من أهم ما يميز أدب الأطفال أنه يتمثل في كشف جوانب معرفية للطفل وإضاءتها ، وتقديم مادة ما بمستوى أدبي مع التركيز على كيفية عرضها ، وكذلك في التوجيه والإيحاء من خلال النص بأسلوب ميسر . إنه يعمد إلى إشباع حب الاستطلاع لدى الطفل، وإلى تنمية خياله ، وإلى مخاطبته حول طبيعة الإنسان والإنسانية عامة وإنجازاتها، وصولاً إلى استكشاف العوالم المختلفة حوله .
هذا الأدب عليه أن يوفر المتعة والفهم ومحاولة ترك الأثر- أثرٍ ما في نفسية الطفل وفي أفعاله.
إن أدب الطفل هو مفتاح لولوج عالم الأدب عامة، فمن واجباته أن يخلق الثقة لدى الأطفال، وأن يخلق بديلاً للواقع – غير المرضي عنه أحيانًا - أو موازيًا له، وأن يقدم الأمان العاطفي أو الروحاني، وكذلك أن يغرس الشعور بالانتماء، ويوثق روابط المحبة مع من حوله. وأهم من ذلك أن يحفز الطفل على استقلاليته ، بحيث
يدعوه إلى أن يتغلب على المصاعب ضمن رؤية هادفة ، هذه الرؤية التي ترى أنه لا بد له من تضامن أو تعاون مع الآخرين.
فإذا انطلقنا من ضرورة استقلاليته عرفنا أهمية أن يقوم هو بفعاليات تساعده على أن يتم عمله وينجزه بنجاح.... ويبني شخصيته لبنة لبنة .
ولا يدعي أحد أن هذه التوقعات أو الافتراضات ستكون كلها في نص ما، فحسب الكاتب أن يضع نصب عينيه موضوعة مركزة أو اثنتين ليقرب النص إلى عالم الطفل وأدبه.
إن المنشود في كتاب الطفل أن تكون محتوياته وتصميمه ولغته تؤدي بالطفل إلى متعة شعورية وجمالية، و إلى أن تثري عالم الطفل بالتجارب...
وقد تكون في كل نص شخصية أو أكثر يتعاطف معها الطفل، وقد تكون مُرْسَلة أخلاقية معينة يتحمس لها الطفل، أو تكون وسيلة ما لاكتساب المعرفة ولزيادة مكنز معلوماته ، ولكنها لن تكون خالية من أي مضمون – كما يحلو لبعض أنصار التجديد في هذا الحقل .
النص بدءًا يفترض أن يحول الطفل إلى قارئ مستقبلي، ولا يخفى أن اللغة المنتقاة هي التي تحسن ذوقه الفني وتطور حسه الجمالي وتحمل المداليل والمضامين المبتغاة. فليس بدعًا أن نرى أطفالنا يكررون عبارات حفظوها، وبهذا يثرون لغتهم هم، وبذلك يطورون الوعي الذاتي والفكري.
وإذا كانت اللغة هي المقياس الأول في النص الأدبي عامة ، حيث لا يهمنا أولاً ماذا نقول، بل يهمنا كيف تقول- فإن هذا ينطبق أكثر ما ينطبق على أدب الأطفال . فاختيار الألفاظ ذات الإيقاع، والتكرار غير الممل، واستخدام المحسنات من سجع وجناس وطباق وازدواج، وبناء الجمل القصيرة والمعبرة التصويرية تجعل النص محبَّبًا لدى الطفل...
ثمة أنواع للقص الذي يلائم الطفل، ولا أرى هنا أن أصنفها - هذي لهذا الجيل، وتلك لذاك، ولكنني أرى أن لغة حكايات الجن والسحرة والأسطورة تختلف عن لغة القصة على لسان الطير والحيوان، عن القصة الشعبية، عن القصة التاريخية، عن قصة من وحي الطبيعة، عن قصة دينية، عن قصة فكاهية، وكل واحدة من هذي تختلف عن الأخرى.
