أ. د.  فاروق مواسي

 

 

 

أقواس من

        سيرتي الذاتيــــة

 

 

 

 

أ.د فاروق مواسي

 

أقواس من سيرتي الذاتية

 

 

 

 

 

الطبعة الأولى: دار الهدى، كفر قرع 2001

 

   الطبعة الثانية – مزيدة ومنقحة

       2011


 

 

 

 

 

 

فقد وفّيتــها سبعين حولاً

 

                                               ونادتني ورائي هل أمام؟
مقدمة

لماذا أكتب سيرتي؟

يظل التعبير عن الذات التي عانت وصارعت جزءًا من الأدب، وكم بالحري إذا اتسم هذا الأدب بالدفء والحميمية والتواصل. ثم إن أدب الاعتراف فيه كشف وتجلّ، وذلك بالاستذكار والاستقصاء، وليس هناك من هو أعرف من الكاتب بنفسه أو ذاته، فإذا نقل مراحل منها بأمانة وصراحة قدر طاقته وإمكانه فإنه يسفح عمره على الورق، ليقول لنا في نهاية المطاف: إنها حكاية جِـد، سأسردها لكم إن أحببتم.

السيرة الذاتية فن عرفه العرب قديمًا، ومن يطالع طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة مثلاً سيجد عشرات النماذج على هذا الإفضاء بالسريرة، وهذه المتعة في متابعتها.
 وظل هذا الفن يخبو ويظهر إلى أن طالعنا أيام طه حسين بضميره الغائب، فحياة أحمد أمين بلغة السرد الذاتي، وتلت ذلك مئات من السيرالذاتية، وكلها تروي قصة عمر، وقد يكون فيها عبرة لمن اعتبر.

يقول غاسدورف: "السيرة الذاتية هي المرآة التي يلتقي الفرد فيها مع ذاته"، وجلال الإنسان كما يرى صلاح عبد الصبور: "أنه يقدر أن يواجه نفسه ذاتًا وموضوعًا في الآونة نفسها". والسيرة الذاتية هي حكاية القلق الذي استقر صاحبه في واحة، ليقدم فيها للوافدين الماء والثمرات، يقدمها لمن يحاول أن يبحث عن أحوال النفس المرهفة ومقاماتها.
 إنها رحلة المدارج بل المعارج إلى ظلال الجمال والكمال.
 إنها محاولة اقتناص عيشة أخرى مضافة للمعيشة التي مرت.

ترى ما الذي يدعو الكاتب إلى تعري نفسه؟ إلى بوحه؟
 ربما يكون بدعوى المشاركة الوجدانية،
ربما للإمتاع والمؤانسة،
ربما هي مراجعة أخيرة لكتابة الفصول يستعرضها فيعرضها قبل أن تدبر أنفاسه.

سألني صديق:
أتعرف لماذا يحب القارئ أن يقرأ السيرة الذاتية؟
قلت: أفدني مما ترى!
قال: لأنه يقرأ كاتبًا يحدث عن نفسه، فيقرأ بعضًا من (أناه) هو، بمعنى أنه يجد صورًا مما عايش وعاين.
قلت: وكيف تفسر ذلك؟
قال: ألا ترى أنه لو عثر في منزله على مخطوطات وكتابات تركها جده، ألا يقبل عليها بلهفة، كأنه عثر على كنز؟!
إنه يقرأ الكتابات وكأنها جزء لا يتجزأ من كيانه.

قلت: حقًا، يبدو أن الماضي في السيرة هو لعبة الزمن ترد إلى الفرد أو الجماعة لتقول لهم: هنا أنتم، فاقرءوا حكاية ما كان!

هذه الأقواس:

قبل عقد من الزمان –يوم أن ودعت الستين- أصدرت أقواس من سيرتي الذاتية.
ولاحظ قراء السيرة أنني نهجت نهجًا جديدًا في كتابة السيرة، إذ أفردت لكل موضوع قوسًا أو بابًا، أمرّ فيه عبر مراحلي المختلفة، من الخطوة الأولى وحتى السباق في الشوط. وهكذا تحدثت عن طفولتي، فتجربتي الشعرية، فالنقدية فاللغوية...إلخ.

كان كل باب قوسًا ذا لون، وهذه الأقواس جميعها ألفت القوس الذي يبتسم في حياتي، غب المطر أو قُبيلَه.

في هذه الطبعة المزيدة والمنقحة أضفت ما استجد في العقد الأخيرمن رحلة دفعت ثمنها تكاليف حياة لم أسأمها، وأضفت أقواسًا أخرى جديدة، لا بد منها، لأصحبكم فيها إلى عالمي وسفري.

إذا كانت السيرة الذاتية توجب فتح الملف بدون تحفظ فإنني هنا أستميحكم عذرًا إذ أتغاضى عن هذا الشرط، مع أن كل تعتيم هو ثغرة في الصميم. ذلك لأن من حق المتلقي أن يأخذ الأمر بجُمــاعه وافيًا لا خافيًا، ولكن من حقي مع الآن وهنا أن أخفي فصول المرأة في حياتي، وأن أتجاهل مواقف مدّعي صداقة تركوا ندوبًا وندوبًا.

ماذا يجدي الحديث عن علاقة أمام مجتمع مراقب محافظ، أو  كَيدي، ينتظر الكثيرون منه فرصة للغمز واللمز والهمز؟ فهل كاتب السيرة فريد في عصره لدى المعجبات؟ أو في عقوق بعض الأصدقاء؟  
وماذا تقدم التجربة سوى الإساءة لنفسي قبل أن أسيء لسواي، فلست روسو في اعترافاته في شبابه، أو هنري ميلر في اعترافاته وهو في الثمانين، وليس عقوق "الأصدقاء" بدعًا لدي.  ُثم إن كل كتابة يجب أن تكون وصفًا حيًا مثيرًا فيه إبداع وإمتاع، وإخالني قد لامست ذلك في شعري، والشعر الصادق هو سيرة ذاتية رغم أن لوجون يستبعده مشترطًا النثر في صياغتها.

من جهة أخرى لو أجزت لنفسي الحديث عن إلإساءات، وعن إنكار للجميل والعرفان، وعن عدوانية غير مبررة لأسأت لنفسي قبلاً، ولن تعلو لي رتبة، فأنا "لا أحمل الحقد القديم عليهم"، رغم ألم يتسرب، وذاكرة تتناسى.

ربما أغمط نفسي هنا إذ لا أدوّن لقاءات جرت لي مع أعلامنا ألأفذاذ، وأساتذتنا الكبار نحو محمود أمين العالم ونجيب محفوظ وأحمد عبد المعطي حجازي وسعيد الكفراوي، وإبراهيم عبد المجيد،  وناصر الدين الأسد والياغيين هاشم وعبد  الرحمن، ومحمد أبو دومة، وحسن طلب، ويوسف إدريس وعبد القادر القط، ولويس عوض، وجمال الغيطاني وسهيل إدريس وإبراهيم أصلان وعبد الله الغذامي ويوسف زيدان وحلمي سالم، والشهاويين أحمد ومحمد وفاروق عبد القادر وووعشرات غيرهم جمعتني بهم معارض الكتاب في القاهرة أو في عمان ومؤتمرات نقدية حظيت بدعوتها، وكانت لي محاورات ومساءلات، ربما سآتي عليها، ولا أدري متى وكيف. ومع ذلك يلاحظ القارئ أنني قمت بجولة معه لزيارة يحيى حقي وصلاح عبد الصبور وفدوى طوقان والبياتي ونزار قباني وغيرهم.

  لي كذلك علاقات طيبة مع معظم أدبائنا الفلسطينيين في مختلف مواقعهم، وقد رويت لكم عن شاعرنا محمود درويش كما عرفته، وبالطبع عمدت إلى الصدق ما وسعتني الحيلة، وقدمت صورته كما لمستها وقرأتها وصحبتها في لقاءات عابرة.
كما التقيت عشرات الأدباء العبريين البارزين، بحكم اتصالي بهم ممثلاً للأدباء العرب، ونائب رئيس نقابة الكتاب في إسرائيل، وكانت لي نشاطات سياسية وأدبية حدثتكم عنها في صفحاتي السياسية.
وبعد، فلو فتحت صفحات الحوار ومدى ما أفدت  وأفدت لما انتهيت، ورحم الله ياقوت الحموي الذي كتب في مادة "مقدس":
"وليس كل ما أجده أكتبه، ولو فعلت ذلك لم يتسع لي زماني".

آمل لك قارئي صحبة ممتعة، لا تنطلق من بحث عن هفوة أو كبوة، بل تتلمس الصدق، وأمانة القول رغم الانتقائية التي لا بد منها في كل سيرة.
صور من الطفولـــــة

 

لم تكن تعرف أو تتقن الألعاب التي يلعب بها لِداتك، وإن جرؤت ولعبت أثَرت سخريتهم، وإن حدث وإن غَلبت أنزلوا بك العقاب، فما أسهل أن تصل صفعة إلى خدك دون أن ينتصر لك أحد....  كنت ضعيف البنية، رقيقا ناعمًا، لذا فلا مناص من اللجوء إلى الكِتاب...  أو إلى الصلاة لتجد ملاذك....  إلى الكتاب لتحاوره ويحاورك دون أن يمد يده عليك، وإلى الصلاة لتهرب من مجتمع كان أكثره يبحث عن طفل غض الإهاب ليفعل فيه الأفاعيل.

وكان أبوك يجلس إلى آلة الخياطة يقرأ صحيفته، أو يحادث جلساءه- وهم كثر- يقص عليهم أو يستمع إلى قصصهم.....  بينما أمك تروح وتغدو في ساحة الدار، فإذا لم تجد أحدًا  تحاد ّه رفعت عقيرتها بالشكوى والتذمر. وكنت بين أخوات- الكبرى منهن تطالبك بأن تكون رجلاً فتلعب البنانير، وألا تهاب أحدًا، والصغرى تتحداك بأنها تحفظ جدول الضرب أفضل مما تحفظه أنت....

قال لك أبوك وهو يمسك بيدك يوم 21/5/1949 وكنت تقف وإياه تراقب دخول اليهود الأوائل إلى بلدك- هؤلاء الذين كنت تتخيلهم دائمًا بأنهم شقر وعيونهم زرقاء:                        "سوف ينتصر العرب بعد سبعة أيام، وسيتراجع هؤلاء الأغراب” ولما مضت الأيام السبعة قال :
        " أنها سبعة
أشهر”........ ولما مضت الأشهر السبعة قال  :" أنها سبع سنين”.....  وظل مصرًا حتى رمقه الأخير، وهو يقول"سبع..." .

وكان أبوك قد أصر على أن تدخل الصف الأول بعمر أقل من سبع سنين- كما كان  الحال والمتبع آنذاك- وذلك لكي تنهي دراستك مبكرًا، وستكسب سنة اقتصادية في عمرك-  هكذا أوحى لك-لكن نتائجك في الصف الأول خيبت أمله، فترتيبك كان الثاني والأربعين.... فكنت " أشطر" من اثنين فقط، وسرعان ما حدث انقلاب معاكس  في الصف الثاني، فإذا بك في الترتيب الثاني.

كنت في تراوح بين النقيض والنقيض: تارة تؤمن ولا"تقطع فرضًا”  تصلي في زاوية الدراويش القريبة من سكناك، بل تؤذن من على مسجد القرية القديم، وكان يهمك ساعتها أن تسرّح نظرك على المنازل التي بدت كلها تحت مرمى النظر، فأنت في عليائك تؤذن: الله أكبر، الله أكبر.  بل بلغ بك الأمر إلى أن تؤم المصلين القلائل، وقد طلبوا ذلك منك بعد أن غاب القائمون على ذلك (أو غابت الخيول...) لانشغالهم في مزارعهم- في شك أوراق الدخان، حيث كان ذلك الشغل الشاغل لمعظم السكان .

ومن جهة أخرى، بدأت بذور الشك في ذهنك تكثر من التساؤل عن طبيعة الخلق والخالق، وما كنت لتجرؤ على ذلك، لولا أن ترددت على الكيبوتسات لتعمل فيها، وهناك سمعت من يقول بالأرض والإنسان.

***

تشهد أنك كنت والعائلة حول مائدة الإفطار التي كان لها أهمية خاصة وطعم خاص، وكنت تحرص عليها تنتظرها دقيقة بدقيقة، وبعد أن ضرب مدفع الإفطار، ووصلت بضع لقيمات إلى الأفواه، فإذا بطائرة أخذت تقصف، فذُعرت أنت وأهلك، وتركتم المائدة....  وألفيت نفسك في ضيافة أخوال أمك في النزلة الشرقية (شرقي بلدك...  وهي طلعة عالية)، وقضيت أسابيع هناك حتى تنفرج الحال، فإذا بطائرة تحلق فوق النزلة هذه المرة، وإذا بك تنام في ملجأ رطب عميق أنت والعشرات.  وبقيت في ذهنك ذكريات عن ألعاب الطفولة، وعن تلك الصغيرة التي كانت تحنو عليك، وما نسيتها فاطمة........

وعدتم إلى باقة- إلى القرية التي لم يُهدم منها سوى"طابون” إثر ذلك القصف الذي سبب الهجيج.  ومن الطريف أن طائرة أخرى (وقد تكون هي نفسها) عادت بعد بضعة أيام لتقوم بنفس التجربة، لكنك لاحظت العم علي العبد الله وغيره وهم يحاولون أن يتحدوها، كل ببارودته، وكنت مع الأولاد تردد بجد هذه المرة:" طيارة حرامية تحت السيف مرمية”.......

*   *   *

 أكثر من منزل أقامت به  عائلتك إلى أن بنى والدك بيته الجديد.... بعد أن باع حصته من الأرض  اضطرارًا.  وكنت ترقب البناء وهو يُبنى مدماكًا فوق الآخر، فتُناول البناء الطين تارة، أو المسامير طورًا ... وأين أقيم البيت؟

أقيم على نفس المكان الذي صُرع فيه الضابط العميل أبو عثمان قبل بضع سنين من الشروع في البناء .  وفي أيام سكناك الأولى كنت مذعورًا ترتجف كالقصبة، فالمنزل قريب من حركة المسلحين والجيش.  وكنت تسمع أصوات التهديد والعيارات النارية كأنها تُطلق من منزلك، فلا تفيق كل صباح إلا والفراش مندّى.

وأنت لا تدري – وحتى اليوم لا تدري – ما علاقة والدك بالثوار؟ ولماذا  كانت الطاولة الطويلة قرب آلة الخياطة مكدسة بالأسلحة، وقد غُطيت ببطانية؟  كنت تحرص على كتمان الأمر بناء على طلب والدك وإلحاحه، وكنت تقرأ الخوف في عينيه.

وما زلت تذكر كيف كان أبوك يلعب بآلة منها، ولعله كان ينظفها،  وكنت تجلس على عتبة البيت تأكل بطيخًا، فإذا بعشرات الطلقات من حولك ومن فوقك. ونجوت كما قالوا" بأعجوبة" الأعاجيب.  ولم يكن يهمك من الأمر إلا أغلفة الطلقات الفارغة تسابق لتجمعها ولتباهي بها، فتركت الحشد الذي أتى ليطمئن عليك، أو ليستطلع حقيقة ما جرى لتستأثر بالعيارات الفارغة.

ولم ينجح الموت ثانية معك، وذلك عندما دعستك الدراجة التي كان يقودها أحد أبناء  بلدك، وكان يسابق راكبًا آخر....  فأوقعك، وسلخ جلدة رأسك مرة واحدة...  حتى أعادها مكأنها أديب الخرطبيل – طبيب طولكرم المشهور.  وبقيت ردَحًا طويلاً تتردد على المستشفيات، آنًا  تركب حمارًا، وطورًا تركب سيارة  -تبعًا لحالتك الصحية- .... وكم كنت في السيارة تأخذ في التعجب لأن الأشجار تتحرك على جانبي الطريق....

ويلتقي بك صاحب الدراجة  أكثر من مرة، ولا ينسى أن يداعبك، ويقول-" أنه من يومهاعدَّل رأسك..!!"

ثم انقلبت بك وبمرافقيك سيارة أخرى (ولم يكن ببلدك أيامها إلا سيارات ثلاث)، فخرجت سالمًا، بينما جُرح معظم الركاب.

      *    *     *

 

ما زلت تذكر سفراتك مع أبيك، إلى نابلس حيث أصررت ببكاء وحرقة على أن يشتري لك سيارة ألعاب، فأبى وأبى....  وكذلك إلى عين غزال – بلد جدتك عائشة أم أبيك، حيث تعرفت هناك إلى دار الشيخ شاكر الذين أحببتهم، وما زلت تذكر هناك العين والبئر والدار، وماذا كنت أكلت، وكيف كانت الطريق متعرجة إليها.

وكيف تنسى عين غزال وأهاليها الذين تقاطروا على بيتكم بعد هجيجهم، ومن العجيب أن ساحة الدار الضيقة اتسعت للمئات، فكانوا يتحلقون هنا ويقفون هناك، وقد وصفت هذا المشهد فيما بعد يوم أن كتبت قصيدتك- حبي فلسطيني-، فقلت:

ما زلت أذكرهم في الدار في حلَق

                              هذي تنادي، وهذا واجم  دونـــي

عين الغزال، وكانت عين مهجتهم

                              فقلت  من بــعد قولاً غيـر ممنون  :

“ قد كنت أبكي لأحباب الهوى زمنًا

                              فهل لي الآن من باكٍ فيبكـيـنـي"!

 

*  *  *

كان أصحابك من بعض أقربائك قد علموك أن تتاجر بالنحاس وبالبصل، وطلبوا منك أن تكون حارسًا في أثناء القيام بموبقة ما...  وأن تكون مدخنًا مدمنًا لسجائرتجمعونها أحيانًا، وتعيدون صياغتها من الأعقاب، وأحيانًا من ورق اللوز اليابس.... ودخّنْ عليهــا تنجـــلِ،  و" زينة الشاب سيجارته ".

كنت تذهب أحيانًا إلى المدرسة ببنطلون مرقَّع، وآنًا حافيًا أسوة بالكثيرين.... وما زلت تذكر احتجاجك على خبر نشرته آنذاك صحيفة"  اليوم"  عن زيارة مدرسة الطيبة لباقة، وكيف أن أهل باقة قابلوهم بالحفاوة، فقلت: " عال والله! هذي فضيحة وعليها شهود!!”.

وحفظت جزء عم غيبًا، وكنت تتباهى بحفظك، حتى إذا سألك عمك مصطفى عبد اللطيف عن معنى"عليهم نار مؤصدة” عرفت أن هناك ضرورة لمجالسة من هو أعلم منك، ومن يستطيع أن يهديك، وهكذا كنت تجالسه....  وظل له أثر كبير عليك. 

وكنت تقرأ القرآن على ضريح خالك الذي افتقدته، فقد صرعته طلقة مجهولة غادرة.  وعشت طفولة حزينة مع أم باكية – لا يجف لها دمع، وكم شهدت حلقات الندب والتعديد، وأسمعك الكثيرون معنى أن يكون الظلم.

كما بكيت على شقيقتك الرضيعة (فريدة) التي شاهدت موتها وهي تتساقط أنفسًا" تساقط درّ من نظام بلا عَقد” – كما علمك ابن الرومي فيما بعد-، وعرفت معنى الموت في بيتك أنت.  فعلمت أن البيت كان قد فقد سابقًا أربعة من إخوتك بسبب مرض أو بسبب"حسد”... (وظل حاصل الجمع في نهاية الحساب خمسة أبناء وسبع بنات).

كان الطعام قليلاً، ولم يعرف الناس منذ أشهر للبُرّ طعمًا، فكانوا يأكلون خبز الشعير، والكراديش –خبز الذرة-.  زيتهم الكوكازين، وسكرهم أحمر تحبو به صراصير حمراء صغيرة، فلا تكاد تميز في انهيال السكر بين القطعة والحشرة.  وكانت المدرسة تقدم لطلابها حبوب زيت السمك التي يجب أن نتناولها قسرًا ومع تهديد المعلم.

مضيت تحت إلحاح والدك مع فتية أكبر منك متجهين إلى المستوطنة القريبة لتقايضوهم البيض بالخبز.  وكنت في الطريق الجانبية تلاحظ أن الحارس يطاردكم، بل يضرب بالسياط بعض أفراد المجموعة، ومع ذلك تظل الأهازيج على الألسن، وما زلت تحفظ:

مولاي صل على المصطفى              صلاة تدوم ولا تنقضي

وكانوا يقنعونك أن هذا القول هو تعويذة، ولا يمكن أن يؤذيك أحد.

وفي المستوطنة اعتقلوك لأنك بدون تصريح، وأمروك بأن تمسح المبنى أنت وزملاؤك، فكنت تنقل لهم الماء بالدلاء، وتتعرف إلى الصنبور الذي تقرر أنت قوة دفع الماء فيه.

وفي تردادك لاحظت أن بيوتهم هي أجمل، وأن لديهم الحدائق، وأنهم يشربون الماء البارد من الثلاجة، وأنهم يتحدثون بلغة قريبة المفردات من لغتك، ولذا حفزك الأمر على أن تدرس العبرية قبل أن تتعلمها في المدرسة.  وشجعك على ذلك أبوك الذي عمل سابقًا في بيارات الخضيرة، وكان يتقن تركيب الجمل الأساسية التي يضطر لها في عمله، بل كان يدِل  بها على أصحابه، ويكرر"من عرف لغة قوم أمن مكرهم”.

كنت مع طلاب صفك تصطفون أمام بناية الحاكم العسكري تحملون أعلام إسرائيل"الفتية” (هكذا وصفوها  لكم) وتنشدون-" بعيد استقلال بلادي....  غرد الطير الشادي” وتنتظرون"سعادة” الحاكم الذي لا بد له من كلمة ترحيب، يلقيها بعربية لها لكنة غريبة عجيبة... كنتم تضحكون منها وتكتمون الضحكة.

ولكنك في الصف السادس ترددت على بيت محمد السبع – الشاب المرهف المثقف الغاضب الهادئ الذي اختطفته يد المنون مبكرًا بعد أن أعياه الداء.  وكان هذا متحدثًا يحسن تنظيم الشبيبة، كريمًا في بيته، فمضى، ولم يبق له أي أثر، ولا تدري أين كتاباته التي كان يقرأها عليك، فما من قريب له يحفظ ذكره، وأمسى أثرًا بعد عين.

وتعرفت بسبب"السبع” على الشبيبة العربية الطلائعية، واستمعت إلى محاضرات، وشاركت في ندوات ومخيمات عمل وتنظيمات ضد الحكم العسكري"الجائر”، بل انطلقت في الأمسيات لتخط بخط يدك على الشوارع والجدران:"فليسقط الحكم العسكري”.

وعرفت معنى العمل السري، فإذا بك مع بعض أقرانك تؤسسون جماعة"دعاة التقدم” تهاجمون الرجعية المحلية والمحسوبين على الحاكم العسكري، وعلقت بعض الشعارات والمنشورات على الجدران، وقعدت تسترق السمع إلى الأصداء التي كانت تُكبر عملك أنت وجماعتك.

وفي الصف الثامن تعرفت إلى الحزب الشيوعي، وشاركت في خلية كانت تقام في منزل سكرتير الحزب في القرية، وكان يحضرها المعلم نمر مرقس الذي كان شعلة نشاط حزبي وسياسي، وكان يكرر على مسامعك أسماء تختلف عن أسماء الصحابة، ويقتبس جملاً لم تكن أحاديث شريفة أو أبيات شعر.

كان أكثر معلميك من اليهود العراقيين، وذلك بدءًا من صفك الثالث، فكنت تلاحظ هذا الخلط بين الضاد والظاء لدى بعض المعلمين منهم، فأخذت تقلد اللهجة التي ينطقون بها.

 في الصف الأول كان المعلمون من طولكرم ونابلس قد ودعوك.  والتحقوا بأهليهم.  وقد تعرفت إلى بعضهم- فيما بعد – يوم أن جمعتكم سنة سبع وستين.....

 وفي الصف الثاني كانت غرفة صفك قائمة تمامًا على الحدود.  وكنت والصغار تسمعون دويّ الرصاص المتواصل، كما تلاحظون حركة تهريب البضائع من وإلى.....

وعلى الحدود كنت تشاهد اللقاءات في الأعياد مع أبناء الشعب الواحد، يجتمعون، ويتذاكرون، ويبكون.  وعرفت معنى أن تنقطع عن خالتك التي تزوجت في قلقيلية، وعن أقربائك من عين غزال الذين أصبح عنوانهم كما كنت تقرأ على رسائلهم" شارع وادي الرافدين11-  بغداد”.

 

 

 


 

                من صفحات التربيـــة والتعليـــم

 

 

كان من أحب اللعب إلي في طفولتي أن أدعو بعض أترابي ليجلسوا على صناديق الخضراوات، أو على صفائح متيسرة، وأقنعهم أن نلعب"لعبة المدرسة"، فأكون معلمًا لهم.... آتي بلوح خشب وطباشير وجرس، وآخذ في شرح هذا الدرس أو ذاك.

ومما أذكره أنني علمت مقطوعة من شعر أبي العتاهية كنت قد اطلعت عليها في كتاب ليس من كتبنا المدرسية،ومنها:

 

فلا تصحب أخا السوء وإياك وإياه

فكم من جاهل أردى حليمًا حين آخاه

يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ماشاه

 

ولم يكن أحد منهم يسألني عن معنى"أردى حليمًا" والحمد لله، فقد كنا نكتفي بأن نلحن المقطوعة وفق أهوائنا.

ووجدت في"لعبة المدرسة" تعويضًا لي عن لعبة البنانير أو الحاب (الكورة) أو المبارزة(المجيدي)، فهذه كنت أشاهدها من بعيد، فلا بد إذن من فتح صف حتى ولو استجديت بعض الأصحاب أن يجلسوا على مقعد الدراسة، وقد حدث مرة أن أحدهم تمرد علي:"لماذا أنت المعلم؟  أنا أريد أن أكون..... دوري".

