في صحبة محمد علي شمس الدين :
متابعة لشعره ، ومحطة لدى "فراشته" الجميلة

 

 

هذه دراسة "صحبة" - أصحب فيها الشاعر محمد علي شمس الدين أحد "شعراء الجنوب" المرموقين ، هؤلاء الذين علا صيتهم شعريًا ونقديًا ، وسجلوا صفحات غراء في أدب " المقاومة " - وهذه المرة هي من لبنان .

هم كوكبة حفروا في الوجدان العربي أثرًا بليغًا في صولاتهم وقولاتهم . تابعت منهم شوقي بزيع الذي تعرفت إليه في القاهرة، فما وجدت إلا الأصالة والرهافة مجتمعتين، وحسن العبد لله ومحمد العبد الله وجودت فخر الدين ....و ، وهؤلاء جميعًا تيسر لنا أن نقرأهم أولاً عبر مجلة "الآداب" البيروتية، ثم مما وصلنا من دواوينهم ودراساتهم.

ولد محمد علي في بيت ياحون، وهي قرية تتاخم شمالي فلسطين، عام 1942 ، ودرس الثانوية في بيروت، ثم حصل على إجازة الحقوق من الجامعة اللبنانية عام 1963 ، وبعد ذلك تحول إلى دراسة التاريخ حتى حصل على الماجستير في مادتها.

وإذا كانت دراسته متنوعة فمن الجدير ذكره أن وظائفه تنوعت اتجاهاتها ؛ فمن أستاذ تاريخ الفن في معهد التعليم العالي ، إلى مفتش للضمان الاجتماعي...... وقد تسنـى لي أن أشاهد الشاعر وحرمه على شاشة التلفزيون اللبناني ،فسررت لهذه الدماثة منهما ، وبان لي أنه نشيط ثقافيًا وعلى أكثر من صعيد، وأن الشاعر فيه يظل بلغته هو الأقوى.

يحدثنا الشاعر في سيرته عن جنائز الجنوب وكربلياته ، وكيف كانت تلك تضرب في عمق الفلسفة الشعبية التي تعتبر أن الموت شكل من أشكال الحياة، وأن الإنسان لا ينتهي كفقاعـة في مستنقع، بموته الجسدي، فهو منحاز للحياة رغم هذا الدمار الدهري.

يقول الشاعر :

" أما ديك الجن الحمصي فأعجب المخلوقات على الإطلاق. شاعر بوهيمي صعلوك، سكير، محب، عاشق، مجنون، قاتل، تائب وذو اسم شديد الإيحاء. وقد كتبته في قصيدة "عودة ديك الجن إلى الأرض"، أنا هو ديك الجن، والريح كذلك. أحب الريح التي تهب. الريح العنيفة ..." أعلام الأدب العربي المعاصر . إعداد روبرت كامبل ج 2 ص 788

ومع أنني قرأت أعماله الشعرية الكاملة التي صدرت عن دار سعاد الصباح (القاهرة - 1933) إلا أنني شعرت أن له كتبًا أخرى هي ضرورية لي - في هذه الصحبة مع الشاعر - أولها : كتاب الطواف (سيرة ذاتية، دار الحداثة، بيروت- 1987) ، وثانيها كتاب رياح حجرية (بيروت، الدار العالمية 1981).

وآخرها ديوانه الشعري (ممالك عالية) - دار الآداب ، بيروت 2002 .