والمسرحية- وهي قليلة في كتابتنا- تحاسبنا كل كلمة فيها ونحاسبها في مدى توظيفها ونجاعتها وتوصيلها ، وذلك حتى تكون المسرحية ناجحة.
ولست أرى لغة الشعر بعيدة عن هذا الحرص الشديد الذي نعمد إليه في اختيار كل لفظة ولفظة...
من المآخذ التي أراها في أدبنا للأطفال أنه لا يحدد على أغلفة الكتب المستوى المعدّل أو معدّل المستوى ، كأن يُكتب على الغلاف – معد لأبناء الرابعة-السادسة -. مثلاً، بل يتركون للآباء أن يتصفحوا وأن يقرءوا، وأن يقرروا، بينما كان من المفروض تبيان الفئة العمرية من جهة ، وتظهير الكتاب ببضعة سطور تبين المضمون / الملخص الذي يعالجه الكاتب. وبهذا نوفر على الآباء جهد التصفح والقرار، ذلك لأن القرار السريع من قبلهم قد يكون غير موفق.
يلجأ بعض كتاب أدب الأطفال إلى العامية تيسيرًا على الأطفال. وهذه قضية ذات خطورة وخطرة ، إذ من الضرورة أولاً أن نعوّد الطفل على اللغة التي سيعايشها في كتب المستقبل. أما أن نسوّق العامية فهذا ضرب من الخطاب اليومي العابر - أسوة بالنكتة والأغنية الشعبية والحكاية [i] ، ورغم أن هذه جميعها هي من صميم الواقع حقًا، لكنها لم تدخل حتى الآن دائرة الأدب العربي سواء في أدب الكبار أو الصغار.
ولرب سائل يسأل: كيف نميّز بين أدب الكبار والصغار؟
والإجابة في تقديري تتأتى في المستوى اللغوي وفي الأداء، وسأسوق مثلاً:
من أدب الكبار نقرأ هذه الفقرة :
" اهتز الحصان بنشوة. كان متفوقًا بعد أن بز سائر الخيول في السباق وحصل على قصب السبق . فلما أُعلن عن فوزه كانت أعين الناس ترنو إليه بإعجاب."
أما في أدب الصغار فسنرى نفس الحدث بلغة أخرى:
" أسرع الحصان الأبيض الجميل، وكان يرفع رأسه وهو يجري ويجري ويجري... حتى فاز وسبق كل الخيول التي كانت تباريه. ولما انتهى السباق أخذ يحرك جسده وكأنه يرقص. وكان سامي ينظر إليه بإعجاب وهو يصفق."
بالطبع لاحظنا أن المستوى اللغوي اختلف في النص الثاني، كما رأينا الحركية والدرامية والوصف الحسي ملائمًا لعالم الطفل ولخياله ، بالإضافة إلى مشاركة الطفل ووضعه في مركز الحدث .
تبعًا لذلك فاختيار الألفاظ والتعابير يجب أن تلائم العمر أو الفئة العمرية ، فمن المشكلات التي يقع فيها كاتب النص للأطفال أنه يكتب المضمون السهل الميسر الملائم لأبناء الخامسة مثلاً في لغة أعلى تلائم سن العاشرة، وذلك بقاموس لغوي لا يتوافق مع مضمون النص ، ولست بحاجة لتقديم نماذج على ذلك، فهي أكثر من أن تحصى ، فاقرأ نموذجًا مقدّمًا لأبناء الخامسة - كما تبين لنا من مادة المضمون - ، ولكن الجمل التي سأذكرها هي دون أدنى شك تلائم طلابًا في العاشرة فما فوق :
" كنت كلما اقتربت من هذه المجموعة التي تحلقت حول والدي لأستطلع الأمر الذي عزموا عليه خفضوا أصواتهم... حتى علمت أنهم يخفون شيئًا مريبًا ". [ii]
وهناك من جهة أخرى من يجعل الموضوع أو الفكرة التي تلائم أبناء العاشرة في لغة مبسطة وكأنه يخاطب أبناء الخامسة أو السادسة.....