 

***

 

أنهيت الصف الثاني عشر في ثانوية الطيبة صيف 1959، ثم  حصلت على شهادة البجروت(آنئذ الحصول عليها يكاد يكون متعذرًا).....  ثم رشحت نفسي للعمل في سلك التعليم.  كانت دار المعلمين العربية قد فتحت أبوابها حديثًا في يافا، لكن ذلك لم يحل دون تعيين معلمين آخرين شريطة أن ينهوا الامتحانات الخارجية في التربية وعلم النفس حتى يتم تأهليهم.... وشريطة أن الأجهزة وافقت على تعيينهم.

وألفيت نفسي معلمًا احتياطيًا أو بديلاً للمعلم الغائب في بلدي، وهكذا جربت في يفاعتي تدريس معظم المواضيع....  ولكل الصفوف.

ولا أنكر أنني كنت أقع في مزالق وأخطاء، وما زلت أذكر تلك الكلمة الإنجليزية التي لم أعرف معناها، وتلك الجملة التي استغلقت علي...... هذا طالب يشاغب ويلقي بطبشورة أمامي،وذاك يزمزم بأصوات يتبعها ضحك مكتوم. ورغم أنني كنت أعاني الأمرَّين فقد كنت أستمتع بهذه الوظيفة الاجتماعية المرموقة،فـأعود إلى بيتي وأحضّر دروسي جيدًا،وأستفتي بعض المعلمين  القدامى عن مسائل معينة،وأتوجه إلى الطالب المشاكس لأبني معه علاقة شخصية إنسانية ليس فيها ضعف،وهكذا كنت أسوّي الأمور...... وأسعد بلقب"أستاذ".

حصلت على تعيين رسمي للعمل في مدرسة عسفيا للبنات  في 1/2/1961م. 

وكنت أولاً مربيًا للصف الثالث،أعلّم الموضوع الشامل. وقد ظننت أولاً أن الذي يعلّم جميع المواضيع لا شك بأنه معلم ممتاز،إلى أن نبّهني لاحقًًا مثقف أجنبي بضرورة التركز على موضوع واحد،والتقدم فيه حتى"تكون عنوانًا معروفًا به".

كنت في عسفيا أبني علاقات اجتماعية لم يكن لي بها سابق عهد،فهنا دروز ومسيحيون،ونحن في المثلث لا نكاد نتصل بأبناء المذاهب الأخرى،أو على الأصح قلما اتصلنا بهم آنذاك.

وتوطدت علاقاتي إلى درجة  أنني كنت أحمل دفترًا صغيرًا أدوّن فيه الدعوات المتواصلة من غداء إلى عشاء (فأين هذا اليوم؟!).

بعد سبعة أشهر جميلة نقلتني الوزارة إلى المدرسة المشتركة -  وادي القصب خور صقر(في وادي عارة)،فكنت مع مدير المدرسة أحمد خواجة ثاني اثنين،فعهد إلي بتربية الصف المشترك (البستان والأول)،وعليــه كنت"معلم الروضة" في المدرسة، ولذا لبَّيت دعوات المفتشة لاجتماعات المربيات، وكان حضوري يثير الابتسامات  أو الدهشة أو الحسد أو الشماتة.

اقترح علي المدير أن أرافقه لإقناع طفل كبير من قرية البيار القريبة بأن يحضر إلى المدرسة،فقد تمرد وبدا كأنه غير أليف. استطعنا بكل وسائل التحايل والتحبب أن نقنع الصبي بالقدوم إلى المدرسة. (وكبر الصبي، وأصبح أكاديميًا يعلّم الرياضيات في إحدى ثانوياتنا).

كنا نتوجه إلى المدرسة البعيدة عن الشارع العام ثلاثة كيلومترات تقريبًا،فنترجل، ولا بد من أن نتسلح باللباس الثقيل في الشتاء وبالسوقاء (الجزمة) لخوض لجة الوادي الذي كان يغمر الأرض بالمياه بعد كل مطر.

أما العلاقات الاجتماعية في القرية فكانت على أحسن ما تكون من الثقة والإعزاز، فكنا نُدعَى لقراءة المولد النبوي، وبالطبع فالمدير هو القارئ المرتِّل،كما كنا نحل مشكلات محلية،أو نصلح ذات البين هنا أو هناك.

وتركنا المدرسة بعد أن غرسنا أرضها بالأشجار المثمرة وأشجار الزينة، وما زالت هذه الأشجار تداعب الرياح وتداعبها.

                                                                                    ***

مع ابتداء صيف 1963م قررت أن أتوجه إلى الجامعة العبرية لإكمال تحصيلي العلمي،فلا بد مما ليس منه بد.

وقفت على تلة تشرف على القرية، وودعتها بمقولة هرقل يوم أن ودع دمشق (وشتان بين السببين) وقلت:"وداعا يا وادي القصب، لن أعود إليك معلمًا بعد اليوم".

ويبدو أن القدر ساق قراره هو الآخر، فقد تم نقلي إلى مدرسة باقة الغربية الابتدائية، فسلمت بالأمر خشية أن يتعذر علي ذلك في المستقبل، وأجلت الدراسة الأكاديمية إلى أجل غير مسمّى.

عرض المدير الجديد علي أن أعلم الصف الأول، بدعوى أنه يعهد بالصف الأول إلى المعلمين الممتازين حرصًا على تنشئة الطلاب بصورة صحيحة.  كنت أعرف أنها ذريعة وحسن تخلص،ولكن ما العمل؟   لنعلّم الصف الأول!

كان المدير يقسم طلاب الصف الأول إلى قسمين- الأول فيه أبناء"المحسوبين" عليه، والثاني أبناء الناس الذين ليس لهم خصوصية معينة، فكان يعهد إلى بالقسم الثاني، حتى رفعت مرة صوتي محتجًا :"ألأن هؤلاء ليسوا أبناء ذوات تعاملونهم معاملة أخرى؟؟؟!".

وظل التعبير"أبناء الذوات" على ألسِنة المعلمين في مزاحهم وجدهم.

مع ذلك فقد اشتركت أنا ومعلم خاص بـتعليم" أبناء الذوات" في إعداد كراسات تعليمية، وحررنا مجلة للصف الأول، بل كنا نتنافس تنافسًا بناءً حول مَن مِن طلابنا يستطيع أن يقرأ في الصحيفة؟  أية نسبة إملاء أعلى في صفي أم في  صفك؟

وأيقنت أن كل تعليم لا بد فيه من منافسة إيجابية، وأذكر أن طلابي في الصف الأول كانوا يصرّفون الجملة بضمائر الغيبة، نحو:"هذا هو الرجل الذي كان عندنا".

بل كنت أعلّمهم حروف الجر وحركة الاسم المجرور بعدها، كما أعلمهم مقطوعات شعرية مختارة.

وعلّمت كذلك اللغة الإنجليزية للصف الثامن، فاخترت طريقة الترجمة، لأعطي الجملة العربية ليترجمها الطالب إلى الإنجليزية. وما زلت مقتنعًا – على خلاف أساتذة الإنجليزية المختصين- أن هذه هي أفضل طريقة لتعلم أية لغة. (وقد ثبت لي ولبعض طلابي ذلك وبشهادتهم).

واتفق أن كان بين زملائي في المدرسة نخبة من عشاق الأدب - أذكر منهم الأساتذة – أحمد غنايم،لطفي منصور،شاكر جبارة،المرحوم حسن سمارة، وكنا نناقش بعضنا البعض في تفسير بيت ما أو في إعراب كلمة ما، أو استخراج معنى معين.

الأمر الذي كان يحفز فينا المطالعة والدرس والتنقيب وحب الظهور أيضًا، وأحيانًا  بل كثيرًا المناكفة والمشادة.

وكانت مدارسنا –عادة- تحتفل بعيد الاستقلال كل سنة،فتزين الصفوف، وترفع الأعلام، وتُلقَى الكلمات، وينصرف الطلاب والمعلمون مبكرين - ولعل هذا يكفي  بالذات لأن يكون سبب فرحة.

كنت من الذين يتذمرون،بل رفضت أن أزين صفي، وأذكر أنني هجوت زميلاً لي، لأنه قال قصيدة في عيد الاستقلال،فقلت له سنة 1967م:

              يا أقل الناس معنى معتنى           لا تقل في الشعر قولاً مُذعنا

              يا لسخفٍ صاغه   مستشعرٌ         كله  سخفٌ  وما فيه الجنى

وهذه الروح الوطنية التي كانت كامنة في نفوسنا أخذت تتقد بعد حكاية ما جرى سنة سبع وستين.  

فإذا سَجن الجيش إمام المسجد الأقصى لأنه خطب وذكر في خطبته:"عيد بأية حال عدت يا عيد" فإن أول قصيدة محفوظات علمتها يومها هي هذه القصيدة للمتنبي.

ثم أخذت أختار لهم قصائد أذكر منها :"لو كنت من مازن" لقُريط بن أُنَيف، و"أبلغ إيادًا.." للـَقيط بن يُعمُر،و"أبت لي عفتي" لعمرو بن الإِطْنابة، و"أقول لها.." لقَطَري بن الفُجاءة. (العجيب أن بعض طلابي عندما التقيهم الآن يعيدونها على مسامعي مزهوين،مع أني نسيت أكثرها).

***

 

لم يكن لي ميسورًا أن أعلّم في المدرسة الثانوية.  فقد كنت أُجابَه بمعارضة سواء من وزارة المعارف أو من المجلس المحلي، بحجة أنني لا أحمل شهادة جامعية.  وكنت أتضايق إذ أجد الآخرين ممن لا يحملون الشهادة ولا يحسنون العربية يعلّمون. فبعضهم كان قد ارتاد الجامعة اسميًا، وما كان منهم إلا أن عينوه، حتى قلت يومها متذمرًا وساخرًا:

 

اذهب   إلى القدس صيِّفْ للمداراة             إن كنت تنشد فرع الثانويات

 يكفيك من قشرة في العلم تلحسها          واللب،ما اللب؟ محشو تفاهات

     ما أنت أول أستاذ أخي جهل             ما كان يعرف ترتيب العبارات

في قصة الطبل ضخم الصوت معتبر   هل حصل الكلب شحمًا في المعاناة؟

 

لذا فلا بد من أن ألتحق بالجامعة.

 

ومع أني حصلت على شهادة  B. A، والتحقت لدراسة الماجستير في الأدب العربي،  فقد كان صعبًا علي أن الج هذا العالم السحري، وأدرّس الكبار.

قيض الله لي رئيسًا  للمجلس المحلي - متنورًا هو الأستاذ محمود بيادسة، وقد أصر على دخولي الثانوية للتدريس فيها، وذلك  في 1/9/1974م،  ومع ذلك فقد كانت هناك عقبات وعراقيل، ولم يُسوَّ الأمر إلا بعد وفاة زميل آخر، فشغرت الوظيفة.

عرفت يومها أن الإخلاص والمعرفة لا يكفيان، بل يجب أن يكون لك سند أو ظهر، هو الذي يأخذ بيدك للمكافآت والوظائف والاستقرار.

 

كنت خلال عملي عرضة لاتهامات هذا الرئيس أو ذاك (فقد كان الرؤساء يتغيرون تباعًا حسب الائتلاف القائم، وما أكثر الانقلابات أيامها)، فهذا رئيس يطلب من المفتش أمامي أن يفصلني، لأنني دعوت إلى إضراب بسبب تأخير الرواتب – وبسبب كوني عضوًا في لجنة المعلمين، وهذا قائم بأعمال الرئيس يدعم مفتشًا آخر هددني بالفصل – لأنني سأسافر خلال الأيام الدراسية إلى ألمانيا – بدعوة من نقابة المعلمين – وكنت قد قزّمت محاولات هذا المفتش، وما جرؤت على ذلك لولا أنني كنت أعرف موافقة المعارف الرسمية على ذلك.

 

عندما تسلم الأستاذ جميل غنايم إدارة المدرسة الثانوية كنت مساعدًا له، وتصديت معه لكل محاولات فصله (تبعا لانقلابات المجلس). كنت أقول:"جميل أولاً وأنا ثانيًا".

وكان هذا الشعار/ الموقف يضايق الكثيرين، فقد اعتادوا أن يطالب الإنسان لنفسه أولاً، أما  أن يطالب لآخر فهذا هو وجه العجب؟!

انتخب أحد أبناء عائلتي رئيسًا للمجلس المحلي، وقد شاء قريبي أن يعين مديرًا آخر بدلاً من جميل، فوقفت ضد هذا القرار رغم كل محاولات الإغراء بالمنصب (نائب مدير) أو بالساعات (تخفيض ساعات العمل الفعلية).

 

عين المدير الجديد، لكني أصررت وبدعم نقابي أن نواصل معارضتنا للجديد، ففي اليوم الدراسي الأول 1/9/1980م.  كان ثمة برنامجان دراسيان – برنامج أعده المدير الجديد، وآخر أعددته أنا باسم مديرنا القديم، فأخذ يدخل الصف أول كل حصة معلمان، فيحدث أن يتنازل الواحد منهما للآخر، وقد يحدث أن يكون هناك شبه مشادة كلامية على مسمع الطلاب ومرآهم.

على إثر ذلك اتصلت بمكتب المعارف في القدس لأخبرهم عن هذا الوضع المضحك المبكي، لكنهم أجابوني بحدة:"لا يعنيك ولا تتدخل!!".

أحسست أن هناك من يكيد لمدرستنا، وكان العراك على وشك أن يقع يوميًا لولا أن صدر قرار محكمة العمل يحظر على المديرَين أن يديرا المدرسة، إلى أن تبتّ المحكمة نهائيًا، وقد كُلف مدير مدرسة ابتدائية أن يضع البرنامج ويشرف على المدرسة الثانوية.

 

واظب المدير المكلف بضعة أيام، لكنه كان مشغولاً بأمور أخرى، فقلت في نفسي: أمامك حكمة من التلمود فاستثمرها يا فاروق:-"إذا لم يكن هناك رجل فحاول أن تكون".

 

 اتفقت مع الزملاء – باستثناء ثلاثة منهم – على أن أكون أنا الذي يضع البرنامج ويدير المدرسة.  وهكذا عينت نفسي مديرًا طيلة ثلاثة أشهر،عملت فيها تطوعًا،بدون أجر أو ساعات أو اعتراف رسمي. وبدا الأمر وكأنني سأستمر في عملي مديرًا.

دعاني الأستاذ علي حيدر – نائب مدير المعارف آنذاك للقاء معه، قال:

"أود أولاً أن أحييك... ومع ذلك فأنا أقول لك إنك مجنون،
أحييك لأنك قدت وتقود سفينة في بحر عاصف، ومجنون لأنك تفعل ذلك بدون أية مكافأة أو اعتراف".

سُوِّي الأمر بين المديرين في المحكمة، فالسابق عين مديرًا تربويًا، واللاحق مديرًا إداريًا. ورغم أني دعوت كليهما إلى غداء مطهم للمصالحة بينهما، إلا أنني خرجت من كل هذه المعمعة بلا حمد يذكر، أو كما يقولون:" من المولد بلا حمص".

 

علمتني هذه التجربة القصيرة أن هناك من المعلمين من يدّعي الإخلاص، ولكنه لم يكن يفكر إلا في آخر الشهر، وفي الخصم أو الحسم الذي كان، وأن هناك من يتذرع لكي يتغيب، وهناك من يستعلي على طلابه – ويا أرض اهتزي – وهناك من يرى أن مجرد التحضير للدرس هو جريمة منكرة،فهو أستاذ الأساتذة!!!

 

كادت هذه التجربة القصيرة أن تودي بي، ففي يوم توزيع الشهادات حدثت فوضى لا مثيل لها بين الطلاب، إذ كان المعلمون حاضرين غائبين، وألفيت نفسي وحيدًا أصول وأجول، إلى أن شعرت بدوار شديد، فأمسكت بالجدار خوفًا من السقوط.  أدركني معلم الرياضة، وهدأني وهو يقول:
"وهل أنت تصلح ما أُفسد الدهر؟!  كن مثلنا، وراقب من بعيد، وأرح أعصابك....!!!".

                                                   

                                                                                  ***

 

في سنة 1978 بدأت أنشر في مجلة "صدى التربية" حلقات تحت عنوان"أستاذ قد الدنيا"- وهي لوحات أدبية ساخرة تتناول تدريس المواضيع المختلفة، وأنهيتها بمذكرات معلم، المدير يتحدث، المفتش..،مدير المعارف (وهذه الحلقة الأخيرة لم تنشرها المجلة).

وقد جمعت هذه الحلقات بين دفتي كتاب"أستاذ قد الدنيا" الصادر عن مطبعة كفر قاسم سنة 1979، وقلت في تصدير الحلقات:

"أرمي من وراء هذه الحلقات إصلاح أنفسنا، فمن يقصّر فينا فعليه أن يعتبر، ولنكن صرحاء ونقول: ما من أحد يمنع المخلص أن يعمل، إذن لماذا نهمل ولا نفتأ نتهم، وقبل أن يسيء فهمي أحد أؤكد أن كل الجهات بما فيها وزارة المعارف مقصرة، وقد أشرت إلى ذلك في أكثر من مقال".

وقراءة في هذا الكتاب بلوحاته الكاريكاتيرية (من رسم عمر سمور- طولكرم) تنبئك عن وضع التعليم العربي في إسرائيل.  كنت أتناول موضوع تعليم الرسم مثلا، فأقرأ في المصادر كيف يجب أن يكون، ثم أركز هذه المعرفة والثقافة التربوية على لسان معلم الرسم لدينا، فأجعله يسخر ويستهزئ، وسلاحه ما يجب أن يكون أصلاً، فهو يحبذ خلاف ذلك حتى تظهر المفارقة، فقد جعلته يجلس إلى طاولته ويستريح، ويطلب من الصغار أن يرسموا رسومًا حرة.

وقس على ذلك في سائر المواضيع!

ومن مثل هذه السخرية المرة كتبت في موضع آخر:

* مدارسنا كالمدارس اليهودية مزودة بالمختبرات والمكتبات والأبنية اللائقة.

*مدارسنا تعمر بالتعليم اللامنهجي، وفيها الخدمات السيكلوجية والاستشارة التربوية.

*المعلمون لدينا يُنقلون ويعينون حسب أصول عادلة وصالحة، ولا دخل في ذلك للمحسوبية، كما لا تتدخل مؤسسات وأشخاص لا علاقة لهم بالمعلمين في تثبيت أو تعيين أو فصل أو نقل.

* الرجل المناسب دائمًا في المكان المناسب، لذا لا تجد أشباه أميين وأنصاف مثقفين في إدارة المدارس... الخ".

وأظن أن هذا الكتاب الفريد في بابه يعكس إلى حد بعيد مآسي التعليم العربي سابقًا ولاحقًا، ونحن  بحاجة إلى إعادة طبع بسبب جرأته، أو بالكتابة على منواله بصورة أو بأخرى، وحبذا إضافة هذه الأبيات التي عرفتها بعد صدور الكتاب، وهي من شعر أبي صدام –عبد الرحمن كبها:

               ما رأى شاعرنا بعلم معلم                   جعل الحجاز     تحده أنغولا

           وبأن فعل الأمر من يرجو رجا          وتعال في الماضي يقول تعيلا

                  هيا أعيدوا للمعلم شأنــــه                 أو فاقبلوه مجهِّــلاً وجهولا

 

                                    *                         *                                 *

 

أما علاقاتي مع المعلمين فكانت غالبًا ودية، أنفتح على الآراء مهما اختلفت، وما أفكر به أقوله دون تردد، لذا كنت أحيانًا أصطدم بمناكفات ومشادات كانت تؤلمني جدًا.

ومع ذلك قلت لنفسي – لن أنشغل بهذه الخلافات العابرة، لأمض، سيكون ردي على من لا أعجبه-  تقدمي العلمي والأدبي!
 وها هي كتبي تنشر ومقالاتي تظهر.
 لن أتضايق من هذا المعلم الذي يصر على أن يحصل على نفس حقوقي في البرنامج الدراسي – رغم أنه لا يحمل أية شهادة، ولن أغضب لأن ذاك المعلم احتج لأنني  أنصرف مبكرًا لمواصلة تحصيلي العلمي.

وكم من مرة جابهني الزملاء بموقف موحد، وبقيت في حكم الأقلية – رغم أنه ثبت لهم أني على حق.

وثمة مرارة في نفسي أطعمها حين أتذكر أنني عندما تقاعدت وأنهيت العمل في المدرسة الثانوية – المدرسة التي أعطيتها الكثير جهدًا وبناء – عندها لم ير أحد ضرورة لتكريم أو ثناء.

 

                                         ***

 

أما علاقاتي مع الطلاب فهي خلاف ذلك.  كانت علاقة محبة وإعزاز.

كنت أحس بحبهم وحب ذويهم، فهم يعرفون مدى حرصي على فلذات أكبادهم، وكم أنا متحمس للموضوع الذي أعلمـه، بل كنت أتبادل الزيارات معهم.

عندما أنهيت عملي الرسمي في المدرسة الثانوية سنة 1991 دعوت طلاب صفي إلى قيسارية للقيام برحلة، فكانت الرحلة بتكاليفها، بل بالشواء والشراب فيها على حسابي.

فاجأني الطلاب يومها بتقديم مغلف كتبوا فيه انطباعاتهم الرقيقة التي احتفظت بها، وستظل مصدر اعتزاز لمعلم أحب طلابه وأحبوه، فقد كتبوا على الغلاف:

 

"إلى بابا فاروق"، ولا أدري لماذا تطفر دمعة حين أتذكر ذلك.

 

منذ بدأت التدريس كان  حبي لطلابي عميقًا في نفسي، فقد حدث ذات مرة أن رسب أكثر طلاب صفي في امتحانات الثوامن (كان هذا الامتحان يجري لدعم خريجي الصف الثامن  اقتصاديًا - لدى التحاقهم بالمدرسة الثانوية). أحسست أن طلابي مغبونون لسبب أو لآخر، وشعرت أنني أنا الذي رسبت، فكتبت قصيدة"خيبة وأمل"، وقلت فيها:

 

منارتي مخمودة الأعطاف

مرارتي يهمي بها

وقع السواد في الشغاف

مذ أخبروني أنني بلا قطاف

 

بمثل هذه العاطفة الذاتية أمضي قائلا:

 

يا أيها الصغار

يا أيها الأزهار

لا ضير إن كان الجفاف

لا بد أن ُيزجى الرواء

                            (نشرت في مجموعتي الأولى:"في انتظار القطار" – 1971)

 

ولا شك أن مجموعتي-  "إلى الآفاق" المعدة للطلاب وللصغار فيها قصائد عن الطالب – هو الطالب الذي أطمح في أن يكون في مجتمعنا – وعن المعلم – ويبدو لي -  اليوم - أنني كنت أصف نفسي فيها- :

 

وظلت شمعة كبرى         تضيء لنا وتحترق

نساجلها تفانيها          فيسطع ضوءها الألق

 يحدثنا بأن الخير كــ   ــل الخير في الإنسان

   وأن العقل منفتح       إلى التجديد والإيمان

   ويدعونا إلى رفض    لكل مسارب الظلم

     يحب العدل خفاقًا     ويعلي راية السلم

    وسلَّمنا يصعــِّدنا       إلى الآفاق ننطلق

         نعانق قمة الدنيا     بأيد نبضها يثق

(هذه القصيدة لُحنت وعُلمت في المدارس العربية – ضمن دروس الموسيقى)

 

كنت مقتنعًا بضرورة تعليم الطلاب على أسس ديمقراطية فيها الاحترام المتبادل، أدير حصة التربية بحماسة، وأحفز الطلاب على إبداء الرأي واحترام الرأي الآخر.

 كانت حصة التربية غالبًا حصة متعة وإثراء. وكانت الرحلة التي أقوم بها مع طلابي مدروسة جيدًا تاريخًا وجغرافية، وقد وصلت في الديمقراطية إلى دعوة الطلاب أن ينادوني باسمي، دون لقب"أستاذ"، وألا يقفوا لي احترامًا عند دخولي الصف، ولكن ذلك كان موضوع تندّر، ولم يستمر بسبب الظروف والجو الذي كان يفرض العودة إلى تقاليدنا التربوية.

لن أختم هذا الحديث دون أن أذكر أنني كنت متهمًا بمحاباة الطالبات والتودد إليهن، وبالطبع فهذا فيه شيء، بل كثير  من الصحة، لأنني بطبعي نصير للعنصر الضعيف في المجتمع، سواء أكان ذلك طالبًا فقيرًا أو طالبًا يتألب علية زملاؤه (ربما لأنني كنت كذلك في صغري)، وكنت أحس عميقًا بمدى اضطهاد المرأة في مجتمعنا، فكنت أقف إلى جانبها، ولا أنكر أن للجمال أثرًا يحتم مناصرتها، وهل الشاعر فيَّ يستطيع أن يعتم على ذلك، أو يعتم الضوء أيًا كان، ولكن ذلك لن يكون على حساب أي حق لطالب، فالحق حق.

 

***

في أواخر سني عملي في المدرسة الثانوية كُلفت بأن أكون عضوًا في أكثر من لجنة ضمن مناهج اللغة العربية، فكان صديقي الأستاذ محمود أبو فنة يعهد إلي بنشاطات لغوية وأدبية، فمن محاضرة هنا إلى يوم دراسي هناك، وشهادة حق أنه دؤوب وجاد، وليس لي وراء هذه الشهادة أي هوى.