ويبدو لي أن قصيدة "الطواف حول المنزل" التي سأقتطف منها هي من بين قصائده التي أثبتـها في كتاب "الطواف" ضمن سيرته الذاتية ،

يقول الشاعر فيها :

تستوقفني أحيانـًا

وأنا أسرع في خطوي

نحو المنزل

أشجار لا أعرفها

تتقوس نحوي بثمار دانيةٍ

وتناديني

أسأل نفسي

هل للأشجار دم فيجنّ

وللأغصان يد فتلوّح

إذ تلقى ضوء جنبي

*****

تستوقفني أحيانًا

وأنا أجلس في بيتي

أصوات لا أعرفها

تأتي من زاوية

لم تكشف للضوء حواشيها

أسأل نفسي :

هل لحجارة هذا البيت فم

يختزن الأصوات ويحييها ؟

هل لنوافذ هذا المنزل ذاكرة

تذكر أرواح محبيها ؟

(صحيفة الاتحاد 12-12-1986)

وبالطبع يلاحظ القارئ هذه الانسيابية التي تنطلق مع استيحاء جو نبوي من وحي السيرة. إنه لا يجعلها تسلم عليه كما روت لنا سيرة ابن هشام :

"لا يمر رسول الله (ص) بحجر ولا شجر إلا قال : السلام عليك يا رسول الله. قال : فيلتفت رسول الله (ص) حوله وعن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة) ابن هشام : السيرة النبوية ج 1 ط 2

وإنما هي تناديه.

إن هذا التلمس العميق للأشياء لا يتأتى إلا من شاعر عميق الإحساس بالمكان، وليس ثمة بون بين الشعر وكل رؤيا/ . ومن حق الشاعر استلهام الجو النبوي، فهي تناديه، ويتخيلها كما يتخيل أصواتًـا لا يعرفها. إنها تحمل حنينًا له كما يحمل حنينًـا لها، وهو يستعيد تاريخها زمكانيًـا.

وطريق صياغة الشاعر لأشعاره تدل على الاسترسال في تأملاته وتسجيلاته ونوازعه المستورة من عالم مجهول أومن نص غائب. يغوص الشاعر في اللجج السرية لذاته ليكشف لنا تجلياته، وكأنه يقول: أنا هنا في عريــي الطاهر، جئتكم من وراء الدهشة ، وقصيدتي قناع من أقنعة هذا العُرْي المتجدد الباهر .

الشاعر له رؤيا في أكثر من تجلّ ، ففي " قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا" التي كتبها في بيروت وفي الجنوب في سنتي 73-74 - يروي لنا ما ستكون عليه حكاية العدوان الإسرائيلي على الجنوب ، وكيف اندحر العدوان فيما بعد، ومثل هذه الرؤى نجدها لدى الشعراء الذين أحسوا عميقـًا معاناة شعبهم وكانوا متماثلين إلى حد التذويت مع قضاياه.

يقول الشاعر :

"وأغادر مملكتي كغزال مطعون أو مغتصب

في الحذر، وأترك أطرافي السفلى تتأكل حين تراودها الصحراء، وتبهرها

أجراس الموت ودائرة الزمن الأولى...

حسنًا ها أنت الآن معي

وأنا أتأرجح فوق مدا رج أشلائي

أترنح تحت مجزرة تتقاسمني

وترن بجمجمتي خوذ الفولاذ أضم يدي

..............................

..............................

سقطت في القبلة خمس قرى

حسنـًـا ها أنتِ الآن معي

تترصد ني حد قات الطير وتسلمني للعسكر

قبل طلوع الفجر فأصلب قرب أبي

وأقوم يتوجني الفقراء فأجمع كوكبة

وخيولاً تسرجـها الأطفال فأدخل أرض

الروم وأعلن بدء الفتح وأعلن مملكتي.

وأقيم سرادق عرسي"

يقول الشاعر في حوار أجرته الكاتبة زينب حمود - نشر في موقع (بنت جبيل) على الإنترنت :

"هزتني وحشية العدو، فصورتها في قصائد عديدة مثل " أغنية كي تنام زينب"، "الطواف" ، "هو القلب أم حفنة من دخان القرى" و "فتى الرمان".