من هنا، فثمة ضرورة لمن يكتب أدب الأطفال أن تكون لديه ثقافة خاصة - ذات معرفة أصولية لغوية ، ومتابعة تربوية ، وقدرة على إجراء الموازنات الملائمة ...
ولن أتحدث هنا عن الرسوم التوضيحية التي يكون بعضها تضليليًا أو على الأقل بعيدًا عن روح النص ، وهي أكثر من أن تُحصى ، فهي جزء من الشكل ولغة النص على مستوى التشكيل .
على ضوء ذلك يجدر الاهتمام بأن يكلف كل مؤلف مدققًا لغويًا، بحيث يراجع اللغة كلمة كلمة وشكلاً شكلاً لكل حرف وحرف، فكيف نجيز مثلاً : ثمانية شَمْعات في كتاب "عيد ميلاد شادي" والصواب ثماني شَمَعات؟ وهل فحصت المؤلفة كيف يكون خبر كان (موافقون) أم (موافقين)؟
ذكرت هنا نموذجًا عارضًا لا يمثل أصلاً الكثرة الزاخرة من الأخطاء الحاشدة في الكتب...
أصل إلى القول إننا بحاجة إلى البحوث والدراسات الميدانية التي تحدد مستوى النمو اللغوي لدى أطفالنا، بل ثمة ضرورة ملحة لوضع اطر أدعوها "أطرًا احتمالية" – بمعنى أن الطفل يحتمل بل يرجح أن يدركها ، وان يستوعبها ، وأن يستخدمها . ذكرت لي بعض المعلمات في مساق قدمته لهن:
وهذه الأطر المقترحة ستُعنى أيضًا بضرورة إضافة مراقبَة لبعض الكلمات الجديدة الهامة في الميدان الذي يخوضه الكاتب ، وذلك من منطلق إثراء معلوماته وإكساب مفرداته ، والتعريف بها ، وبالتالي تحدي معرفة الطفل في مجال تطوره.
لا إنكار أن كل محاولة للتحديد سواء في الفئات العمرية الملائمة لهذا الضرب أو ذاك أو في الأطر الاحتمالية التي أشرت إليها ستأخذ بنظر الاعتبار الذكاء الفردي أو البيئة التي يعيشها هذا الطفل أو ذاك.
فالكتابة للأطفال تستلزم تخصصًا وممارسة ومعايشة للأطفال، وتستلزم متابعة ودراسات متعمقة في اللغة وفي أصول التربية وعلم النفس، وإلى تبيّن مراحل الطفولة وخصائصها. وأولاً وقبلاً إلى معرفة بالقواعد السليمة للكتابة الأدبية وإدراك الأفاق التي يحلق فيها الأطفال ومدى ملاءمة المعاني لقاموسهم اللغوي المنتقى بعناية وتصميم.
* نشرت المقالة في كتاب " مؤتمر أدب الأطفال لفلسطينيي الداخل " – مركز ثقافة الطفل – الأسوار بدعم من مؤسسة دياكونيا السويدية ، عكا – 2006 ، ص 67.
[i]– لا أرى -مع ذلك - غضاضة في استخدام أناشيد وكلمات معينة باللهجة الدارجة تكون مقبولة ومستساغة.
[ii] كتاب "بيت ميس" يلائم أطفال الرابعة-السادسة ، ولكن القصة طويلة وتستخدم ألفاظًا أعلى من مستوى الحدث ، نحو: خرير، تكورت، دمية، قذفتها.... ونجد نماذج أخرى في " قصة العيد الذي لم اشترك فيه" ، وبالطبع فهذه مجرد أمثلة لا تنفي أهمية كل كتاب وكتاب أو تنكر الجهد الذي بذله هذا المؤلف أو تلك .