، وقبل أن يصلها أو تدرك
وجوده رفع صوته وقال:
- بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
وقالت المرأة (يه) ثم حثت الخطو وكأنها تهرب من شبح .
وعند التابوت كانت جماعة قادمة من طريق التوت بعضها راكب وبعضها ماش، ورفع صوته إلى
أقصى ما يستطيع وقال:
- بالذمة والامانة بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار .
وضحكوا ، وقال واحد :
- الناس انهبلت .
بينما تخلف ولدان راحا يشبعانه تريقه وسخرية.
وعلى مدخل البلدة رأى جاموسة ترعى على حافة " القيد" فصرخ فيها:
- بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
واستدارت الجاموسة ناحيته، ورمقته في بلادة وكسل، ثم عادت تعسعس بشفتيها وأسنانها على الحشيش .
وحين دخل بلده ، كان يصيح، سواء سأله أحد أم لم يسأله، قابل شخصاً أم لم
يقابل ، يقولها هكذا للزرع وللحيطان ، وللحر أو للسما ، وللأوز وللجنيه وربع،
وللأربعة أشهر والأربعة أولاد والولية ، وللبهيمة التي ماتت ، وللبقرة التي يسحبها،
وللشيخ منصور، ولنفسه ، وللدنيا كلها :
- بالذمة والأمانة والديانة ، وبكل كتاب انزل ، بسبعة وثمانين جنيه وربع وبريزة
للسمسار..
قراءة القصة :
"سورة البقرة" ليوسف إدريس
في قصة "سورة البقرة" ينقلنا يوسف إدريس إلى جو الريف بكل ما فيه من صور تتشابه حتى تتسم بالبساطة، ولكن وراء هذه البساطة تعقيدًا سنحاول أن نتلمس جوانبه.
الكاتب له خبرة في حياة الريف، فقد وضع إصبعه في هذه القصة على مدى المعاناة التي يتكبدها الريفي بسبب الريفي الآخر، "فالآخر هو الجحيم" - حسب تعبير سارتر.
تلخيص القصة
يدفع "الشاري" ثمن البقرة سبعًا وثمانين جنيهًا وربع الجنيه وبريزة للسمسار...ثم ما تلبث أن تنهال عليه الأسئلة من كل حدب وصوب، كل منهم يذمّمه ويحلفه أن يذكر السعر تمامًا.
يتباين رد الفعل عند الشاري من خلال أجوبته ، فتارة يجيب بهدوء ، ومرة بعصبية ، مرة يشاجر، وطورًا يضرب، ثم ما يلبث أن يُضرب، ولما ضاق الشاري بالأسئلة الملحة ذرعًا، خرج عن طوره ، فجعل يخاطب امرأة من غير أن تسأله ذاكرًا لها السعر تمامًا، ثم ما عتّم أن خاطب الجاموسة التي استمرت ترعى، فالزرع، فالحيطان، وللحر أو للسما وللأوز ...، وحتى للبقرة نفسها ، ولنفسه أيضًا .....فكل ما اعترض سبيله....
المضمون
في هذه القصة تركيز على "القطعة الحياتية" المسلوخة من حياة الريف، فما يكاد يحدث شيء طارئ حتى ترى الناس بقضهم وقضيضهم يدسون أنوفهم ، كل منهم يريد أن يعرف التفاصيل. في تكرار الصور زهاء خمس عشرة مرة يسلط الكاتب الأضواء على تصرف أبناء الريف من جهة، وعلى الشاري الذي جعله ضحية "فضولهم" من جهة أخرى، فقد كان بادئ ذي بدء مستعدًا للإجابة عن السعر، حتى يعلم حقيقة إن كان قد ربح أم خسر، ثم بحرص على الإجابة، ثم بتبرم شديد.
والقارئ يرافق الشاري في مسيرته ويشاركه في انفعالاته - وهو يتبرم من الأسئلة التي تنهال تترى.
وبرغم أن الصور تكاد تكون نفس اللقطة الفوتوغرافية إلا أن هناك إحساسات متنوعة عند الشاري.
لنلق نظرة على هذا الاستعراض أو هذا الجدول:
|
|
السائل |
كيف تقبل الشاري السؤال |
رد فعل السائل |
ملاحظات |
|
1 |
فلاح طويل مهول |
معني في الإجابة ليعرف أخسر أم كسب |
غمغمة |
سأله بالتفصيل هل البقرة فيها لبن؟ معشرة...الخ |
|
2 |
رجل بشارب وصوت هائش وكرش |
أجابه بصوت واضح وحرص على الإجابة |
أجاب بحزن وغيظ لا يعرف سببها مبروكةعليك |
والإجابات كانت واضحة |
|
3
4 - |
فلاح كان يعزق الأرض
ثلاثة أشخاص آخرين |
أجابه بصوت عال وكأنه يجيب البعيد والقريب |
|
|
|
5 |
شيخ معمم |
أجاب ثلاث إجابات . نقض الذمة في الثالثة فلم يذكر البريزة
أجابه طبيعية –تضايق من طريقة الاستحلاف- |
|
|
|
6 |
رجل وكأنه عمدة |
............. |
غالية شوي إنما تتعوض |
|
|
7 |
رجل مسن |
كاد ينتف شعر ذقنه |
يدعو عليه: أن كنت كدبت ما توعي تعلقها في المحراث |
المسن يستحلفه ثلاث مرات بإلحاح غريب |
|
8 |
شخص على حافة الخليج |
شتائم بينهما بسبب خلاف هل تدخل البريزة في الثمن العام؟ |
|
|
|
9 |
رجل قصير ومؤدب |
ضربه قبل أن يسأله |
راجع نفسه صاحب البقرة مجنونًا |
|
|
10 |
سؤال من جانب الطريق |
محاولة ضر ب السائل |
ضربه وأعماه إلى درجة لم ير فيها ضاربه |
|
|
11 |
تاجر قمح تخين |
أجابه بهدوء أثر لثورة |
مذهولاً لا يستطيع النطق |
|
هنا اخذ يجيب من لا يسأله في شبه ثورة ، ويذكر له السعر تمامًا.
فالسائلون ظهروا بأزياء متباينة قد لا تخدم النص، ولكنها تضفي مسحة واقعية.
ماذا نعرف عن الشاري من ثنايا القصة؟
نستطيع أن نلم الخيوط من خلال حوارات الشاري مع أبناء الريف، فهو من قرية "الشيخ منصور" . كانت عنده جاموسة ماتت قبل أن يلحقها الجزار بالسكين، فباع كل شيء، واستدان المبلغ على أمل أن يسده بعد أربعة أشهر -عندما يغل المحصول-، وقد ذهب إلى قرية "هرية" ليشتري بقرة أسوة بما فعل جده الذي اشترى البقرة بثلاثة جنيهات، وأسوة بأبيه الذي اشترى بقرة بخمسة جنيهات.
التقنية :
في هذه القصة حشد زاخر بالنماذج الريفية، ولعل التكرار والوصف الخارجي للأشخاص هو ما جعل القصة قصة قصيرة وليست خبرًا. ولو تسنى لنا أن نجعلها خبرًا لكان نصه كما يلي:
"بعد عودة الشاري من السوق إذ بالأهالي يسألونه واحدًا تلو الآخر- عن ثمن البقرة التي اشتراها ، فتضايق الرجل من إلحاحهم في أسئلتهم أشد الضيق، فبعد أن حاول الإجابة مخلصًا تبرم من إلحاح الناس ، فأخذ يجيب من يسأله ولا يسأله، ووصل به الحد إلى درجة مخاطبة الجماد والحيوان ، وقد فقد رشده ."
فمثل هذا الخبر لا يحمل أهمية، وهو لا يجذب القارئ كي يسأل : وماذا بعد؟ فالحديث في القصة متكامل يجلو لحظة معينة، وقد نشأ بالضرورة موقف تطور وتطور، حتى أصبح بالتالي تصرفًا رافضًا، وكأنه تمرد على أوضاع القرية –في نظرنا على الأقل- ، فالموقف أو نقطة الانطلاق هو شراء البقرة، والتطور والحركة - مدى استعداد الشاري للإجابة وهو -كما هو مبين في الجدول- بين صعود وهبوط... والتحول الفجائي –خروج الشاري عن طوره. فكل لقاء مع أحد أبناء الريف كان يسوقنا إلى النهاية، وقد أطال الكاتب في هذه اللقاءات حتى يتلاءم موقف الشاري الأخير، ويكون له التبرير تبعًا للظروف الفنية للقصة.
والتكرار الذي تحدثنا عنه أشبه بلازمة شعرية ينساق معها القارئ ، حتى يصل إلى الذروة المؤسية التي وصل إليها الشاري. ولما كانت الذروة تُركت بدون حل حسب مقومات القصة التقليدية: مقدمة ¬ ذروة ¬ حل، فليس بدعا إذا قلنا إن الذروة والحل يتطابقان تمامًا، فالحل هنا يبدأ عندما تطرح الأسئلة عن معنى حياة هذا الإنسان؟!
هل تساوق القصة بهذا الشكل يؤدي إلى تغير في المجتمع؟ سنحاول أن نأتي في التحليل على هذه الأسئلة. ثم نسأل:
هل في القصة ترابط بين جزئياتها؟
نظرة أخرى فاحصة على تسلسل الأسئلة ومواقف الشاري ترينا أن التحول بدا عندما ضرب الرجل القصير، ولكن هذا التحول انتكس بعد أن جاوبه بيد عنيفة جعلته يتصرف بهدوء قبل العاصفة، وأخيرًا كانت العاصفة.
ومن خلال السرد لاحظنا لغة إدريس بأنها لغة مبسطة ذات أسلوب سهل، فهو يستعمل العامية المصرية في طوايا الفصحى ، على نحو : "وضربه أربعة أقلام"، واستعمال " فقط لو أنهم ..." هو ترجمة للعامية المصرية : " بس لو ..."، وه يستخدم " للسما " بدل " للسماء " تواصلاً مع لغة الناس اليومية ؛ ولكنه في الحواريات ينقل الكلمات العامية كما هي ، حتى يضفي عليها طابع الصدق أكثر واقعًا وحالاً .
التحليل
نعرف من خلال النص شخصيات تستتر وراء تصرفاتها طبائع بحاجة إلى دراسة سيكولوجية، وأبرز صفتين نراهما في المجموعة الريفية:
أ- الفضول /حب الاستطلاع
ب- الإلحاح
ولا شك أن الاستحلاف بنفس الصيغة "بالذمة والأمانة.... الخ" يعطينا صورة عن حياة أهل الريف الذين يعتبرون مثل هذا القسم مدعاة كافية لقول الصدق والحق. فالكاتب يدرك أن هذا المجتمع فيه بساطة، إذ تتكرر المظاهر التي أشرنا إليها، ومع ذلك فمن وراء هذه البساطة تعقيد ، ويتجلى ذلك عندما نعمد إلى الأسئلة: لماذا يسألون؟ ولماذا نجيب؟
أما الشاري فله مواقف متباينة- كما ألمحنا- وتتدرج المراحل كما يلي:
أ- هو معنيّ أن يقول السعر تمامًا ليعرف أربح أم خسر
ب- حرص على الإجابة بكلام واضح، حتى لا يحدث معه ما حدث في المرة الأولى، إذ لم يقابل بإجابة شافية.
ج- تضايق من أسئلة الشيخ المتكررة وطريقة استحلافه الغريبة لدرجة انه كاد ينتف شـعر
ذقنه.
د- شتائم بسبب نقاش ما إذ كانت البريزة تدخل في الثمن العام أم لا؟
هـ- ضرب شخصًا بدون مبرر- اللهم إلا سؤاله.
و- يحاول أن يكرر الضرب بعد أن حصل على مردود " ناجح " في المرة السابقة.
ز- عندما وجد الخوف رادعًا أجاب مرة أخرى بلطف.
ح- التحول في ذروة صراخه وإجاباته لمن لا يسأل ، حتى قال احدهم: "الناس انهبلت" ، وتخلف ولدان راحا يشيعانه تريقة وسخرية ".
ولو سألنا بعد هذا العرض السيكولوجي لنفسيته: لماذا لم يصمت –شأننا اليوم- لما
وجدنا إجابة قاطعة، وكأن الكاتب يريد أن يقول إن طبيعة الريفي تفرض عليه الكلام لا
أقل مما تفرض عليهم السؤال. والمجتمع الريفي معذب في عادات هو في غنى عنها، وقد
التقط الكاتب صورة هذا المجتمع عبر حادثة بسيطة، فجعل هذه الصورة ، وكأنها دراسة
سيكولوجية لطبيعة الإنسان الريفي.
أما الدراسة الاجتماعية فتتلخص في الصفات البارزة في الطبيعة الريفية في طريقة
البيع والشراء التقليدية التي تنتهي بقراءة الفاتحة في الاستحلاف في الحرص على
البقرة أو الحيوان الذي هو جزء لا يتجزأ من حياة الريفي، فحتى في عراكه يعارك بيد
واحدة، بينما يمسك بالثانية حبل البقرة تمامًا كشأن غريمه الذي يعارك بيد واحدة،
بينما يمسك بيده الثانية دكة السروال. هل يُريد الكاتب أن يقول شرف الريفي مهم جدًا
حتى في غمرة خصومته؟ بل قد يسأل سائل ، وبشكل أحد : هل التشبث بالبقرة يعادل
التشبث بالشرف ؟
لا نستطيع أن نجزم بذلك، فالبقرة ليس لها دور هام هنا كدور الطرفة في قصة " الناس" للكاتب نفسه ، ولكنا نستطيع أن نؤكد أهميتها من خلال تكرار الأسئلة عن سعرها، وقبل ذلك من استدانة الرجل حتى يحصل عليها، فحول البقرة يدور صراع الشخصية الريفية التي تمثلت هنا بالشاري.
ولو عدنا إلى رد الفعل عند السائل في الجدول أعلاه لوجدنا أن الكثيرين لم يعلقوا، فأحدهم بارك، وأخر ذُهل، والذهول تأتّى بسبب الغلاء. والكاتب يذكرنا أن الشاري يعرف التفاوت في السعر: في أيام جده ثلاثة جنيهات، ووالده اشتراها بخمسة، أما هو فيشتريها بمبلغ باهظ.
(رغم أنها ليست معشرة وليس فيها لبن).
ولاحظنا الذهول في قولة بعضهم عندما سمعوا المبلغ "بتقول بكام؟" ، وكأنهم بهذه
الكلمة يستهجنون الغلاء. والكاتب لم يُرد أبدًا أن نقف عند الغلاء بقدر ما أردنا أن
نقف عند طبيعة الناس الذين يهتمون بشؤون الآخرين.
وربما كانت هذه القصة رمزية تتصل بالواقع ،حتى تظهر لأبناء المدينة بالذات وتعلمهم
"كيف لا يكون الإنسان فضوليًا".
فالقصة في ظني ما كُتبت لأهل الريف فقط، فلو استطاع القراءة في القصة لكان يمكن-
بعد الإلحاح -أن يكتب سعر البقرة ويعلقه عليها. غير أن هذا الاستنتاج لا ينفي كون
القصة كتبت من خلال دراية بشؤون أهل الريف وبمدى حبهم للاستطلاع أو الفضول .