تطالبه المحاوِرة بقصيدة جديدة، وتطلب منه أن تكون مخصصة للجنوب، فيقول موجهـًـا خطابه إلى هذا المكان الأشم :

إلى السيد الجنوب

يمشي على الموت تياها كأن به

من الألوهة شيئًـا ليس يخفيه

يمشي الهوينا وقتلاه تمجده

كأنما كل ما يرديه يحييــه

يعلو على الغيم آنا ثم آونة

يدنو فيصبح أدنى من معانيه

أعطيته كل ما أوتيت من نعم

وما ندمت فألقاني على التيـه

وبالطبع فهذا النص يعكس شعره المرتبط بوجوده، حيث الطبيعة الخاصة والحنين الديني الذي يناغمها، والتأملات التي تبعثها أو تنطلق منها.

بدأت الأسئلة تتشكل في ذاكرته - حول الموت، الحياة، الحب، الألم، التحولات، وكانت اللغة تتدافع لديه لتأليف صورة حَيّة سلسة منسابة ، غير بالغة التعقيد .[1]

يسأله أموري الرماحي (الدستور عدد 3-4-2003) عن انشغالاته ولماذا بقيت على ما هي عليه، فيقول :

" هنالك تعديل في الاهتمامات، يعني لا يستطيع الإنسان فجأة أن يستوعب تجربة الحياة بكاملها. تكون عنده بدايات وإرهاصات ، ولكن الشعر هو القول الشعري لحياة بكاملها. وهذه الحياة فيها أطوار وأعمار وأحوال...

أنا شاعر رموز وأقنعة، لست مباشرًا وشاعر ثنائيات، ثم وصولاً إلى أن يحمل الشيء ضده.......

إن الشعر ذاتي، ويأتي من موضوع، وربما يأتي من الذات، فأنا أعوّل جدًا على أساليب التعبير الذاتي لدى الشعراء، ولا يكفي الهم الواحد، ولا يكفي التاريخ الواحد لإنتاج شعر واحد. الأهمية هي أن هناك تمايزات بين عدد من الشعراء، عاشوا في ظروف متقاربة - مكانية وزمانية وتاريخية، وفي قلب الوجود الواحد، والمغامرات الشعرية اختلفت."

وقصيدة محمد علي شمس الدين تحمل الوطن، ولكنها تظهره فنيًا مصوغـًا في أداء بعيد عن الايدولوجيا أو السياسة .

أما الباحث الإسباني بدرو منتافيز في مقدمته للأعمال الكاملة للشاعر فيرى أن شعره هو سياسي "ولكن بوضوح خاص ، بتفجر ونغم، ولهجة لا علاقة لها بكل المناشير المحترفة التي يبدو أن علينا احتمالها دائمًا... ولا يمكن أن يكون إلا كذلك: شعر وجودي بقوة ، يغوص في الأساطير، مليء بالرموز والإشارات. شعر علينا أن نقترب منه تدريجيًا بعد الصدمة التي يولدها لدى قراءته للمرة الأولى، ونحن نحاول أن نفك رمز الغاية الصحيحة من مواده الأساسية التي يلجأ اليها. " ويمضي الكاتب مستذكرًا :

"....في دراسة حديثة كان محمد عيتاني قد أظهر أحد هذه الأساليب للاقتراب من شعر محمد علي مستقصيًا دعامتين من الدعائم الأساسية لقصائد : " الريح والطفل" (ص 14-15).

إنه شاعر القصيدة ، ويستطيع المتلقي ذو الدربة والمران وبعد مطالعة عدد من قصائده أن يجد ملامح أو جوهرية لقصيدته ، يتعرف إلى لغته التي تتبدى في تركيب الصورة وتداخل النص وإيقاعاته و في الخيال المنطلق من تحليقاته . إنها جميعًا تؤلف الأسلوب - هذا الأسلوب الذي نعرف به كتابة طه حسين ونزار قباني ومارون عبود وسعيد عقل وغيرهم...