كنت من المـتحمسين والفعالين في لجنة اختيار النصوص الأدبية في أوائل الثمانينيات، وكان لي أثر فعال بإدخال الشعر الحديث إلى مدارسنا. ويشهد تحليلي للنصوص الأدبية من شعر ونثر على مدى حرصي على استقاء المصادر والدراسات الملائمة التي ترفد موضوعنا. ومن حقي على نفسي أن أقص كيف استقبل الزملاء صدور كتابي"الجنى في الشعر الحديث" و"الجنى في النثر الحديث"، ولأسق مثلاً واحدًا:

دعاني الأستاذ أسامة محاميد -مركز اللغة العربية في ثانوية أم الفحم-، وقال لي بحضور معلمي العربية في المدرسة:"يا أستاذ لقد علّمنا الشعر الحديث في السنة الماضية، فكنا بحالة أشبه بمتاهة،وبصراحة أحسسنا أننا لم نأكل لقمة عيشنا حلالاً، أما هذه السنة فنحن مع كتابك نشعر بالاطمئنان. هو يضيء لنا، يعطينا مفاتيح، ويمكننا من أن نستقل في شروحنا، فباسمي واسم زملائي نقول لك شكرًا جزيلاً".

وظلت هذه اللقطة ومثيلاتها راسخة في ذهني، لأن بها عرفانًا، وتعترف لي  بالتعب والمعاناة، وهذا مما يسرّي على النفس، ويزيل لغب المتطاولين المتجنين الذين رددوا أن الجنى"جناية" سامحهم الله،ولا يغريهم بذلك سوى الجناس، وإنكار فضل الناس، وظل الكتابان أو مكثا في الأرض.

وكان الأستاذ أبو فنة أولاً قد رحب بكتابيّ عند صدورهما، ودعاني أمام المعلمين  وكنا نصحح دفاتر البجروت-لأقول كلمة عنهما، فكان ذلك تشجيعًا، غير أن الذين تحفظوا –وللحق- تحفظوا من  اعتماد بعضهم على التلقين المجرد، والتقيد  الحرفي بمادة الكتاب، لكنهم كانوا يشجعون على دراسة الكتابين والاستعانة بهما في حل الوظائف البيتية.

دُعيت مرة إلى يوم دراسي لمناقشة أساليب تدريس النصوص، وكان الأستاذ كوبيليفيتش مدير المعارف حاضرًا.  وعندما تحدثت في كلمتي أوليت اهتمامًا بالغًا للإلقاء والأداء، وألقيت نماذج شعرية على مسامع الحضور مما يوجب التماثل بين المعنى والإيقاع المطلوب.

سأل مدير المعارف مستهجنًا:

فاروق، هل حقًا تريد أن يتعلم طلابك بهذه الطريقة التمثيلية؟!

قلت: يصعب عليك – أن تستوعب ذلك، لأن الشعر العربي مرتبط بوتائر الدم صعودًا وهبوطًا، ونحن ما زلنا نحس بالشعر يسري في عروقنا.

قال: رغم الإساءة لي فأنا أقبل رأيك،تابع حديثك!

أخذت العلاقة تتوطد مع التفتيش(رغم استفزازات بعضهم لحضور دروس لي من قبيل الكيد ليس إلا)، وكُلفت بإعداد كراس عن ابن سينا،بل عهد إلي بدءًا من التسعينيات أن أكون عضوًا فعالاً في أكثر من لجنة، وإليك بعضها:

-         لجنة منهاج قواعد اللغة العربية للمرحلة الإعدادية والثانوية – برئاسة د. فهد أبو خضرة.  وهنا تحمست جدًا لطريقة الفصل بين المرحلتين(حيث في الإعدادية – تعليم المادة من الناحية الوظيفية، وفي الثانوية – الإعراب وبشكل مكثف)،وبقيت مدافعًا متحمسًا عن الكتب الجديدة التي أعددناها (الجديد في قواعد اللغة العربية) على خلاف زملائي الذين أخذوا يتحفظون الواحد تلو الآخر. ومع أن الكتب لم تحظ حتى وقت متأخر  بمرشد للمعلم، ولم تحظ أصلاً  بإرشاد فعلي في الحقل، ولم تكن هناك متابعة  واستبانات جريًا على ما يتم بُعيد كل منهج جديد، إلا أن أصداء هذه الكتب الإيجابية تزداد يومًا بعد يوم.

-         اللجنة العليا للغة العربية – برئاسة د. سليمان جبران، وفيها نتدارس البديل للدخيل، وقد أصدرنا ثلاثة كتب من –"المنهل في المصطلحات المعاصرة".

-         لجنة الحضارة والتراث العربي، ولا أدري إن كان سيصدر هذا المنهاج الذي عكفنا على إعداده خلال أربع سنوات.

-         لجنة التراث لرياض الأطفال برئاسة السيدة سنية أبو رقبة.

-         لجنة اختيار النصوص الأدبية للمنهاج الجديد المرتقب.

-         لجنة إعداد المرشد لتدريس قواعد اللغة، وقد أصدرنا المرشد.

-         لجنة اختيار مواد أساسيات اللغة العربية لطلاب كليات دور المعلمين العربية وغيرها، وقد أصدرنا ثلاثة كتب  للطلاب. 

-         لجنة لإعداد فصول في تدريس اللغة العربية والتعبير – برئاسة د. نمر سمير (أصدرنا كتابا في ذلك).

وقد أفدت جدًا من هذه اللجان:

أولاً – بأن تعرفت إلى أساتذة مرموقين، وهم متميزون في مواضيع اختصاصهم، فكانت المعلومة الواحدة تتلقفها نقاشات مثمرة، وقد عرفت أن ليست معلوماتي بالضرورة هي الصحيحة.

وثانيًا – لأنني كنت مقتنعًا جدًا بالعمل الفردي، فإذا بي أشارك فردًا ضمن العمل الجماعي أو عمل المجموعة، ومعنى ذلك أن أفكر وأقدر قبل أن أدلي بدلوي، وأن أبحث وأنقب وأدقق مصداقًا لقوله تعالى:"وقل ربي زدني علما".

وثالثًا – هذه الصداقات بيننا،وهي المبنية على أسس طيبة تدور في عالم العلم والأدب، وتحلق بعيدًا عن فلك المادية المحضة.

وأخيرًا لا بد من الاعتراف بفضل السيدة خولة السعدي التي عملت سنينًا طويلة مديرة قسم المناهج العربية، ولم تكن  تني عن تحفيزي على المشاركة الفعالة، بل كانت  تعهد إلي كثيرًا بمراجعة لغوية أو تدقيق لغوي لهذا الكتاب أو ذاك.

إذن ها هي ثقتي بنفسي تجد لها متنفسًا، فإذا قصّر حظي عن أن أكون مديرًا أو مفتشًا بل مركزًا للغة العربية في مدرستي، فها هي مؤلفاتي بين أيدي الطلاب، وها هي نشاطاتي تؤتي أُكلها سواء في اللجان المختلفة، أو بمئات المحاضرات التي أقدمها للطلاب والمعلمين العرب في مختلف أنحاء البلاد. (جدير أن أذكر في هذا السياق أنني كنت مرشدًا لسنة واحدة في موضوع كتابة الأبحاث، ومرشدًا في سنة أخرى لإعداد نصوص عن التراث المحلي لرياض الأطفال).

***

    ما زالت علاقاتي مع التربية والتعليم في أوجها.  وها أنا اليوم أحاضر في كلية القاسمي  - حيث رأست  قسم اللغة العربية ثم مركز اللغة العربية،  وفي الكلية العربية للتربية في حيفا.  إضافة إلى محاضراتي في الجامعات ضمن استكمالات المعلمين، ولكم أحس بهذه المودة وهذا الاعتزاز بيني وبين طلابي، وأحس بمدى تعلقي بمادتي التي أدرسها، وكذلك بمدى عشقي لهذه المهنة – المعلم – وتبقى صفة"المربي" من أجمل ما أعتز به حقًا وصدقًا.

    ويحضرني الآن دعاء كانت والدتي تكرره دائمًا:" اللهم أسألك العفو والعافية".

    فأنا هنا أنشد العفو إن كنت قد قصرت، وأرجو أن تظل عافيتي لي ما أمكن ذلك – حتى أستمر على درب العطاء. ومن يدري فقد أعود ثانية للكتابة عن هذه الفترة – العمل في دور المعلمين – وذلك بعد تقاعدي النهائي عن العمل.

لقد تقاعدت عن عملي في الثانوية، فزاد نشاطي في الكليات، وها هي أربعة عقود تمضي، وأمضي في رحلة العمر.

ملحق أمني لا بد منه:

 

لا بد من تناول الموضوع الأمني فيما يتعلق بسيرتي شخصيًا، فلعل ذلك يعكس بعض ما مر على الوسط العربي عامة.

لا أنكر أن كل تعيين لوظيفة رسمية يجب أن يمر عبر الدوائر الرسمية، ولا بد من موافقة أمنية، فهذا أمر لا مشاحّة [1] فيه، ولكني لم أكن أعرف مدى حولهم وطولهم إلا بعد اللقطات التالية:

- عندما انتخب قريبي رئيسًا للمجلس المحلي في أواخر السبعينيات كنت أجلس في ساحة منزله، فإذا بشخص غريب مريب يحمل حقيبة سوداء ويلبس نظارة بيضاء.  طلب هذا أن يختلي بالرئيس، وبعد ساعة خرج مودعًا"شالوم شالوم".

سألت الرئيس: ومن يكون هذا؟

قال: هذا من جهاز الأمن. حضر خصيصًا ليحذرني من تعيينك مديرًا أو مسؤولاً في لمدرسة الثانوية.

قلت في نفسي:"لعل الرئيس يبحث عن ذريعة لإبعادي عن الوظيفة، لا بأس".  ولم أصدّق قريبي  إلا يوم أن كان يهاتف الأستاذ علي حيدر – نائب مدير المعارف – ويقول له على مسمع مني:"أعطينا فاروق ساعات لنيابة الإدارة"، وقبل أن يجيب حيدر قدم لي الرئيس السماعة لأسمع بنفسي الجواب. كان صوت حيدر يداعب الرئيس بقسوة:"ألا تعرف أن الأمر ليس بيدي ولا يدك،ضب حالك واسكت".

سمعت ذلك، وناولت السماعة على التو للرئيس ليواصل مكالمته.

سألني الرئيس فيما بعد: وماذا قال لك؟

قلت ماكرًا: "قال لا مانع عندي، وأنا أشجع ذلك".

قال منكرًا: بلا دواوين.

وقبيل انتهاء فترة رئاسة قريبي عينني نائبًا للمدير، قدّم لي رسالة  التعيين، وهو يقول لي:" لن يهمني أحد"  - قال ذلك وكأنه يجابه شخصًا معينًا، ثم أردف:"سيأتي الرئيس الجديد المنتخب، وسيكون أول عمل يقوم به هو فصلك عن نيابة الإدارة، لأنه سيُطلب منه ذلك"....... وهكذا كان.

-         في أوائل السبعينيات استدعاني مرة موظف جديد في وزارة المعارف يدعى م. غولن.  طلب مني الحضور إلى نتانيا لمقابلته في أمر هام.  خلت أن الأمر حقًًا يتعلق بالنشاطات التربوية والتعليمية، فحملت الأمر على محمل الجد، وتيمنت خيرًا وسافرت. 

أخذ هذا يحقق معي وسأل بحدة: لماذا تتطرق إلى السياسة في دروسك؟

-         ولماذا تسألني ؟ ومن أنت؟

-         أنا من الأمن وأعمل مباشرة مع مدير المعارف، ويهمنا أن يخلص المعلم في عمله ويبتعد عن السياسة، وإلا فإننا سنوقفه عن العمل.

-         ظننت أنك استدعيتني لأمر تربوي، فإذا بك تخيب أملي، خسارة.....!

-         هذا هو الأمر التربوي الأول والأخير.

-         أنا آسف لحضوري،بل إني أطلب منك أن تدفعوا لي أجرة  يوم العمل وأجرة الطريق.  لقد خسرت يومًا.  وما لبثت أن أدرت له ظهري.  (فيما بعد تبين لي أنه كان قد استدعى الكاتب محمد علي طه وغيره، وقد لاقى منهم موقفًا حادًا وجادًا بيّن له أننا شببنا عن الطوق).

-         في إحدى المسابقات حول الوظائف الشاغرة تقدمت بترشيح نفسي للعمل مديرًا للمدرسة الثانوية – وقد كان هذا حلمي-، وبينما كنت أنتظر مدير المعارف كوبيليفيتش، وأنا جالس  أمام مكتبه وراء عمود يحجبه عني، فإذا بي أسمع حوارًا بين مدير المعارف ومندوب منظمة المعلمين الثانويين – طاليب.

 قال طاليب: لنفسح المجال لفاروق، فهو مرشح لم يخض التجربة، فأجابه مدير المعارف: مستحيل.  إن له ملفًا ضخمًا يحول دون ذلك.  فقال طاليب (وهو من العفولة وكان يعرفني جيدًا) :

 أنا لا أعرف التطرف فيه.  فأجابه المدير: هم أعرف منا.

-         شكوت لصهر لي في قرية ميسر من هذا التنكر لي والوقوف حجر عثرة دون تقدمي، وكنت أطمح أن أكون مفتشًا للغة العربية، وكان ذلك أوائل الثمانينيات.

قال صهري: غدًا سيحضر إلى منزلي بعض رجال الأمن لتناول طعام الغداء، فهل لديك استعداد أن تعرض أمامهم طلبك.

قلت: لن أخسر شيئًا.

كان ثمة حديث صريح بيني وبين المسؤول الأمني عن المنطقة.

قال بصراحة: إذا ساعدتني ساعدتك، وهذه الوظيفة هي أقل ما يمكن أن تستحقــه.

-         كيف سأساعدك؟

-         لا أطلب منك أن تذكر لي ماذا قال هذا، وماذا قال ذاك،فهناك متطوعون لذلك.

-         إذن، بماذا؟

-         بتحليل ظواهر. ألست تقول إن هناك ضرورة للتعايش العادل  بين العرب واليهود في إسرائيل، وبأن هناك ضرورة للمساواة.

-         بلى.

-         إذن سنلتقي كل خميس لنتداول شؤون الوسط العربي الذي تحرص  أنت على أبنائه  خوفًا من أن يقعوا في ما لا يحمد عقباه. هناك سيكون بيننا تعاون في البحث عن طرق المعالجة في أية مشكلة عارضة.

-         ليس لدي وقت، وأنا لا أحسن تحليل الظواهر السياسية و..

-         لا تتعب نفسك، فأنا أعرف أنك لن تقبل، لكني أود أن أذكر لك أمرين:

1-    أن تتأكد أن ليست هناك أية وظيفة رسمية للعرب أو اليهود لا تتم موافقتنا عليها.

2-    لقد وجدت لديك موقفًا ما،فنصيحتي ألا تتقدم لأية وظيفة رسمية شاغرة بعد اليوم دون أن تكون قد"خيطت" الموضوع.

-         القانون يفرض عليك إذا كان لي حق، ولن أتردد في ترشيح نفسي لما أحب.

-         أنت حر، ولكنك ستتذكر نصيحتي يوما ما.

ولم أقبل نصيحته، فقد تقدمت لعطاء وظيفة شاغرة – أن أكون معدًا لمناهج تعليمية معينة، وكنت يومها أحمل شهادة M. A، وإجازة التعليم معًا.  ولكن لجنة العطاء اختارت مرشحًا آخر لم يكن قد حصل على الشهادة الأولى، بحجة أن له خبرة سابقة.

قلت في نفسي: لقد نصحني الرجل، لن أتقدم إلى المحاكم، ولن أتقدم لأي عطاء أو وظيفة، فمن يحتاج إليك يبحث عنك.

وهكذا كان.

ويبقى السؤال: هل تغيرت هذه الأساليب، وإلى أي حد؟!!

 

 


 

صفحات في الكلية في باقة الغربية

 

كان أستاذي زامل أبو مخ معلمي لمادة الدين الإسلامي، ومربي صفي بدءًا من الصف الثالث وحتى الخامس. كان صديقًا لي وزميلاً في مهنة التدريس، متدينًا من أتباع الطريقة الخلوتية، إمامًا في مساجدها، وخطيبًا من خطبائها.

 كنت ألح عليه أن يقترح على شيخ الطريقة الخلوتية، وكان آنذاك الشيخ جميل القواسمي أن يبادر إلى تأسيس معهد يقوم على تدريس الشريعة واللغة العربية، فيفيد منه الخريجون الذين ضاقت بهم السبل الأكاديمية.

يجيبني الشيخ زامل –زميلي- بعد أن سمع رد فعل شيخ الطريقة:" هذا الحلم في تأسيس معهد ديني كان يفكر به سيدنا الشيخ حسني القاسمي. لا بد من التقدم بالطلب الرسمي للسلطات".

قلت له: "أظن أن الرد لن يكون إيجابيًا، فقد علمتنا السلطات أن نفرض واقعنا فرضًا، إنهم سيعترفون  -إن آجلاً أو عاجلاً- بما هو على الساحة فعلاً، فلا بد من خطوة جريئة!

كنت أناشده أن يبلّغ الشيخ  هذا الرأي في ضرورة المشروع.

لا أزعم أنهم استجابوا لدعوتي، وهل لرأيي  حساب في حركة دينية منظمة؟

بل أزعم أن دعوتي لاقت أصداء إيجابية –كما أخبرني أستاذي-، ولم أغنم سلامة الإياب فقط، بل كنت مؤيدًا، وهذا حسبي.

في سنة 1989 أسِسَت"كلية الشريعة والدراسات الإسلامية"، في مشيخة الشيخ عفيف القواسمي الذي قلت فيه من قصيدة لي عن الكلية، وكان وديًا حميمًا:

                  وشيخها ألق يعطي بهمته    إيثاره غدق في نعمة النعـــم

اختير أربعة محاضرين لتدريس صف من البنين وآخر للبنات، وأصبح الحلم حقيقة، والأماني إرادة.

في السنة التالية دعاني مدير الكلية آنذاك  السيد زياد زامل أبو مخ، وكان من طلابي قبل سنين-  لتدريس مادة النحو. كان هناك صفان للبنين وصفان للبنات، وكان لكل من الجنسين مدخل خاص، حتى لا يختلط بالجنس الآخر.

كنت متحمسًا لتأسيس الكلية، ورأيت فيها مشروعًا جليلاً مباركًا، بل أبديت رغبتي بالعمل تطوعًا واحتسابًا.

في سنة 1992 توجهت لإدارة الكلية باقتراح توفيريّ، ويقضي بإلغاء التفرقة بين الجنسين في القاعة الواحدة، فبدلاً من ستة صفوف لتكن ثلاثة! ولما تحقق ذلك كانت ساعاتي ثلاثًا بدلاً من ست، وبقيت على مسرتي ورضاي.

قررت إدارة الكلية أن تجمع البنين مع البنات في قاعة واحدة، لكنها أقامت ستارًا خشبيًا طوليًا يفصل بينهم. يقف المعلم في المقدمة، فيراوح في وقفته وفي توجهه، وإذا جلس إلى طاولته كانت كل عين له تتجه نحو مجموعة.

ظل الأمر كذلك إلى أن عُين د. محمد عيساوي مديرًا للكلية سنة 2001، في مشيخة الشيخ عبد الرؤوف القاسمي، فحضر بهمة جديدة، ورؤية منفتحة. فكان أول ما قام به المدير نزعَ الستار الخشبي، والطلب من البنات أن يجلسن في مؤخرة الصف الواحد المشرع أمام الهواء الطلق، وأن تكون للفتاة حرية ضمن المألوف في مجتمعنا.

أخذت الأمور طابعًا تنظيميًا يطابق ما في  الكليات المميزة في البلاد.

 

                         *                               *                                   *

 

كانت الكلية تخصص لي نصف وظيفة، ولا ترى تثبيتًا لي في عملي، حتى إذا جرت يد

الاعتراف سنة 1995 تم لي التثبيت بوظيفة كاملة.

طلب مني مدير الكلية –كما طلب من غيري-  أن أراجع خطط المساقات جميعها في كل المواضيع، وقد قمت بتنظيم المواد، وحذف الحشو، وتنسيق العرض، بل إنني راجعت مساقات التربية الإسلامية لتكون مادة  أكاديمية، فقد رأيت في خطة مساق في الدين مثلاً:"الطهارة، معناها، وأنواعها"، مع أن هذه المادة تدرس في الابتدائية، فكان علي أن أجعل الموضوع ملائمًا للدراسة العلمية، كأن يكون الموضوع: مفهوم الطهارة في الإسلام، والتجديد فيه مقارنة مع الطهارة في اليهودية والنصرانية.

 

في 22 أيار 2002 بدأت عملي رئيسًا لمركز اللغة العربية، حيث أقيم احتفال بتأسيسه، حضره ضيوف من مؤسسات أكاديمية وتربوية، وبعد سبعة أشهر تم اختياري عميدًا لشؤون الطلبة.

في  مركز اللغة العربية أسست مكتبة خاصة للغة ودراساتها، وأصدرت كتابين عمدت إلى أن يكونا ضمن سلسلة متواصلة-"أبحاث ودراسات في اللغة العربية" –صدرالكتاب الأول سنة 2003، والثاني سنة 2004، وتوقف الثالث مع انتهاء مهمتي.

ثم أجرينا مسابقة بين المدارس لاختيار ثلاث منها لجوائز مالية، أعلنت أولاً في مطلع السنة المدرسية عن الترشيح، وعن ضرورة تقديم مقترح بالنشاطات في مجال اللغة والأدب.

في أيار كانت لجنة من المختصين من أساتذة العربية تطوف المدارس التي رشحت نفسها، ووضعت معايير تم فيها اختيار المدارس الفائزة. وفي أواسط حزيران دعيت المدارس المتنافسة كلها إلى مهرجان اللغة، وقدمت كل مدرسة عرضًا قام به طلابها.

كان الاحتفال الحاشد في كل مرة عرسًا للغة، وتتويجًا لنشاطات المدارس.

 

ثم بحكم وظيفتي عميدًا للطلبة بادرت إلى جمع التبرعات من أهل الخير من باقة الغربية، ذلك لأنني لمست الاستعداد لديهم. بادرت للمشروع بعد أن عرفت من بعض الطلاب أنهم لا يحضرون للكلية بسبب عدم توفر أجرة السفر.

شعرت أن الأهل يجودون إذا عرفنا كيف نتوجه إليهم، وإذا وثقوا بمن يتوجه، فأكسبني ذلك ارتضاء ومضيًا.

 

يعمد مدير الكلية إلى سنّة متبعة في الكليات الجادة، وهي التناوب في المناصب الإدارية كل أربع سنين، وذلك حسب الدستور الرسمي للكليات.

 من هنا كنت أتناوب أنا والصديق د. ياسين كتاني رئاسة قسم اللغة العربية حتى سنة 2010، وقد رأست القسم مرتين، وكنا نتعاون معًا في سبيل إخراج نشاطاتنا إلى حيز التنفيذ والتقدير، وكان الواحد منا للآخر يدًا يمنى ومُحبِّـة.

من نشاطاتي في القسم أنني أقمت مؤتمرات سنوية في عناوين مختلفة، منها: حسان بن ثابت بين الجاهلية والإسلام، القرآن لغة وبيانًا، الشعر المحلي، أبعاده واتجاهاته، الخطابة في العصر الإسلامي...إلخ

ومن نشاطاتي كذلك أنني أصدرت بالتعاون مع برنامج الممتازين  ثلاثة أعداد من مجلة: رواد الضاد، حيث كانت الكتابات الطلابية المميزة والإبداعية.

-         هل أضيف إنجازًا - التوصيات بتعيين بعض المحاضرين المميزين اللامعين في الأكاديمية، فعينتهم الإدارة، ولمستْ ثمار عملهم وعطائهم؟

-         أظن أن ذلك مبعث فخر.

 

كانت علاقتي بأبي زامل – مدير الكلية السابق- علاقة وطيدة. كنت أتعاون معه، وأحب فيه نشاطه الجم، وحرصه على لغة عربية منتقاة، وكنت سندًا له في وظيفته في مكتبة الكلية التي بدئ بها منذ أوائل الثمانينيات.

تسلم  د. محمد عيساوي – الإدارة بعد أن كان نائبًا للمدير، وبدأ التغيير الذي أشرت إليه أعلاه، ولم يمر هذا التغيير بيسر، وحتى أقدم صورة لمثل واحد  أدعو القارئ لأن يتخيل عزف موسيقا في حفل نهاية السنة في كلية الشريعة!

عرفت الأستاذ عيساوي قبلاً في كفر مندا قريته، وتجاذبت معه أطراف الحديث يوم أن زرت المدرسة الثانوية التي كان يعمل بها، يومها حدثني أنه خريج مختص بامتياز بموضوع الإدارة. ثم عرفته زميلاً يوم أن التحق بهيئة  المحاضرين، ونائب مدير للكلية.

كانت علاقتي به حسنة، لولا ما اعتورها من لقطات سوء فهم، أسجلها للحقيقة والأمانة:

أولها أنني فكرت بتأسيس جمعية عثمانية للغة العربية، وكانت أمنيتي أن أجمع تبرعات بالتنسيق مع الكلية لدعم المشروعات التي أحلم بتحقيقها، من إصدار كتب محكمة، ومن تقديم جوائز للمبدعين، ومن....

علمت الكلية بالأمر، فإذا بي أكتشف أن فعلي ليس قانونيًا، بل هو تجاوز للجمعية التي أقامت الكلية، وفيه تناقض مبدئي وغير قانوني.

كاد الأمر أن يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه لولا أن أحضرت وثيقة تؤكد أنني لم أسجل الجمعية رسميًا.

ثانيها أن مظاهرة الطلاب يوم 14/1/2010 احتجاجًا على المجازر التي جرت في غزة كانت ظاهرة لم تألفها الكلية. ناشدتُ الإدارة أن تمر على المظاهرة مر الكرام، وأن تعتبر الأمر"فورة". وكان من منطق الكلية أنها اتخذت لها نهجًا أكاديميًا له رؤيته الخاصة في معالجة القضايا اليومية والاجتماعية.