والكاتب لا يدعو إلى تغير المجتمع الريفي بواسطة أهاليه، فقد بقي حائرًا في أهل
الريف كما خلّفنا صاحبنا الشاري حائرًا ماذا يفعل، فالكاتب لم يقل لنا ماذا كان من
أمر الشاري في النهاية ، ولعل في هذا الغموض سر جمال القصة، فهل يستمر الشاري بعد
ذلك في عمله، ويعود على سُنتهم الأولى، فيسأل الآخرين عن شؤونهم -كما سألوا؟ هل بقي
فاقدًا وعيه؟ هل تعلم بعد ذلك أن يصمت؟
والآن - هل شخصية الشاري شخصية نامية أم مسطحة – كما يحب قارئو فورستر في
" أركان القصة " أن يسألوا ؟
إن الشخصية هنا تتبدى خلال القصة ، وهي تتطور تبعًا لحوادث القصة مع كل حادثة ومع كل سؤال، وقد فاجأتنا هذه الشخصية بطريقة مقنعة أكثر من مرة
1- ضرب رجل ، ومحاولة تكرار الضرب مع شخص أقوى منه، 2- إجاباته "البلهاء".
ولكن هذه المفاجآت كانت نتيجة يمكن أن نتوقعها إذا وقفنا قبلها، وسألنا أنفسنا ماذا يمكن أن يحدث؟
إن
الشخصيات تتسم في هذه القصة بالألفة والصدق في طريقة سؤالها، وفي ردود أفعالها،
فكم شخص يناقش في مسائل ليست من خصوصياته، كنقاش الفلاح عن بريزة السمسار- هل تدخل
في الثمن أم لا؟ والشاري عندما وجد نفسه يضرب السائل الذي يرتدي "عباءة في عز الحر"
فإن ضربه ناتج عن مدى تبرمه - هذا التبرم الذي وصل به المطاف إلى درجة "مضحكة".
ثم ألا تدل صورة ارتداء العباءة في عز الحر على غباء أراد أن يلمح الكاتب إليه؟.
أريد أن أقف أخيرًا على هذه الفقرة التي وردت في نهاية القصة:
"وعلى مدخل البلدة رأى جاموسة ترعى على حافة (القيد) فصرخ فيها بسبعة وثمانين وربع
بريزة للسمسار، واستدارت الجاموسة ناحيته، ورمقته في بلادة وكسل ثم عادت تعسعس
بشفتيها وأسنانها على الحشيش".
ورد هذا الخطاب للجاموسة بعد أن خاطب أناسًا كثيرين. هل يريد الكاتب أن يقول إنهم
بلداء كسالى كالجاموسة –وقد أوردها إيحاءً في مثل هذه الفقرة- ؟؟؟
لا غرابة في ذلك، ولكن لا تأكيد؟
إن
الكاتب يحشر أنفه أيضًا في القصة –مع أنه أبدع بها- فهو قد قدمها شريطًا مسلسلا لا
أثر فيه لتفاعل الأزمنة أو "للفلاش باك"، وقد نقل لنا صورة داخلية من خلال
الحواريات الكثيرة، لكنا وجدنا الكاتب ينقل لنا بعض الآراء- التي جعلها في مخيلة
الأشخاص- بصورة خارجية. مثال:
عندما يسأل الشيخ المعمم الشاري: "دفعت فيها كام بالذمة والأمانة" ؟
يتابع الكاتب رد فعل الشاري من خلال صوت داخلي يدخل ضمن ما عرف بتيار الوعي : "فقط
لو أنهم لا يذمونه ويستحلفونه بالأمانة والدين سبعة وثمانين جنيه وربع بريزة
للسمسار".
فالتعليق ليس من الريفي ولكنه من رأي الكاتب، وكأنه يمثل شخصية الشاري، وقد ضاق بالاستحلاف ذرعًا.
وهو ينقل لنا صورًا خارجية لا نستطيع التأكد منها: "ولو كان قد بقي أمامه لحظة أخرى لما كان قد استطاع كبح جماح الخاطر الذي كان يلح عليه باستمرار أن ينتف شعر ذقنه شعرة شعرة" ، ثم قوله: " وبلغ به الغيظ انه لم يتحمل مجرد فكرة العودة للبحث عنها مكان الخناقة "وقوله" ولم يكن عربيًا (2)أو شيخ عرب".
لماذا سميت القصة "سورة البقرة" ؟
أما البقرة فلها مبرر في التسمية ، فهي محور الحديث والسرد ، وهي "عتبة النص" . أما لفظة "سورة " ففيها تصور ينحو إلى القول إن سورة الفاتحة تتكرر كثيرًا في حياة الريفي، وهي مجاورة لسورة البقرة ، فلا عجب أن تكون التكرارية عاملاً مشتركًا، وجاءت لفظة " السورة " لتعبر عن ذلك .
نهاية
تمثّل هذه القصة الاتجاه الواقعي في كتابات إدريس، وهي تدعو فيما ترمز إليه إلى التغير في بنية المجتمع، وقد حاولت أن أستعرض مفهومها وتكنيكها، وحللت- بقدر ما سمحت به الافتراضات- الأجواء النفسية والاجتماعية للطبيعة الريفية.
1 - القصة من مجموعة "بيت من لحم"، إصدار مكتبة مصر ،القاهرة -1971، ص 121.
2 - لم يكن عربيًا: ويقصد بها بدويًا ، أو من العربان.
...................................................................................................................
هكذا قرأت نجيب محفوظ ، وقرأت عنه :
معالم الإبداع في القص عند نجيب محفوظ
تناول النقاد والدارسون أدب محفوظ بغزارة( 1 ) لا تكاد تصل إليها أية دراسات أخرى عن أديب عربي، وقد بقيت رواياته وقصصه مرمى لكل مستعيد ومستزيد.
وإزاء ذلك لا تبغي هذه الدراسة أن تستعرض هذه الأبحاث، ولا أن تنتقي منها مدعية من ورائها توليد معنى أو تحليل مبنى لم يعمد إليهما أحد. ولكنها تطمح أن تقدم للقارئ خلاصة رأي وزبدة مخَضتها من قراءات في أدب محفوظ وعنه.
وهذه الدراسة لا تزعم –بعد ذلك- أنها أول من أشارت إلى كَيْت وذَيت، فقد تكون ثمة تصورات هي أصداء لطروحات سبقت ، ولعل ما يشفع لها أنها تركيز لمعالم أكثر من كونها تعمقًا في عينّة ما.
فماذا قدم محفوظ للأدب العربي حتى حظي بهذه المكانة وهذه الهالة التي أسْطَعتها –بشكل أو بأخر- جائزة (نوبل)؟ (2)
وقراءتي لروايات محفوظ –أو بداية مَخْض الزبدة- بدأت في مرحلة دراستي الثانوية ( 3 ) حتى إذا نشر البروفيسور سوميخ كتاب "الإيقاع المتغير في أدب نجيب محفوظ" - بالإنجليزية - تناولت الكتاب في دراسة قصيرة(4 ) ، وركزت على كون محفوظ أديبًا عالميًا، ويجب أن نوجد الوسائل لتقريبه للأذهان الغريبة التي تستمرئ –غالبًا- أدبنا.
وها هو أملي يتحقق وأجد كاتبنا ضمن أسماء عالية خالدة حصلت على الجائزة من قبل، نذكر من بين الروائيين: سنكلير لويس ،وبيرانديللو ،وتوماس مان ،وبيرلز بك، وأندريه جيد ،ووليم فوكنر، والبير كامي ،وجون شتاينبك، وإرنست همنغواي، وميخائيل شولوخوف، وجبرائيل ماركيز ....(بالإضافة إلى بوريس باسترناك، وجان بول سارتر- اللذين رفضا الجائزة) (5 ) .
وما دامت هذه الدراسة تطمح إلى عرض إبداع محفوظ بصورة عامة وجوهرية فسأتوقف على بعض معالم هذا الإبداع الأدبي مدللاً على ما سأذهب إليه.
"إن التلوين" الأدبي هو إبراز ما في أداء محفوظ، وأقصد بذلك القدرة على
التعبير في أكثر من لون (Ge`nre)،
وبالأخص الرواية والقصة القصيرة، حيث تتباين صور الفن الأدبي الواحد طرحًا ومنهجًا
وأسلوبًا.
ففي الرواية نطالع أولاً رواياته التاريخية (عبث الأقدار، رادوبيس،
كفاح طيبة) ، فنستشف منها معانقة التاريخ/ الأسطورة للواقع السياسي المعيش
في مصر، وتصل بنا رواياته الاجتماعية (القاهرة الجديدة، زقاق المدق،
خان الخليلي وغيرها) إلى اكتشاف تناقضات الحياة اليومية والصراعات السياسية
عبر تصرفات الشخصيات الروائية وسلوكاتها.
أما الثلاثية (قصر الشوق، بين القصرين، السكرية) ففيها وجهة
نظر مؤكدة، يرى محفوظ أنها "خيط سير معين للأحداث يمكن تلخيصه في كلمتين - بأنه
الصراع بين تقاليد ضخمة ثقيلة وبين الحرية في مختلف أشكالها السياسية والفكرية
(6 ) .
وتحمل بعض رواياته صورًا للتشويه الاجتماعي، فتأتي الشخصيات المهزوزة اجتماعيًا،
وكأنها إفراز طبيعي لظروف البيئة، مما يمكن اعتباره اتجاهًا "طبيعيًا" في التقسيم
"المدرسي".
ونجيب محفوظ يتوقف عند بعض مسائل محرّمة ( محظورات ) في العرف الاجتماعي (taboo)،
ويطلعنا على نماذج لعاهرات وفتوات ومتعاطي مخدرات، وكأن مجتمعنا ينظر إلى هذا
الشذوذ جزءًا من مقومات وواقع واحتمال.
وينتقل محفوظ عبر رواياته المتعددة من الوصف السردي إلى البناء الدرامي (ثرثرة فوق النيل مثلاً) إلى أسلوب جديد قد لا يعتبر رواية في المفاهيم الكلاسيكية للرواية (أمام العرش) إلى جو الأحلام والأساطير (رحلة ابن فطومة، ليالي ألف ليلة وليلة).
تتميز "أولاد حارتنا" بأنها حاملة شحنات فلسفية عبر (أليغوريا) تتلخص – لدى
كثير من الدارسين - بأن (جبلاوي) هو الله ، وأن (عرفة) هو العلم الذي يكمل مسيرة
الحياة.
وهذا التراوح والتباين نجده كذلك في قصصه القصيرة، فمن قصة سردية مباشرة إلى
قصة مفعمة بالميتافيزيقية أو السريالية. (وخاصة بعد نكسة حزيران- انظر مثلاً "تحت
المظلة") وهذا التركيز أو التكثيف من شأنه أن يبهر القارئ المثقف خاصة وهو
يعلم أن محفوظًا ليس لاعبًا في "سيرك" للعبارات، وإنما هو يعمد إليها مشغوفًا
بخلفية ثقافية واجتماعية، وبالمقابل فإن في بعض قصصه المتأخرة – كما أرى _ حشوًا
وثرثرة ( 7 ) .
وهذه المباشرة التي تطفو بين الفينة والأخرى من شأنها كذلك أن تثير النقاش حولها رغم ما فيها من قصور فني.
وفي ظني إن هذا الصعود والهبوط في الرسم البياني من شأنه أن يستقطب القراء على
اختلاف مشاربهم، فيجد كل منهم نقطة ارتكازه. وليس من المعقول أن ترضي القصة الواحدة
جميع الأذواق في جميع المستويات وبكل الأزمنة والأمكنة.
إذن ، فهذا الصعود والهبوط بحد ذاته إشارة صحة وإثارة للنظر المتواصل.
خلق محفوظ رواياته وكأنها منتزعة من صميم التاريخ، فجعلها حيّة في وجدان المجتمع وضميره، وليس أدل على ذلك من شخصية (أحمد عبد الجواد) في الثلاثية ذات الملامح والسمات التي قد توازي بتصويرها شخصية تاريخية أو أسطورية.ثم إن (حميدة) و (نفيسة كامل) و (سعيد مهران) و (صابر الرحيمي) و (محجوب عبد الدايم) وغيرهم شخصيات تتحرك في نبض المجتمع المصري، فيتعرف القارئ على سلوكها وانفعالها، وينفعل إزاءها مما يجعله بالتالي في فعالية تقويم الذات وتوجيهها في سلوكه وممارسته.
إذن ، فنحن أمام محاولة غير مباشرة من المؤلف/ الراوي لبناء كشاف سلوكي واجتماعي وقيمي عبر تصرفات الشخصيات وأمزجتها.
إن القارئ يألف تصرفات الشخصيات رغم أنه يتقزز من بعضها، فهو يتابع النمطية والشذوذ متفرجًا أو مسايرًا وأحيانًا متسائلاً عن موقفه إزاء الحدث، ولا بدع إن كان التطهير بالمفهوم الأرسطي فعالاً في النثر كذلك.
وهذه القدرة على نقل الشخصية بالتفصيل وبأدق الجزئيات فيها الكثير من التجسيم على الشخصيات، بل بصف الأمكنة بدقة متناهية يبنيها وفق رؤية خيالية "وفانتازيا" لا تبتعد عن الواقع بكثير (8 ) ، يقول محفوظ:
"أغلب رواياتي كانت تدور في عقلي كخواطر حية أثناء جلوسي في هذه المنطقة... ..يخيل لي أنه لا بد من الارتباط بمكان معين أو شيء معين يكون نقطة انطلاق للمشاعر والأحاسيس.." ( 9 ) ، وحتى المكان يصبح في بعض العمال بطلاً (كالزقاق في "زقاق المدق" والعوامة في "ثرثرة فوق النيل" والفندق في "ميرامار").
إن هذا التكوين المعماري المجسّم في الناس والمقاهي والأزقة وعلاقة الناس بالمكان فيها قدرة خاصة على النفاذ والتحديد والانضباط للمعطيات والممكنات.
ويرى محمود بقشيش الفنان التشكيلي أن نجيب محفوظ يرجح "الكتلة" على "اللون" ويقول:
"إن ميل محفوظ إلى التركيب والبناء المجسم يخفض بطليعته من البوح الخطابي
ويهذب التعبير المنطوق، وحتى عندما يتجه بريشته إلى مناطق الإبهام والحلم فإنه يهمل
التجسيم، بل يؤكده للدرجة التي توهم بواقعية المشهد".. (10 ) ويسبر
محفوظ أغوار الواقع الشعبي، ويساير حركة المجتمع المصري في رؤية مدركة لتطور الحياة
المصرية، عبر قرن كامل – هذا القرن بالذات شهد نقلة إن لم تكن طفرة، فاصطرع الناس
بين القبول والرفض وبين المادية والروحانية، وبين الانقياد للجماعة والحرية
الفردية، فعكس محفوظ مفاهيم ورؤى مستجدة، وكان لـ (موتيف) التغير أصداء في كتاباته،
حيث وَصفت أعماله تحول المجتمع المصري من التقليد إلى التجديد ، فظهر أكثر من تضاد
، وأكثر من مفارقة ، وأكثر من صراع على أصعدة مختلفة ، سواء كانت بين الرجل
والمرأة ، أو بين الدين والدنيا ، أو بين جشع الإقطاع ومسكنة "الغلابا"....