إن مفاتيح شعر شمس الدين أو (موتيفاته) حددها الشاعر بشيء من الكشف الصحيح وهي : الدم، الطير، النهر... الموت، البحر، الحاجة إلى الميتافيزيقا .(من حوار أجراه الشاعر مع حبش إسكندر نشرته صحيفة السفير 7 / كانون الأول 2001) ؛

وأستطيع أن أضيف إلى ما ذكره الشاعر عن نفسه وما ذكره الناقد الإسباني : ولعه بالأقنعة وخاصة من التراث العربي (ابن سينا، أبو العلاء المعري، ديك الجن، العباس ، الحجاج ، يوسف، ليلى...) أو الأجنبي (رامبو ، غوغان ...)

وكل قناع بحاجة إلى دراسة خاصة لنرى فيها مدى تماثل الراوي الشاعر مع الشخصية أو الوجه

. وقد ارتأيت أن أتوقف على قصيدة الفراشة التي كتبها في رثاء أمه وهي من آخر قصائده (نوفمبر 2003) وقد أُثبتت في موقع (بنت جبيل) على الإنترنيت، وإليكم القصيدة أولا :

الفراشة

محمد علي شمس الدين

إلى التي ماتت في الشهر الجميل آمنة / أمّي -

في الليل

في الحَلَك العظيم

وعند تشابك الأحياء بالموتى

وولولة الرياح

دفنتُ أمي

وأهَلْتُ آخر حفنة فوق التراب من التراب

وقلت : ها إني أعود لعلّني

أجد الجميلة تستريح على سرير جمالها

في البيت

حيث تمدُّ نحوي كفّها البيضاء

تسألني معاتبة لماذا غبت يا ولدي؟

وتعلم أنني ما غبت

لكنّ الجميلة دائمًا

ينتابها قلق الغياب

وأنها تنأى

وتبعد حين تقرب

ثم تنأى

ثم تنأى

كي تُرى حُلمًا

وقد أبصرت حلمي......

.......

* * *

ويقول جاري :

أمس زارتنا الجميلة

وارتأت أن نبدأ الألعاب

من ورديّة الأطفال

رتبنا الحصى لُعبًا

وكانت تنحني في ثوبها الورديّ

تعبثُ بالحصى

وترتب الأشياء

من بدء الحكاية للنهاية :

هكذا سيكون :

هذا بيتنا وسكنت فيه

وذاك زوجي وهو يكدح أو يصلي

أو يغار على الجميلة من مرور سحابة فوق الحمى

أو نظرة لفتى يمر على الطريق

ويرسل الأشعار

كي يصل الصدى لأميرة خلف الحمى

ويقال إن جمالها

أعلى من الأسوار

إن الله حين رأى بياض الثلج

قال : يكون في وجناتها

ورأى اخضرار العشب

قال : يكون في نظراتها

ورأى ترقرق نبعة الريحان

قال يكون في كلماتها

والنهر

أوله من - الصافي -

وآخره على أقدامها يجري

ويذهب في اندفاع مياهه للبحر

ترفعه السماء إلى الغيوم

وحين نظرت في أعلى الغيوم

رأيت ثمّة وجه أمي

ويقال إن الله سمّاها على اسم الرحمة الأولى

فآمنة التي مثل الحمامة لم يشبها السوء

ما زالت الأسماء رحمتها

وتسحب في مدار الشمس رايتها العظيمة

فالسلام على التي ولدت محمد

(وهو نور النور)

واغتسلت ضحى بالماء

فانبعثت على الأشياء صورتها البهية

فهي أول ما يٌرى عند الصباح

وآخر الأحلام عند تشابك الأحياء بالموتى...

وقبل هلاكها...

.......

* * *

ورأيت رؤيا :

في الليل

في الحلك العظيم

وبعدما ألقيت آخر حفنة

فوق التراب من التراب

ولم يعد في القبر غير جمالها العاري

رأيت فراشة في الضوء تخفق

فاتبعت جناحها بين القبور

وعدت نحو البيت

كي أجد السرير

سريرها الملكي

مرتجفًا

وتغمره الدموع

وأن فراشة

حطّت هناك على السرير

كنقطة بيضاء في الحلك العظيم

سألت نفسي :

هل رأيت

وهل سمعت

وهل تعود لكي تراني ؟

وسألت نفسي :

أين تذهب روحها البيضاء

كيف ؟

ومن سيؤويها

إذا ما أقفل الحفّار حفرتها

و - رنّ المعول الحجري - في هذا الفراغ الجوهري من الزمان ؟

......