قرر رئيس الكلية عقد اجتماع لأصحاب الوظائف، ولأعضاء المجلس الأكاديمي لتداول الأمر، وفي الجلسة التي عالجت الموضوع بمسؤولية  فوجئت بأن أحد"الوطنيين"  تحدث داعيًا إلى عقاب" المتخاذلين من أصحاب الوظائف".

تحدثت بعدها مؤكدًا حرصنا جميعًا على سمعة كليتنا، وعلى مستقبل طلابنا، وناشدت الرئيس أن يغفر لطلاب لم يجدوا إزاء الجرائم التي حدثت إلا أن يرفعوا أصواتهم: لا، ونحن لا نستطيع أن نلجم كل حركة وكل قول أو فعل من طلابنا خارج الكلية.

ظل الأمر بين مد وجزر إلى أن تبين  صواب رأيي دون أن يشار إلى ذلك، وليس من الضروري أن يشار.

كانت هناك هنات أخرى آذتني، لكن الإيجابيات كانت تطغى، فرئيس الكلية كان يكلفني بأن أنوب عنه في أكثر من موقف، وكان يدعوني إلى أكثر من لقاء لاستقبال وفود تزور الكلية، ويكلفني بمهمة تلو الأخرى من موضع ثقة يضعها، ويؤمن بتحقيقها كما يحب.

 

بعد الاعتراف الرسمي بالكلية - لإعداد المعلمين بدئ بتخريج الطلاب حملة شهادة  B.ed ثم أصبح اسم الكلية"أكاديمية القاسمي" بدءًا من سنة 2004 نسبة لمؤسسها من آل القواسمي – ومنهم مشايخ طريقة القاسمي الخلوتية الجامعة، وكان سبب التغيير من"كلية الشريعة" أن التخصصات لم تقتصرعلى الشريعة والدراسات الإسلامية، فقد بدأت الأكاديمية بفتح تخصصات كثيرة ومختلفة، وما لبثت أن رعت كلية تكنولوجية، وروضات الأطفال، ومدرسة ثانوية، وهي في سبيل تأسيس كلية  أكاديمية يحصل خريجوها على شهادة B.A يبدأ بها العام المقبل.

أما المكتبة التي شرع بتأسيسها الأستاذ زامل، وواصل دعمها ابنه زياد – مدير الكلية، عملاً على تنفيذ فكرة الشيخ ياسين القاسمي، فقد تم تدشينها  وتوسيعها وشراء آلاف الكتب والمجلات.

طُلب مني أن أؤرخ المرحلة الجديدة شعرًا، لتنقش الكلمات على مدخل المكتبة، فكتبت:

أرسى البناء بهمة إذ تعتلي            شيخ الطريقة من سلالة أصّــلِ

فأقام مكتبة ليهدي نورهـــا           علمًا لطالبـــها بصفوِ المنهـــــلِ

الله يجزي فضلكم بجزائـه             كليةً تدعـــــــو لبِرِّ المُــفْــضِل

أنت العفيفُ القاسميُّ أؤرخ:

                                         لك آية التعظيمِ، جودك طاب لي

وبحساب الجمل فإن الجملة بعد لفظة (أؤرخ) يبلغ حسابها 1997، والأمر الجديد هنا أن الحساب كان لتاريخ ميلادي لا هجري.

 

لا بد من ذكر شخصيتين لهما كبير الأثر في العمل الدؤوب، أولهما هو السيد محمد زكي أبو مخ، طاحونة نشاطات ومبادرات وحسابات وبرامج ونتائج (الطريف أنني علمته مادة الحساب عندما كان في الصف الثالث). وثانيهما السيد أحمد وتد (أبو حسان) مساعد المدير ويده اليمنى في  إعداد برامج المعلمين، ومتابعة شؤون الطلاب، وعمله المخلص

الجاد.

لا أنس عددًا من زملائي الذين كدوا وجدوا، وبادروا وثابروا، بدءًا من نواب المدير وانتهاء بالموظفين الذين كانوا كلهم أسرة واحدة متضافرة متعاضدة.

هذا الحب الذي  لمسته من زملائي، وهذه العلاقة الحميمة مبعث فخر واعتزاز لي على   مسيرتي، وأخص هنا علاقتي بطالبي سابقًا ثم مدير الثانوية التي عملت بها، د. ياسين كتاني رئيس مجمع القاسمي للغة العربية وآدابها، فقد أصدر لي كتاب نبض المحار وتعاون معي في كل مشروع بناء، كما كنت سندًا له وعضدا.

 

أما عن الترقيات الأكاديمية، فقد كنت أول محاضر في البلاد يحصل على درجة محاضر كبير أ = أول في اللغة العربية، بل أول محاضر يحصل على  مثل هذه الترقية في القاسمي، وهي ترقية تضيف للراتب علاوات ملموسة.

ثم اختارتني الأكاديمية لأكون عضوًا في المجلس الأكاديمي، وعضوًا في المجلس الأكاديمي الأعلى، وعضوًا في لجنة الترقيات الأكاديمية التي تنظر في ترقيات المحاضرين ومدى استحقاقهم.

ثم ما لبثت الأكاديمية أن رشحتني للحصول على الأستاذية، وذلك بمتابعة جدية، وبمنتهى المسؤولية التي أولاها رئيس الكلية أبو إياد (د. عيساوي)، وقد توج ذلك بحضوره جلسة القرارفي مجلس التعليم العالي، وكان أعضاء الجلسة سبعة بروفيسورات قرأوا الملف قراءة دقيقة وعميقة. سأل الأعضاء المدير أسئلة كثيرة، فأجاب عنها بحماسة محاميًا متألقًا -كما علمت فيما بعد. وتم قرار ترقيتي بالإجماع يوم 27 آذار 2011.

بعد دقائق اتصل بي المدير وأمارات الفرحة تسمع من نغمة صوته أنني حصلت على اللقب المرموق، فهنيئًا لك يا فاروق!

وأصر رئيس الكلية على  تكريمي، فدعا رؤساء الأقسام والمسؤولين لاحتفاء خاص، فإذا بهم  يتحدثون الواحد تلو الآخر بكلمات طيبات، ويعرضون فيلمًا عن نشاطاتي وقراءاتي الأدبية، وصوري في مراحل مختلفة من عمري، ويقدمون لي مجلدات كتاب الأغاني وبطبعته الجديدة، ومعجم ابن شوشان للغة العبرية بطبعته الجديدة أيضًا.

كان لا بد من إزجاء التحية في نص شعري، أذكره هنا:

          كرمتموني

كـرّمتــمونــي جدتُــمُ كرَمـــا               والحـظُّ منكــم بـاتَ مبــتــسما

توّجتمــــــوني كـــــلَّ مأثرةٍ                وأزحتـــمُ عن كاهـلي الألـــما

رقص الفــؤادُ لفضلِكم طربًـا              فرحي بـكـم يشـــدو لكم نغمــا

كلّــتْ عيوني وهي باحثــــةٌ               واليومَ قرّتْ شامــــتِ الـشَّمـما

أهـــلَ الطريقـــةِ ما أجلَّــهُمُ               عملاً وعلـــمًا أسبغـوا النِّــعــما

كلّـيةً سمــقتْ،عـلا غــدِقــتْ             في علمِها سبقتْ، مضت قُـدُمــا

يرقى مُحاضرُها وحاضرُها              ترقـى مآثـرُها ســمــتْ شـيــما

وأبـــو إيــــادٍ قــاد في جَـدَد                أمِــنَ العِـــثارَ فــكانَ مُقـتَحِـما

إخلاصــُــهُ مَـــثَـلٌ لمجتهـدٍ               إيمانُــــــهُ أمـلٌ  كمـــا عَزَمـــا

تَجـــــزي مهارتُــه إدارَتَــه                يُجري السفينةَ شُــبِّـهتْ عَـلما 

لا يشكر الرحمـنَ معتصِـمٌ                إلا بشكـــرِ الناسِ معتَصِـــمـــا

شكــرًا لـكمْ يا خيرَ مُحتَــفَلٍ               أهـلاً بكــمْ إذ صُنـــتمُ الذِّمـــما

هذي عقـودي  سبعةً نَهَزتْ               فيكم وجـــدتُ صبايَ مرتَسِـما

اللهَ أدعـــــــــوهُ لعافيــــــةٍ                العـهـــدُ أقـرأ أو أفـــي القلمــا

                                                                      نيسان 2011

 

أنهيت العمل  رسميًا في الأكاديمية مع مطلع  أيلول 2010، لكني بقيت محاضرًا باتفاق خاص، بل عهد إلي أن أحاضر على طلبة الـ M.ed، وذلك بعد أن اعترف مجلس التعليم العالي باعتماد الماجستير في الأكاديمية، وقد عهد للصديق د. جمال أبو حسين بالإشراف على البرنامج لتأهيل الطلاب في مواضيع العربية والشريعة والرياضيات.

ترى هل أدرك الوقت الذي تمنح الكلية/ الأكاديمية شهادة الدكتوراة؟!

ليس ذلك على الله ببعيد إن صدق العزم ووضح السبيل.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


 

من رحلتي الشعرية:

 

    هي رحلة شاقة بقدر ما هي ماتعة.  فيها العزلة وفيها التواصل، تصحبني جنية الشعر إلى آفاق جميلة ومدهشة، وقد تنقطع عني حتى يعود الضحى بعد سجو الليل، وعندها لا تودعني هي، ولا تقليني.

     بدأت قرزماتي في المدرسة الابتدائية. كنت أولاً أجمع أقوالاً للشعراء في مواضيع معينة،  فأنشر ذلك في مجلة”حقيقة الأمر”، وكنت ثانيًا أنشر في" جريدة الحائط” التي كانت تعلق في ساحة المدرسة. 

ثم أخذت فيما بعد أحوّر أبياتًا شعرية من قصائد معروفة، فإذا قال الرُّصافي:

“هي الأخلاق تنبت كالنبات” قلت أنا :”هي الأرزاء تكثر في البلاد”، 
وإذا قال قََطَري بن الفجاءة:"فصبرًا في مجال الموت صبرًا”، قلت:" فصبرًا في بلايا الدهر صبرًا”، وهكذا كلمة بدل كلمة، وجملة بدل  أخرى، وكان الله بالسر عليما.

          لما  حاولت أن أتحرر من هذا التقليد والانتحال كتبت مقطوعة نثرية سميتها شعرًا، وأرسلتها إلى صحيفة"المرصاد” فنشروها في"رسائل القراء”، ومعها تعليق ساخر:"يبدو أن هذا لون من الشعر لا نعرفه”.
 ثم أخذت أحفظ الشعر وأطالعه بكثرة، وشاركت بل فزت في مسابقات أدبية إذاعية، ويظهر أن الاهتمام والصقل والمران تقوي كل موهبة، فهذا المتنبي أستاذي الأول حفظت له مئات الأبيات، فكان ملهمي ومصاحبي حتى يومنا هذا؛ وقد كتبت له قصيدة هي بعيدة عن أدائه، ولكنها قريبة إلى فخره:

                            يا أبا الطيب أنصت         روحك الصغرى تغني

                            إن يكن مجدي سماء        أنت  رب  منك   فني

                           لن يكون الشعر شعرا        دون أن يرقى  بظني

                            إن شعري  لهو سحر      من دنان الخمر  دني     .. الخ

وبالطبع فهذه"القصائد” الأولى لما تنشرْ.

وهكذا كنت أدوّن ما يعتلج بخاطري من آلام وآمال، فإذا رأيت قصورًا في بعض المعلمين كتبت أهجو:

قد ضقت ذرعًا أيها الرجل      أمعلمون توافهٌ نفـَل؟!

وخاطبت مفتش المعارف الأستاذ أحمد إدريس-  وهو شاعر كذلك:

أبا مروان قد أبديت ودا      فقلدنا من الأشعار عقدا

ثم عشت مشكلة شخصية عبرت عنها، فقلت في مطلع القصيدة:

قسوة الأقدار فرض لا يطاق      فلماذا العيش من غير اتفاق؟؟

وفي يوم"النكسة” كتبت قصيدة"كفرية” ظلت في أوراقي.

كانت قصائدي تترى، وكنت أقرأها على هذا المثقف أو ذاك، وأبحث عمن اقرأها له وأجره عندي عظيم.

غير أن أحد الزملاء المتأدبين– وكانت له محاولات شعرية جميلة – كان يعكر علي صفوي وهو يعلق:

“هذا المعنى ضعيف”،"هنا ركيك”،"لم تقل شيئًا جديدًا”،"اللغة تقليدية”، فتفتر حماستي، وأقول لنفسي:” الشعر صعب وطويل سلَّمه”.

 ثم قدّمت لصاحبي هذا قصيدة لي جديدة، وادعيت أنها للشيخ يحيى بن يحيى المعافري،  وزعمت أنه شاعر عاش أواخر الدولة العباسية،وقرأت:

                 وحدي بهذا الكون لا خلٌ وفي           يصفي   إليَّ   الود   لم   يتكلــــف

                 وعزاء نفسي أنني    مستلهم           فكري وشعري من هواها المسعف.. الخ

قال زميلي:"دعني أنقل هذه القصيدة الرائعة.  قل لي: كيف تعرفت إلى هذا الشاعر؟  وأين قرأت له و. و.."؟؟؟!!!

 فلما انتهى من نسخها أخذت ورقته بين يدي، ووضعت اسمي مكان اسم يحيى، لأنني أحق منه بها، فقال مبهوتًا :”مش معقول”!!، وترك الورقة بين يدي.

(تذكرني هذه الحكاية بما جرى مع إسحق المَوصلي الذي قرأ شعرًا له على مسمع الأصمعي:

             هل إلى نظرة إليك سبيل       فيُروّى الصَّدي ويُشفى الــعليل     ...  الخ

فعلق الأصمعي أن هذا هو"الديباج الخسرواني”. ثم سأل عن صاحب الشعر، فلما علم أن الشعر"ابن ليلته”- أي للمَوصلي – قال”أفسدته، أما إن التوليد فيه بيِّن”.

هذه الحكاية وعشرات غيرها تنحو نحوها أكدت لي ألا أحفل بآراء الآخرين إلى درجة قصوى، بل آخذ ذلك في حسابي دون أن يثبّط أحد  من عزيمتي.

من قصائدي الأولى التي"أعترف” بها  اليوم- كانت قصيدتي"حلم السلام”، وقد كتبتها على إثر زيارة قمت بها  لفدوى طوقان في منزلها، فلما نشرت القصيدة في"المرصاد” بعثت بها إليها، فأرسلت لي رسالة عنونتها:

“إلى الشاعر الرقيق..".

إذن فشعري رقيق لا"ركيك” وبشهادة فدوى طوقان.......

 

***

 

عندما عدت من نابلس أحمل في سيارتي ديواني الأول المطبوع"في انتظار القطار” – 1971 كانت الدمعات تنساب خفيفة على خدي، وكنت أحس أن لدي دافعًا لأن أخاطب الجبال والتلال على جانبي الطريق، وأقول لها إنني أصدرت ديوانًا، وقد حدث أن أشار لي مسنّ يقف على قارعة الطريق بأن انقله في سيارتي، فنقلته إلى قريته وأهديته كتابي – رغم أنه لم يهتم إلا بصورتي على الغلاف.

كانت قصائد الديوان منتقاة، لغتها متخيرة، وربما كنت أعمد إلى ذلك تدليلاً على براعة مفترضة، وكان غلاف الديوان قد رسمه فنان من نابلس قيل لي مؤخرًا بأنه مجنون، وقيل لي إنه قد أودى بحياة أمه. ترى هل يرتبط الشعر بنوع من الجنون؟

قدم د.  ساسون سوميخ أستاذي – حينذاك – في جامعة بار إيلان هذا الديوان، وكنا صديقين حميمين، فجعل التصدير أبياتًا استقاها من شعر شيلي:

“إن أخلص ضحكاتنا لمثقلة بشيء من الألم، وأعذب أغانينا هي تلك التي تحكي عن أحزن الأحزان”. ثم تبين لي لاحقًا أن هذا المعنى ورد كذلك في شعر علي محمود طه في ديوانه"أرواح شاردة” وبصورة مجملة، وخاصة في الشق الثاني من القول:

       وإن أشهى الأغاني في مسامعنا       ما سال وهو حزين اللحن مكتئب

لقد رسخ الأستاذ س. سوميخ بي يومها ثقة بالغة، فهو يحدّث القارئ عن اللذة والفائدة والمتعة في اكتشاف معانيَّ الجديدة والعميقة، وهو يرى أن شعري تجريبي، وأن"ثمة بشائر أسلوب خاص بالشاعر الشاب فاروق مواسي.... إذا تعهده صاحبه بالعناية والصقل والمثابرة فلسوف يستطيع أن يصل به درجة الإبداع الفني” (مقدمة الديوان،ص4).

وأحسست أنني وقفت على قدمي، ومضيت في سبيلي.

في ديواني الأول أو في نهايته اخترت باب"من الدفتر القديم”، حيث أودعت فيه قصائد تقليدية الشكل، وكأنني أتحفظ منها، أو أنني منها على استحياء، كما جعلت في الصفحة الأخيرة تذيـيلاً بشرح الأسماء الواردة في قصائدي كالغافقي، "صغير الأندلس”،النرفانا،سيزيف، اللوبركال...  وكأنني أهمس للقارئ – ها هي أشعاري تدل على ثقافة واطلاع، فإذا لم تفهمني فالمشكلة هي مشكلتك، أو كما قال أبو تمام:"يا هذا لم لا تفهم ما يقال”. ومع ذلك، فيشهد الله والشعر والجنية التي حدثتكم عنها أن كل كلمة كتبتها هي صادقة صادقة، وأن لكل قصيدة قصة. فالقصيدة”الأولى في الرثاء” –مثلا- هي في رثاء الرئيس جمال عبد الناصر، فقد استمعت إلى نعيه في إذاعة القاهرة، فأخذت أكتب وأبكي، ولما فرغت من القصيدة بعد ربع ساعة سميتها"القصيدة الأولى في الرثاء” يقينًا مني أنني أول من رثاه، وكذلك لأنها للرجل العربي الأول في عصرنا، أو ربما لأن الرثاء الحقيقي في نظري يجب أن يبدأ من هنا، وليس أدل على ذلك من دموعي التي لم تجف.

إن العناوين في أشعاري كثيرًا ما تحتمل أكثر من معنى، فالقطار في ديواني الأول قد يعني قافلة الجمال، والقطار قد يعني المطر، كقول الشاعر:

                           ألا يا حبذا نفحات نجد      وريا روضه بعد القطار

بمعنى أنني انتظر الغيث الذي يغيث، فينقّي الأرض ويخصبها معًا. وقد يكون العنوان محمولاً على معنى القطار الحديث – أي أنني أنتظر أمرًا لا أعرف إن كان قد وصل أو أنه قد فاتني، أو ربما أنتظر كما ينتظر (جودو).

عبّرت عن القضية الفلسطينية في قصائد –"أنا ومحنة الغافقي”، و"العودة إلى حكاية لقيط الإيادي”، وفي"نشيد أو نشيج”.  كما رثيت عبد المنعم رياض في"بكائية ليست كالبكاء”، وهي قصيدة تمزج بين أوزان الشعر وصوره. وكانت"مرثية حظ عاثر” و"مكاشفة” لهما بعد صوفي، كما كانت هناك قصائد حوارية وخطابية للذات الإلهية.

***

أصدرت ديواني الثاني"غداة العناق” – 1974 بقالب (فورمات) جديد، وجعلت"غداة” ذات إمكانيتين في القراءة، وكتبت للمجموعة مقدمة سميتها"مفتاح” قلت فيها:

“فإذا ما جذبك الإيقاع إلى بوابة الوصول تلتقي هناك الرمز حارسًا، فيبقيك في مجالات التردد يثير الدهشة. من الكلمة ونغمتها إلى تجربتي، فإذا بها تصبح تجربتك، فتعيد تشكيل القصيدة بالشكل الذي ترتئي، ولا غرو أن تكون أنت الشاعر”.
قلت ذلك ولم أكن قد تعرفت بعد على نظرية التلقي.

بدأت المجموعة بقصيدة"المسرح والمهموم”، وهذه القصيدة ضمن المواد المطلوبة في امتحانات الدراسة الثانوية (البجروت- ضمن الوحدات الأربع)، وكان ترجمها إلى العبرية زكي بنيامين، وحاورني حولها جاد ليفي في الإذاعة العبرية. في الديوان قصائد وطنية أخرى ليست مباشرة، كما أن فيها"صورة جديدة لامرئ القيس” و"ليلة ابن المعتز” و"المزمور الحادي والثلاثون”... ولكل قصيدة حكايتها. ويبدو لي اليوم – ناقدًا – أن هناك ضرورة لاستقصاء أجواء كل قصيدة وظروفها، وذلك لتقديم أضواء كاشفة تحد من حرية التخيل التي هي في غلو وإيغال، ومن يدري  لعل المتعة في التلقي ستكون أكبر وأكثر.

***

 

صدر ديوان"يا وطني !!” عن مكتبة الشعب في كفر قاسم سنة 1977م، وفيه ثلاث قصائد من وحي يوم الأرض، وهنا أخذت أجرؤ أكثر سياسيًا، فأشارك في منصات الحزب الشيوعي، كما كتبت عن وثيقة كينغ العنصرية، ونافحت عن أهالي الخليل المحاصرين، وكتبت عن القدس ولبنان ومسجد قيسارية الذي أضحى حانة، ورثيت راشد حسين، وألقيت القصيدة يوم تشييعه، كما رثيت الفدائيين الذين حرقوا في بيسان.
 من جهة أخرى كتبت قصيدة فيها نغمة يائسة هي"تنويعات منا وفينا”، وكتبت عن"الجاهلية” التي تنخر فينا، وعن بعض تقاليدنا وعاداتنا السلبية.

ولا بد من تسجيل التتويج الذي أملت أن يكون يومًا ما نشيدًا وطنيًا:

الأمل المخضرّ على صفحة قلبي

يسألني يومًا يومًا..... عن دربي

هل أملك أن أحفظ عرضـــــــــي

أعشــــــــــــــــــق أرضــــــــــي؟.......

 

***

 

في ديوان"اعتناق الحياة والممات” (1979) طغت قصائد تروي عن البقاء والثبات رغم الموت الذي يحدق بنا ويحيق، فتغزلت وتجرأت، وكتبت قصائد قصيرة منها ما يدعو إلى ضرورة التعايش بين الشعوب. وكانت هناك”لعبة السفر والموت” في أشكال ودوائر وخطوط تتقاطع فيها كلمات مفردة؛ حيث كانت هذه التجربة تسجيلاً فنيًا لحادثة سير كادت أن تودي بي. وأنهيت المجموعة بأربع صفحات بيضاء- هي قصيدة"صمت”. وبالطبع فقد كانت هاتان القصيدتان سببًا للتندر من قِبل هذا وذاك، فهذه المفتشة هالة المسؤولة عن اختيار النصوص في مناهج التعليم تسألني إن كنت أوافق على اختيار قصيدتي"اللعبة”، وهذا صديق يأتيني مفاخرًا بأنه يحفظ لي قصيدة من ألفها إلى يائها، وعندما أطلب منه أن يقرأ علي، فإذا به يصمت صمتًا طويلاً.....  وقد فوجئ الكثيرون لقولي إنني أستطيع أن احلل هذه القصيدة"الصامتة” في كتاب كامل، ولكن الصديق د.  محمد خليل كتب فيما بعد  دراسة وافية على أربع حلقات في الاتحاد، ثم ما لبث ان تناولها الناقد السوري محمد السموري بالتحليل في صحيفة الفرات.


أما ديواني"إلى الآفاق” (دار الأسوار – 1979) فقصائده معدة للشبيبة والطلاب، وقد حفزني على كتابتها أن شعراء متميزين في العالم أعطوا كذلك للأطفال ولأبناء الشبيبة، فالإبداع هو إبداع. وسرني أن بعض قصائدي هذه لاقت استحسان هذا الملحن أو ذاك، فلحنت قصائد"القدس”،"نعم المعلم”، "طالب العلم”،"نشيد المطر”، و"دراجتي”. ثم صدرت لي أواخر عام 2001 مجموعة أخرى هي"أناشيد وأغاريد”.

***

صدر ديوان"من شذور التعب” – 1987م – ضمن"الأعمال الشعرية الكاملة – المجلد الأول”، وفي هذا الديوان قصائد وجدانية منها الوطنية والمراثي (السرطاوي،سامي مرعي، فهد القواسمي،عبد اللطيف الطيباوي، أبي...)،وفيه الغزليات الجريئة شكلاً ومضمونًا. ومن الطريف أن أذكر أن هناك قصيدة عنوانها"فاروق مواسي”،  وتبدأ :

“أحببت هذا الاسم حتى قد كرهته”، وتحدثت فيها عن أشجاني وخيباتي، ومنطلقي هنا أن الشاعر يجب أن يتحدث عن ذاته أولاً وقبلاً.

وفي ديوان"الخروج من النهر” – 1989 ثلاث قصائد طويلة: الأولى"الخلاص من نهر الظمأ”، والثانية"مصطفى العابد”، والثالثة"أندلسيات”، وقد قدم الناشر في"دار الشفق” المجموعة بقوله:

“تتميز أشعار د. مواسي بأنها صادقة تنبجس من نفس حساسة تجيش عاطفة ووطنية، وهو يمارسها معاناة ووجدًا تشي ألمًا ووعدًا.” وإني لأسأل اليوم،هل كنت قد ساعدت الناشر في كتابة هذه الكلمات عن نفسي؟ وأجيب: ربما !!

نشرت القصيدة الأولى أولاً في 18/12/1987 بعد أيام معدودات من بداية الانتفاضة.