لم
تكن شخصيات محفوظ تتجاوز القاهرة أو الإسكندرية، وحتى "الحارة" التي تقف أقدامه
عليها ، يعرفها في وجدانه عالمًا حيًا يتجاوز المكانية الضيقة إلى العالم الكبير
والمعرفة، هي جواز المرور للتوصيف، لذا عدمنا في رواياته شخصيات وأماكن مستمدة من
سائر الأقطار العربية، وذلك لأنه يعرف بصدق الفنان أن الشخصية التي يكتب عنها يجب
أن يقرأها ويتقرّاها مرارًا وتكرارًا، وأن المكان يجب أن يكون مرسومًا في ذهنه بكل
ما يحمله من طرافة ودهشة.
وأختتم الحديث عن الوصف الواقعي بهذه المقتطفات من قصة بعنوان "قاتل"، وفيها وصف
حي لعالم الإجرام الذي كانت ملامحه أيضًا تتبدى في وصفه للفتوات ، وخاصة في روايته
"أولاد حارتنا" فلعل هذا الوصف ما يشي ببعض ما أشرت إليه:
" وكان يسكن في حجرة بدرب دعبس بالحسينية حجرة في حوش ربع قديم، حيث ترقد أمه الضريرة نصف مشلولة، وهي عجوز تعيش على صدقات الفقراء من الجيران هناك يأوي أخر الليل... وتمضي الأيام وهو لا يلتفت إليها، أما هي فلا تشعر له بوجود، ولعلها لم تذكره على الإطلاق، ولكنه لا يكف عن مغازلة الأحلام، الأميرة والبحر والجبل وبحبوحة عيش لا يحسن تصورها ولو في الخيال. وتساءل كثيرًا عن وكسته، أين يذهب وماذا يفعل. وهو ذو الماضي الحافل بالأعمال. اشتغل شيالاً وموزع مخدرات ولصًا...
- ولد يا بيومي
انتبه بعنف نحو الصوت كأنما يستجيب للسعة سوط. ثم وثب نحو صاحبه باستماتة وهو يبتسم ابتسامة عريضة توددًا وتذللاً. ها هو إنسان يناديه أخيرًا. وهوى على يده ليلتها وهو يقول:
- أهلاً وسهلاً بالحبيب أهلاً بالمعلم علي ركن سيد حيّنا كله... فسحب المعلم على يده بخشونة وقال وهو يحبك جبّته... .
ووردت على ذهنه فكرة غريبة وهي أن يعمل ترابيًا. وهي مهنة رابحة فيما يظن، ولن يُسأل –فيما يظن أيضًا- إذا تقدم لها عن ماضيه، ولن يجد صعوبة في زيادة دخله بتجارة الكيف وما أروجه بين القبور! ومضى يحلم من جديد مستعينًا بذلك على قتل الوقت حتى رأى الحاج عبد الصمد راجعًا، ثم تبعه حتى رآه يدخل الوكالة بالمبيضة ، فمال إلى قهوة عند رأس الطريق وجلس. احتسى الشاي ودخن أكثر من جوزة ، وأكل عددًا من قطع اللحم، وهو يراقب مدخل الوكالة دون انقطاع تقريبًا. ورأى شخصًا يغادرها فلم يصدق عينيه. المعلم الدهل محمود نفسه! الرجل الرهيب الذي لحسابه سيقتل عبد الصمد. بل رأى الحاج عبد الصمد وهو يودعه خارج الوكالة، رآهما يتبادلان الضحكات، وتواصل ذلك حتى استقر المعلم الرهيب في عربته وانطلقت به." (11 )
واللغة وعاء الأدب ومعرض الفكر يستخدمها محفوظ غالبًا – بعين الخبير أو الشاعر الذي
تأتيه كلماته طواعية. ورغم أن الحديث عن تلاحم الشكل والمضمون واتجاهات المدارس
البنيوية في بعض المغالاة في الدور الوظيفي للألفاظ وصيغ الاستفهام والتكرار والجمل
الفعلية وقصر الجمل واستعمال العامية والتركيز على السخرية أولاً وقبلاً، إلا أن
محفوظًا في نتاجه كان يعمد إلى لغة ملائمة للحدث. وهذه الملاءمة تبدت لنا في
استخدامه التعابير الصوفية في سرده الروائي ، خاصة في رواية اللص والكلاب
"وقصة" (زعبلاوي) .
وقد بين العناني في دراسة له لرواية "حضرة المحترم" أن محفوظًا يستعمل في
موضوع الطموح لغة دينية المصطلح لسرد تجربة ذات طبيعة تسلطية، وهذا الاستخدام له
أثر ساخر يشبه المفارقة الدرامية. (12)
وأسلوب السخرية عنصر فعال في نتاج محفوظ وذلك على طريقة (القفشات)، وسأسوق بعض الأمثلة من (زقاق المدق):
يقول زيطة لمن جاء يطلب عاهة وهو سليم معافى: "أنت بغل بلا زيادة ولا نقصان، فلماذا
تروم احتراف الشحادة؟."
ثم يرد زيطة عليه بعد أن قال إنه لم يكن يصلح لشيء:
إذن كان يجب أن تكون غنيًا. ( 13 )
وقد ركز سوميخ على استعمال فعل المضارع في "حكايات حارتنا" –في دراسة له-
وأن غرضه هو خلق التلاحم التام بين الماضي والحاضر، فمثل هذا الأسلوب يثير انتباه
القارئ إلى المفهوم الخاص للزمن في الأثر الأدبي عن طريق الإظهار أو الإبراز (foregrounding)
( 14 ) .
وتيار الشعور أو المونولوج الداخلي من وسائل كشف الشخصية، وعبر التداخل اللغوي في
الحوار والسرد نجد المؤلف/ الراوي ، ونجد الصوت الثنائي الموحد، وقد سمى شارل بلي
الفرنسي هذا الأسلوب "الحديث المنقول بتصرف"-
style indirecte libre،
ذلك لأن تيار الشعور كما عرف عند جيمس جويس أو فرجينيا وولف يجعل الشخصية في هيمان
أو متاهة مظلمة شاسعة، وفي تفكك خواطر لا منطقي، وفي ترحال بلا عائق عبد حدود
الزمان والمكان، وأحيانًا بتركيز على الخبرات الحسية وانطباعها على الذهن(15)
.
وهذا الأسلوب يكثر عند محفوظ، فيأتي الحديث وكأنه سرد على لسان الروائي لما يدور في
ذهن البطل ، فيخرج من كونه في الواقع سردًا، حتى يصبح واقعًا للبطل نفسه . وسأسوق
لقطة من "زقاق المدق" حيث تقف حميدة تستعرض الزقاق: (16)
" مرحبًا بك يا زقاق الهنا والسعادة... دمت ودام أهلك الأجلاء... يا لحسن هذا المنظر، ويا لجمال هؤلاء الناس ! ماذا أرى؟! هذه حسنية الفرانة جالسة على عتبة الفرن كالزكيبة عينًا على الأرغفة وعينًا على جعدة زوجها، والرجل يشتغل مخافة أن تنهال عليه كلماتها وركلاتها. وهذا المعلم كرشة القهوجي متطامن الرأس كالنائم وما هو بالنائم. وعم كامل... وهذا عباس الحلو يسترق النظر إلى النافذة في جمال دلال ، ولعله لا يشك في أن هذه النظرة سترميني عند قدميه أسيرة لهواه، أدركوني يا هوه قبل التلف ! أما هذا فالسيد سليم علوان صاحب الوكالة، رفع عينيه، يا أماه وغضهما، ثم رفعهما ثانية، قلنا الأولى مصادفة، والثانية يا سليم بك؟! رباه هذه نظرة ثالثة! ماذا
تريد يا رجل يا عجوز يا قليل الحياء؟!
وقد حاول بعض النقاد التركيز على وظيفة عبارة عامية هنا وهناك بشيء من الإقحام
ضاربين صفحًا أو متجاهلين منطلق محفوظ ورؤيته اللغوية.
يسأل فؤاد دوارة في حوار له مع نجيب محفوظ: "يقول الأديب الإنجليزي دزموند ستيورات
في مقال نشر له بعدد ديسمبر (1964) من مجلة المجلة:
" إن التزام نجيب محفوظ للفصحى في كتابة الحوار مخل بمطلب الواقعية الذي يطمع فيه
القراء الأجانب، ويصفه بأنه عناد طارئ - أي أنه لا يؤدي وظيفة فنية في الرواية"
وقرأت على لسانك مرة " أن اللغة العامية من جملة الأمراض التي يعاني منها الشعب
والتي سيتخلص منها حتمًا حينما يرتقى، وأنا أعتبر العامية من عيوب مجتمعنا مثل
الجهل والفقر والمرض تمامًا" . ألا ترى أن هذا الموقف المتزمت من العامية يدفعك إلى
رفض معظم كتابات أدبائنا الشبان الذي يصرون –مثل إصرارك- على استعمال العامية في
الحوار...
يجيب نجيب:...
أما أني اعتبر العامية مرضًا فهذا صحيح، وهو مرض أساسه عدم الدراسة، والذي وسع
الهوة بين الفصحى والعامية عندنا هو عدم انتشار التعليم في البلاد العربية... ويوم
ينشر سيزول هذا الفارق أو سيقل كثيرًا...."
( 17 )
ومع أن بعض النقاد يرون أن لا ضرورة لاستشارة الكاتب في موقفه للبت في عمله الأدبي
إلا أنني أرى في التزامه للفصحى بصورة بارزة إثراء لأدبنا وإحياء للغتنا، وهو موقف
يدعو للإعجاب.
ويبقى في لغته الأسلوب الشعري المكثف، ولا تكاد تخلو صفحة من نتاجه من هذا الأسلوب الذي هو مفعم بالصور ، وسأختار لكم وصفًا –ما زال أثره في ذاكرتي رغم بعد الشقة بيني وبينه- وهذا الوصف من (بداية ونهاية) قبيل انتحار نفيسة، وكانت برفقة حسنين متجهين إلى النيل:
"وكانت المصابيح، المقامة على جانبي الجسر تشع نورًا قويًا أحال ظلمته نورًا، بينما أطبق على ضفاف النيل بطول امتداده شمالاً وجنوبًا –رغم المصابيح المتباعدة الخافتة- فبدت الأشجار المتراصة على جانبيه كأشباح عمالقة، وكان المكان مقفرًا إلا من مارّ مسرع هنا أو هناك، وقد تناوحت الغصون بأنين ريح باردة كلما كف هبوبها تعالى هسيس النبات كالهمس. لازما موقفهما في جمود كالذهول ، ثم استرق إليها نظرة فرآها..."(18) .
وثقافة نجيب محفوظ شمولية، فهو يذكر لنا عشرات الأسماء الغربية ممن قرأ لهم روائعهم وتأثر بمجموعها. (19) وقد اعترف أنه قد قرأ بالإنجليزية لديستويفسكي وتشيكوف وبروست وتوماس مان وكافكا وغيرهم، كما قرأ بالفرنسية لأناتول فرانس. وثقافته المصرية –الفرعونية- استمدها أولا من ترجمته لكتاب "مصر القديمة" لجيمس بيكي (الصادر سنة 1932)، فانعكست في رواياته التاريخية الثلاث .(20)
ولا شك أن التكنيك الروائي قد تأثر بكثير من أساليبه بالأدب الأوروبي، وقد عرضت سيزا قاسم إلى مقارنة الرواية (الثلاثية) بالمدرسة الواقعية الفرنسية، فاختارت سيزا (مدام بوفاري) لفلوبير و (المطرقة) و(الفريسة) لزولا - كنماذج تمثل المدرسة الطبيعية، واستغلت الكاتبة اعتراف محفوظ بأنه أفاد من Glasworthy في ثلاثيته Forestyle saga فأضافتها إلى الموازنة ، مذكّرة القارئ أن فكرة (الثلاثية) في الأدب العربي إنما هي فكرة مستحدثة، وقد استخدمت المقارنات في بحثها حتى تستعين بفهم العمل الذي تناوله بالتحليل، فالمقارنات –في رأيها- تمثل حجر الزاوية للتحليل النصي، حيث أن العناصر تظهر بجلاء عندما توضع سلسلة من العناصر المشابهة خاصة من حيث وظيفتها في العمل الأدبي، ذلك لأن النص الأدبي ينتمي إلى مجموعة هائلة من النصوص المشابهة تربطه بها خيوط متشابكة واكتشاف هذه الخيوط يساعد في الوصول إلى طبيعته الخاصة. ( 21 )
وبالمقابل فإن التراث العربي له وجوده ووجوهه في أعمال محفوظ. ففي "ليالي ألف
ليلة" تطوير لحكايات شهرزاد والسندباد وعلاء الدين وطاقية الإخفاء والعفاريت
والأرواح والجو السحري بما فيه من سحر ودهشة وطرفة وغرابة، فينقل الكاتب هذه الصور
إلى الواقع المعيش، وكأن الشخصيات عاشت قديمًا.. بأسطوريتها ورائحتها ، ولنقرأ
نموذجًا:
"رفعت القضية بحذافيرها إلى السلطان شهريار، فأمر بعزل يوسف الطاهر لفقدان
الأهلية وعزل حسام الفقي لتستره على رئيسه.. وجلد حسن العطار وجليل البزاز وفاضل
صنعان للسكر والعربدة، ومصادرة أموال عجر الحلاق وإطلاق سراحه.. وخلا دندان إلى
ابنته شهرزاد فقال لها:
- لقد تغير السلطان وتخلق منه شخص جديد مليء بالتقوى والعدل.. ولكن شهرزاد قالت: -ما زال جانب منه غير مأمون، وما زالت يداه ملوثتين بدماء الأبرياء.. أما عجر فقد تناسى خسارته في فرحة النجاة.. وسرعان ما فسخ العقد بينه وبين قمر، ومضى إلى النخلة غير بعيد من اللسان الأخضر، فانحنى أمام المجنون المتربع تحتها وقال بامتنان:
- إني مدين لله بحياتي أيها الولي الطيب.."‑(22)
وفي رواية "رحلة ابن فطومة" –وزان (ابن بطوطة)- يتأمل البطل عذابات الإنسان في هذه الحياة، فيخرج من "دار الإسلام" حاملاً همومه، ويتنقل من مكان إلى آخر ليحدثنا عن طبائع المجتمعات البشرية، حتى يصل بالتالي إلى ضرورة تبني العلم على المنهج الغربي.
أجمل القول إن معالم الإبداع عند محفوظ تمثلت لنا في أكثر من لون أدبي ، وفي أكثر من مستوى، فكان قادرًا على رسم الشخصية المصرية بشكل تفصيلي معبّر وموح، وكانت الشخصية في كثير من إنتاجه محفورة في الوجدان المعايش (23). كما كان يجسم المكان، وينتقل في الزمان على مسرح أحداث يقتضيه مفيدًا من تكنيك الرواية الغربية ومن تراث عربي زاخر.