ومددت كفي... نقطة الضوء الفراشة لم تخف، وأخاف، لكن

.....

.....

* * *

ليس بردًا ما يصيب أصابعي، وأخاف، لكن

ليس حُمّى...

فجمالها المضني على الأسلاك

شردني،

وقد أبصرت رؤيا :

في الليل

في الحلك العظيم

وعند تشابك الأحياء بالموتى

وولولة السماء

رأيت أمي

قراءة

النفس القصصي في هذه القصيدة يحدد الزمان والمكان ، ففي الليل عند الحلكة تمامًا وعندما كانت الرياح تولول (ربما هي تشارك في أجواء الحزن بولولتها) كان الراوي الشاعر في أرض المقبرة يهيل التراب على أعز مخلوق لديه - أمه .

هجس في نفسه مكذّبًا ما وقع في الواقع : سأعود، فربما سأجد الجميلة - يعني أمه- تستريح على سرير جمالها (لاحظ تكراره وتأكيده للفظة "الجميل"، فربما هي تعني لديه المباركة. أو ليس رمضان " الشهر الجميل" الذي توفيت فيه هو مبارك ؟! - في (موتو) أو تعليقة القصيدة ؟

يتخيل الشاعر صورة أمه وهي تمد نحوه كفها البيضاء (مرة أخرى _ لاحظ استخدام هذا اللون في القصيدة ، وسترى معنى النقاء الملازم لأمه الجميلة)

يسترسل الشاعر. وينتزع من الماضي عندما كانت تسأل عنه وعن سبب غيابه. السؤال سيعود الآن بعد عودته من مراسيم دفنها، فأمه - من عادتها وبسبب تعلقها بأبنائها - "ينتابها قلق الغياب". ثم يراوحنا الوصف بين نأيها وقربها، حقيقتها وطيفها، حياتها وموتها- كل ذلك كي تُرى حلمًـا، وها هو الشاعر يعترف أنه أبصر حلمه فيما بعد .

في المقطع الثاني يلتقط الشاعر بعض الصور من واقع الماضي الذي عاشته أمه، وذلك من منظور سمع عنه ، أو تخيله ، أو كانت أمه قد حدثته عن لقطات منه.

يجعل الجار راويًا لقصة حلم حلمه ، أو عن ماضي الطفولة الذي عاشته (سيان)، ومجمل الحلم أو الماضي يشي بالبراءة والطفولة، ثم إن الأمل معقود في أن تبني مستقبلاً - حياة زوجية طاهرة مع زوج يكدح أو يصلي (هكذا يتخيل الشاعر والده) أو - لمزيد من إضفاء الواقعية- " يغار على الجميلة من مرور سحابة فوق الحمى، أو نظرة لفتى يمر على الطريق ، ويرسل الأشعار كي يصل الصدى لأميرة خلف الحمى" - جو رومانتي محض انتزعه الشاعر من أجواء حبه هو ، ونقله لمعنى سامٍ متماثل .

الشاعر يعود بنا إلى حكاية جمالها ليصفها وبأجواء أسطورة هندية قديمة تصف كيف خلقت المرأة ومن أية العناصر :

إن الله حين رأى بياض الثلج

قال : يكون في وجناتها

ورأى اخضرار العشب

قال : يكون في نظراتها

ورأى ترقرق نبعة الريحان

قال: يكون في كلماتها

ولعله يستطيع أن يسترسل مما يجده من وصف يعبر عنه بجزء من جسدها الجميل - جسد أمه الذي يكتب عنه بنوع من العشق المطهر، فحتى المياه التي اغتسلت أقدامها بها انطلقت إلى البحر ، لتدور دورة المياه في الطبيعة ، ولتتجلى ، ولتجعله يرى في الغيم وجه أمه - هذا الوجه الذي سيهمي مطرًا وبركة .