ومن الطريف كذلك، أنني تنبأت فيها بكل ما حدث بعد ذلك من استمرار المقاومة من جهة، ومن قتل وقلع أشجار وهدم ونفي وتشريد وحتى دفن الأحياء من جهة أخرى.

وكانت"أندلسيات” على إثر زيارة لهذه البلاد الرائعة، حيث بدأتها بمعارضة لموشح لسان الدين بن الخطيب، وأنهيتها بالعود إلى الموشح، بينما تخلل ما بينهما أشعارعن مواقع زرتها، وذلك في أوزان مختلفة، اللهم إلا مقطوعة"على نجوة من مضيق جبل طارق”، فهذه انطلقت بلا وزن ولا قافية، لأنني لم أجد ما يضبط جموح عاطفتي هنا أو يوقع إحساسي.

***

في ديواني"قبلة بعد الفراق” – 1990 كتبت عن قيامة الشهيد، ورثيت أبا جهاد، وخاطبت"العقل” الآخر في أكثر من قصيدة. ومن جهة أخرى كتبت تخطيطات لوجوه رائدة في مجتمعنا.

أما  ديوان"ما قبل البعد” – 1993م ففيه قصائد عن القدس، وهنا بدأت بما أسميته"قـُصَيِّدات” وهي تتراوح بين الحب والوطن والفلسفة الذاتية.

وفي ديوان"لما فقدت معناها الأسماء” – 1995م مزقت كلمة (معناها) على الغلاف إلى ثلاثة أقسام، وبدأت المجموعة بغزلية لرفيقة عمري، حيث شكوت لها بعض ما أعانيه من عقوق، وشكرت لها وقوفها إلى جانبي في كل أزمة. كما تحديت الذين كانوا يتقولون بعض الاقاويل على توفيق زياد – القائد الوطني،فكتبت قصيدة"كأسك يا توفيق!”.
في الديوان قصيدة"الماء المجنون ورثاء المجهول”، وهي على إثر زيارة لي إلى المغرب، وكنت قد زرت مشاهد لا تنسى في أعقاب فيضان هائل، وفيه كذلك قصيدتي"بكائية على الصلاة الإبراهيمية” عن جريمة غولدشتاين في الخليل – وقد نشرت هذه القصيدة في"أخبار الأدب” المصرية وبمكان بارز، وقرأتها على مسامع إيهود أولمرت (كان رئيسًا لبلدية القدس)، وأحس بنبضها من نبراتي في قراءتها، وسآتي على ذكرها في صفحاتي السياسية أدناه.

واختتمت المجموعة بقصيدة ليست لي، وإنما هي تتحدث عني، تبدأها هي:

ألأنك لم تقرع في شعرك باب السلطان

لم تتمسح أعتابـًا في بهتان

ما استاموا لك في سوق الشعر

أغنية

***

في"خاطرتي والضوء/نبضات” (1998) الصادر عن"بيت الكاتب” في الناصرة، بدأت بجواز مرور شرحت فيه أن كتاباتي ليست طواعية وترفـًا، بل هي تعبير عن قلق ينتابني. وكانت قصيدة"حبي فلسطيني” فاتحة لديواني:

       الأرض أرضي وليس الشوق يبريني     الشوق يحدو إلى حبي -   فلسطيني

من العجيب أنني كنت قد نشرتها"يحدوني”، وقرأتها مرارًا وتكرارًا كذلك دون أن أنتبه إلى كسر في الوزن، حتى نبهني عليه أحد الأصدقاء، وكم اندهشت!

ثمة قصائد أخرى منها"عذاب المدى” بعد زيارة لي لأطلال عين غزال وإجزم، وقرأت هذه القصيدة الطويلة فيما بعد على مسامع ابن عين غزال قريبي الدكتور إحسان عباس فأثرت أشجــانه.

أما"حوارية الموت” فربما تكون أول قصيدة تناولت الموت بتفصيل وفلسفة مركزة وبأضواء تنبث فيها رفضيات الموت. (قرأت بعدها  بفترة"جدارية محمود درويش” المعبرة عن تجربة حية درامية، وفيها معانٍ مشتركة).

في الديوان بعض القصائد الاجتماعية:"باسم الشرف” – وهي عن قتل المرأة ظلمًا وعدوانًا، و"مأهاة من جيل اليوم”- وهي عن بعض الشباب الخنَّع. واستمرت هنا أيضًا قُصَيداتي أو مقابساتي، واختتمت المجموعة"بسمفونية” جريئة هي هتاف  الصدر، ثم بشلالات نياغارا(بعد أن تمليت منها) – حيث لاقت هذه أصداء طيبة، ولا يزال بعض الأصدقاء يحفظون منها، بل يسمعون أذني عنها ما يروق لها سماعه.

***

 

 

ماذا يعني لي الشعر:

 

للأمانة سأبدأ هنا بإعادة بعض ما كنت قد ذكرته للطالبة ألطاف أبو هنطش التي كتبت عن شعري في نطاق وظيفة تخرج، (وقد نشرت أقوالي في صحيفة"أيام العرب” 23/6/2000) قلت لها:

“ أجبت عن هذا السؤال بصور مختلفة تبعًا للموقف عن العلاقة الجدلية بين الشعر والحياة – أي ماذا يجب أن يعكس الذات بصورة خاصة أم الذات المعبرة عن الهم الجمعي؟ هل هو الفيض التلقائي حسب ووردزوورث أم هو عملية بنائية تنطلق من الشعور، وكلها كنت قد عايشتها حقًا وصدقـًا.

شبهت قصيدتي بأنها فراشة زرقاء لاحقتها،وإذ أمسكت بها تناثرت....  ولم يبق منها إلا كلمة"حب”.

إنني أعمد إلى الشفافية في الأداء، ذلك لأن الكلام المبهم مستغلق، ولا يؤدي إلى شيء، قلت:

“ لو يأتي من يحفظ شعرًا مخصيًا أو معميّا

يلقيه على مسمع معشوقة

هل ترعش شفتاها

هل ينبض نهداها

هل تطلق آها

أم تتحرك

لوداع؟!”

القصيدة – في رأيي – التزام إبداعي صادق، تعبر عن الشاعر وعن همومه التي تتلاقى وهموم مجتمعه، والشاعر له جوانب وحالات وأشجان، وأحاديث ذات شجون،وهو يحس القضية، ويتألم، ويعشق، ويرفض، وقد تكون بعض انطلاقاته سياسية، أو قد تكون السياسة لبستها....  فكونت فرادة بمعنى INDIVIDUALITY.

الشعر ليس هواية بمعنى ترفي، بل هو قدري ولعنتي وحبي ومجتلاي، وكما تفرح الوردة في نشر أريجها أفرح أنا في نشر قصيدتي. أستمع إلى ردود الفعل، وأسعد إذا راقت أو إذا ذُكرت بخير. بعد سنين أرى كل قصيدة بمنظارها الحدثي أو المنطلق من التجربة بعينها.

وكثيرًا ما أقرأ قصيدة لي قديمة، فأقول لنفسي:" اليوم أنت – يا فاروق – لا تستطيع أن تكتب سطرًا مما كتبت. كيف استطاع فاروق الأمس أن يهتدي إلى هذه المعاني؟"

وإذا لم أجد لقصيدتي أذنـًا أقول لها: لك الله يا قصيدتي.... لا بد إلا أن يحضر الناقد الجاد، فانتظري!.

يهمني أن يرضى الجمهور الواسع عن قصيدتي الوطنية، ولا يهمني كثيرًا أن أجد العدد الكبير لقصيدتي الفكرانية أو المتعمقة.
 أما"الوطن” في كتابتي فهو يعني المكان والزمان والنباتات والطيور والتربة والهواء والسماء، وأهم من ذلك الناس بعلاقاتهم وانفعالاتهم وتداخلاتهم وتشربهم لهذا الوطن، ففلسطين ليست مجرد ترديد يُحفظ. إنها كينونة وانصهار في بوتقة.

 القصيدة لدي تتخلق بعدما أعايش أحداثها أو أجواءها أو أشعتها، أحيانًا تلد مخلوقًا كاملاً مثل قصيدتي"ندّ على أضرحة عراقية”- إذ وردت علي بسبب العدوان على العراق، فكتبتها بتواصل والدموع تنساب من مآقيّ.
 لم أكن في بلاد الأندلس – حين كحلت عيني بمناظرها – أنظم أو أستشعر، بل ظننت أن معين الشعر قد نضب،  إلا أن زوجتي كانت تطمئنني أنني بعد عودتي سأكتب قصيدة- هي القصيدة في نظرها.  و صدق حدسها في أنني كتبت قصيدة أعتبرها مميزة في شعري.

إن أهم ما يميز شعري هو الصدق، فقصيدة غزلية مثلاً من شأنها أن تقيم عليّ القيامة أمام زوجتي، ذلك لأنها تعرف أنني لا أكتب هكذا عفوًا أو عبثًا أو من غير نار تتوهج في خلل الرماد.  ثم إنني أعالج (التابوهات) – المحرَّمات من دين وسياسة وجنس بصراحة، وإن لم تكن أحيانـًا غير متناهية.  فاقرأ قصيدتي" أغسل خوفي” مثلاً لتجد هذه النقمة العارمة على التزمت الديني البعيد عن المنطق الذي ورد في قوله تعالى"لا إكراه في الدين”.

أحاسب قصيدتي- ناقدًا –  ولا أحابيها، بل أجد الجرأة لأن أقول لشاعر معين"قصيدتك هذه أفضل من قصيدتي في بابها”، وقد حدث ذلك أكثر من مرة.  وبالطبع فهذه صفة تندر بين الشعراء، وقد لا يصدقها عني بعض الأصدقاء، ولكنها حقيقة.

الرمز وارد كثيرًا في قصائدي بصورمختلفة، فمن الرموز ما هو تاريخي أو أسطوري، أو فولكلوري، فلسفي أو إبداعي مستجد.

في شعري تناصّات كثيرة من القرآن ومن وحي الصوفية. والدين لدي هو حضور الحضارة الإسلامية العربية في نسيج قصيدتي حضورًا يتجاوز الناحية الشكلية غير الموظفة.

ليس في شعري ولا أظن في شعرنا المحلي وقفات وصفية طويلة مستقاة من الطبيعة، فالطبيعة عندي هي الوطن، المرأة، والإنسان في الطبيعة.

شعري هو أناي، تلخيص لي، وأحب أن ينطلق، وأن يكون حرًا يعانق الكون كله. أطمح إلى  أن تكون كل قصيدة في دوائر ثلاث على مستوى التوصيل (وهذا القول كررته، مع أن الأمر متعذر في كل القصائد):

-         دائرة ذاتية -  وهذا البعد يقرأه كل قارئ ويجد فيه نجواه.

-         دائرة فلسطينية – أن يجد القارئ بعدًا وطنيًا يحلّق فيه.

-         دائرة إنسانية – أن يقرأ قصيدتي قارئ أرجنتيني-  مثلا-  فيجد فيها طاقة خلاقة وشمولية إنسانية، وبالفعل فلدي عشرات القصائد مما ينطبق عليها ذلك- بشهادة آخرين.

أما عن الشكل الشعري فلي قصائد كثيرة على الصياغة التقليدية، وخاصة قصائد الرثاء، أو القصائد التي تلقى في المحافل الوطنية.

أما القصائد التفعيلية فهي الغالبة على شعري،  بينما"قصيدة النثر” كتبتها في حالات تضطرني إلى الخروج من إيقاع أو تطريب، كما أشرت في حديثي عن وقفتي أمام مضيق جبل طارق، وهذا القصائد لا تتجاوز أصابع اليد.

أجدد وأبدع – ما وسعتني الحيلة – في كل قصيدة مبنى ومضمونًا، وأحاول أن أخلق الصور المتوالدة ليكون ثمة إيحاء ومشاركة.

وقد تسألوني: كيف تبدأ قصيدتي غالبًا؟

إنها تبدأ بتهويمة أو دندنة إيقاعية لمعنى معين، ثم ما تلبث الصور تتآزر وتتضافر حتى تشكل بنية القصيدة.

أكتب القصيدة أنى حلت الفكرة وخطرت الصورة، وكأنها  تتهادى أمام مخيلتي، فإذا استجاشتني للكتابة أعانق جسدها. أحيانًا أكون سائقًا سيارتي، وآنًا أكون على فراشي، آنا بين كتبي وبعد ومضة أشعَلَها كتاب ما، أو إبراقة شعت من قصيدة لشاعر معين.

 

أشغلت الأنثى حيزًا في شعري، ذلك لأن الأنثى هي الرقة والجمال والعذوبة والأنس.
 هي الصوت العذب الذي يسري على النفس.  هي المشاركة الوجدانية الأخاذة التي تعطي الرجل معنى التكامل بقدر ما يعطيها الرجل إحساسًا بالتفوق.
 المرأة هي نقطة قوتي، وهي نقطة ضعفي.  وقصائدي الغزلية أكثر من أن تُحصى، فكثير منها كتبته لبعضهن، ولم احتفظ أنا  بنسخة عنه، ومنه ما لا أجرؤ على نشره، فجعلته في دفتر"المكنونات”، ففيه شبق جنسي كنت قد عبرت عنه في السبعينيات والثمانينيات.

من غزلياتي ما هو مرتبط بالأرض كما هو الحال في كثير من شعرنا الفلسطيني. وثمة غزل آخر لا عهد لنا به من قبل، فقد كتبت قصيدة أهديتها لرفيقة عمري أثارت غيرة زوجات بعض الشعراء من أصحابنا، فاضطروا للكتابة  كل إلى حرمه المصون.

أما الغموض الشفاف فهو المستحب لدي، إذ أنفر من كل تعقيد والتواء حتى في المخاطبات اليومية.  أطالب القارئ أن يكون مسلحًا بمعرفة أولية عن الشعر وتوليداته، ولا يهمني كيف يقرأ أو يفهم.  الشفافية هي كشفافية الحسناء التي لا يسلس قيادها لأول لمسة يد أو لأول نظرة، بل هي التي تعطي وتمنع، وتراوح وتجذب، تؤمّل بقدر ما تكون عصيـّة. الجمال الغامض الذي لا يتكشف مجانًا هو لدي الأحب. إن الصورة البعيدة عن الفانتازيا المُغربة في الإبهام هي التي تقدم لنا خيالاً نستطيع أن نحلق في أجوائه وأبهائه.

***

شاركت وأشارك في الندوات الشعرية المختلفة، وكذلك في المهرجانات الشعرية وغير الشعرية (معظمها ضمن النشاطات في الجبهة)، وقد حضرت مهرجان لندن الثقافي الذي أقامه رياض نجيب الريس في لندن صيف 1988م، وذلك بتوصية من سميح القاسم الذي كان رئيسًا لاتحاد الكتاب العرب في البلاد (كنت نائبا للرئيس آنذاك).

في لندن تعرفنا إلى عشرات الشعراء- أذكر منهم نزار قباني، وسعاد الصباح، ومحمد عفيفي مطر، وبلند الحيدري، وأحمد مطر و...، وفي الليلة المخصصة للشعر الفلسطيني قرأ محمود درويش وسميح القاسم وطه محمد علي، وقرأت أنا قصيدتي"الخروج من نهر الظمأ”-  القصيدة التي تتناول الانتفاضة – وكانت موضوع الساعة – قال لي  الناقد المعروف غالي شكري، وكان قد قرأ بعض نتاجي قبلاً:  لماذا قرأت هذه القصيدة؟ قالها بنوع من العتاب وإبداء عدم الإعجاب. 

أما صبري حافظ فقد حياني وقال: مثل هذا الشعر المقاتل ضروري أن ندرسه وندرسّه.
مهما يكن فقد استمتعت جدًا باللقاءات الكثيرة والسهرات الأدبية التي كانت لي أشبه بحلم، وشاركت فيها بحضور بارز، وظلت الصور الفوتوغرافية شاهدًا جميلاً ومعبرًا، ومدعاةً للاعتزاز.

في سنة 1990 قرأت شعرًا في معرض الكتاب الدولي في القاهرة بتقديم جميل لا يُنسى- من الشاعر العذب محمد أبو دومة.  ومن خلال لقاءاتي المتكررة في معرض الكتاب وفي أكثر من سنة تعرفت إلى كبار الشعراء والمتميزين من النقاد.

في نفس هذه السنة دعيت لحضور مهرجان الشعر العالمي في القدس، وذلك في مشكنوت شأننيم، وكان المهرجان سنتها حاشدًا بالمدعوين، حيث شارك الشعراء العرب واليهود في البلاد، كما شارك بعض الشعراء الفلسطينيين. تعرفت جيدًا في هذه اللقاءات إلى الشاعر يهودا عميحاي-  كبير الشعراء العبريين، وانتبهت إلى قصائده الإنسانية التي ترفض الاحتلال، وكنت قرأت ثلاث قصائد بالعربية قام الممثل مكرم خوري بقراءتها بالعبرية.

صدر عن المهرجان كتاب يضم أنتولوجيا شعرية بالعبرية والإنجليزية، فكانت قصيدتي"الشيخ والبحر” ممثلة لي في هذا الكتاب.

قبيل ذلك في سنة 1989م صدرت لي مجموعة شعرية بالعبرية هي"الأحزان التي لم تفهم” (העצבונים שלא הובנו) بترجمة روجيه تابور وإصدار رابطات الكتاب في إسرائيل، وبتقديم دافيد ساندو.  ثم صدر لي بالعبرية مؤخرًا ديوان"جئت إليك”- 2010 بترجمتي وترجمة تابور.


 شاركت في قراءات شعرية في ألمانيا، وذلك ضمن ندوات كنت أُدعى إليها.  ومن الجرأة أن أترجم قصيدتي بنفسي إلى الألمانية، فأدعها بعد ذلك في يد من ينقحها، ثم أقرأها بالألمانية.  (الألمان يتحمسون جدًا لمن يستخدم لغتهم). 

وهنا لا بد من ذكر الإلقاء وفنه، فكثيرًا ما اسمع تقريظًا لطريقة إلقائي، فأسمع من  يصفها بالتماثل مع الصدق الذي ينطلق من أعماقي، بل إن شاعرة عبرية أصرت على أن أقرأ لها قصيدتها على مسمع الجمهور، وكنا مدعوين معًا. ومهما أوتيت من قوة هنا إذا صح ذلك – فإنني أشهد أن الإلقاء الذي بهرني و"دوّخني” هو إلقاء الشاعر الروسي  يفتشنكو، وكنت قد تعرفت إليه في"بيت الأديب” في تل أبيب. كما كانت تثيرني قراءات سميح القاسم ومحمود درويش ونزار قباني على وجه الخصوص.  ومما يُعجب في الإلقاء أن يحفظ المُلقي قصيدته غيبــًا، وهنا تواصل أقوى وأعلى، وليس أدل على ذلك من إلقاء الفنانة نضال الأشقر-  المبدعة جدًا في إلقائها وفي أدائها (وقد عبرت لها عن رغبتي أن تقرأ لي، فسألتني أن أرسل لها  قصائدي، وهيهات أن تصل إلى بيروت!

لقد كتب عني أو عن شعري الكثيرون، فأصدر خلدون الشيخ علي كتاب"صورة الشهيد الفلسطيني في أشعار فاروق مواسي” – جنين 1995م، حيث يضم الكتاب بين دفتيه كذلك مقالات لحسان نزال، عبد الناصر صالح، بدر الكيلاني، سناء بدوي وغيرهم.
 كما أصدر د.  يحيى زكريا الآغا كتاب"إضاءات في الشعر المعاصر” ج2، دار الحكمة – 1998م ضمّنه فصلاً بعنوان"فاروق مواسي – التزام، انصهار وانبعاث” (ص189 – 233).

 وكانت قد صدرت مقالات عديدة أذكر منها مقالات  دالية بشارة، أنطوان شلحت، محمود غنايم، صبحية الصالح، مفيد صيداوي، عبد اللطيف عقل، محمود مرعي، وائل سعيد، وحسين حمزة، وغيرهم.

من المقالات الهامة التي تناولت شعري كذلك مقال محمد عبد الله الجعيدي:"حضور الأندلس في الأدب الفلسطيني الحديث” (عالم الفكر، الكويت – العدد الرابع، يونيو 2000)، وحول هذا الموضوع أيضًا كتب رؤوبين سنير دراسته بالإنجليزية التي عنونها"نهوض الأندلس من دمشق.  الأندلس في الشعر العربي الحديث”

Hispanic Issues، volume 21 p 263 – 293.

حيث ذكَرني بإشارات متفرقة هنا وهناك، ولما سألته:

 لماذا تركزت على محمود درويش و"كمنجته” في الأندلس، وهو لم يتناول التفاعل مع هذه البلاد بصورة بيّـنة، وأغفلت مقطوعاتي التي تخدم دراستك وموضوعك بصورة مباشرة؟

صارحني وبجرأة:

“إن الكتابة العلمية أيضًا تجري وراء الأسماء المعروفة، فيكفي أن أقول"محمود درويش” حتى تجد الآذان صاغية والانفتاح لقبول ما أقول، فاعذرني، واعلم أنني لا أنكر أنك أكثر من تناول هذا الموضوع بشاعرية واقتناص للمكان”.

هنا لا بد من ذكر أن هناك بعض الدراسات قد تناولت شعري، وهي لطلاب في الجامعات ودور المعلمين.  وعلى ذكر ذلك، فانا أرفض أن يكتب أي طالب من طلابي دراسة عن شعري، حرصًا على الموضوعية، بيد أني أشجعهم على تناول قصائد الشعراء المحليين، حتى ولو تنكر لي بعضهم أو أساء.

***

كم يسعدني أن التقي من لم أكن أعرفه، فأجده يحفظ  من شعري.  وقصيدة"شوق الأرض دليل” التي اختزنت طاقات مقهورة في داخلي على ضوء الأحداث المتلاحقة في اضطهاد أبناء شعبي كتبتها بحرقة حقيقية، وقد أسعدني أن يقول لي أستاذي المرحوم حسن بشارة بعد أن قرأها:
“لقد نفست عن غيظنا كلنا”.

   أقول بعدها في نفسي: ثمة ما يستحق أن أكتب وأواصل. ذلك لأنني أتردد أحيانــًا  قبل أن امسك القلم، وأبحر في دنيا القصيدة، فمن الذي يقرأ اليوم حقــًا؟!  و"ماذا يفيد القول في روع الأعاصير”؟ 

ومما يثبّط قليلا أن الصحف تفتح أحضانها لكل"حكي”، واختلط القمح بالزؤان والشاعر بالشعرور، فاعتزلوا يا أولي الألباب. 

إن الحديث عن المحاولات البعيدة عن الأدب الذي يثبط العزيمة يعيدني إلى محاولاتي الأولى في تأسيس"الورشة الأدبية” لتدريب"الشعراء المبتدئين”، فكنت أدعو لذلك بعض الأدباء المعروفين ليناقشوا المتأدبين، وقد تناولت هذه الفكرة في حديثي عن رحلتي النقدية، وحبذا عودة الفكرة، وحبذا أن يقوم بذلك غيري.

غير أن علي واجبًا للاعتراف أن صديقي المرحوم نواف عبد حسن- القارئ المتميز كان قد عرفني إلى مجلة"الآداب” التي كنا نقرأها في جبعات حبيبة، فنتعرف إلى الأصوات الشعرية الجديدة، وعلى الأبعاد النقدية المختلفة، وكان يصر علي أن أتقبل الشعر الحر أكثر فأكثر، بل هو الذي غير اسمي المستعار(لا مستعار- حقيقة): "محمد إبراهيم”،  فكتبت اسمي في صحيفة"الأنباء” في بداية السبعينيات، وكان هو المواكِب والمصاحب لكل ما أكتب، حتى وإن كان له تحفظ هنا وهناك.

كما أن علي واجبــًا للشكر للدكتور فهد أبو خضرة والشاعر حنا أبو حنا اللذين ارتأيا أن أضم مختارات من شعري (بعد إحجامي عن ذلك)- لمختارات الشعر الفلسطيني التي صدرت عن مجلة"مواقف” العدد 24-25/2000م، وهي من اختياري وتقديمي.

وبعد..

فهذا مجمل لرحلتي الشعرية، وقفت خلالها في محطات ومعالم، صاحبتني، وكانت لك مني مواقف متباينة.
مهما يكن فإن الشاعر فيَّ ممثل لما نعانيه جميعًا، فما أنا إلا واحد منكم، قلبي ينبض بحبكم، ولن تضنوا علي بالقول"الله يعطيك العافية!”

مع العافية سأواصل المشوار، ومن يدري فلعل الشعر يحدث بعد ذلك أمرا. *

 

* ملاحظة: بالإضافة إلى ما ذكرت من دواويني  أصدرت الأعمال الشعرية الكاملة في مجلدين (إصدار مكتبة كل شيء، حيفا – 2005)، و أحب الناس- 2010.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


 

الهوية الفلسطينية في كتاباتي

 

 

إن الهوية الفلسطينية بارزة في كتاباتي الشعرية،وذلك عبر التجليات التالية:

1-    ذكر الاسم"فلسطين” مباشرة وغير مباشرة، تعبيرًا عن الانتماء والهوية.

2-    ذكر الأماكن والمواقع الفلسطينية من خلال إبراز النغمة التي تشي بالألم، وخاصة وصف قرى مهدمة ومهجورة من خلال تبيان المأساة التي ألمت بالشعب الفلسطيني.

3-    رثاء بعض الشخصيات الوطنية الفلسطينية.

4-    التركيز على بعض المترددات (الموتيفات) الفلسطينية نحو:

“الشهيد”،"الأرض”،"العَلَم”......