وبالتالي –ولعل هذا لا يقل أهمية - فقد كانت لغته تؤدي المضمون الذي يرمي إليه، وكأن المعنى شعلة النار التي يتحدد شكلها تلقائيًا، فيصير الشكل والمضمون كلاً واحدًا لا انفصام فيه.
الهوامش :
1 – لقد صدر عن أدب نجيب محفوظ عشرات الكتب الخاصة به وبأدبه ، بينها عدد من الأطروحات الأكاديمية ، وثمة كتب أخرى خصصت فصولاً لدراسته ، كما أن هناك آلاف المقالات التي صدرت في المجلات الأكاديمية والأدبية وبلغات مختلفة ، ومن الكتب الجادة التي انفردت بدراسة أدبه :
عبد المحسن طه بدر : الرؤية والأداة .
الأب جاك جومييه : ثلاثية نجيب محفوظ .
نبيل راغب : قضية الشكل الفني عند نجيب محفوظ .
محمود الربيعي : قراءة الرواية .
سليمان الشطي : الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ .
غالي شكري : المنتمـــي .
جورج طرابيشي : الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية .
علي شلق : نجيب محفوظ في مجهوله المعلوم .
محمود أمين العالم : تأملات في عالم نجيب محفوظ .
محمد حسن عبد الله : الإسلام والروحية في أدب نجيب محفوظ .
أحمد محمد عطية مع نجيب محفوظ.
رشيد العناني : عالم نجيب محفوظ من خلال رواياته .
رجاء عيد : دراسة في أدب نجيب محفوظ .
جمال الغيطاني : نجيب محفوظ يتذكر .
نبيل فرج : نجيب محفوظ ، حياته وأدبه .
إبراهيم فتحي : العالم الروائي عند نجيب محفوظ .
Peled .M : Religion My Own - The literary works of Najib Mahfuz
بالإضافة إلى كتاب ساسون سوميخ ( انظر الملاحظة الرابعة أدناه ) .
2 – لا أناقش هنا الأبعاد السياسية لجائزة نوبل كما تتراءى للبعض ( انظر مقال صبري حافظ : " حكاية جائزة نوبل وجائزة نجيب محفوظ " ، مجلة الناقد ( لندن ) العدد السادس 1988 ، ص 6 ) ، فرغم عدم موافقتي لبعض طروحات محفوظ السياسية ( انظر مقالتي : " نجيب محفوظ والسياسة " ، الاتحاد ( حيفا ) ، عدد 25 نوفمبر 1988 ) ، إلا أنني أركز في هذا العرض على دوره الأدبي على الصعيد الفني والإنساني .
3 – كانت بداية قراءتي للروائي رواية بداية ونهاية ، وما زلت أحتفظ بفصل إضافي على الرواية كتبته محتجًا على النهاية المأساوية التي أنهى بها محفوظ الرواية ، فكان أن أنقذت حسنين من الغرق بعد أن انتحرت نفوسة أخته و ....
4 – فاروق مواسي : " نجيب محفوظ والدكتور سوميخ " ، الأنباء ( القدس ) 10/8/1973 .، ومن المعروف أن سوميخ اهتم اهتمامًا بالغًا بأدب محفوظ ، فكتب أطروحة الدكتوراة بعنوان : The Changing Rhythm, Leiden – 1973 ، كما أصدر كتابًا آخر بالعربية هو : ثلاثية فصول في أدب نجيب محفوظ ، مكتبة السروجي ، عكا – 1982 .
5 – ثمة كثيرون ممن اكتسبوا شهرة عالمية لم يحظوا بهذه الجائزة لسبب أو لآخر ، ومع ذلك فقد بقوا مشاعل لهداية الفكر البشري نحو الحرية والعلم والإنسانية ، أذكر منهم على سبيل الأمثلة لا الحصر : ديستويفسكي ، تولستوي ، جيمس جويس ، ألبرتو مورافيا ، فرانز كافكا ، ومارسيل بروست . ( انظر اعتراف محفوظ بأنه تأثر تأثرًا مباشرًا ببعضهم في كتاب فؤاد دوارة : عشرة أدباء يتحدثون ، دار الهلال ، القاهرة – 1965 ، ص 275 . )
6 – ن . م ، ص 285 .
7 – انظر القصتين اللتين نشرهما بعد فوزه بالجائزة : " عندما يقول البلبل – لا " مجلة المصور ، ( القاهرة ، عدد 21 أكتوبر 1981 ، ص 48 ، وقد أعيد نشرها في مجلة الجديد ( حيفا ) ، عدد ديسمبر 1988 ، ص 21 . والقصة الثانية : " دقن الباشا " الهلال ( القاهرة ، عدد نوفمبر 1988 ، ص 130 ) .
8 – انظر مقال جمال الغيطاني :" القاهرة بين الواقع والخيال في ثلاثية نجيب محفوظ " ، مجلة إبداع ، عدد يناير 1984 ، ص 7 – 14 .
9 – الغيطاني : نجيب محفوظ يتذكر ، دار المسيرة ، بيروت – 19880 ، ص 20 .
10- انظر مقالة بقشيش : " نجيب محفوظ الفنان التشكيلي " ، مجلة الهلال ( القاهرة ) ، عدد نوفمبر 1988 ، ص 103 .
11 - من مجموعة نجيب محفوظ : دنيا الله ، ص 96 .
12 - انظر رشيد العناني : عالم نجيب محفوظ من خلال رواياته ، ص 22 - 23.
13 - انظر كتابي : الجنى في النثر الحديث ، القدس – 1986 ، ص 262 ، وثمة مظاهر لغوية أخرى ، والنماذج التي سقناها وردت في الفصل السابع من روايته زقاق المدق ، ص 54 ( الإشارة إلى الفصل بسبب كثرة الطبعات )
14 – ساسون سوميخ : ثرثة فصول في أدب نجيب محفوظ ، مكتبة ومطبعة السروجي ، عكا – 1982 ، ص 47 – 74 .
15 – رشيد العناني : عالم نجيب محفوظ من خلال رواياته ، ص 22-23 .
16 – زقاق المدق ، نهاية الفصل الثالث .
17 – فؤاد دوارة : عشرة أدباء يتحدثون ، كتاب الهلال ، 1965 ، ص 286 .
18 – بدابة ونهاية ، الفصل 91.
19 – انظر كتاب دوارة : عشرة أدباء ... ، ص 273 ، وكذلك : نجيب محفوظ يتذكر ، ص 42 .
20 – الروايات هي : عبث الأقدار ، كفاح طيبة ، رادوبيس ، وقد أشار محفوظ إلى أن سبعة وعشرين موضوعًا مصريًا كانت تدور في ذهنه ، وهي معدة لأعمال روائية . ( انظر كتاب دوارة ، ص 283 ) .
21 – سيزا قاسم : بناء الرواية ( دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ ) ، الهيئة العامة المصرية للكتاب ، القاهرة – 1984 ، ص 168
22 – نجيب محفوظ : ليالي ألف ليلة ، مكتبة مصر ، القاهرة – 1982 ، ص 168 .
23 - اقترحت في مقال لي أن يتفرغ أحد الدارسين لتأليف معجم بالشخصيات التي وردت في أعمال محفوظ، أنظر: مجلة الشرق (شفاعمرو) عدد أكتوبر- ديسمبر 1988، ص11.
..............................................................................................................................................................................................................
عن قرية الفلسطينيـين
(رواية محمد وتد)
(زغاريد المقاثي)* رواية تتلمس الهاجس الفلسطيني، تضع فيها الإصبع على الجرح تارة وعلى الزناد تارة أخرى. تروي القصة بشكل مفعم بالحيوية، زاخر بالألم، قصة أبي العبد الذي قتلته الدورية ومات مرفوع الهامة. أم العبد في أحلامها، العبد في غربته –في أوروبا- حيث يتعرف على الفكر الثوري، ويساق إلى التعرف على (خلية فدائية).
عائلة ثانية: عيوش التي ترى في (العبد) الغائب فارس أحلامها، وسامح أخوها الذي ينتهي به الجزء الأول من الرواية ويكون معتقلاً.
عائلة ثالثة: عائلة الشيخ عبد الصبور –الإمام الذي يشارك بالعمل الثوري، وابنته صبرية أمضت ثمانية عشر يومًا في الاعتقال، وصابر رسول يخدم الفدائيين المختبئين في الكهف.
عائلة رابعة: أبو أحمد العميل الذي سقط ابنه مضرجًا بدمه، أم احمد جنّت وكانت تقضم عيدان الكبريت، فإذا بها في التالي تفجر (اللوري) وتموت شهيدة.
المختار المنافق، المجموعة الفدائية، ماريسا (صديقة العبد الأوروبية)، سمعان والرجل (الطويل النحيل)، كل هذه نماذج تطالعنا بها الراوية .
ليست الراوية هيكلاً واحدًا ، وإنما هي صور (بانوراما) شاملة لقرية صغيرة هي خربة (الزبداوي) في لواء جنين. نتعرف فيها على تفاصيل الشخصيات التي تنبض بالحياة، يقدمها المؤلف غنية متوهجة بسيطة، ويعبر من ورائها عما هو جوهري مدرك وممكن في الواقع الاجتماعي.
يفجؤك الكاتب بأم العبد وهي تتذكر زوجها أبا العبد في مونولوج داخلي مثير عبر حلم استغرقت فيه:
"كانت جميلة، كانت وكانت مهيوبة... كانت! وكان أبو العبد واختفى حاشاه أن يكون هرب فمثله من...".
إذن من البداية نتعرف على أن أبا العبد قد قتل بتهمة كاذبة، فلا بد إذن من أن يعود الراوي ليخبرنا كيف قتل أبو العبد.
يعمق الكاتب إحساسنا ويؤثر في نفوسنا وهو يصف إباء الرجل أمام الجنود الثلاثة. يرسم الملامح كيف نادوه ، وكيف ضربوه ، وكيف قاوم ، وكيف مات وهو لا يستسلم.
يشدك الوصف الدرامي وأنت تتابع بشوق معذب، حتى إذا كانت الجنازة ألفيت الكاتب يستخرج من مخزون تراثي غني (تعديد) النساء وحركات أم العبد، والوصف يصبح نابضًا مليئًا بالموحيات، وبين شدة الجذب والتوتر لحركة الحياة يرتعش القارئ أمام الجريمة وينفعل.
والكاتب يطّعم الرواية بمعرفة دقيقة لأجواء القرية، هو يعرف أن طائر (الحمرية) له منطقة نفوذ يستميت في الدفاع عنها من غزو الغريب. ولذا أحبه أبو العبد، وساعده في واجبه إذ (خوزق) الباشق، في قصة طريفة (ص 36).
حتى ألعاب (طاق طاقية) و (اشكاب) وغيرهما كانت ضمن (الفلاش باك) أو الاسترجاع في صورة العبد (ص 96، 97).
وإذا كان محمد نفاع خبيرًا في مفردات القرية وبيئتها - كما تمثل لنا ذلك في قصصه القصيرة، فإن محمد وتد يفصّل تعابير لا يكاد يعرفها أبناء اليوم: أقراص السمبوسك ، ألفية، ربعية، يتحمض بمشمشها عندما يمشمش، يروق وغيرها (ص 8، 31، 74، 79).
حتى الفتاة التي اكتشفت أن صديقتها تحب العبد تعلق بعفوية:
"مش قليلة هالمقصوفة الرقبة" (ص 31)
ومثل هذه التشبيهات الشعبية كانت تجسد الجو القروي لأنها منتزعة منه:
"بس رفسته المهرة الشموس بعينيها" (ص 24)
" وضرب أبا العبد على حصة نفوس ضربة قوية" (ص 47).
نغاميش الصبح"، " إطباقة الرمس" (ص 73، 76).
وتتطور هذه التشبيهات تبعًا لمستوى الشخصية، فسمعان يصف العبد بالقرد:
"طالع طازه من نظرية داروين" (ص 23).
ويرتقي التشبيه مع حالة الوجد:
"عادت الفراشة إلى جسد سمعان" (ص 26).
والمثل الشعبي هو حكاية مجتمع، خلاصة تجربة، قصة يتواردها السلف عن الخلف. هذا المثل يضفي مسحة شعبية يسوقه المؤلف من روحه مكتسبًا عمقًا وبساطة وألفة:
"دولة ظلمت ما ظلت"(ص 19)، و "ومصيبة في المال ولا في العيال" (ص 91)، تساق الأمثال في كل قالب وفي كل موضوع، حتى المثل "كف ما بيلاطم مخرز" (ص 104) يجد له من يتفوه به كالمختار.
والكاتب في سرده ينسى نفسه، فيتخلى عن الفصحى ، وإذا به يتحدث بلغة من يتحدث عنه –عامية مباشرة- ولنقرأ:
"غدًا يعود العبد ومعه شهادته. في الموسم الماضي أحضر لها… جابت عيوش بنت جارتهم" (ص 9).
والنموذج في هاتين الجملتين أوضح:
"… لكنه متأكد من أنه سمع وقع أقدام –مشية مرة-" (ص 81).
"ما هكذا يجب أن يكون عيد ميلادها الثمنطاش"(ص 54).
وما دمنا نتحدث عن اللغة فإن الكاتب حرص غالبًا على أن يلائم الموقف بما يلائمه من اللفظ، فهذا الشيخ عبد الصبور يدافع عن نفسه ولا يجد أجمل من قوله (آتوني ببرهانكم) لإحراجهم (ص 91).
وترتفع لغة الكيلاني المثقف إلى الفصحى "يجب إعلان الاستقلال فورًا" (ص 154)، ولكن العامية تندرج عادة في اللاوعي أو ما أصطلح عليه (تيار الوعي)، فصوت أم العبد الداخلي يعبر عنه الروائي بتعاطف وتفهم وتساوق (ص 7). ويكون الصوت مضاعفًا صوتها هي وصوت الراوي من ورائها "منين العزايم" (ص 8) ، وماذا حدث لعيوش؟ ظهر (الصرصور) –سيارة الجيش في لغة القرويين - مليئًا بالأباليس . "هفت قلبها قال- هيل" (ص 15)، وحتى لو سخرت من نفسها فإن المونولوج الداخلي المعبر هو العامية "خرفتني وحياة أبو العبد….. اخص" (ص8).
إن الراوي يتماثل بل يلتصق مع الحدث، فلا تكاد تعرف من الذي يحدثنا هنا الشيخ أم الراوي أم المؤلف؟
"كانت الدنيا مظلمة زي الكلحل.. حط إصبعك عند عينك فلا تراه" ، بل تارة نرى الراوي من وراء الحدث صوته أقوى:
"ونزلا على أبي العبد ببسطاريهما... ويا حدادي طيح الوادي".
وتوظف الفكاهة بلونها الساخر توظيفًا ناجحًا، فخلدون (وهو شخصية حقيقية ماركسية من نابلس) يصلي ذات مرة، وعندما يسألونه عن سر صلاته يقول: " إن عمل الاحتلال الإجرامي يكفّر".