ثم ما يلبث الراوي أن ينقل لنا جوًا دينيًا يماثل اسميًا بين محمد رسول الله وأمه آمنة ، وبين الشاعر محمد علي الذي تسمى أمه آمنة - تيمنًا ، ويستثمر هذه الطاقة الدينية ليحدثنا عن الرحمة الأولى، وأنها مثل الحمامة النقية لم يشبها سوء (يقصد لفظة "يمسسها" القرآنية) ثم إننا نذكر هنا المثل " آمن من حمام مكة "فلفظة " آمن " و "الحمام " وجو الخشوع الذي يصوره يوحي بذلك ، وقد انبعثت عن الأشياء صورتها البهية - صورة أمه.

وهو إذ يحترز في المشابهة يعلم يقينًا أن الرسول هو (نور النور) فلماذا لا يكون هو نفسه نورًا أيضًا من نورها ؟ إذن : يفيد الشاعر من تاريخه ليضفي على حلمه التجلّة والخشوع والبركة والقدوة الحسنة.

أما الرؤيا التي يحدثنا الشاعر عنها في المقطوعة الثالثة: فهي أنه في تلك الليلة المظلمة وبعد أن أهال التراب على قبرها- وظل ( جمالها العاري)[2] في القبر وحده - رأى فراشة تخفق في الضوء. تبع الراوي الفراشة، فألفى نفسه في بيته أمام سريرها (الملكي) ، ثم إنه رأى السرير نفسه يرتجف ويبكي، كما رأى أن هناك فراشة حطت على السرير كنقطة بيضاء (بيضاء مرة أخرى) .

وأخذ الراوي الشاعر يتساءل إن كان قد رآها أو سمعها؟ ترى هل ستعود؟ أين تذهب روحها البيضاء؟ أين ستأوي ؟

وبينما هو في تساؤلاته يمد كفه إلى نقطة الضوء - الفراشة لكنها لم تخف منه، فكان رد فعله إزاء هذا الموقف خوفًا ، بل أصابته حالة عجيبة (ترتجف أصابعه-لا بسبب برد ولا من حمى... ربما هي كالسرير تمامًا)

شعر الراوي بأن جمالها (مرة أخرى جمالها) المضني شرده، وأنه في رؤياه تلك - حين كانت السماء هذه المرة تولول - رأى أمه.

***

أي صدق ؟ وأي إحساس عميق بفقدان الأم ؟ أية جرأة وصل إليها الشاعر وهو يتحدث عن جمالها وبياضها وإشراقها وكأنه يتغزل بها. أليس هذا لونًـا جديدًا في الرثاء ؟

ثم إن الشاعر في نفسه القصصي يتوتر بدرامية فاجعة، ولولا انضباطه وقدرته على المزج بين الصوفي والفكري والشعوري لقال: إن أمه آمنة بنت وهب - أم محمد عليه السلام ؟ (فاسم أمه واسمه يساعدان على هذا التصور).

وتتكرر في إيقاعات القصيدة جملاً بعينها وألفاظًا تشكل موتيفات أو مترددات صوتية. والفراشة - هذه الرقيقة لها جمالها وبهاؤها وتحليقها الذي يبحث عن كل جميل، إنها استعارة لأمه أو لحبه وُفق فيها الشاعر وهو يسترسل في تنقّله في ومضات الحكاية / القصيدة.

وتظل عبارة "المعول الحجري" في ذهنه - دلالة الموت والفناء عميقة الجذر. يستذكر التعبير الذي عانى منه بدر السياب [3] وهو يقول :

رنين المعول الحجري في المرتـجِّ من نبضي

...............

رنين المعول الحجري يزحف نحو أطرافي

(ديوان بدر السياب، دار العودة، ص 701)

وما هذا الاستيحاء إلا دلالة عميقة وكأن الشاعر نفسه يموت عند موت أمه.