 

1-  ذكر"فلسطين”:

 

قلت في مطلع قصيدتي"حبي فلسطيني” :

الأرض أرضي وليس الشوق يبريني

                                              الشوق   يحدو   إلى   حبي فلسطيني

(خاطرتي والضوء، ص5)

ففي هذه القصيدة تحدثت عن نشأتي في وطني وعن حكاية المعاناة التي كانت:

فشردوها قرى كانت برغدتها                        من بروة،بصة،ميعار دامون

أنى  نظرت مئات مثلها نزحت                       أمام    ناظرنا   أطلال قاقون

يا أهلها أهلنا    يا طير منزلنا                  اقرأ سلامي على أحزان  محزون

وهذه القصيدة طويلة تتحدث عن عمق الانتماء، وفيها حكاية التشريد، وكيف أن أهالي عين غزال (من أقربائنا) حضروا إلى منزلنا بجموعهم الكثيرة الحزينة.

 

ويظهر اسم"فلسطين” في عدة قصائد كذلك:

ففي قصيدة"الخلاص من نهر الظمأ” التي تنبأت تمامًا بالانتفاضة –كما أرى- وكانت قد كتبت في كانون الأول 1987 م، قبل أيام من اندلاع الانتفاضة، قلت:

“ويصير الطفل معبأ

ويتكاثر أطفال ورجال ونساء وصبايا

والكل فلسطين وحكايا

...

وفلسطين أحرفها تجمع مذخورًا لغويّا

أحرفها تتكرر في نطق الطفل

أول ما ناغى أمه

يأتي هذا"الأبيض”- هذا الزاعم أن فلسطين – فلسطين

فلسط يــ يـ يـ يـ ن بلاده

       (الخروج من النهر ص 19)

 

بالطبع فاِن في لفظة"فلسطين” ما يدل على عمق غضب" الراوي الشاعر”، ومدى اتصاله بأرضها.

وقد جعلت"التطريز” أو"الأكروستك” في قصيدة"جميلة”- أي أن أوائل السطور تجمع كلمة"فلسطين”، وما زلت أذكر كيف ولدت القصيدة، ففي سفري من مجيدو إلى حيفا كنت أشاهد على يميني سلسلة الجبال والهضاب والمنخفضات، ومن العجيب أنني وجدتها تؤلف معا بتضاريسها  لفظة"فلسطين” فالّفت على التو :

حروفها قرأتها على شفاهها :

ففـجرها لصوتها ترتيلة الأعياد

ولـؤلؤ بصمتها يضمها

سـعدت عندما رأيتها

طيورها ترافق الأولاد

يـجمعون الورد والأحلام

ونــورهم مسلسل الكلام

     (الأعمال الكاملة،المجلد الأول ص 238)

 

وعندما خاطبت الطلاب في قصيدتي"المعلمون والأبناء” لخصت تجربة المعلمين – وأنا منهم:

          فلسطين على ساحات قلبي                     برسم النصر يعلو للسماء

          فيورق دوحنا    فجرًا نديًّا                    ويزهر صوتنا نبض الفداء

           (قبلة بعد الفراق،ص 38)

 

2- المكان الفلسطيني:

 

  كتبت قصائد كثيرة فيها ذكر للمواقع وفيها التحام بالمكان،وخصصت قصائد خاصة عن القدس (أربع قصائد) وقيسارية وعكا ويافا وحيفا (انظر الأعمال الكاملة ص256،237،236...... وكذلك"ما قبل البعد”،ص 27،26،172،8)

قلت في قصيدة  لي عن القدس :

“وسر القدس يشرق في سرائرنا”

(ما قبل البعد،9)

وتُظهر لغة (نحن) الانتماء والمشاركة العميقة،غير أن لغة المفرد"أنا” تظهر كذلك للتعبير عن هذا الحلم بالتواصل:

“ وأنا امضي في كل سبيل

بيدي سبحة

من زيتون الأعلاق"

(ن. م،ص18)

 

وتحدثت في"حيفا” عن رفقة الدرب الذين تفرقوا أيدي فلسطين :

 

بحضن البحر يا حيفا                قرأنا   سورة   الحب

نطل عليك  من أعلى                 ونذكر   رفقة الدرب

(الأعمال الكاملة، 237)

 

وكنت أذكرها تمامًا كما أذكر موج يافا:

ليافا إذ يعانق شاطئيـــــــــها       توالي الموج في ذكرى انتزاحي

(ن. م،ص256)

وقد عبرت في أكثر من قصيدة – وبسخرية – عن هذا التحريف في الأسماء الذي برع فيه المعتدي، فعين حوض تصبح(عين هود) وإجزم تغدو (كيرم مهرال) وقس على هذين......

      (انظر"الخروج من النهر”،من 19)

وقد وقفت على أطلال الديار في عين غزال وإجزم والسنديانة، ومما سجلته من عذاباتي قصيدة"عذاب المدى”، فقلت وأنا أصف بناية كانت مدرسة في"ماضي الزمان” :

“أطفالنا مضوا

الآخرون من أتوا مكانهم

وجرحنا درى به طير يرف فوق إجزم.."

(خاطرتي والضوء، ص 14)

هذا الانتماء انعكس أيضًا في خطابي للناقد إحسان عباس – ابن عين غزال وهو قريب لي، فقلت:

“ وجدتي عائشة

تلك التي أعطت أبي عينين زرقاوين

خالتك التي

ظلت تعيد

“لا بد للغريب أن يعود”.

 

وتظل قصيدة"الشيخ والبحر” التي تتحدث عن مسجد قيسارية الذي أضحى – بقدرة ظالم- حانة، وهناك يعترف الراوي الشاعر أنه – طلب كأسا"ليذكر أو ينسى...  يذكر..... يجتر مهانة”.  والقصيدة تقع في خمسة مقاطع رقّمتها أو رتبتها حسب الحروف ب،ل،ا،د،ي، وما أجملها إذ تُجمع!

إن أنس لا أنس باقة بلدي، فقد كتبت لها أنشودة مطلعها:

يا باقتي يا حلوتي     تألقي كالنجمة

ولم أنس بئر باقة إحدى معالمها، فختمت بالقول:

جعل الإله الماء كنز حياتنا       فتباركت بئر وكانت موطنــــا

                                                                                  أحب الناس، ص 31-33

 

3- رثاء الشخصيات الوطنية الفلسطينية:

 

ما من مرثية كتبتها إلا وأظهرت فيها البعد الوطني، وكم بالحري إذا كانت القصائد أصلاً قد كتبت لرثاء وطنيين بارزين مثل راشد حسين وعصام السرطاوي وعبد اللطيف الطيباوي وسامي مرعي وفهد القواسمي (الأعمال الكاملة، من 159،360، 303، 305، 306)، وكذلك أبو جهاد (قبلة بعد الفراق،ص 15)، وتوفيق زياد (لما فقدت معناها الأسماء، ص80)، وإبراهيم بيادسة (أحب الناس، ص 76)، وغيرهم..

قلت مخاطبًا أبا جهاد :

 

“ غدا أبا جهاد

غدا تعود

شوق أمطار تحن إلى المطر

غدا تعود

إلى روابينا فداء"

 

وفي خطابي لسامي مرعي وهو صديق لي،وكان يسكن قرية عرعرة القريبة من بلدي قلت:

هذي فلسطين  التي    قدستـــــــها                 مدت معانـــــــــقة إليك فمًا، يدا

 هذي فلسطين   التي    أحببتــها                 حملت على صدر شريطًا اســودا

 


 

5-    التركيز على بعض المترددات (الموتيفات)الفلسطينية:

 

لاحظ خلدون الشيخ علي في كتابه"صورة الشهيد الفلسطيني في أشعار فاروق مواسي” (منشورات المركز الفلسطيني للثقافة والإعلام – جنين،1995م) أن لفظة"الشهيد” لدي بارزة،  ووصفي لها فيه نوع من التقديس، فيقول :".... الشهداء عند مواسي لا يموتون، بل يطلون ممتدين، يطربون الذاكرة الفلسطينية الواعية بالألحان المقدسة، يتصاعدون نحو النجوم، يحملون معهم كل الأفكار النقية، ويقتلون الطوفان القوي لليأس.." (ص20)

اما"الأرض” فلا تكاد تخلو قصيدة من لفظها ذكرًا أو إيماء، بل إن بعض القصائد عن الحبيبة فيها ما يرمز للأرض، وفيها هذا الدمج المتماثل الذي شرع نوافذه أولا شاعرنا أبو سلمى.

وقصائدي الثلاث عن يوم الأرض (ديوان"يا وطني” ص3-17) تؤكد على هذا الارتباط بالأرض والإنسان الفلسطيني عليها، كما أن القصائد عن كفر قاسم وعن العذاب اليومي الذي يمارس علينا كلها كانت دليلاً واضحًا على هذه الهوية التي أشعر أنها غُمطت وقُمعت في غفلة من الزمن. وفي تقديري أن قصيدتي عن مصطفى كبها وذاكرة الوطن فيها هذا العشق الذي أتجاوب فيه وهذا النشاط في معرفة التفاصيل الفلسطينية، بالإضافة إلى القصيدة عن"المفتاح" الذي يحفظه اللاجئ، و"الجدار"  الذي يضيق الخناق، وكأنه أفعى تساورنا. (أحب الناس، 17، 23،26)

أما العلم الفلسطيني فقد أشرت إليه تعميمًا –أولاً في قصيدة كنت أطمح أن تُختار لتكون النشيد الوطني الفلسطيني (هكذا عبرت عن ذلك في أكثر من لقاء /حوار في أوائل التسعينيات) والقصيدة هي بعنوان"تتويج”:

 

الأمل المخضرّ على صفحة قلبي

يسألني يومًا... يومًـا عن دربي

يسألني هل أملك

أن أحفظ عِرضي

أن أعشق أرضي

والأمل المخضر يقول"نعم”

البسمة تزهر في عين الأطفال

وتغطي كل ألم

والهمة تشرق في عزم رجال

ويكون علم......

(الأعمال الكاملة، ص87)

 

 وصفت العلم الفلسطيني في أكثر من قصيدة، فقلت في قصيدتي"فهد القواسمي والوعد”:

يرفرف فــي ذرا وطنــــــي                           بـــعيـــن عيونـــنا يــــــــبدو

فخضرة لونـــــــــه الزاهي                           بآمال الفـــدا تحـــــــــــــــدو

وأبيضه بلون الطــــــــــهر                           أنقى صـــــفوه       الـــــود

  وأحمره   دم     قــــــــان                          هـــــو النيـــــران والشهــــد

وأسوده يذكـــــــر مــــــــا                          يـــلاقــــــي غــــادر وغــــــد

 (ن. م، ص306)

وفي موضع آخر قلت:

 

أعلام أمـــتنـــا خــــــفاقــة        أبدا        نرنــو لـــها أملاً،  والرمــــز لـــم يـــغب

 فــي أخضـــــر اللون آمال بدوحتنا          في أحمـــر اللـــون دم دافـــق اللهـــــــب

  فـي أسود اللون عباس بيارقـــــهــم     في أبيض اللون  من صافي الهوى الرغب

(ن. م،ص267)

وقد عبرت عن عمق هذا  الانتماء في قصيدتي"مجلس الأحبة” حيث أهديتها إلى أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني- الذي انعقد في عمان في أوائل الثمانينات، فقلت:

عيوننا تراقب الخطى

وخطونا يسابق المنى

في أرضنا الخصبــه

نقايض الأحبة الوفاء

وقبلة على جبين متعب أمين

يسير في ثقــــه

القدس من أسراره

إن لم تكن حبه

(الأعمال الكاملة، ص268)

وتمضي القصيدة في خطابها"يا أخوتي” حتى تتداخل في لغة (نحن) وما أنا إلا جزء منها:

“على شفاه طفلنا وشيخنا

فينتشي شبابنا مضاعف الهوى

في رحلة النوى

الله يا وطن”

 

***

ثمة ملاحظة لا بد من ذكرها :

إن البعد القومي (العربي) لا يكاد يظهر في قصائدي اللهم إلا هذه الومضات التاريخية هنا وهناك، ففي رثاء لعبد الناصر قلت:

هو درس  قد ثقفناه

هو حب    وشربناه

(الأعمال الكاملة، ص27)

أما"بكائية ليست كالبكاء” فهي في رثاء عبد المنعم رياض، فقلت بنوع من المشاركة العميقة :”يا أمَّـــــهُ يا أمنا  !”.

ولكن مع هذه المشاركة تظل فلسطين في نفس القصيدة لها وقعها الحاد:

فلــــسطين معاناتي ووجدي       وموتي ثم بعثي سرمــديـا

فلسطين هي الشهد المصفى      ونخل يسقط الرطب الجَنيا

(ن. م، ص31)

وقصيدتي" ندّ على أضرحة عراقية" فيها بكاء على الأمجاد العربية التي تُداس :

من أعماق الأحزان استفتيت فؤادي

هل تقدر أن تثبت في وجه الإعصار

السافح دم حساسيني..   وورودي

(ما قبل البعد، ص 29)

وقد ظهرت عاطفتي الدينية الوطنية في أكثر من قصيده نحو"القدس“ من وحي السيرة النبوية (الأعمال الكاملة ص236، 232).

اما نغمة" الكنعانية" التي أخذت تتردد كثيرًا فليس لها  إلا اثر واحد في قصائدي وهو استخدام لفظة (يبوس)، وذلك في الرد على الرسائل :

-” من أي زمان أنت أيا شاهد؟

- اسأل تلك الزيتونه

أعرفها منذ يبوس"

وهذا الاستخدام كان للدلالة على الرسوخ والقدامــة.

ويعود السبب في أن إغفالي البعد الكنعاني هو بسبب ضرورة إغفال مسألة " الحق التاريخي" الذي يدعيه الآخر.  فأنا لا ألجأ إلى تكذيب التاريخ الآخر بتاريخ مواز أو أسبق، وإنما اردعه بالواقع والتواصل وبالارتباط الحميم بالآن وهنا.

*   *   *

 

الشعر يخاطب العقل والعاطفة معًا، فلو كان مقصورًا على العقل لما كان شعرًا يعبر عن مشاعر وانفعالات، ولو كان عاطفة فقط لما حمل فكرًا وتأثيرًا وفعالية.
أجمل الشعر ما دعاك ودعا عاطفتك إلى اتخاذ موقف، أو إلى بناء علاقة إنسانية، وإلا فإن الشعر يظل بدون رسالة، وبدون معالجة تخالج المتلقي، فالرسالة من شأنها أن تدعو إلى التغيير، وكل تلقٍ حري به أن يدعو إلى ذلك.
فعندما أقول في قصيدتي" الشيخ والبحر":

"أطلب كأسًا

كي أذكر درسا

أذكر رأسا

أذكر أنسى أنسى أذكر أذكر أنسى

أجتر مهانة...."

فإنني أعبر عن عاطفة الغضب إزاء ما فعله الغاصب، وتراوحني مشاعر متفاوتة ومتباينة، ومن جهة أولى فإنني أدعو بفكرتي وبعاطفة منطقي أن يرفض المتلقي هذا الفعل المهين الذي جعل من المسجد حانة.

يستطيع الشاعر أن يتقمص همًا سياسيًا، وهمًا وجوديًا، وهمًا اجتماعيًا، فالخطاب الشعري يقاس بـ"كيف تقول"، لا بـ"ماذا تقول". وأدلل على ذلك مما أحبه من شعر توفيق زياد  (الذي كتب عنه عز الدين إسماعيل أنه أصدق الشعراء الفلسطينيين في كتابته):

"أناديكم

أشد على أياديكم

وأبوس الأرض تحت نعالكم

وأقول أفديكم"

ففي ندائه، بل بين حروف ندائه شاعرية مجسمة تتقمص أحاسيس – هي في التواصل الشعري ذات دينامية وتلاحم، وتترك أثرًا حميمًا ومحفزًا، وذلك رغم المباشرة التي لا أراها مخلة أو غامطة من شعرية النص.

 

تنتظم هواجسي وفق عوالم هي في الواقع، أو هي في الواقع الممكن، أحيانًا أرتبها، وأحيانا لا تنتظم في أي إطار لتنطلق مؤقتًا إلى فانتازيا، لكنها جميعًا تعبر وبصدق - وهذا هو خيط نسيجي- عن"أناي"،بكل تجليات الأنا، وتعارضاتها، وانعكاساتها، وبكل صورها ودواعي وجودها.

أمسك بيد غضبي وألمي وحبي، وأرافقها لنبحر في كلمات أسيانة، ونتقصى الشواطئ لعلنا نجد معًا مرفأ يتعاطف أو يرحب.

                               *              *                      *

البيئة هي الطبيعة والمجتمع، وما ينعكس فيهما من مرايا، وكتابتي لا تعمد إلى الطبيعة بما يكفي – رغم أنني كتبت عن البحر وعن مناظر في بانياس، وعن...

لكني أتركز على طبيعة المجتمع، وأنحي باللائمة على كل مظاهر القبح والشر والعدوان.
ومن جهة أخرى أستقصي مظاهر الجمال، وكم بالحري المرأة المخلوق الأجمل، فأراوغ وأناغي، وأداور وأحاور، وتطيب لي كل لحظة.

                      *                *                        *

أدبنا في الداخل له خصوصية تختلف عن أدب أهلنا في الضفة والقطاع، فنحن نخاطب اليهودي (ولا أعني الصهيوني أو المحتل) بإنسانية، بل نتعاون مع يهود يساريين في نضال مشترك ضد الاحتلال والغطرسة الحكومية العدوانية.

وعلاقتنا قائمة مع بعض الأدباء العبريين – الأمر الذي ينعدم لدى أخوتنا -، وذلك بحكم عيشنا المشترك، فنحن وبعض الأدباء العبريين نقيم أمسيات وندوات مشتركة، معظمها له موقف يدعم تطلعات الفلسطينيين وحقهم في إقامة دولتهم.

أود أن أشير هنا إلى أن بعض الأدباء العبريين  يعارضون القصائد التي لها تناغم سياسي، بدعوى أن السياسة تقتل الشعر، وهم في ذلك يلتقون مع بعض غلاة الحداثة لدينا.
هويتي في كتابي النثرية:

 

في القصة:

ثمة قصص تدل على الهوية التي يحاول الأعداء- أعني المتنكرين لحقي-  طمسها كقصتي التي عبرت فيها عنها- " لماذا شطبوا اسمي" (أمام المِرآة وقصص أخرى، ص 45).

أما قصه" حجر –علم" فهي تؤكد بفنية أنْ لا بد من قيام الدولة الفلسطينية (ص 7)....  بينما تـُظهر قصة (أين ولدي) واجب الذود عن  الوطن الفلسطيني (ص 101).

وظلت القصة-" أمام المرآة" تواصلاً عميقـًا مع غسان كنفاني الذي صرعته يد الغدر وهو  يلهج باسم وطنه (ص39)، وثمة عدد من القصص القصيرة جدًا تحكي حكاية الحال:"تيمائيل"،"حجر"،"حيفا"،"وطن"، يافا، وغيرها. (مرايا وحكايا، ص 34،73، 35، 20، 64).

 

أما في المقالات فقد تحدثت عن ضرورة الأغنية الجماعية الفلسطينية (حديث ذو شجون، ص3)، وعن ضرورة حفظ آثارنا الفلسطينية (ن. م، ص 21)، وعن أن الوطنية الحقة  هي المعاملة (ص7).

وفي كتابي (أدبيات –  مواقف نقدية) تحدثت عن ضرورة التعاون مع الأصوات اليهودية النقية التي تدعم قضيتنا (ص 88)، وكيف نعد أنثولوجيا الشعر الفلسطيني (ص 131)، و عن معنى أسماء القرى والمدن الفلسطينية (ص150).

كما ألفت كتابًا يتناول دراسات وقراءات في الشعر الفلسطيني (قصيدة وشاعر – الجزء الأول) يظهر فيه هذا التعلق بكل جميل في كتابتنا من إبداعنا نحن.

               

ولي عشرات الدراسات والأبحاث التي تتركز على الشعر الفلسطيني، وكذلك على القصة والرواية والبحث. ففي كتابي" هَدْي النجمة" كانت هناك دراسات أخرى في الشعر الفلسطيني نحو" شاهد على حصاد الجماجم" – عن مجزرة كفر قاسم، و” صورة اليهودي في الشعر الفلسطيني"، و" القدس في الشعر الفلسطيني الحديث"، (وكان هذا المقال قد نشر في كتيب منفرد، ثم طبعته وزارة الثقافة الفلسطينية في رام الله (سنة 2010) مضافًا إليه أنتولوجيا بالشعر الفلسطيني- قصيدة القدس). وكنت قد أصدرت أولاً- عرض ونقد في الشعر المحلي 1976، و الرؤيا والإشعاع – دراسات في الشعر الفلسطيني – 1984 م.

فيما بعد أصدرت نبض المحار (2009)، وفيه دراسات عن الأدب الفلسطيني، كما أصدرت كتاب محمود درويش- قراءات في شعره (2010).

***

وإذا عدت إلى الشعر فقد نشرت قصيدتي" شوق الأرض دليل". (الاتحاد 13 /4/2001) وفيها تلخيص للتجربة الانتمائية:

 

“ أهلي في الجرح الدامي النغّار

يا ويلي...

ويُلاحظ هذا الضمير (ياء المتكلم) الذي يقول لنا الكثير انتماء وعاطفة.  ولا يستطيع القارئ – أي قارئ – أن يسلخ هذه القصيدة عن الواقع الفلسطيني والانتماء العميق للقضية. 

وتسألني: هل الأديب ملتحم بالمجتمع؟

- وإلا فما معنى كتابته؟

 ولمن؟

 و هل هو مجرد نفح أو عبق أو إفراز يصدر منه؟

هل الإبداع لقوقعة الذات؟

لفظة" الأدب" في بداياتها مرتبطة بالمجتمع، سواء بمعنى الطعام، أم السلوك، أم الثقافة العامة، فما معنى أن نفصل بين الأديب وبين كيانه وكينونته؟!

الأديب مسؤول، وعليه تبعة القول والكلام حتى وسط الإعصار.

أقول ذلك موقنًا – مع ذلك - أنه لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فلا أطالب أديبًا أن يتصدى لنظام متغطرس بصورة مباشرة، فيقبع في غياهب السجون، ولا أطالب أديبًا أن يأتي إلى (التابوهات) أو المحظورات:السياسة، الدين، الجنس، فيتحدى بدون أن يتروى، ويطرح أفكارًا تنبو عن السائد المالوف وبصورة حادة.

فالرأي الأمثل أن يمسك الأديب العصا من وسطها، ويتصرف تبعًا لمقتضى الحال، فالمهم أن يكون في الصورةـ لا أن يصدق عليه القول:" لا في العير ولا في النفير".

 

على المستوى الشخصي أصدرت كتابًا نثريًا هو"حديث ذو شجون – مقالات اجتأدبية"، وبالطبع فقد نحتّ (اجتأدبية) من كلمتين:اجتماعية + أدبية، فكتبت عن ازدواجية السلوك، ومعنى الوطنية، وعن المعارك العائلية والقبلية، وعن القمع وقتل الأفكار، عن الرياضة وهوسها، وعن المتسلقين والمنتفخين، وكيف الحوار، وعن الشهادات"الأكاديمية" الكاذبة التي يشترونها وعن وعن....

فهذا الكتاب جاء ليؤكد أن الكتابة يجب أن تتلمس قضايانا اليومية.

أما في الشعر فقد كتبت من القصائد الاجتماعية" باسم الشرف" – عن جريمة قتل المرأة  باسم الشرف، ويستطيع المعنيّ أن يجدها في الشبكة، أو في أعمالي الشعرية. وكتبت عن بعض شباب اليوم وسلوكياتهم المرفوضة-"مأهاة من جيل اليوم"، وكتبت"جاهلية" عن الروح الطائفية / القبلية / العائلية التي تسود مجتمعنا، وهجوت  مظاهر مؤذية منفرة.

ويقيني أن كتاباتي السياسية الوطنية كانت تعبيرًا عن مشاعري ومشاعر أبناء مجتمعي.

ويحضرني قول شاعرنا محمود درويش في هذا السياق (أقصد محمود في بداياته لا في خواتيمه):

 

قصائدنا بلا لون ولا طعم ولا صوت

إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت

إذا لم يفهم البسطا معانيها

فأولى أن نذريها

ونخلد نحن للصمت

 

وأحب أن أعود إلى الصفحة الأولى في موقعي على الشبكة فهناك قدمت مبررًا لكتابتي في"جواز مرور":

 

"أكتب لأنني مضطر أن أقدم الثمرات وكأنني شجرة

قد تكون عذبة شهية، وقد لا تكون،

ولكني أحس أن هناك من يسعد بها،

يتلقفها/ يتغذى منها/ يستمرئها/ يلقي بنواتها التي قد تطلع شجرة أخرى.

كتاباتي قد لا تأتي طواعية وترفاً، بل تأتي تعبيرًا عن قلق ينتابني،

 أستحث التغيير نحو الأفضل والأمثل.

أبحث عن زمن ضائع قد أستعيده بصورة جديدة،

أو أناغي حاضرًا مؤلما،

أو مسعدًا  أخاف أن يمضي دون ذكر،

 أو أنتظر مستقبلأ.

أعيد تركيب الأشياء والعناصر كطفل،

وأتجشم مسؤوليتها كرجل،

وأنقد طبيعتها كشيخ.

أكتب حتى لا أموت!!!

 

من هنا تجد هذا التلاحم مع المجتمع، وتجد هذا الاهتمام بهم.

قلت في مناضل صديق يجيب عن التساؤل:

 

إني سمعتك عندما صمتت رجال

نمرًا وكنت الصوت لا تخشى الدجل

حييتُ فيك منافحًا أو ذائدا

عنا، وهذا الشوك وخز في المقل

فتحيله شوقًا إلى ضوء الأمل.

 

أخلص إلى القول: الأديب من المجتمع، وإلى المجتمع يعود.

 

 

 

 

 

 

......................................................................

1 حفزني على نشر هذا النص عن الانتماء – في حينه- طلب المرحوم عزت الغزاوي- رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين- فقد كان من المقرر قبل رحيله أن يجعله مادة في دراسته التي ستصدر في الإنجليزية عن"الهوية في كتابات أدبائنا”.