ومع أن هذه القصة قد رويت حقيقة ، فالكاتب يوظفها ويقدمها حية ومرحة (ص 115).
وعندما ينظف المختار والإمام الطريق يسأل الجندي المختار عن الإمام، وكيف يترجم كلمة (الإمام) فلا يعرف، فيقول له " خوري " (ص 134).
لاحظنا كيف أن الكاتب استعمل الألفاظ والأمثال والتشبيهات الشعبية، وكيف أن الراوي الذي كان لسان حاله كان يؤدي التعابير مستمدة من الواقع القروي.
* * *
قدم الكاتب نماذج كثيرة في هذه الرواية ما يدل على براعته في الوصف الدقيق المعبر، وبعضه كان مستمدًا من الجو الأوروبي. ولعل ذلك بسبب رحلاته المتكررة لها (ص 28، 142).
ويظهر الكاتب براعة خاصة وهو يصف العبد (ص 26)، وتتبدى معرفته لدقائق القرية وأجوائها (ص 29، 93)، ولعاداتها وطيورها ونباتاتها، طعامها وأحزانها (انظر مثلاً ص 65) وأفراحها (مثلاً ص 129).
والقدرة على الوصف التفصيلي- أو ما اصطلح عليه (النفس الطويل) بارز في وصفه لمعاناة الشعب الفلسطيني ، وذلك عندما جُمع الأهالي لإهانتهم وتهديدهم (ص 87).
وهو يعرف كيف تزوّر السلطات المعلومات والحقائق (ص 62)، ويعرف كيف يصف بدرامية عملية فدائية نجحت في حرق سيارة عسكرية (ص 78).
ولكن الصورة (الأيروسية) تبقى من أقوى الصور طاقة وزخمًا وسأسوق نموذجًا:
"تفقد ماريسا الوعي عندما تمارس الحب مع العبد. لقد عاشرت دزينة رجال.. ومن كل الألوان والأجناس.. لم تعاشر فحلاً كالعبد.. يدخل فيها كالشلال، يغسلها ويحملها من قمة إلى قمة.. تجري الشلالات في المنحدرات، ولكن هذا الشلال يتسلق المرتفعات.. إلى القمم. يكاد يحطم عظامها وهو يطوق كتفيها بذراعيه القويتين.. يدخلها إلى جنات الأمومة والأنوثة.. يعطي ويأخذ.. كم هي سعيدة بأخذه وعطائه وكم ستكون شقية في اليوم الذي ستفقده فيه" (ص 37- 38- لقطات أخرى ص 20، 33).
والنفس الطويل الذي أشرت إليه نلمحه في التعريف تدريجيًا بشخصية أبي العبد. نتعرف عليه أولاً عندما تتذكره زوجته ، وتتذكر قولته عن فحل البقر وكيف يموت "مثل هذه الموتة لا يموتها إلا ذكر" (ص 9). ونتعرف عليه ثانية كيف عمل في البيارات يومًا واحدًا، وعندما فتشوه ترك زوادته بأيديهم وقال " نجسوها" (ص 11)، ولكنه ما يلبث في موقف آخر يبكي "ما عاد لي عيشة هون".
إنه دقيق في رسم ملامح كل شخصية وتمييز أبعادها ورصد همومها وتداعياتها من دون تعسف، تتصرف الشخصية عنده بما يتلاءم وطبيعتها الوجدانية أو النفسية أو الطبقية.
وقد يضاف إلى هذا وثوق الكاتب (الراوي) من التعامل مع الواقع من غير خشية أن يخل العمل الروائي فنيًا، فهو يستخدم أسماء السلفيتي (الذي سيغني للدولة الفلسطينية) وخلدون وبداية والكيلاني وعبد الهادي.. أسماء معروفة حقيقية. حتى الفكاهة التي رويناها على لسان خلدون وذكر (الختيار) –المقصود أبو عمار- وهل يتمتع بخصوصية النسخة المكررة من طارق بن زياد وصلاح الدين الأيوبي. بل يحدثنا الراوي عن قصة واقعية حدثت في قفين في الثلاثينيات من هذا القرن (ص 90).
كل هذه تشكل (مونتاجًا) حيًا في بنية الرواية.
* * *
والتراوح الزمني والمكاني يتداخل في الرواية بأساليب مختلفة: تيار الوعي وما فيه من (مونولوج) داخلي و (فلاش باك) –الاسترجاع أو الاسترداد كما يحلو للبعض ترجمته.
فالعبد يتخيل رحلته مع سمعان، والفتاة الخنفوسة تشهر مسدسًا (ص 38)، وهذه اللقطة تخيلية مما يمكن أن يقع مستقبلاً. وعند مصرع أبي العبد نجد تداخل الماضي إذ ينقلنا الراوي إلى دمه المتصبب ومرة إلى ذكرياته، وكيف نطح حصانًا ورماه على الأرض، وكيف كان من المستحيل اختراق خط دفاعه عن جورة الكرة (ص 49).
وعن طريق استيحاء الماضي تعرفنا على تنافس الإمام والمختار على الفتاة التي تزوجها عبد الصبور، وكيف كان العرس (ص 129).
ولعل ما يثير الإعجاب في هذا الباب أن المؤلف يقطع شريط الأحداث، ويحدثنا كيف كانت أم العبد سجينة الزنزانة:
"سحبوني من الحبس زي ما تسحب كيس القصل من القطع ورموني في الساحة البرانية، تكومت مثل الكيس قدام الطابون" (ص 20)، وكيف قادت هي الجماهير وهي تصيح (الله أكبر)، ثم ما يلبث الكاتب بعد وصولها إلى بيت خلدون أن ينقلنا مبتدئًا :
"حكى خلدون النابلسي في سهرة الشلة بمنتزه عبد الناصر في وادي التفاح ما شاهده من فلاحة..." (ص 114).
وهذا القطع رأيناه عند ماريسا وهي في الطائرة ، فتارة تنقلنا الكاميرا إلى واقعها في الطائرة، وتارة أخرى إلى الماضي إلى زيارتها السابقة في الكيبوتس (ص 137).
وقد يتجلى هذا القطع في العودة إلى التاريخ، كما رأينا ذلك عند العبد، فينقلنا إلى واقع آخر:
" سمع (العبد) بأذنيه ورأى بعيني خياله جنود الملك الأسباني ألفونسو يسوقون أحفاد ولادة مصفدين بالأغلال إلى قائدهم. تحول الراقصون في خياله إلى جنود يتمنطقون بالسيوف ويحملون التروس وهم يلبسون التنانير القصيرة ويمتطون الخيول العربية.. خيول بني هلال..." (ص 142).
ولو حذف الكاتب قوله (بعيني خياله) و (في خياله) لبقيت الصورة حيادية ، وهي أروع وأدق.
ومراوحة الزمن لا تقتصر على الماضي فقد تستجمع صور المستقبل المرتقب ، ولعل في القطعة الأدبية (القصيدة مجازًا) التي انتهت بها الرواية، مثل هذا المزيج بين الحاضر والماضي والمستقبل.
* * *
إن طروحات الرواية التي يمكن أن نستشفها كثيرة، وكلها تلتقي في الجوهر الفلسطيني. ولعل أهمها هو أن عبد الصبور الإمام يمثل رجل الدين الفعال لا السلبي، الملتقي مع اليسار بل المتجاوز من التنظير إلى التطبيق. إنه تحد لثورة (الصالونات) يتحدث بالرمز فيقول:
"عندما ينفلق البطيخ" (ص 155).
وثانيها - أن المختار برغم انه يحاول جاهدًا إنزال العلم ، ويتخاذل في أكثر من موقف إلا انه يكون ضحية الاضطهاد قبل سواه ( ص 86).
وحتى العميل أبو أحمد لم تشفع له (عمالته) أن ينقذ ابنه الذي تكوم على العتبة، ويداه على صدره تحبسان الدم المتدفق (ص 14) .إذًا فالتخاذل والتواطؤ لا يغيران من حقيقة الصراع، كما أن التنظير وحده هو في الحقيقة لغة العاجز.
وثالثها- أن جميع قطاعات الشعب يشارك كل بطاقته، من الإمام وحتى أم احمد التي مست في عقلها، وكانت تقضم أعواد الكبريت (ص 88). والمسيحيون الفلسطينيون جزء لا يتجزأ من الوعي الوطني، فالإمام عبد الصبور يعترف بأن (مسعد) أفضل من زميليه (عباس وطارق) ، وأقٌرب إلى التقوى (ص 110) مع أنهما مسلمان.
وثمة عِبرَ تسوقها الرواية على لسان أبطالها الذي غيّر انخراطهم في الثورة الكثير من مفاهيمهم التقليدية، فالمرأة "شرفها ليس بين فخذيها ولا في زغاليل عبها أو استدارة ردفيها.." (ص 117).
ومثل هذا يفضي بنا إلى قيم جديدة في الفهم الجمعي.
ثم أن الكاتب يتعاطف وشخصية (العبد) الممزقة التي تتأرجح بين قبول المهمة التي كلفه بها (الطويل النحيل) ، وهي نسف كنيس يهودي (ص 95).
يسوق الكاتب على لسان ماريسا حوارًا عقلانيًا يؤدي بالعبد إلى قبول موقفه (ص 121).
وحتى في تصور الكاتب يظل سمعان (المتطرف) إنسانًا يحمل قضية، يقول على لسانه: "سيأتي يوم يتبدل فيه كل هذا الذي نحن فيه.. هو لا يحقد على ليفي... وكان في الخلية من لا يعجبه هذا الكلام إلا أنه كان يقرر السكوت" (ص 42).
ولعل (الصمود) أو الثبات سمة ثابتة تطالعنا في أكثر من موقف:
أبو العبد وكيف قتل (ص 49)، فحل البقر وكيف سقط (ص 9)، القنطرة التي بقيت متحدية (معنقرة) بعد هدم الجنود دارًا ظلمًا وعدوانًا ( ص 94)، وسامح الولد كيف ثبت وتحدى السجان (ص 149).
* * *
وعنوان (زغاريد المقاثي) مركب من الزغاريد التي ستبعث بسبب النصر الذي لا بد سيكون.
مجبورة الخاطر زغردت-
زغردت عيوش:
لعيون الغايب، زغردت:
يا رب.. وتعيدو..
لعيون صابر زعردت:
يا رب هنيك..
لعيون سامح زغردت:
يا خي...!
- (.. واتمشى على الصفصاف..!)
وهذه الجمل القصيرة في النبض والإيقاع توحي بسرعة تدفق الأفعال وانسيابها فيمر الزمن أو العالم، كأنه دولاب يواصل مسيرته ولا يتوقف.
طلع نجم سهيل وبرد الحجر..
هل سعد الذباح وسقعتو معاه..
مر شهر كانون وحملت الوديان..
قلت هدايا عباس وصارت نادرة..
المطر حابس، حبس صابر..
كثرت قعدات الشيخ في ديوان المختار..
والخربة على حالها: يوم كرع الجنود ويوم فر من الجنود..
أجا شباط: شبط وخبط وريحة الصيف فيه..
راح سعد الذابح.. وأجا سعد السعود..
ازرع خمسين وعد خمسين:
بعدها، بأيار احمل منجلك: وغار!
رجعت شباب الخربة للأرض..
زرعوا قمح وشعير.. عدس وفول وثنوا المرج لزراعة المقاثي..
والمقاثي التي فيها البطيخ- ذو اللون الأخضر والبذور السود واللب الأحمر وما تحته من اللون الأبيض هذه هي ألوان العلم الفلسطيني.
(عليكم بالبطيخ، السنة سنة بطيخ)
كان يقول الشاعر ويكرر:
عليكم بالبطيخ أبو البزر الأسود. الإفرنجي ما بنفع في المرج.. (ص 161).
عقد النوار.. ما في نفل
واخضر المرج.. كلو.
كبر البطيخ.. واستوى.
طق من السوا.. نقط عسل.
قددوا البطيخ..
نشروه على الحيطان..
أكلت الخلق منو.. شبعت طيورها..
ظل المرج.. والحيطان.. بحر بطيخ..
طخوه العسكر بالرصاص لكن زاد حمارو..
نهبوا منه كثير.. كثير
من عماهم.. خش دورهم!
وجبال تنادي جبال .. تنادي جبال..
بطيخ يا بطيخ .. لون السما بلونو ..
بطيخ يا بطيخ ..
للمقاثي زغردوا ..
صبايا كبار .. صبايا صغار (ص 162)
وفي الختام لا بد من تسجيل بعض الملاحظات:
أ- لا ضرورة لتجزئة الراوية في ثلاثة كتب – كما أشار المؤلف في تقديم الكتاب ، وذلك لأن القارئ لا يقف كثيرًا أمام ألغاز ملحة وداعية للتشويق الروائي، فليست الرواية ضخمة إلى هذا الحد التي نضطر إلى تقسيمها وتحديدها.
ب- برغم أن اللغة كانت طيعة على ألسنة الشخصيات طواعية مقنعة، إلا أننا نلاحظ تردد الكاتب بالتعبير في النحو كاستعمال (أبو) وفي تقديري أن (أبو العبد) تركيب صحيح ولا ضرورة إلى تغيير إعرابي، وقد أجاز ذلك النحاة القدماء.
ج- ومن الغفلة في الطباعة أن اسم (سامح) ينقلب إلى (سامر) في صفحات متعددة (ص 52- 53، 63- 64).
وقد تغيّر الطباعة اسمًا، فيتغير فهم السياق كقوله (دخل سمعان فندقًا رخيصًا) والأصح دخل العبد (ص 71).
د- هناك ملاحظات شكلية طباعية أخرى تتعلق بالإخراج، لكنني أرى ضرورة الإشارة إليها لأن الجوهر طغى على العرض.
.....................................................................
* زغاريد المقاثي: (الجزء الأول)، منشورات البرق، جت 1988 ، وصدرت طبعة ثانية في قبرص عن دار بيسان بعنوان زغاريد الانتفاضة 1990-. أما الكاتب فقد ولد في قرية جت ( المثلث ) سنة 1937 ، وكان نشيطًا سياسيًا ، ورئيس تحرير لعدد من الصحف ، وله ترجمات كثيرة . توفي إثر حادث طرق سنة 1993 .
........................................................................................................................................................
عرض ونقد مسرحية جبهة الغيب*
(هذه القراءة أفادت من تحليل محمد غنيمي هلال للمسرحية ، وذلك في كتابه :
في النقد المسرحي ، دار نهضة مصر ، القاهرة – 1955 ، ص 107 .)
الزمان والمكان :
غير محدودين
أشخاص المسرحية:
فدا- المغامر
هادي- تلميذة
القوال- رئيس الفلاحين
الإمام- زينة- هنا- الكسيح والأعمى القيثاري- فلاحون
عرض المسرحيـــة :
فدا بطل المسرحية يتطلع إلى الوصول إلى "العالية" ذلك الجبل الذي تستقر فيه الأبدية.