وفي بنية القصيدة يلاحظ القارئ تكرار البداية (anaphore) في أكثر من موقع : (في الليل ، في ... ؛ ليس ..، ثم تنأى ( مرتين لإضفاء صورة التباعد المتخيلة ؛ قال - في أكثر من سطر للتعبير عن السرد المتواصل ؛ وهل ... للتساؤل الطبيعي من خلال اللهفة ... ، وكل ذلك - بالإضافة إلى تكرار اللفظة الواحدة - نحو : الجميلة ، حلم ، السرير ، تشابك الأحياء بالموتى ، يكون ، التراب ....

إلخ) فهو يجعل التوقيعات الموسيقية متناغمة ومتلاحقة ، وعلى غرار "تكرار البداية" يرد في القصيدة كذلك " تكرار النهاية " ( epiphore ) كما في قوله : ترفعه السماء إلى الغيوم / وحين نظرت في أعلى الغيوم ، وكذلك في (وأخاف ... لكن) بين المقطوعتين الأخيرتين .

ثم إن الشاعر يتأمل حتى في حزنه ، فموت أمه حصل في "هذا الفراغ الجوهري من الزمان" - إنه تأمل شفاف ، يمازج الشاعر أحاسيسه وقراءاته فتنبثق القصيدة توترًا وحدسًا معًا .

* * *

وتبقى ممالك الشعر لدى شاعرنا عالية .

--------------------------------------------------------------------------------

[1] - أقول ذلك وأنا أتابع هذا التعقيد أو ما اصطلح عليه النقاد القدامى (المعاظلة) لدى كثير من شعرائنا ، ومنهم من يعتبرون كبارًا

، ففي أمسية جمعتني مع الشاعر عفيفي مطر في فندق شبرد في القاهرة في أعقاب معرض الكتاب -ثم إنه قرأ على مسامعنا نصوصًا شعرية كتبها ، وهي معدة للفتيان ، فما فهمت منها شيئًا ، وقلت له بصراحتي التي يعهدها من يعرفني : يا عزيزي : إذا لم أفهم أنا - وأنا أعمل معلمًا أو محاضرًا على معلمي فتيانك ، فكيف تتخيل أن جملك المركبة تصل إلى مخيلتهم ؟ ألا تظن أننا نطعم الطلاب بمادة " النفور من القصيدة "؟؟! ولكم أن تتخيلوا كيف كان رد فعله ، فأنا لا أفقه شيئًا ، ولا يحق لي النقد ، وأصبح الأطفال موضع ثقته أكثر مني . وقيسوا على ذلك آخرين ممن أصبح " التطاول " عليهم يعد من المحظورات ، ليس من قبلهم فقط ، وإنما من قبل المتطوعين المتحمسين ، كل ذلك بسبب تقديس أوليناه لشخصياتهم ، فمن قال إن زعاماتنا هي سياسية فقط ؟

[2] - ربما يقصد بالعاري الجمال المجرد ، ومن هذا الباب يجئ قول كاتب هذه السطور : والعري أجمل ما يكون من غير رمي بالظنون . (من قصيدة " المسرح والمهموم " ، غداة العناق ، طولكرم - 1974) ؛ وما دمت قد أقحمت نفسي أذكر أن لي قصيدة بعنوان " الفراشة " أقول فيها : وفي يدي قصيدتي / أكرر الأبيات / على مسامعي / إذ خطفتها / فراشة زرقاء / لحقتها / أمسكتها / ت ن ا

ث ر ت /وظل منها لفظة يتيمه / حبّ (من ديوان ما قبل البعد ، القدس 1993 ، ص 69) . أذكر ذلك بسبب لقائنا على فحوى الحب ، فعذرًا !

[3] - * يرى جبرا إبراهيم جبرا أن هذا المعنى قد ورد في شعر جبران، إذ يقول : رنة المعول في الحضرة صوت للمنايا ، ولم أستطع العثور على هذا البيت في أشعار جبران بالعربية.