 


 

 

مع فدوى طوقان :

 

كانت قراءتي الأولى لفدوى كتاب"أخي إبراهيم” وأنا في الصف الثامن، لم يكن يهمني يومها إلا هذا الحب الحنون الذي توليه لأخيها إبراهيم.  وإبراهيم أعرفه، أو أعرف عنه، أليس هو صاحب قصيدة"ملائكة الرحمة” التي أحفظها؟

   وقرأتها ثانية في"وحدي مع الأيام”، وقد نشرته دار نشر في يافا أخذت تعيد طباعة بعض الكتب الصادرة في العالم العربي، وذلك في أواسط الخمسينيات. أذكر أنني انتبهت للشكل المقطوعي :

“حياتي دموع

وقلب ولوع

وشوق وديوان شعر وعود”

     إذن هكذا هي فدوى: حزينة ومتلهفة وفنانة.  وجذب نظري أنها كانت تهرب إلى سنابل القمح لتناجي وحدتها- كما في ديوانها- فهربها كان مثار تساؤلي في مخيلتي، ولكن: لماذا تفعل ذلك وهي فتاة؟

     وظلت قصائدها تصل إلينا  بين الحين والحين، نحفظها مرة، أو ندونها في دفاترنا مرات. 

 

     بعد أن أصابنا الدُّوار(وأي دوار؟؟!!) سنة سبع وستين أخذت فدوى تنشر قصائدها الوطنية الملتزمة في صحيفة"الاتحاد” ومنها:"مدينتي الحزينة”،"الطاعون”،"وحمزة”، وهذه القصيدة تقول فيها:

“هذه الأرض امرأة

في الأخاديد وفي الأرحام

سر الخصب واحد”

    إنها قصيدة أشبه بـ"البالاد” التي تذكرني بقصيدة ص.  عبد الصبور"شنق زهران”.

ظللت مشوقًا للتعرف إليها عن كثب، ذلك لأننا عندما نتعرف على الكبار نحقق ذواتنا ونزهو، فلماذا لا أفعل؟

    وهكذا قمت أنا وصديقي نواف عبد حسن – وهو صِنوي في الأدب- بزيارة إلى نابلس، ولم نسأل عن كنافة المدينة، فهناك شاعرة نتوق لرؤيتها وسماعها.

    جئنا أولا إلى بيتها القديم حيث أرشدونا إليه، فإذا هو قائم في السوق وعليه سور ضخم، وله باب حديدي أمامه شخص- أرشدنا إلى أنها تسكن في بيت خالتها غربي المدينة.

    استقبلتنا فدوى ببشاشة وأنس، كنت أنظر إليها وأنا أترنم بأبياتها:

“نادني من آخر الدنيا ألبي

كل درب لك يفضي فهو دربي

يا حبيبي أنت تحيا لتنادي

يا حبيبي أنا أحيا لألبي

...

كلما ناديتني جئت إليك

بكنوزي كلها ملك يديك

بينابيعي بأثماري بخصبي”

  

 تجاذبنا أطراف حديث الفكر والأدب والسياسة.  واطلعنا على مكتبتها، وفيها هذه الكتب التي كنا نحلم أن نراها.  حدثتها عن رحلتنا الأولى إلى القدس للصلاة في محراب المحتسب، وكيف نقعنا الغلة أو عثرنا على الكنز، كنا نجمع بين نقيضين – الاعتزاز بهذه الروائع،  والمذلة لهذا الوضع.

    انفعلت بهذه الزيارة فنشرت قصيدتي"حلم السلام”، وهي من قصائدي المنشورة الأولى، قلت فيها:

 فدوى فداؤك مهجتي وعزيمتي               شأني الوفا تأبى سواه شريعتي

والعهد يا فدوى يراودنا   إلى                     حلــم السلام لشعبنا المتشتت

والصبر يا خنساء   مر   علقم                   لكنـــه   مفتاحنا       للجـــنة

يا صوتك السحري يجمد مدمعي                يا سحرك الناري يرفد لوعتي

هذي الخطوب أتت لتنحت جانبي                الجن في جوفي، فلم أتفتـــت

فلقاؤنا  وكلامنا      وجراحنا                    أوحت إلي لأن أقول قصيدتي

   وكثرت رسائلنا، وكانت رسالتها الأولى بخطها المنمنم الجميل موضع اعتزازي وبهجتي، فعلى المغلف:"إلى الشاعر الرقيق.." إذن أنا رقيق بشهادة شاعرة كبيرة.....  فماذا يهمني بعدها ما ينكره  الآخرون؟

   وعلى ذكر هذه الشهادة فقد توجت كتابي"الجنى في الشعر الحديث” بمقتطفات من رسالة لها موجهة إلـي:

 

“استأثر بإعجابي –بحق- تناولك لأصول الصناعة اللفظية ومظاهر هذه المهارة الفنية التي تشكل أهم وسائل الشاعر لبلوغ غايته المتمثلة في خلق عمل فني متكامل. إن تناولك الذكي للقصائد المختارة ينم عن جهد كبير واجتهاد موفق استخدمت فيه كل ما تملك من حواس، ولا عجب وأنت الشاعر."  سأجعل هنا علامة الاكتفاء .... ".

ومع ذلك فعندما قرأها أحدهم ممن لا يعجبه العجب علّق قائلا:"إن فاروق هو الذي كتبها.."، فسامحه الله!.

     كنت أرسل لها قصائدها المترجمة إلى العبرية والمقابلات التي كانت تجريها الصحف، وأحيانًا أعيد لها صياغة الجمل إلى العربية حتى توازن بين ما قالته وبين ما نشر، وبذلك تفحص مدى أمانة الترجمة.  وقد راقت لي هذه الفكرة حقًا- أي الترجمة المعاكسة- لفحص الأمانة/الخيانة في الترجمة.

  ثم دعتني فدوى دعوة خاصة – النّقَرى- لحضور قراءاتها الشعرية في مكتبة بلدية نابلس.  وكانت هذه هي المرة الأولى –كما قالت لي- تشارك في لقاء أدبي جماهيري في مدينتها.

    قالت: شاركت في مدارس البنات بدعوة من هذه المعلمة أو تلك، ولكني اليوم أقف أمام حشد من أهلي الطيبين.

وكانت قراءاتها ممتعة شجية، ومتدفقة بالشاعرية، ها صوتها يتوتر في"نبوءة العرافة”:

“لكنما الرياح في هبوبها

تقول حاذري

إخوتك السبعة

تقول حاذري

إخوتك السبعة

تقول حاذري

إخوتك السبعة."

  كانت الدمعة تجول في المآقي وهي تقرأ"وقفة عند جسر اللنبي”:

“ليت للبراق عينا

آه يا ذل الإسار

حقدي رهيب موغل حتى القرار

صخرة قلبي وكبريت وفوارة نار

ألف هند تحت جلدي

 

  أذكر أن هذا السطر الأخير جعل القيامة تقوم في الصحافة العبرية – وذلك بُعيد نشرها، حتى أن ديان سألها عن هذا المعنى الذي شرحه له مستشاروه.

  أهدتني فدوى نسخًا من كتبها، كما أهدتني صورة جميلة لها على بطاقة لتظل صورة مصاحبة للكلمات.

  ثم حضرت فدوى إلى حيفا، وأجرت لها"الاتحاد” استقبالا حضره لفيف من أدبائنا. قرأت أمامنا"لن أبكي”، حيث وصفت فيها يافا:

“وفي فوضى حطام الدور

بين الردم والشوك

وقفت وقلت للعينين: يا عيني

قفا نبك."

 

   وفي هذه القصيدة غصّت قلوبنا بالأحزان عندما خاطبت شعراءنا في الداخل:

“وها أنا يا أحبائي هنا معكم

لأقبس منكم جمرة

لآخذ يا مصابيح الدجى

من زيتكم قطرة

.....

وكيف أمامكم أبكي

يمينًا بعد هذا اليوم لن أبكي”

   وكان لا بد أن يجيبها صوت محمود درويش المتفائل رغم عمق المأساة والجرح:

“نحن في حل من التذكار فالكرمل فينا

وعلى أهدابنا عشب الجليل

لا تقولي: ليتنا نركض كالنهر إليها

لا تقولي...

نحن في لحم بلادي وهي فينا."

***

  تناولت شعر فدوى في دراسة لي تحت عنوان"قصائد سياسية- قصائد غنائية” وقد صدّرت الدراسة بما قاله درويش في القصيدة نفسها:

“عندما كنت تغنين رأيت الشرفات

تهجر الجدران والساحة ترتد إلى حضن الجبل

لم نكن نسمع موسيقى ولا نبصر لون الكلمات

كان  في الغرفة مليون بطل”.

  

 وفي الدراسة رأيت أن شعرها تعبر عنه ضمن لوحة، ومنها ما هو قصصي – وليس بالضرورة فيها تقيد بقواعد القصة في مفهومها المألوف –، ورأيت أن الغنائية التي كانت تلجأ إليها كانت وسيلة اعترافية تنقل فيها مشاعرها الوطنية إلى القارئ، وذلك بأساليب الترابط والتكرار والإيقاع وتردد موتيفات"القمر” و”الطير” و”الزهر”، وذلك في إطار نماذج كلاسيكية ذات شحنات موسيقية.  (الرؤيا والإشعاع، 1984، ص23). وكنت بذلك أعبر أيضًا عن تحفظي من رأي الأستاذ س.  سوميخ الذي ذكره في مجلة"قيشت” بأن الشاعرة رومانتية بطبعها أولاً وقبلاً، وهذا هو الأصل.

***

ولما أن كنت من الفعالين في تغيير مناهج الأدب العربي في مدارسنا فقد كان لاختيار قصيدة فدوى"صلاة إلى العام الجديد” من مجموعة"أعطنا حبًا” قبول لدى معلمينا وطلابنا – رغم تحفظ بعضهم من شعر التفعيلة.

  فكان أن ألقيت أضواء على هذه القصيدة في كتابي المعد للطلاب"الجنى في الشعر الحديث”، وتوقفت بشكل خاص على التطور في بناء القصيدة والاتساق المتواصل وتراتيبية القصيدة.  فهي تبدأ بالمقدمة وبطلب الحب، ثم تأتي الأجنحة، فالنور حتى تصل الذروة، أو أن الترتيب يتعلق بالمكان: الأرض، بين الأرض والسماء، ما فوق السماء،.. 

  وتركت أسئلة للنقاش حول القضية التي دارت الشاعرة في فلكها – ولا بد من ذلك في كل قصيدة حديثة، إذا لم تكن هذيانًا: هل هي الوطن؟ المرأة؟ الإنسان العربي في فترة المد القومي؟ (كتبت القصيدة ليلة رأس السنة 1958).

  ولا بد لي من أن أسوق رأيًا لها أسمعتنا إياه في إحدى زياراتنا.

 قالت:"أحلم أن يكون في كل قرية من الوطن العربي الكبير من هو منكم يا عرب الداخل، ممن تعمد بالمعاناة وأخلص للقضية.."

 ولأني كنت أردد اسمها في مجالسي فقد حلا لبعضهم أن يشيع بأنني سأخطب الشاعرة، وقد نسي أنها ولدت هي وأمي في نفس السنة، ويبدو أن الذي يريد أن يشيع شائعة لا يهمه مدى إعمال المنطق قبلها.  أذكر ذلك لأدل بمدى المعزة التي نكنها للشاعرة، ولا بد من الاعتراف في كتابة كل سيرة.

  في زيارة أخرى قرأت لنا صفحات من سيرتها"رحلة جبلية رحلة صعبة”، وكانت متهيبة من نشرها. لكني أخذت بصدق الأداء وملكة التعبير وبعمق الثقافة التي تشع في ثنايا النص، فأظهرت إعجابي المتناهي بنصوصها، بل هو إعجاب أكثر مما هو من شعرها.

  يومها صاحبني أحد الأصدقاء، وقد استعار من مكتبتها كتاب جبرا"الحرية والطوفان” وكان هذا الكتاب مفقودًا في الأسواق –. غضبت فدوى- فيما بعد- لأن الكتاب لم يعد أدراجه وعبرت عن غضبها في كتابها"الرحلة الأصعب” (ص27-28) ناسية أننا جميعًا نفقد كتبًا من مكتباتنا، وقد لا نعيد كتبًا أخرى لأصدقائنا – سنة الله في أدبائه.

   وقد أشار إلى هذه الحادثة كذلك جبرا في كتابه"معايشة النمر وأوراق أخرى” (ص51)، وذلك في معرض حديثه عن استحصال الأدباء للكتاب، ولكن جبرا كان كريمًا، فقال مخاطبًا الشخص الذي"لطش” كتابه:

 "فليهنأ به إذن سارقي”.

في أواسط التسعينيات كثيرًا ما كنا ندعى للقاءات ومهرجانات أدبية فلسطينية، فكان أن التقينا فدوى في أكثر من لقاء- من أجملها سهرة ممتعة قضيناها بصحبة الأديب الدمث يحيى يخلف.

  في لقاء آخر للجنة المبدعين العرب واليهود (30 تموز 1994) جمعنا إميل حبيبي ويورام كانيوك في لقاء سلامي يدعو إلى إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وكان ذلك في نابلس،. يومها كنت مترجمًا في أكثر من محضر، وما زلت أذكر لقاء الشاعرتين فدوى ودالية رابيكوفتش، وكيف تحفظت فدوى من بعض أقوال الشاعرة اليهودية رغم مشاعرها الإنسانية المشاركة لقضيتنا ومعاناتنا. كنت أترجم، فإذا تعبت كانت اللغة الإنجليزية تحاول أن تجمع بينهما.

***

  دعتني جامعة النجاح في 18/11/1998 لحضور حفل تكريمها بالدكتوراه الفخرية (وذلك بعد بضعة أشهر من حفل آخر حصلت فيه الشاعرة على جائزة فلسطين في الشعر). اشترطت أن ألقي كلمة في تكريمها لما لها من مكانة في نفسي.

  ارتجلت كلمتي، وقرأت من شعرها ومن شعري، وكيف رسخت في ذهني.  وكانت فدوى تنظر إلي وعيناها مغرورقتان بالدمع.  بعد أن أنهيت كلمتي قبلتها على وجنتيها، وغالبًا ما أفعل ذلك كلما التقيتها- لأنني أحس بهذا القرب البريء الرائق الرقيق.

  دعينا لتناول الغداء جلسنا معًا، وكان ابن أخيها جعفر إبراهيم طوقان يجالسنا.  قلت لجعفر:"عندما تلقي كلمتك كنت أغمض عيني، أتدري لماذا"؟ قال: لا.

  قلت:"إن أكثر الأبناء يحملون في أصواتهم صوت الأب”.

  ويبقى أن نسأل فدوى عن مدى التشابه بين الصوتين. 

قالت:”قد تستغرب أن الصوت شبيه إلى حد بعيد، وكأنه هو- هذا ما أذكره من صوته المسجل في غرامافون قديم”.

  قلت لها: لقد جمع المتوكل طه كتابات لإبراهيم في كتابه"الكنوز- مؤسسة الأسوار 1998” ضمنها قصائد وتعليقات من آثار الشاعر وجدها بخط يد في منزلك بين أوراقه وأشيائه وصوره، ولكنه لم يحو قصة إبراهيم"متى الوفاء؟”.

 قالت: أنى لك هذه؟

 قلت: لدي عدد قديم من مجلة"الأمالي” البيروتية سنة 1940، ويظهر لي أن تصويبات القصة كانت بخط يده.

 قالت: أرجوك أن تزودني بها.  وأنا بالانتظار.

بعد أن أرسلت الأصل لها، وصورة عنه للمتوكل – خدمة للناحية العلمية- وردتني رسالة فدوى المؤرخة في 4/1/1999م:

 " أحييك وأشتاقك، وأتقدم إليك بأصدق مشاعر التقديم والامتنان إذ وافيتني بقصة إبراهيم، وقد تساءلت: أين ذهبت يا ترى؟!

  كم أسعدني حضورك الاحتفال، وكم كان يبهجني لو أنك أرفقت برسالتك نسخة من الكلمة التي شرفتني بها، فهل تفعل؟ أرجو ذلك...

                             أشكرك وأشكرك وأشكرك

  مع محبتي

                                                                                                    فدوى طوقان

 

وأخيرًا

يا عزيزتي فدوى

لعل هذه الصفحات تشرفني أنا، وأنا أكتب سيرتي لا سيرتك، فأرجو أن تجدي فيها محبتي كذلك. ملاحظة: اطلعت فدوى على هذه الرحلة معها، إذ نشرتها في أكثر من صحيفة، فكتبت لي بعد أن قرأتها:

فرحت بالمقال كثيرًا، وسأظل أعتز به كثيرًا.  أشكرك وأشكرك أيها الإنسان الجميل النبيل.

                                                                                   27 / 5 / 1999.

وأخيرًا.....

يا عزيزتي فدوى

لعل هذه الصفحات تشرفني أنا، وأنا اكتب سيرتي لا سيرتك، فأرجو أن تجدي فيها محبتي كذلك.

 

 


 

 

مع عبد الوهاب البيّاتــي:

 

كان لقائي الأول بالبياتــي في معرض الكتاب التاسع عشر في القاهرة. كان لقاء عابرًا، ولكنه مؤثر، فها هو الشاعر الذي كنت أقرأ له:

“ لاشيء يذكر، لم تزل يافا وما زال الرفاق

تحت الجسور وفوق أعمدة الضياء

يتأرجحون بلا رؤوس في الهواء

ولم يزل دمنا المراق

على حوائطها القديمة، واللصوص

...

يافا نعود غدا إليك مع الحصاد

ومع السنونو والربيع

ومع الرفاق العائدين من المنافي والسجون

ومع الضحى والقبّـرات

والأمهات..."

(أباريق مهمشة،ص12)

ولعل قصيدته"الأعداء” والشتائم التي فيها، هي أكثر ما علق في حافظتي: و”القطط العمياء تلد القطط العمياء”،  إذن هذا هو البياتي.......  تشرفنا كثيرًا.

قال هو لا يدري أننا لا نستطيع زيارة الأردن: لماذا لا تأتي إلى عمان. سنلتقي حتمًا....  وهكذا كان، والتقينا.

 

***

استطعنا أن نزور عمان في أوائل آذار 1995.  اتصلت بالبياتي فرحب بي، بل كلّف  الشاعر العراقي علي الشلاه ليصحبني إلى مجلسه في"الفينيق”.

هناك تعرفت إلى مديرة "الفينيق” سعاد الدباح – بنت بلدنا دير الأسد-، وقدمت بعض نتاجي لها ولأبي علي، وكانت سهرة ممتعة.  فها أنا في صحبة الشاعر الذي حلّلت قصيدته لطلابنا في كتابي "الجنى"، وهي "سوق القرية” التي هي ضمن المقرر؟

وعدني أبو علي أن يزورني ظهيرة اليوم التالي في الفندق الذي أقيم فيه.

عندما حضر كان يحمل عددًا من مؤلفاته التي خصني بها، ومنها شعره المترجم إلى الإنجليزية –Love Death and Exile – ترجمة بسام خليل فرنجية، وكتب في الإهداء: إلى الأخ العزيز الشاعر الدكتور فاروق مواسي مع المحبة والتحية.

المخلص

عبد الوهاب البياتي

عمان 4/3/1995م

 

وثمة كتب أخرى عليها الإهداء بشكل مختلف، وهي تشي بمحبة هذا الرجل لنا – نحن الذين وفدنا إليه من الداخل لنسلم عليه – قال البياتي: قرأت كتبك التي أهديتنيها.

-         كتابك يا فاروق عن السياب من أجود وأجمل ما قرأت عنه، ويجب أن يُنشر ويُعرَّف عنه.  (لم تُجدِ هذه الشهادة لدى بعض دور النشر في عمان، ولا غيرها).
أما كتابك في المقالات النقدية"أدبيات”  فقد تناول موضوعات جدية ومهمة، وأرى أن تكون الدراسة الواحدة منه موسعة على مقالات أو حلقات تتناول ذلك بالتفصيل والإسهاب.

-         تحليلك لقصيدتي"سوق القرية” متميز، وسأنشره في أحد الكتب التي تتناول شعري.

ولكنه لم يذكر شعري بخير أو بشر، ولا يحق لي أن أظن سوءًا، فتقريظه غطى عينيّ.

حتى إذا حضرت زوجي من حفلة غنائية أحياها كاظم الساهر قلت لها على مسمع منه، وهو في فندقي: كنت تستمعين إلى أفضل مغن عراقي، وها أنا استمع إلى أعظم شاعر عراقي.  رحبت زوجتي به، فحيّاها وأوصاها علي، وقال جملاً سأبخس نفسي هذه المرة ولا أقولها، لأنها تقع في دائرة المجاملة والإطراءات المعهودة في الشعب العراقي  عامة.

عندما حدثته عن قصائد "أندلسيات”، وقرأت منها اقترح علي أن أكتب للملحق الإسباني في القاهرة، وأرفق القصائد، وذكر لي أنهم تحدثوا معه عن لقاء ثقافي يضم الشعراء العرب الذين كتبوا عن الأندلس، ووعدني أن يقترح اسمي ضمن الشعراء الضيوف.
  وعشت على حلم جميل. ..... وهيهات!!

ثم كانت لي زيارة أخرى إلى عمان (12/10/1996م) يومها استقبلني بدماثة ورقة معهودتين، وكان بصحبتي الصديق نواف عبد حسن، وحضر اللقاء نصيف الناصري (ساعده الأيمن)، وعلي عبد الأمير، ومحمد تركي الأنصاري.

وعندما استبدت به سَورة الشراب بدت على أبي علي أمارات الغضب والغيرة بسبب شهرة محمود درويش، فأخذ يطلق العبارات الجارحة، يسخر آنًا ويشتم آنا، يقص حكاية طويلة ليدل فيها على قبوله ولطافته، بينما الآخرون – وخاصة الشعراء المعروفين فلهم حكايات في البخل أو الضعف أو الفضائح.
 (عندما التقيت درويش في فندق عمان، وعرف أنني كنت مع البياتي سألني أول ما سال: ألم يشتم؟! قلت له: بالعكس، امتدحك.  قال: عجيب!!).

قلت لأبي علي: إلى متى هذا التنكر لأدبنا الفلسطيني الذي انطلق بعد الموجة الأولى؟!

قال: أنتم على حق.  لديكم طاقات عظيمة، وقد تعرفت إلى الكثيرين، ولا أملك إلا الاحترام لهم.  ولكن ما لا يروق لي – وبصراحة – أنكم تهاجمون بعضكم بعضًا.  ناشد البياتــي مريديه أن يكتبوا ويشجعوا الكتابة عن أدبنا، فهذا حق لنا عندهم.  وعشنا على حلم! وهيهات!

في زيارتي يوم 9/2/1997م إلى المقهى/ المطعم الذي اعتاد البياتــي الجلوس فيه التقيت الشاعر حسب الشيخ جعفر الذي كنت اقرأ له، وكان التعارف سريعا ينضح بالحب.
  حضر البياتــي وكان يحمل معه مجموعة من الكتب التي تتناول الفنون القديمة، وهي باهظة الثمن. كان مضيفًا لنا، وكان يتنقل بيننا وبين مائدة أخرى، ويبدو أنه استضاف المتحلّــقين حولها كذلك.

 

                                                                            ***

في شباط 1999م رأيته في القاهرة جالسًا ينصت إلى مناقشة كتاب صدر لهالة البدري يقدمها إدوار الخراط.  لم أشأ أن أزعجه مع أني توجست خيفة أن يكون هذا اللقاء لقاء أخيرًا معه.  جلست إلى جانبه، وطبعت قبلة سريعة على وجنته.  حياتي بحرارة كعهدي به، ولكني لاحظت أن وجهه شاحب، وعينيه غائرتان كليلتان تتابعان بجهد ما يقول المحاضر.

وبقدر ما كان يحسن الاستماع. كنا نتجاذب أطراف الحديث في الأدب والفكر، زودته بمجلة (الكرمل) الأكاديمية (الصادرة في حيفا)، وفيها مقالات د. رؤوبين سنير عن شعره.  قرأها وأُعجب بها أيما إعجاب.  بل قال إن دراساته فيها مكنة وعمق، ولكم أحبُّ أن تصدر في كتاب!
 (صدرت فيما بعد تحت عنوان:ركعتان في العشق، دار الساقي، لندن – 2002).

سألته: وهل يصعب أن توصي بنشرها في دار نشر عربية؟ لقد نشروا بعض كتب الأستاذ موريه.

قال: سأثير شبهات أنا في غنى عنها، ولكن إذا نُشر الكتاب في بلادكم فسيكون من السهل علينا إعادة طباعته هنا.

قلت لزميلي في كلية  غوردون – سنير ما قاله البياتي، فقال: ستنشر الكتاب"منشورات الجمل”، وأرجو أن يصدر الكتاب حتى أقدمه هدية له، وأرجو أن تنقل تحياتي له وتقديري كذلك.

***

...  وظل حديث أو حوار بيني وبينه يحمل صدى:

سألته: أفدني من خبراتك - هل تبقى أمتنا في هذه الانتكاسات والتشرذمات؟ أليس للمقاييس القبلية والمعايير الدينية دخل في تحديد هويتنا...  إن كان لنا اليوم هوية؟!

أجاب: نحن مررنا محنًا، وستمر علينا محن أخرى وعواصف أعتـى، ولكن لا بد مما ليس منه بد، فنحن شعب كالشعوب، المستقبل سيضيء حتمًا، وسيكون النور في نهاية النفق.

-         وهل هناك ضوء حقًا ما دام الحكام يسوقون الإملاق والعوز إلى شعوب تبحث عن اللقمة وتحاشي النقمة؟

-         طبيعة الأمر ستؤدي إلى صورة أبهى وأزهى، فنحن أمام عواصف عابرة.