فدا يحدق إلى الأعلى ، بينما الفلاحون اكفهم مبسوطة فوق الحواجب لا يجرؤون أن يرفعوا أبصارهم. وما هي الأبدية؟ عشبة بيضاء قصيرة الورق عند البيت المنقور، من أكل منها وهي نديانة ظفر بالحياة الأبدية، والطريق إلى الأبدية وعر وتهدده أشباح الفناء، فقد أصيب الاثنان اللذان جرؤا على اقتحام الأبدية: الأول أعمى والثاني كسيح.
هادي تلميذ فدا يخاف أن يرافقه في رحلة يترصده فيها الموت، ولكنه يؤمن بالمغامرة.
وفي يوم العيد تخف القيود، والإمام –رمز هذه القيود- يحذر من التمادي والإيغال في المسرات، ويستمعون له بامتعاض، غير أن هذا لا يمنعهم من أن يرجوا زينة بأن ترقص. تترد زينة لأن حبيبها فدا على وشك المغامرة. فزينة أحبت فدا، وقد أحبت المغامرة، لكن فدا لم يستجب لها، ولا يريد إعانتها له فهي ليست أهلاً له، كانت تحب نفسها أكثر مما تحب المغامرة، ثم ينتبه الجميع إلى رجل يصعد .
يستوقفه الإمام قائلاً: "يا رجل لا تصعد فصعودك خطيئة".
يجابه فدا الناس، وخاصة الإمام، بأفكار صوفية يتحدث فيها عن الإنسان :
"حسبك أن تكون سلكت في الطريق، أن تهجر الخيمة بعد أن غلغلت الصحراء في فؤادك، لا نظرة من حدقة جنيت بغبار السنابل، ولكن من حدقة هي للروح طاقة".
فالإمام في نظره سجّان شريعة، وأن من شط به الصعود لا يموت، هو صاعد ليستخلص عمره من براثن العدم، فتنجو ساعات ليله ونهاره. الفلاحون صدى ضئيل للإمام الذي يريد أن يجعل الناس قلبًا واحدًا.
ويفصح فدا عن عاطفة حب تجاه هنا التي ترى أن المغامرة ليست عابثة، وأن فدا يقوم بواجب الله به أمام نفسه.
اتفقت معه في مبدئه، ولكن عزيمتها قصرت كما قصرت عزيمة هادي.
ثم صعد فدا بعد أن وعد أن يلقي كل يوم حجرًا دليلاً على بقائه حيًا، وهنا تنتظر نتيجة المغامرة وإتاوة النصر، وتتطلع أن "تحيل شوك البحر إلى براعم تنثرها في حجر شجرة يبس عودها وقسا" ، وتعني بهذا العود اليابس حبيبها فدا، ثم تحتضر ( هنا) لان الحجر لم يسقط، وإذا بفدا يعود من حيث أتى، وإذا بالإمام يعيب عليه أنه لم يتمكن من إلقاء حجر صغير. ويشرح لنا فدا سبب عودته: أن سحب الحقد من البشر تصاعدت إليه، وأعيا هو بالجهد، أفسدت عليه مضايق فرجة عشب الخلود في الأعلى، فهو قد أمعن في العلو متمردًا على طبيعته، ولم يتزود من الأرض بقدر كاف للوثبة.
صعد دون جذور فأخفق، لكنه لن يستسلم، سيعيد الكرّة، سيعود للذرى بعد أن فقد (هنا) التي قتلها الحجر الذي لم يسقط. أما هذه المرّة فسيصعد لغرضين : "أسلب المغارة كنزها، وأحاسبها على قساوتها".
زينة ترى أنه سيصعد مكبلاً بقيود الحنق. لا يستمع فدا إليها يقول لها:
"يزول الحنق ما دام الوجه إلى فوق".
زينة تعجب لصلابته، تبدأ تفهمه، عرفت أن فدا ثار على ضعف عزيمة الشعب المستسلم، وأنه أراد تريية الإرادة لدى الآخرين ، فالحياة بدون صعود هي الموت.
تدرك زينة أن قسوة فدا كانت نوعًا من الحب –حب تقريبها إلى سماواته عن طريق إخلاصها لذات نفسه. وفي النهاية يسقط فدا ميتًا من أعلى الجبل، سقط ضحية هادفة لهذه الجموع الغافلة، أسرف على نفسه في القسوة فانهزم، ولكنه شحذ عزائمهم. فهادي يعد أنه سيأتي يوم يتسلق فيه منارة الأبد، فيسأل "بهاءها ما يقتضيه الفوز من عروق تتفجر".
ويقف هو وزينة في صمود أمام جشع التقليد الذي تمثل بالإمام، ومن حسن الحظ أن هادي يقول لزينة في ختام المسرحية: "زينة انظري أصبحوا ينصبون الرؤوس ويحدقون في العلياء".
هذه ملامح المسرحية بإيجاز قدم لها الكاتب قصة "رجل" ، وكأنه خاف على القارئ ألا يسبر غوره، فجعل هذه الأحدوثة بنتا لهذه القصة، وعقّد المسرحية في صراع الشخصيات داخل غموض مستتب يحصي عليه ألفاظه العذارى التي ما فضّها القارئ إلا وعالج رحبا من الخيال.
أشخاص المسرحية:
فدا
فدا هو تجسيم للفكرة المحورية يستطيع الشموخ على طريق وعرة وتؤدي إلى المطلق، فدا صندوق من الدر الفكري يقدم لنا وجبات شعرية مرئية، يقف أمام القضاء ذلك "الحبل المحبوك الذي انسل من لحى مشعوذين سدت ألاعيبهم معارج الصدق".
فدا يريد أن يواجه مطلع الغيب –أو جبهته كما يخيل لي- يفكر تفكيرًا صوفيًا. يقول له الإمام "أنت مجدف" ، لكنه في نظر نفسه مؤمن- "ما دامت السماء ترقبنا فليس الوجود سوى اندفاق ينبوع وجدان".
هو يريد أن يرحل ليمسح الرمح الراكز في الجبل بنقاوة قلبه، فالله على رأيه "يشق عليه عجز الخلق عن إدراكه" ، وعدم إدراك الله عار. هو صاعد ليستخلص عمره كي لا يموت، فساعات الناس لحظات ينتزعها تميع الأفراح وتفه الأحزان.
والهدف من الصعود أيضًا أن يتحكم في شحنة الحياة، يصرفها إلى غاية يريد الناس أن يحدقوا إلى العلاء، أن لا يجثموا في ظل شيء هائل متماسك يتطاول، فيهددهم بالسحق، أن يصعد إلى العالية "حيث الله غير موجود:.
ولعل الكاتب رمز إلى نقد رجال الدين من خلال وضع الكلمات الشاعرة وشفوف اللفظ والفكرة، فجعلها على لسان فدا.
شخصية فدا تمثل أزمة الفنان أو النبي الذي يلقى نفسه في مهيع التهلكة، حتى يستدل الآخرون الدرب، وربما كان في حدسه سائحًا في محراب المحجوب، حائما على لهب العرفان، ولكنه في حقيقته مدعاة للتفكير يسأله الإمام:
"هل تغلب سلطان الشرائع"؟ فيتهمه بأن الشرائع" صخور رست أنت تحتقرها وترفع رغوتك هباء حتى تستبد بنا وبالكون .
فيجيبه فدا : " الكون مبذول لنا ليست أنفاسنا رعية له هينة، أما رواقه المشحون بتزاويق العبث فلا يطمئن تحته تثاقل الجسد".
منطق فدا يصطدم مع منطق الشخصيات الأخرى، ومن خلال هذا الصدام لا بد أن يتطور في ثنايا النقاش. منطق فدا يحرك الشعور بقدر ما يحرك فينا الفكر.
هادي
يظن أن الموت يرصده في شِباك المغامرة، لكنه مؤمن بها، بدا إيمانه يحيا عندما مات أستاذه فدا، يقول عنه "هو الذي كتم رئتيه قبل جلجلة الرعد ، فمغنمه أن يطرح العدم الذي يحصره لكي ينهض بعبء الكون".
وعندما يحاجج الإمام الشامت يقول له هادي:
"حسبنا الرمي، لا نبالي أصاب أم قصر" .
هادي مؤمن بطريق أستاذه لا يريد أن يظفر باله، يمشي خوفًا من السأم الذي يدب في اطمئناننا، بل كتب عليه "أن يتلطف لشفوف الجلالة ليستنزل منها في خلجاتنا".
شخصية هادي تنتقل تدريجيًا من تردد بخوف إلى حيرة إلى عزم- "سيأتي يوم أتسلق فيه منارة الأبد، فأسال بهاءها ما يقتضيه الفوز من عروق تتفجر".
ونرى هادي وقد أحاط به الفلاحون يعلمهم أن جوهر الإنسان "...تسامي:يعطي ولا يفني، ويأخذ ولا يفني، تأليه الإنسان مضيعة لكونه، تأنيس الله مضلة لوجهه".
وهادي يعلق أن الرب قتل نفسه، ولن يبعثه إلا بشر، ويكفيه سعادة هذا الموقف العظيم في النهاية عندما حدقوا.. إن هذا معناه أن الجميع سيطرحون العدم الذي يحصرهم، لكي ينهضوا بعبء الكون.
شخصية هادي استمرار للنظر الفلسفي المتجدد.
الإمام
يمثل الرجعية الفكرية حيث يُعقل الفكر ويُغلّ، يحذرهم عندما يرقصون "إياكم وحنق القوى".
يحاول أن يمنع فدا من الصعود، ولا يدخر جهدًا . نلمس مكره عندما طلب من زينة أن ترقص مؤكدًا لها انه سيمنعه من الصعود، قائلاً في نفسه "في وهمها إني أمنع حبيبها من الصعود مرضاة لها".
الإمام يجسد النقاش من الطرف الآخر ، فهو حريص على أن لا يرصد الليل لأبهة الشمس، وأن يتوعد القحط مرح الأرض –كما يقول- السهل يكفيه، ولماذا لا يقول يكفينا؟
كلام فدا بالنسبة له هذيان "يهرول يجعجع ولا يجدي، أما نحن فنمشي ولا نتسكع إلى غاية مبيتها أسفل الجبل" . هو يريد أن يكبت حرية الإنسان - "لان تفخيم قدر البشر تهوين لقدرة الله".
هو الذي يطلب من الدهماء ألا يلتفتوا إلى العلاء إلا وأكفهم مفروشة فوق الحواجب، أن يلمحوها خلسة.
الإمام تبنّى محاربة الصعود منذ البداية إلى وقفة التحديق الجماعية، فالصعود في نظره وقاحة تحرش بالعلا، وهادي وزينة في نظره "حمى ترجف في الأذهان". وقسوة الإمام تبين عندما أراد أن يحرق جثة فدا، لأن بطن الأرض لا تستحق من هزئ وداعة سهلها.
نستغرب موقفًا واحدًا أو جملة فلتت من خاطر الإمام، عندما عاد فدا من الرحلة الأولى قال له متعجبًا: "ما أبرع ما صنعت"!!
لكنه ما فتئ أن عاد إلى سيرته الأولى ممثلاً رجال الدين المتزمتين الذي يقيسون الناس بمعيار واحد، حتى يكبلوهم بقيود القوانين ويرسفون بالسنن الرتيبة وهم في طغيانهم يعمهون.
زينة
حاولت أن تصد فدا عن رحلة المجد، أو أن ترافقه فيها. حاولت فما استطاعت أن تقنعه، وظلت "نسمة لا تهز معبد الرخام، ناحت وماتت عند عتبته" .هي تظن أن الهوس الدائر في سمائه كفيل بأن يبعثها . تطلب من حبيبها أن يدع الجدولين يقترنان، لكنه يرفض تقول: "خبرت الحق أنت لا تحسن سوى إنكار الحسرات". وأمام تشددها يحاول أن يطلعها على الحقيقة لذاتها فتجيبه: "لا يبلغ رب ولا عاشق قسوتك، أراك ترفق يدا جبلتها من ثلج، فتمسح بها قلبًا آنت خلعته وصلبته".
زينة تمثل دورًا رائعًا بعيدًا عن الغيرة المعروفة في عالم النساء تتسامى وتتسامح:
"الآن أدرك ساعة ناداها يا حبيبتي، على شفتيه تألقت صرخات الجسد وهمسات السريرة".
ثم ما لبثت زينة إن أدركت سر الرحلة فعرفت انه "عبأ الشقاء في عروقه ليسبي النعماء". كانت زينة أثناء الصعود تتلهف على حبيبها المتهالك على غمام الموت. كانت ما تزال تعاني الشره إلى "برق الحياة". ثم وقفت مع هاني وقفة الإيمان، وخلص شوقها قلبها من خيلائه. تريد أن يفلح البشر في قطع الحبال "تشد سواعدهم إلى ذبذبة الجبن".
وينتهي دور زينة في التعبير عن قطب المسرحية"- هذا الذي يحدقون إليه يا هادي: نجوم دارت على قطب الحق كلوم حول جيد النور. بالشظايا قلب كبّره جبروت الزوال.
ولعل في زينة تمثيلاً لهذه الصلة بين الإنكار والمعرفة، بين الضعف الغارق في القلق إلى قوة الاستطلاع، لعل زينة رمزًا لهذا الغموض الذي ينتاب الإنسان، حتى لا يتقدم خطوة نحو التضحية وما أصدق ما عاملها به فدا - "حب ممتزج بالقسوة لعلها تفيق" ، يقول لها:
"أحب فيك ما أحبه لك، أين القربان حتى يطيب جو أملك برائحة الثقة فيعييني على صون إرادتي من كل خبث".
هنا
متماثلة مع فدا تصمت، ثم ما تلبث أن تنطق كالقيثار الذي تطلب منه "أن يرسل ألحانًا تحبس تيهانه". ضلوعها زحمتها وساوس الرعب، مؤمنة، محجمة، كهادي بل أزيد، حجزتها الأرض "رهينة لقاء الجسور". قتلها الحجر الذي لم يسقط، كما قالت زينة. ولكننا لم نستمع إلى نشيدها بعد ذلك –بعد أن ماتت تنشد-
"تطوعت لكفاح الأفق بجناح الجوى ولي الثرى
أنت مشغول بالكمال، وانأ ظلك الصبور
نواحي الصامت حداء هماك الكبير"
هنا مثلت دورًا كالظل للمشيئة. انسكب الحب وانسكبت الرؤى على لسانها. نفذت إلى صميم دعوة فدا، وهي أهل لحبه العطوف الحاني. هي صورة الإنسانية الرانية إلى المستقبل الأجمل.
القوال والفلاحون
يتميز القوال بأنه ينصت ويعرف بإحساسه صدق فدا، لكنه لا يجرؤ، لأنه لا يؤمن. فيه شرارة اليقظة، لكنها سرعان ما تخمد. يعتبر العالية "ستنا". تحدثنا عن هذه "الست" ساعة استحمامها، تغط انفها وصدرها وساقها في غلواء الشمس. القوال يعرف أصل الحكاية:
"حين استلم الخلق لجهامة الموت هوى من أفواه السماء طيف مجنح نقر المغارة بظفر من ذهب، ثم غرس عشبًا أبيض من أكل منه وهو ندٍ في منبته تملى الحياة إلى الأبد". القوال يعرف أنه يُمنع الحياة "ومن المنّاع؟ ستنا" .
يعرف القوال أن ختم العذاب في الأعناق، ومع ذلك يُنشد أسطورة الزمن التي كتبها له بشر فارس على طريقة الشعر العمودي:
أنـا أسـطورة الزمن تـاج وهمٍ من الهمـم
ضيف روض بلا فنن غـرِد في دجى الصمم
القوال يريد أن يقطع رقبة الحرمة. يهمه أن يعيش الإنسان في ملذاته. إنه يعرف أن القيثاري ينبش فواجع البشر بأظفاره الحريرية، لكنه يريده أن يستمر. وللقوال - رئيس الفلاحين سؤال بريء، ولكنه مشحون بالانفعال، فعندما أراد فدا أن يصعد ثانية سأله:
"هل وجه الأرض باطل"؟
وينهي المسرحية بقولته المركزة متنفسًا بعد الصعداء:
"هل خرجنا من أسطورة الزمن"؟.
أما الفلاحون فهم يوافقون على كلام الإمام "إرادتهم مسفة" يتطلعون إلى الأعلى في خفية؟ يظلون في الحضيض، والعالية عندهم لذة حيوانية. يعجبون لمغامرة فدا.
شعور الفلاحون لا يصل إلى شعور رئيسهم، ولو أن أحدهم يقول على ذكر السفح "أمِنْه غذائي أم أنا الذي يغذيه؟"
الكسيح والأعمى
صعدا إيثارًا لمنفعتهما فأصابهما العمى والكُساح. أعوزتهما "يقظة الباطن" على رأي فدا.
الكسيح رمز لمشلول الإرادة، والأعمى رمز للغافل - كانا وسيلة أو حجة اتخذها الإمام حتى يبقي على غفلة الشعب : "هذا نصيبه قدمان عصفت بهما رعدة الجزع، وهذا أصبح نظره لا يدور إلا في انحلاله الباطن".
هما مثل فدا تعبير عن حرية الذات، لكن شتان بين هدفيهما وهدفه.
عندما قيل لهما إن فدا مات ، ساعتها - "حلم الكسيح أنه رقاص والكفيف رسام" –الشماته فنانه-.
طبعًا موقف غامض ومما يزيد الغموض موقفهما عندما حدقوا جميعًا، فكان الكسيح يضحك والأعمى يبكي، ترى هل بكى الأعمى لأنه لم يشهد اليوم الذي حدقوا فيه في العالية؟!
القيثاري
الصوفية من أسسها السماع، والنغم ركيزة.
الإلهام هنا له عمل وظيفي يرتبط بفدا وبمشاعر الجميع. في الأنغام دفع للشعور نحو المجهول. زينة ترى أنه لا يرد الرمق إلا القيثار، وفدا عندما ضاقت أمامه السبل في الأعلى لم ينفرج له المضيق إلا بأصداء القيثار، وعندما انعدمت النغمات خار وضعف وحقد. ويتابع هادي مسيرة أستاذه فيرى أن جولان القيثاري في أتّون الدنيا يلفح ألحانه، فيجددها بحاثة عن الحسرة.
يقول فلاح عن القيثار إنه مكروه ، لأنه يبكي بغير دموع، فيجيبه هادي "لأنه من صمت المحنة يستنطق العبر ولكم يترك الولولة".
إطار المسرحية :
كلمات مطلقة في أسلوب لمّاح، وإيحاء له أكثر من إيحاء. تعبيره هنا تفكير وتصوير على نجوى الشاعر، وهو يتقصى مسارب الكون. ولندع بشر فارس يهمس لنا كيف يكون المسرح:
"وإذا كان أشخاص المسرحية لا يفصحون في مجرى الحوادث على نحو ما ينطقون، وهم بين أيدي الممثلين يلهمهم الشاعر، فهم دمى بشرية مقذوفة في لجب العواطف .
وأما الناظر على الشاطئ –الشاعر- فيحس عن الغريق بذكاء بصيرته، ثم يعبر: الإحساس حق لأنه للبشرية جمعاء، فالمسرح الذي لا يحقق فيه نضال الأبطال قولاً وفعلاً إنما هو مسرح كاذب فاتر إذا أعطى لا يغْني".
اللغة عنده دور لا يهتدي إليها إلا كل غواص مفن ، والحركة المسرحية أروع.
.................................................
· فارس ، بشر : جبهة الغيب : دار مجلة شعر ، بيروت – 1960 .
· بشر فارس ولد سنة 1906 في لبنان. قصد باريس، وتلقى تعليمه على أساتذة نذكر منهم المستشرق المعروف ديمومبين، فأعد لديه رسالة الدكتوراه "العرض عند العرب منذ الجاهلية". أصدر أول عمل أدبي سنة 1928، وهو مسرحية "مفرق الطريق". كان أخيرًا سكرتيرًا فخريًا للمجمع العلمي المصري. له رسالات كثيرة في التصوير الإسلامي واللغة. وله مجموعة قصص دعاها "سوء تفاهم. توفي سنة 1960
........................................................................................................................
المحسنات في اللغة العربية ووظيفتـــها
يرمي هذا المقال إلى إثبات أن المحسنات اللفظية والمعنوية كالسجع والجناس والطباق والمقابلة والموازنة ليس لها علاقة بالارتفاع والانخفاض في مستوى اللغة – هذا الذي أشار إليه زكي عبد الملك في مقالة له عن لغة يوسف السباعي(1)، بل هي جزء من طبيعة اللغة لدى الإنسان ، وبسبب من الاستمرارية إيقاعًا ومراوحة لفظ ، بدءًا بالعصر الجاهلي وانتهاء باللهجات العامية المتداولة. كما يرمي إلى تباين الاستعمالات المعاصرة لهذه المحسنات، فهي ليست مجرد تلاعب لغوي كما يحلو للبعض أن يسميها ، بل هي تأتي زينة وحلية.
وسأتركز على النثر ، لأن النثر هو أكثر من الشعر بطبيعة الأمر.
السجع
هو الكلام المقفى ، إذ يتألف أواخر الكلام على نسق كما تأتلف القوافي، وأصل الاسم من السجاعة، وهو الاستواء والاستقامة والاشتباه، لأن كل كلمة تشبه صاحبتها. قال ابن جني:
سمي سجعًا لاشتباه أواخره وتناسب فواصله (2). وقد كان كهنة العرب قبل الإسلام يسجعون، بدليل الحديث الذي نهى فيه الرسول عن سجعهم:
قال رجل للرسول كيف ندي (أي ندفع دية) من لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، وثعل دمه يطل، قال صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الكهان؟! (3). وفي رواية إياكم وسجع الكهان، وفي الحديث كذلك - أنه نهى عن السجع في الدعاء، وأضاف الأزهري : فأما فواصل الكلام المنظوم الذي لا يشاكل المسجع فهو مباح في الخطب والرسائل .(4)
وليس لدينا نماذج كثيرة من سجع الكهان حتى نحكم عليه وعلى سبب العزوف عنه، ويبدو لنا أن تكلف السجع هو الذي حدا بالرسول إلى رفضه، ولكنا مع ذلك نستطيع أن نرى نماذج السجع أو الكلام الذي له فواصل(5) على حد تعبير الرماني والباقلاني. ففي القرآن الكريم:
فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب (6) ؛ قل يا أيها الكافرون* لا أعبد ما تعبدون (7)فهذا الازدواج غير مطّرد، إذ يكون الكلام مرسلاً وغير مرسل. وفي الانتقال والمراوحة جمالية فنية ووقع جديد. وجدير بالذكر أن السجع في القرآن يسمى غالبًا فاصلة .
والسجع في الحديث الشريف –نسبيًا- قليل، لكنه يظهر هنا وهناك. ففي وصية للرسول: افشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام (8). ولا شك هنا أن السجع متعمد، بل إن في بعض الأحاديث تغييرات لغوية أجازها الرسول لنفسه ، فقد ورد على لسانه : ارجعن مأزورات غير مأجورات (9) ، ونحن نجد في اللغة لفظة - موزورات بمعنى آثمات، فأجراها على الإتباع.
وهاك مثالاً آخر:
أعوذ بكلمات الله التامه، من كل شيطان وهامه، ومن كل عين لامّه (10) ، واللامة هي الملمة، لكن التسجيع جعله يستعمل هذه الكلمة.
ومن جهة أخرى فالتوقيعات، وهي الرسائل الموجزة كان أغلبها مسجوعًا:
| ليس عليك بأس، ما لم يكن منك بأس. | |
| يعطو على الشغب، ولا يحرجوا إلى الطلب (11) ، وقد كثر السجع في مقدمات الكتب الأدبية، حتى كانت المقامات قمة السجع، فهي أصلاً بُنيت عليه في عصور أدبية متأخرة ، ولو على حساب المضمون، حيث بدأ الانبهار اللغوي ، وكان وسيلة للكدية. |
وفي عصر المماليك خلعت على كثير من أسماء الكتب الأسماء المسجوعة:
نهاية الأرب في فنون العرب للنويري،
صبح الأعشى في صناعة الإنشا للقلقشندي،
بل انظر إلى الاسم الدقيق لمقّدمة ابن خلدون:
كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.
فمقدمة المقدمة مسجوعة، حتى إذا أخذ ابن خلدون في تناول المواضيع شرع يرسل الكلام مرسلاً - أسوة بالجاحظ وعبد الله بن المقفع وابن قتيبة وغيرهم. أما كتاب ألف ليلة وليلة فلا يعتمد السجع دائمًا بل يراوح وهو ينسق ، فمثلاً:
قال هشام وقد تزايد به الغضب: لقد حضرت في يوم حضر فيه أجلك ، وغاب عنه أملك وانصرم عمرك، فقال والله يا هشام: لئن كان في المدة تأخير، ولم يكن في الأجل تقصير، فما ضر بي كلامك....(12)
وقد استُعمل هذا السجع لجذب انتباه السامعين عند سرد الحكايات، وبرز بصورة خاصة في سير عنترة والزير وأبي ليلى المهلهل وتغريبة بني هلال ورحيلهم إلى بلاد المغرب، وعلينا أن نلاحظ هنا هذه الفقرات القصيرة التي تتلاءم وطبيعة القص والإثارة:
ولما أصبح الصباح ركبوا ابن دخان، وكان اسمه سكران، فنزل إلى الميدان، وطلب مبارزة الفرسان (13).
وفي اللهجة العامية بقي السجع ظاهرًا في الأمثال الشعبية والأغاني وتعديد النساء. فمن الأمثال:
عادت حليمة لعادتها القديمة،
البيت معمور وصاحبته بتدور،
ناس بحنانيها وناس بغنانيها،
الباب اللي يجي منه الريح سده واستريح...
والسجع يكون أحيانًا صوتيًا:
لبس البوصة تصير عروسة،
القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود.
ويظهر السجع في بداية الحكايات وخواتمها:
مكان مكان يا مستمعين الكلام ، حتى توحدوا الله، لا اله إلا الله...
وعاشوا في تبات ونبات ، وخلفوا صبيان وبنات .(14)
ولو عدنا إلى الشعر فالسجع في البيت الواحد يسمى تشطيرًا. وقد ورد كثيرًا في الشعر العربي، ولنذكر مثلاً من امرئ القيس:
سليمِ الشَّظى عبلِ الشّوى شَنِجِ الَّنسا
له حَجَباتٌ مُشْرِفاتٌ على الفالي (15)
مما تقدم نرى أن السجع كان ملازمًا للغة العربية، واستمر حتى عصرنا، غير أننا لا نكاد نرى اليوم مقدمات كتب مسجوعة ، بسبب اعتماد الكتاب على التركيز على المضمون. فإن جاء السجع تلقائيًا ومطبوعًا فهو سائغ، وإلا فما أغنانا عن التحمل والتكلف على غرار تقديم أحدهم لكتابه:
انتشر هذا الديوان ، معتمدًا على الواحد الديان، وممتلئ النفس من الرضا والاطمئنان، لأنه ثمرة جهد جهيد، وصبر مؤمن عنيد، ولقد جاء كما ترى معبرا، عما صار وجرى، وسلكت به الطريق الطويل، على نهج الفراهيدي الخليل، بلا انحراف وتحويل، ولا تمويه ولا تضليل، بل عربي مصري أصيل...
فالسجع لا يحسن إلا إذا كان رصين التركيب خاليًا من التكرار في غير فائدة، يراوح مع المرسل. ولهذا كان جمال القرآن اللغوي الذي راوح بين الفواصل والإرسال ، ومن جهة أخرى نفرنا من أسلوب المقامات ، وخاصة المتكلف منه ، بينما أعجبنا بالأمثال المسجوعة.
فالخطيب إذا استعمل السجع بعض المرات يزيد خطبته سبكًا ورونقًا، بينما إذا استمر على السجع فإنه يتركز على الشكل ويفقد الجاذبية.
فالسجع اليسير استعمل قديمًا وما زال. والعودة إليه لا تدل على ارتفاع في الأسلوب، فهو جزء من اللغة لم ينفصل عنها في أية فترة زمنية ، فالعبرة في قوة السبك وفي التأثير.
الجناس
وهو تشابه اللفظين في النطق في أداء المعنى، فقد ورد على مر العصور في كلامنا فصيحة وغير فصيحة.
فالقرآن يورد: وأسلمت مع سليمان، وأقم وجهك للدين القيم، تتقلب فيه القلوب والإبصار، أزفت الآزفة، إذا وقعت الواقعة، إني وجهت وجهي....(16) وبالطبع فإن القرآن عمد إلى هذا الجناس المطلق وسيلة من وسائل الجذب والسحر اللغوي.
وفي الحديث نجد الرسول يتحدث عن قبائل عصية وغفار وأسلم فيقول: غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله ، وعصية عصت الله ورسوله (17)، ويقول الظلم ظلمات يوم القيامة، المسلم من سلم الناس من يده ولسانه (18) .وفي الفترة الإسلامية الأولى قال رجل من قريش لخالد بن صفوان: ما اسمك؟ قال: خالد بن صفوان . فقال الرجل: إن اسمك لكذب، ما خلد أحد، وإن أباك لصفوان وهو حجر. فقال خالد: من أي قريش أنت؟ قال: من بني عبد الدار. قال:فمثلك يشتم تميمًا في عزها وحسبها، وقد هشمتك هاشم، وأمتك أمية، وجمحت بك جُمح، وخزمتك مخزوم، وأقصتك قصي، فجعلتك عبد دارها .(19)
وحتى في العصور المتأخرة في قصص السير نرى بعض اللازمات تتكرر ، وفيها هذه المحسنات، فمن تغريبة بني هلال مثلاً:
والتقى البطلان كأنهما جبلان، وحان عليهما الحَين، وغنى على رأسيهما غراب البين
وقد أورد الشدياق نماذج كثيرة منها:
فلما ذقت طيب العشق وسوس إلي الوسواس أن أتزوج بنتًا فقيرة مهملة، وهذا العشق يسمى عند الإفرنج العشق الأفلاطوني نسبة إلى أفلاطون الحكيم، ولا حقيقة له عندهم، وإنما هي مجرد تسمية، ويعرف عندنا بالهوى العذري نسبة إلى عذرة قبيلة في اليمن لا إلى عذرة الجارية أي بكارتها .(20)
وفي الأمثال العامية نجد تجنيسًا تامًا وناقصًا : الخال مخلّى ، خيرها بغيرها ،
الأقارب عقارب ، الحركة بركة ، الزيارة غارة .
بل إن الأسماء توحي عند الغضب لبعض الأمهات فعائشة- ليتها لا تعيش، و حسن الله لا يحسن إليه، و محمود الله لا يحمده... وهكذا بقدر ما يسمح الاشتقاق. حتى في الإجابات - -أي أحرف الجواب - فإن نعم تصبح عند الغضب دافعة للإجابة نعامة ترفسك ، و لا (لع) – لعوعة؟؟
وإذا كنا قد استشهدنا من شعر امرئ القيس للدلالة على التشطير ، فيمكننا هنا أيضًا أن نستشهد بنموذج الجناس:
لـقد طمح الطماح من بعد أرضه
ليلبسنـي من دائه ما تلبسـا (21)
فهذه الاستعمالات ليست مجرد تلاعب لفظي، وإنما تدبيج لتمكين المعاني ولتقويتها.
أما الجناس الذي يؤدي إلى تعقيد، ويحول دون انطلاق المعاني فهو المتكلف الذي وجدنا له النماذج الكثيرة في أدب المقامات:
وأقدح زند جدك بجدك، واقرع باب رعيك بسعيك، ولج كل لج (22).
فمثل هذا النموذج لا نجده في لغتنا المعاصرة، ولكنا نجد الاستعمالات المتجددة بصور مراوغة وأحيانًا تدعو إلى الابتسام ، فإميل حبيبي في كتابه المتشائل يستعمل:
| حديث شطط في الطريق إلى سجن شطه. | |
| فقمت إلى اللوح فصاح: عد لمكانك يا لوح. | |
| وبرطعوا في برطعة. | |
| أخذ الذهب وذهب.(23) |
ومما ذكر في كتاب أستاذ قد الدنيا لكاتب هذه السطور بعض العينات:
| وصرت معلم الإنجليزية بقدرة قادر. | |
| أو ليس تشكيل الرئاسة أهم من تشكيل القطعة. | |
| وما زلت غير مؤهل حتى الآن مع أني مؤهل زواجًا .(24) |
وقد جذب نظري في أثناء كتابة المقال صورة قلمية للدكتور إدوار إلياس نشرت في الاتحاد بعنوان أوفاهن وفاء وأجملهن جميلة، وأشرفهن شريفة .(25)
فاللغة هنا تتطور،وتقرب الشكل من المضمون ،أي تستعمل الأسلوب نفسه كحيلة فنية لتوصيل المضمون.
الطباق والمقابلة
الطباق هو الجمع بين الشيء وضده في الكلام، وفي المقابلة أكثر من طباق واحد. قال تعالى: وإنه هو أضحك وأبكى * وإنه هو أمات وأحيا (26). يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل * ويخرج الميت من الحي (27) ؛ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب(28) ؛لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم (29).
ومثل هذا التضاد يقوي المعنى ويرسخه في ذهن السامع.
وفي الحديث نماذج منه: اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت...
خير المال عين ساهرة لعين نائمة، إياكم والمشارة فإنها تميت الغرَّة وتحيي العُرّة (30).
ومن المقابلة ما يأتي لإيراد الكلام، ثم مقابلته بمثله في المعنى واللفظ من جهة الموافقة أو المخالفة. فإذا كان منها في المعنى فهو مقابلة الفعل بالفعل كقوله تعالى: فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا (31) فخواء بيوتهم وخرابها بالعذاب مقابلة لظلمهم، فهذا هو الربط المناقض، وهو على غرار ما نراه بالإنجليزية كذلك - Anti- thesis ، وهو أسلوب بلاغي نجد نماذج كثيرة له في كل عصر وحتى في اللهجات العامية:
| القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود. | |
| قرعة تتباهى بشعر بنت خالها. | |
| العصفور يتفلى والصياد يتقلى. |
وسنرى أن هذا الأسلوب يتقوى الضد به عن طريق الضد.
الموازنة
وهو تساوي الفواصل في الوزن دون التقفية نحو قوله تعالى: ونمارق مصفوفة * وزرابي مبثوثة ؛ وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد (32).
ومبنى الجملة في العصر العباسي عامة فيه هذا الترادف الذي تُمكِّن الجملة فيها سابقتها. فمثلاً يقول قدامه في كتابه نقد النثر: .... أن يكون في جميع ألفاظه ومعانيه جاريًا على سجيته غير مستكره لطبيعته، ولا يتكلف ما ليس في وسعه، فإن التكلف إذا ظهر في الكلام هجّنه وقبح موقعه.
فانظر كيف تتشبث الجملة بالأخرى.
وأساليب المنفلوطي وطه حسين والزيات قريبة الشبه بالموازنة، بل إن العقاد الذي أفاد من الأساليب الإنجليزية لم يتخلص من هذه الأنماط المقطعة ، ولنسق مثلاً:
إن الكتابة الأدبية فن، والفن لا يكتفي فيه بالإفادة، ولا يعني عنه مجرد الإفهام. وعندي أن الأديب في حل من الخطأ في بعض الأحيان ، ولكن على شرط أن يكون الخطأ خيرًا وأجمل وأوفى من الصواب (33).
لنعد إلى السؤال: لماذا حافظ العرب على هذا التزيين أو التدبيج على مدى العصور؟
يبدو لنا أن حركة الكتابة والتفكير في صوغ العبارة تلزم التقطيع ذهنيًا آنا بالسجع وآخر بالموازنة، وإذا لم يجد بدًا فهو يعرض عن الموسيقى والإيقاع إلى إيقاع آخر يتمثل بالطباق أو الجناس. يقول صاحب كتاب الصناعتين:
لا يحسن منثور الكلام ولا يحلو حتى يكون مزدوجًا... (34)
فالكلمات العادية لا تثير انتباه القارئ أو السامع، وتتجلى المتعة بالإيقاع نفسه، وفي الإيقاع نوع من التكرار. فإذا قيل: ليس له صديق في السر، ولا عدو في العلانية فإننا نطرب للقسم الثاني، بل أحيانًا نستخرجه وحده، لأنه تكرار من نوع جديد يزيد الإيقاع قوة على قوة.
إذًا فبقدر ما يؤدَّى الغرض الجمالي فإن ثمة مضمونًا تأكيديًا هو إيقاع وتمكين معًا.
وهذه الأساليب منها ما هو تعويض عن قافية الشعر وتمكين معًا. وإذا كان الشعر كثافة معنى وتركيزًا فإن هذا التدبيج أو التزيين يركز الخلاصة في موسقة وجمال بناء شبيهين لما لهما في النظم.
وقد يدخل التكرار في هذا الباب كما نجد أن للمفعول المطلق (وخاصة المصدر للتوكيد) أهمية في هذا المجال، فهي محسنات رغم أنها لم ترد على السنة علماء البلاغة بهذا الوصف. فكلما كانت طبيعية انسابت وانساقت حلى وديباجة، أما إذا تعسفنا فيها وتكلفنا فعندها تكون تلاعبًا لغويًا - لا تغني العبارة بقدر ما تفقرها.
ومع هذا لا نستطيع أن ننكر استعمال كاتب معاصر للسجع أو الطباق، فلغتنا طيعة لمثل هذه المحسنات، ونحن لا نسمي هذا ارتفاعًا في الأسلوب أو انخفاضًا فيه ، كما أن الكاتب الذي يقل منها أو لا يستعملها قطعيًا لا ينقص حظه من الإجادة في الكتابة... فتفاوت العمل الأدبي هو بالأسلوب والشكل، فالشكل هو الذي يرسخ المضمون ، وهو الذي يتلاحم معه.
لنلق نظرة على الاستعمالات المعاصرة لهذه المحسنات في لغتنا الحديثة:
أ- نستعمل كثيرًا منها عناوين لمقالات أو أسماء لكتب ، وخاصة أسلوب الطباق ، فمن الكتب المحلية يحضرني:
مروج وصحار، أسير يقظتي ونومي، اعتناق الحياة والممات، وابل وطل.
وفي عدد واحد من صحافتنا المحلية وردت هذه العناوين:
تريد العشق وتخاف من الحمل، يا جبل ما يهزك ريح، أوفاهن وفاء وأجملهن جميلة وأشرفهن شريفة .(35)
وهناك بعض زوايا في الصحافة أذكر منها : صدى الصدى!
ما الهدف من الهدف؟ الجديد في الجديد- وهكذا كل صحيفة تبعًا لاسمها.
ب- الاستعمال الساخر في اللغة، حتى ولو كانت هناك بعض التجاوزات اللغوية: يقول إميل حبيبي:
كنت أحسبك حمارًا فإذا أنت أحمر.
- أفحمه؟
- بل وفَحَّمه.
- واخذ الذهب وذهب .(36)
ففي المثل الأخير مكّن المعنى ورسخه، فلو قال هذا المثل أخذ الذهب وراح لكانت جملة عادية، ولكن كلمة (ذهب) خدمت المعنى .
وليسمح لي القارئ باستعمال نماذج من كتابي أستاذ قد الدنيا الذي عنوانه يدل على الموازنة والمفارقة:
| أنا رياض برهان أستاذ الرياضيات. | |
| فأنا نسيج وحدي أو جحيش وحدي. | |
| أحسب وما أدراك ما أحسب !(37) |
ج- نقل جو، وكثيرًا ما يكون نوعًا من Parody فيستعمل الكاتب الصيغ نفسها بصورة مختلفة، ولكنها موحية بالجو الأصلي الذي نبعت منه. ففي كشف اللثام عن أخبار ابن سلام يكتب لنا جمال الغيطاني فصلاً كأنه من فصول الجبرتي (38). وفي رحلات السندباد السبع يستعمل عبد الرحمن فهمي العبارة يا سادة يا كرام...(39) بشكل رتيب.
وأخيرًا فإن مناحي القول وأساليبه اتسعت هذه الأيام بقدر اتساع الحياة وأساليبها، فثمة الجمل الطويلة على غرار الجملة الألمانية المركبة، وثمة المعتمدة على الاستعارات المختزلة أو المنحوتة، وهناك أنصاف الجمل وكأنها شعر حديث.
وقد وقع في يدي مؤخرًا نموذج من النثر الغريب نشرته مجلة النقطة التي صدرت في باريس. وبرغم هذا الخروج عن مألوف اللغة في مساراتها فإن المحسنات اللغوية بقيت زينة إذا استسيغت وأحكمت، وغدت أغلالاً إذا لم تكتبها يد صَناع، فهي جزء من اللغة والأسلوب ولا تشترط سياق السخرية.
وبعد فليست لنا مقاييس محددة نقيس بها ارتفاع اللغة وانخفاضها. فاللغة متطورة، وما كان عاميًا عند الزبيدي في كتابه لحن العامة أصبح فصيحًا اليوم. وبعض ما نعتبره عاميًا اليوم قد يكون فصيحًا بعد ألف سنة. وليست المحسنات اللفظية تلاعبًا لغويًا كما يحلو للبعض أن يسميها، بل لها مكانتها في خدمة المضمون.
![]()
(1)
-
Zaki Abdel
Malik: The influence of diaglossia on
the
novels of yusif al-Sibaai,
JAL,
3, 1972,
PP.
132-141
(2)
- تاج العروس للزبيدي مادة سجع.
(3)
- سنن النسائي ، ج 8 ، دار إحياء التراث العربي، القاهرة ، ص
50.
(4)
- قدامة بن جعفر، نقد النثر ، مطبعة مصر ، القاهرة - 1939 ، ، ص
107.
(5)
- البلاقاني، إعجاز القرآن ، دار المعارف بمصر، ص 270. وقد ميز
الباقلاني بين السجع يتبعه المعنى، والفواصل تابعة للمعاني ، وهو تمييز غير دقيق
عند التطبيق كما يرى الباحث الموضوعي.
(6)
- سورة الانشراح آية 7-8.
(7)
- سورة الكافرون آية 1-2.
(8)
- الدارمي: سنن الدارمي ، ج2 ص 275.
(9)
- ابن ماجه: سنن ابن ماجه ، دار أحياء الكتب العربية، القاهرة -
1952، ج1 ص 573.
(10)
- سنن ابن ماجه ج2 ص 1165.
(11)
- قدامة بن جعفر. نقد النثر ص 102.
(12)
- ألف ليلة وليلة ، المكتبة الشعبية ، د . ت ، ج2 ص 255.
(13)
- تغريبة بني هلال ص 53.
(14)
- انظر الخليلي علي: البطل الفلسطيني في الحكاية الشعبية ، مطبعة
ابن رشد ، القدس - 1979.
(15)
- ديوان امرئ القيس ، بئير أوفست- حيفا ، ص 143.
(16)
- القرآن الكريم: على التوالي سورة النمل 44، الروم 43، النور
37، النجم 57، الواقعة 1، الأنعام 79.
(17)
- صحيح البخاري- باب المناقب ص 307.
(18)
- ن . م - ج1 ص9.
(19)
- أبو هلال العسكري، كتاب سر الصناعتين ، دار أحياء الكتب
العربية، القاهرة ، ص 323.
(20)
- الشدياق أحمد، الساق على الساق ص 159 ، وانظر كذلك مقدمة
كتاب من الجراب لمارون عبود حيث يعني بالجراب معنى أخر فيــه روح الدعابة.
(21)
- ديوان امرئ القيس ص 118.
(22)
- الحريري. مقامات الحريري، المقامة الساسانية ص 575.
(23)
- إميل حبيبي- المتشائل : قصة أبي سعيد النحس ص 162، 48، 101،
124.
(24)
- فاروق مواسي. أستاذ قد الدنيا ص 7، 14، 48.
(25)
- الاتحاد عدد 31/12/82 ص 5.
(26)
- سورة النجم 43-44.
(27)
- سورة آل عمران 27.
(28)
- سورة الحديد 13.
(29)
- سورة الحديد 23.
(30)
- صحيح البخاري ج8 ص 105، م.ن ج2 152.
(31)
- - سورة النمل 22
(32)
- سورة الغاشية 15-16، المسد 4.
(33)
- مقدمة العقاد لكتاب الغربال- ميخائيل نعيمة ، دار المعارف ،
القاهرة – 1946، ص8.
(34)
- العسكري : كتاب سر الصناعتين ص 260.
(35)
- انظر : الاتحاد ، عدد 31/12/82 ، ص 5 .
(36)
- حبيبي إميل : قصة أبي سعيد المتشائل ص 169، ص 167، ص 124.
(37)
- مواسي : أستاذ قد الدنيا ص 6، 9.
(38)
- الغيطاني جمال. أوراق شاب عاش منذ ألف عام ، منشورات صلاح الدين،
القدس ، ص 99.
(39)
- فهمي عبد الرحمن. رحلات السندباد السبع ، دار الشروق، القاهرة
، ص 10-11.