 

***

بعد توجهه إلى دمشق حاولت الاتصال به أكثر من مرة، ولكني كنت أسمع عبر الهاتف أصواتــًا مبهمة، وكأنها من أعماق البحار تحمل كلمات ورموزًا غريبة.

ومع نعيه الذي آلمني أعود إلى كلماته وأشعاره، فأجد بها رموزًا، ولكنها ذات أصوات منطلقة داعية إلى جمالية الحياة ونبل الإنسان، فيها رفض للدجل ومباركة لكل أصالة.

 

***

كتبت في  صحيفة"فصل المقال” (13/8/1999م) تحت عنوان"البياتي في مدينة الموتى”:

“ هذا الشاعر العراقي المكنى أبو علي الذي بدا واقعيًا وانتهى صوفيًا كانت جلساته معنا أشبه برحلة شائقة ماتعة.  إنه يحدّث فلا تمل، يضحك، يشرب، يجود، ينصت، يسأل، يجيب.....

قلت له: من أين لك هذا الحب الذي يكفي لعشرات الحسناوات قبل الحديث عن حب آخر مفترض؟ (ذكرته برضا المصرية الباهرة إذ كانت ترمقه – من بيننا – وحده).

قال لي: مباهج الحياة ارتضتها، فماذا أطلب بعد؟

قلت له: عرفت السر يا من تعشق معنى العشق الأبدي في حلك وترحالك، ولكن كيف حال عائشة؟!

قال: هي تتبدل، لكن الجوهر واحد.

قلت: وهل عائشة حقًا كانت كاسمها عائشة حية؟

قال: نعم. جارة لي وارتحلت.

قلت: إلى أين؟

-         إلى بلد فيها"متى” و"أين”.

-         هل لقيتها عرضًا؟

-         لقيتها. لكن الدنيا تغيرت فأعرضت.

-         هل تسمح لي أن أعرض في حضرتك شعرًا لي قلته قديمًا، وربما بإيحاء منك؟!

-         قل، وأنا اسمع.

 

-   " آه يا اِمرأة حلت بقلبي فجأة

       أين أنت اليوم"؟؟

 

-         إن عائشتي ألهمتني، حفزتني، دعتني إلى موائد الإلهام.

-         ولكن، يا أبا علي لماذا فعلتها ومت؟ لماذا مضيت؟! لماذا رحلت؟

-         انا أحب المدن، فلأدخل مدينة جديدة – مدينة الموتى – ولن تكون كابوسًا، فربما سأجد هناك حوراء عيناء، أو سأجد عائشتي في العلاء.

-         ماذا ستفعل كذلك يا أمير الفقراء؟

-         سأنتظركم واحدًا واحدًا حتى نقيم ندوة شعرية، فلعل هناك من يصغي إليها!

 

 


 

مع نزار قباني:

 

 

أعترف أن لنزار قباني تأثيرًا على كتابتي، وعلى الكثير مما أدين به، وهذه مكتبتي تزخر بمجمل نتاجه شعرًا ونثرًا.

عندما قرأت نزارًا أول مرة كنت طالبـًا في الثانوية، أدهشتني جرأته في ديوان"قالت لي السمراء”" صدر سنة 1944” نقلت الكتاب بخط يدي، كعهد أبناء جيلي ممن يتعشقون الكتاب، ويستصعبون الحصول عليه. رددت أبياتـًا فيها جرأة لم أكن أحلم أن أقرأها، بل أرددها، فأمامي شاعر يموسق الكلمة، يضمّخها عطرًا، فأخذتْ عفويته تلامس شغاف قلبي، وتدلني على دروب الحب، ولا يهمني من تكون البطلة..  كنت أردد:

وشجعت نهديــك فاســـــتكبرا            علــى الله حتــى..  فلم يسجدا

 

جرأة في المضمون، وجرأة في الشكل -"حتى فلم.. .......".

 

سمراء صبي نهدك الأسمر في دنيا فمي

فكي الغلالة واسفري عن نهدك المتضرم

نهداك ما خلقا للثوب لكن للفم

مجنونة من مر عهد شبابها لم تلثم

***

تصوروا كيف يفعل هذا الشعر فاعليته على جيل مراهق، ولا أحسب المراهقة تنحصر في جيل محدد.

كان د. محمود غنايم في أواخر الستينيات يستكشف الأجواء الأدبية ويتعشقها، اقترحت عليه أن يجمع كل ما قاله نزار في" النهد”، واتفقنا أنه أبدع كثيرًا في رسمه، ولا أدري أين هذه المجموعة في أوراقه، وهل سماها” نهديات” كما اتفقنا؟ ويبقى من الموضوع فكرته.

بهرنا أنا وجيلي صوتُ فيروز وهي تغني:

 

لا تسـألوني ما اسمــه حبيبـي        أخشى عليـكم ضوعــة الطيـوب

واللـــه لـو بحـــــت بـأي حـرف     تـــناثـــر الـليلـك فـي الـــدروب

 

فرأيت في هذه القصيدة صدقًًا يلائم سرية عشق كل منا، وهناك الليلك لغة التخييل التي تجعله يتكدس في الدروب، ثم تكررت الأغاني"أيظن”،"ماذا أقول له”.........

فشعرت أن الشعر كالماء والهواء وتغريد الطيور الملونة، هنا مواكب الشعر- السهل الممتنع، المدينة الفاضلة للعشاق، وها أنا أكشف شاعرًا يجعل الشعر خبزًا وماء وطيبًا.

                                                        ***

في حصة الأدب- حيث كنت أدرُس في الجامعة-  طلب الأستاذ أن ألقي قصيدة" خبز وحشيش وقمر”، فقرأتها بانفعال استدعى التصفيق، لكني يومها لم أسبر غورها.

ومن يدري إن كنت قدمت لطلابنا شرحًا كافيًا لها في كتابي"الجنى في الشعر الحديث” - 1983، فهذه القصيدة مشحونة بالمتفجرات القيمية، وترفض حالة التخدير الشمولية- حالة الاستكانة ؛ يخاطب الهلال فيقول:

أيها الرب الرخامي المعلق

أيها الشيء الذي ليس يصدق

دمت للشرق لنا عنقود ماس

للملايين التي قد عطلت فيها الحواس...

 

  في أسئلة النقاش سألت :

 

“يرى البعض أن الشاعر انتقل في خطابه الهلال وأصبح وكأنه يخاطب الله،....  هل ترى ذلك؟"كيف تثبته أو تنفيه؟” (ولم يكن السؤال مجرد سؤال)، وكم بالحري إذا وافقت نزارًا على ما ذكره في مقدمة القصيدة – هذه القصيدة التي كان قد نشرها في مجلة الآداب، (آذار 1955)، حيث يرى أن وظيفة الفن هي تسليط النور على المشكلة، وفتح الستارة على المأساة دون تدخل في التفاصيل والحلول.

لم يكن إدخال القصيدة في مناهج التدريس سهلاً، وأذكر أنني دُعيت إلى المحكمة في حيفا لأكون شاهد دفاع مع معلم في ثانوية أم الفحم، وكانت البلدية قد أقالته بسبب تعليمه الإلحاد من خلال هذه القصيدة، وذلك في قول نزار:

 

....  الملايين التي تركض من غير نعال

والتي تؤمن في أربع زوجات وفي يوم القيامة

أبدًا ما عرفت شكل الدواء

 

قلت يومها:إن الشاعر رافض للقيم الشكلية،- لكنه ليس بالضرورة – متصديًا للدين في الجوهر، فالأدب فيه رموز وإشارات يمكن أن تكون دلالات لمعان أخرى، فليس كل من قرأ يحسن التأويل إلى درجة الحكم. وسرني بعد ذلك أن سوي الأمر.

وصرت من حبي لأدب نزار أبحث عن نتاجاته في مكتبة من لا يقرأها، وأستأثر بها، من باب التحليل للذات القارئة- بدلاً من وضع الكتاب على  رفوف في أحضان الغبار.

نشر نزار قصيدته"هوامش على دفتر النكسة” فهزتني مع الهزة في حزيران الذي لا ينسى، وكم رددت بين سياق وآخر:

 

ما دخل اليهود من حدودنا

وإنما تسربوا كالنمل من عيوبنا....

يا وطني الحزين

حولتني بلحظة

من شاعر يكتب شعر الحب والحنين

لشاعر يكتب بالسكين..

خلاصة القضية

توجز في عبارة

لقد لبسنا قشرة الحضارة

والروح جاهلية.

 

وقد جذب نظري كذلك موقف الشاعر من سلطة المجتمع المتنكرة للمرأة العربية:

 

يا سيدي

يا سيدي السلطان

لقد خسرت الحرب مرتين

لأن نصف شعبنا ليس له لسان

 لأن نصف شعبنا محاصر كالنمل والجرذان

في داخل الجدران..

 

نزار إذن  يريدها ثورة قامعة للقديم، ولا يرى إلا الأطفال مناطًا للآمال، وما أصعب الحال حيث ظل الممثلون- الحكام متربعين على دسوتهم:

 

احترق المسرح من أركانه

ولم يمت- بعد الممثلون

 

ظل نثر نزار يشدني لا أقل من شعره- إن لم يكن أكثر....

 قلت في كتابي" أدبيات- ص96”:

“ ما أقرب نثر نزار على أنفاس شعره.  لغته هي هي، تحمل نبضه وهيامه، تعكس خفايا روحه وأحلامه، تعيش في أعماقه، تحلق في آفاقه، تجري دافقة بين ذاته وموضوعه.  وصدق نزار إذ سمّى طريقته في الكتابة"مدرسة” ودعاها"النزارية”.

وهذه النزارية لها عشاقها ومريدوها، ولها المتحفظون منها أو النافرون عنها، ولكنهم جميعًا يترقبون كل إبداع جديد فيها، ولا يستطيعون أن يمروا عنها مرورًا عابرًا”.

 

****

سألتني المذيعة: هل يقدر الرجل على أن يعبّر عن مشاعر المرأة أكثر منها؟

أجبت: نعم، ونزار الدليل، نجح في تفصيل الجزئية، أغرقها بالعطر، شحنها بالدفء، وشعره أصبح دليلها، ولا تعرف صحة كلامي إلا كل عاشقة جدية.

سألتني: وأين ابن أبي ربيعة منه؟

أجبت: قرأت كتاب نزار قباني وعمر بن أبي ربيعة لماهر حسن فهمي، وفيه موازنات بين الشاعرين في موسيقى الشعر وفي اللغة والأساليب وثورة المضمون، وفيه ترجيح للطاقة الشعرية التي خلبت الجماهير وقربتها للكلمة الشاعرة.

 

                                                         ****

عارضت نزارًا في مقال" صباح الخير أيها الشعر” الذي نشرته في مجلة (الحصاد)-رام الله"العدد 27-1988”، وفيه تشفى من الشعراء الذي لم تلق كتبهم رواجًا في معرض الكتب في بيروت، وكان قاسيًا.  فكتبت مقالة"شيوع الأدب لا يعني جودته"- العدد 29- 1988، وأعيد نشره في كتابي"الرؤيا والإشعاع”، ص131”، ومن جملة ما قلت :

" ومن كنزار يعي كيف يخدَّر جمهورنا بقراءة الأدب التافه الرخيص...،

إنه يدرك أن ذيوع القصيدة عنده وانتشار كتبه لا ينفي كونه شاعرًا مبدعًا وأصيلاً، كما أن ذيوع شعر غيره لا يعني إطلاقًا أنه أفضل ممن خيمت على كتبهم العناكب...  وإذا كان نزار حزينًا لما أصاب الشعر الكاسد من مذلة وانكسار فإنني حزين أكثر لأن شاعرًا كبيرًا يؤمن بالاستفتاءات الثقافية...".

 

تناولت قصيدة نزار"أبي” في دراستي"رثاء الأب عند الشعراء المحدثين” (كتابي: دراسات وأبحاث في الأدب العربي الحديث، ص91)، وقلت إنها تبهر القارئ بلغتها ووزنها وطاقتها الموسيقية ونحت كلماتها، لكنها أسوة بأشعار نزار في كثير من قصائده" تشع للحظة وتتوهج آنيًا بشكل لا يوازنه إشعاع – دون أن تترك أثرًا كبيرًا أو حكاية وراءها حكاية، أو نفسية ممزقة...  وبالإجمال فهي  تشبيهات من مقلع رخامي أصيل”.

 

                                              ***

دعيت في تموز 1988 إلى لندن لحضور المهرجان الثقافي العربي، حيث  دعا إليه رياض نجيب الريس، وكانت الدعوة بتوصية من رئيس اتحاد الكتاب العرب سميح القاسم (شغلت يومها منصب النئيس- نائب رئيس الاتحاد-).

لم أكن أتصور أن التقي هناك كبار الأدب العربي، وأن أجالسهم وأحاورهم. كان نزار وجهًا بارزًا في وسامته رغم كبر سنـــه، وقد اتسم بعذوبة ألفاظه ورقته.

استمعت إليه وهو يلقي قصائد عن بيروت، فيا للإلقاء!!!

وسعدت عندما أهداني كتابه (جمهورية جنونستان”لبنان سابقًا”)، وكتب عليه إهداء بخطه المنمنم المبهج الذي أود لو صورته لكم هنا:

“ إلى صديقي الحبيب الشاعر فاروق مواسي

مع أصدق مشاعري واعتزازي الكبير."       نزار

                                

حدثني نزار عن قصائده الأخيرة" أطفال الحجارة”، وحدثته عن بالغ إعجابي بالحوار الذي أجرته معه مجلة (الكرمل)"العدد 28/1988” تحت عنوان" لعبت بإتقان، وها هي مفاتيحي”، وكانت المقابلة ذات أهمية خاصة في نظري، ذلك لأن الشاعر جابه فيها خمسة محاورين حاولوا أن يمكروا به، وأن يحشروه في خانة"النثرية”. 

سر نزار لأن الحوار راق لي، وأخذ يحدث مرافقًًا له عن هذه المقابلة وعن حكايتها.

***

عندما ودعت نزارًا في اليوم التالي قدمت له مجموعتي"الأعمال الشعرية الكاملة”" المجلد الأول”، شكرني، وقلب الكتاب وقال:” هذه فقط....؟"

 شعرت بالحرج، فكتاباتي نزر يسير إزاء كتابات نزار.

 قلت له في الحال: أرجو أن أكون كما وصف الزيات أحد الأدباء"مقل مجيد”.

قال"أعدك أن أقرأك”،  ولكن لا تنس أن تسلم لي على كل ذرة تراب فلسطينية، على كل نبتة، على كل طفلة وطفل، على الوطن، على..  على...".

حضرت رنا القباني – ابنة أخي الشاعر، وسألتني أن أهديها بعض نتاجي، وخاصة"الجنى في الشعر الحديث”، لتقرأ ماذا كتبت عن عمها، فلعل ذلك يضيف لها شيئًا في رسالتها الأكاديمية – هكذا قالت- قلت لها في حضرة الشاعر:

ما أحوجنا إلى الإفادة من عمنا نزار، فهو المبتدأ والخبر في رؤى القصيدة، عمّر لنا بيوت الشعر ووضع عليها بطاقات الحب السامي، وهو الذي أراد أن يشعر فغنى، لا سواه.

 شكرني نزار بحرارة، وتوادعنا.

كتبت لنزار رسالة له وهو في جنيف، ولم أحصل على رد، ومما كتبت:

“ ثلاثية أطفال الحجارة – شهادة أخرى لك على صدق ذودك عن القضايا العربية عامة، والفلسطينية أخص، فاعلم أولا وقبلا أننا نحبك..".

***

لن أتحدث عن الألم بعد النعي، ولن أتحدث عن مبادرة قمنا بها لزيارة سوريا، والاشتراك في تشييع جثمانه، لكن من الحق أن اذكر نص برقية العزاء التي"فكسلناها”:

سيادة الدكتور عيسى درويش – سفير سوريا في القاهرة

اسمحوا لنا أن نعبر عن عميق الحزن والأسى لرحيل علم شامخ في أدبنا العربي – شاعرنا الرائع نزار قباني الذي بذل من فؤاده عطاءه، فوافانا إبداعًا وأصالة.

سيظل شعبنا العربي ذاكرًا تفرده ومقدرًا مواقفه.

أغدق الله عليه واسع الرحمة، وبقيت من بعده روعة الكلمة – فاتحة للحب.

يا حبيبنا نزار: سنظل نقرأك، وستظل معلمنا.

“ توقيع سبعة أدباء فلسطينيين من الجليل والمثلث”


 

مع عبد اللطيف عقل:

 

فاجعًا كان موت عبد اللطيف عقل الشاعر والمفكر.

كان لقائي الأخير به يوم 24/5/1992م في مهرجان التضامن مع الشاعر شفيق حبيب في دار الثقافة العربية في الناصرة.

يومها قدم لكل منا النائب عبد الوهاب دراوشة صينية نحاسية مكتوب عليها:

" تكريمًا للشاعر....، وتقديرًا لعطائه في مجال الشعر الوطني”.

والتقطت الكاميرا هذه الصورة التي ينعم فيها عبد اللطيف النظر بالهدية الرمزية ويعلق:

“ لا تعجبوا إن كانت هذه هي المرة الأولى التي يقدم لي أحد فيها شيئًا أو يكرمني بشيء”، وأتبعها بالقول:"أليست هذه مفارقة؟!”.

قرأ عبد اللطيف يومها قصيدته"بيان العار والرجوع”، وكانت صيحته أو لازمته"هلا” تطن في القاعة ساخرة من هذا الزمن الرديء الذي قلبت فيه الموازين. 

أصر صاحبنا في القصيدة على فلسطينيته، وعلى حياة التقشف فيها مع كرامة متأصلة في وجدانه. وهذه القصيدة على الصعيد العملي الفعلي استمرار لقصيدة سابقة كان يردّ فيها على دعوة مشبوهة بالتخلي عن الوطن، إذ يقول في ديوانه"حوارية الحزن الواحد”:

أنا نبـــض الــتراب دمي، فكيـف أخون نبض دمـي، وارتحل؟

وأعود إلى كتب الشاعر وإلى طريقة إهدائه الكتب لي، فأجد اللمحات الفنية حتى في العبارة النثرية.

- كتب لي في إهداء" قصائد عن حب لا يعرف الرحمة”:

وفي إهداء كتاب"هي أو الموت”:

-         “أيها المتشرد من أجل أن تظل الكلمة مصلوبة على شفتي الجرح”.

 

كيف بدأت الكتابة عن عبد اللطيف، وماذا كتب عني؟

 

كان ذلك أولاً مراجعة لكتابه الأول" أغاني القمة والقاع”، فكتبت في"عرض ونقد في الشعر المحلي” (ص61):

“عبد اللطيف عقل شاعر مسؤول أمام الكلمة والقيمة. أطلق ذاته المغتربة من وهج المأساة، وأوفدها للقارئ الواعي أمانــة في عنقه – أمانة عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها، وحملتها إلهة الحزن التي تتقن رقص الأوبرا في القمم والقيعان..... لأنه كما يقول الشاعر" لا بعد بين قمة الوجد وقاعه”.

وقلت في المقال نفسه:"شيء مغر في ديوان عبد اللطيف – وهو انتقاؤه للعنوان، فعنوان القصيدة أجمل في نظري من مضمونها. العنوان فستان ينتقيه لحبيبته ويحسن انتقاءه بذوق، لا تكاد تخطر حتى تشرئب الأعناق. والقصيدة عنده ملخص تركيزي لقصائد سابقة، فيها تكرار للذات بشكل أعمق، وكل قصيدة تهمس لي: أنا أجسد تجربة عقل”.

 

أما بداية المعرفة الشخصية فكانت أولها متابعة عبد اللطيف عقل لقصائد مجلة"الشرق” المنشورة في العدد السابق (شباط 1972).  يومها تناول قصيدتي"ليلة ابن المعتز”، وأشار إلى أنني قصرت في المعاناة، ولو تركت القصيدة بتجربة غير مفتعلة لقدمت القصيدة بشكل أفضل.  ويومها أثار عقل غضبي.

وفي العدد التالي كتبت"ردًا على نقد” فقلت:

 

“ ما أحسبني بحاجة إلى التوكيد أن هذا التضمين واستخدام الموروث كان طبيعيًا وتمثلاً، بل تصعيدًا لهذا الموروث على ضوء المعطيات الحياتية المعاصرة، فدراسة القصيدة لغويًا، ورجوعًا إلى خلفية ثقافية هو السبيل الأصولي قبل أن نخوض لجتها فنحكم اجتراء”. (الشرق عدد آذار 1972، ص42).

ثم عاد عبد اللطيف عقل إلي  ليعالج قصيدتي الأخرى"صورة جديدة لامرئ القيس” ولكن بلهجة مغايرة، فبدأ بالقول:

“ لماذا أحببت هذه التجربة لفاروق. إنها تجربة حقًا، وكما أرى استطاع فاروق هنا أن يسبق نفسه، وهو بين قصيدة وأخرى يقطع المسافات الطويلة في زمن قليل.  إن هذه الصورة الجديدة تقفز من الرمز (الملك الضلّيل) إلى الواقع – الرمز المحدد الضيق إلى الواقع الفسيح المرير الذي عاناه فاروق بحدة الواعي المتمرد” (الشرق-  عدد نيسان 1972، ص47).

أذكر أنني زرت عبد اللطيف في منزله في نابلس. عندها ترك فيّ انطباعًا أنه ما من شخص أحضر منه بديهة، أو أقدر منه على الكلمة أو النكتة أو السخرية أو التعبير عن المرارة وحتى على الشتيمة، فشتائمه عجيبة من قاموس خاص لا يحسن صياغتها إلا الأقلاء من الأذكياء.  قال لي منكرًا علينا لقب (عرب 48) :

ألا تكفيكم مصيبة واحدة حتى ربطوا اسمكم بسنة زفت؟؟!

 قال لي منكرًا قلة القراء للشعر: أتكتب شعرًا لتقرأ نفسك؟

أخذ عبد اللطيف يحدثني بتشاؤم ومرارة تارة، وبإيمان ومثابرة تارة أخرى...  ويا الله ما أكثر نقده وما أحد غضبه!

زرته في جامعة النجاح حيث كان عميدًا لأحد الأقسام في الجامعة.  يومها عرفت أن للرجل مكانة ومهابة خاصة، ولكنها  تتلاشى أمامي إلى طيبة وأصالة فلاحيـّة حين أزوره في بيته الذي تنقل في أماكن مختلفة في نابلس، أو في منزل عائلته في دير استيا.

ولكني إن أنسَ لا أنس تألق عبد اللطيف في مؤتمر الشعر الفلسطيني الأول الذي عقد في فندق غراندنيو – الناصرة 27/11/1986م – يومها كان يتحدث بلغة غريبة طريفة مثيرة، يكثر من ألفاظ باهرة على غرار"الزمكان” – قبل أن تتردد على الألسنة. وأحس شاعرنا أنه عريس اللقاء.  وحتى أسوق لكم بعضًا من لغته المثيرة الخاصة اقرءوا معي ما قاله في الذكرى الأربعين لرحيل د. سامي مرعي:

“ أنا لا أحاور الموت، فهو إمكانية الشخص الأخيرة، ولكني أحاور سامي متصورًا ماذا كان يمكن أن يقول قصدًا، لو أسعفته تلك الأصابع السوداء الناعمة بعض الوقت.

كان سيقول: إذا تعلم الأطفال جدول الضرب بأسلوب تربوي إنساني فإن الغش في سوق الخضار سيباشر الاختفاء”.

ويخطر عبد اللطيف في ذاكرتي في مشهد آخر رواه لنا صديقنا سعود الأسدي يوم أن سافر وإياه إلى طبرية، حيث كانا يتشاطران هموم الكرب بعد الحرب.  يومها قرأ له سعود قصيدة تقليدية. وكان عقل يقود سيارته (الفولكس فاجن) دون أن ينبس ببنت شفة، ويحدثنا سعود عن خواطره إزاء هذا الصمت المريب، حتى إذا قرأ سعود قصيدة بالعامية التي ختمها بالقول :

 

“بخاف بكرا إن متت عيني

تجمد وهيكي يطبقوا جفوني

وما عود أحظى بشوفة بلادي"

 

يقول سعود:وعندما قفلت القصيدة بالبيت الأخير، وجدت رأسي فجأة يضرب بزجاج السيارة الأمامي.  قلت له: ما هذا يا أستاذ رحت تقتلني بضربة هالبريك!

 قال لي:بل أنت الذي  قتلتني. وراح أبو الطيب  يتناول مسجل صوت صغير من خزانة السيارة أمامه، وقال بإصرار:"أعد القصيدة من أولها!” (انظر الجديد:العدد الثاني سنة 1991،ص 59).  مثل هذا التصرف الذي رواه سعود يعكس لنا أننا أمام ذوّاقة مرهف الذوق، ووطني حتى النخاع.

ما زلت أذكر كيف أنه كان يسأل عن أدبائنا المحليين، وأحيانًا مع تعليقات ساخنة طريفة هنا وهناك.  كان يعجب بقولة طه محمد علي :"ذبحوني على العتبة مثل خروف العيد”.

فكتب له تقديمًا قبل قصيدة" عن حب لا يعرف الرحمة” إهداء :” إلى طه محمد علي وبيننا حزن كبير.”

وما دمت أتحدث عن علاقته بأدبائنا وكتابنا فلا أنسى لقطة سمعت عنها جديرة بالتسجيل.

  أجرى محمد وتد معه مقابلة، وكان أن استفزه محمد بشكل ما، فما كان منه إلا أن أصر على إلغاء المقابلة أو يتحققَ مبتغاه. سمعت عن هذه الحكاية من عبد اللطيف نفسه، وذكرها لي محمد، ولكن ذاكرتي لا تسعفني الآن للتفاصيل، لان الموضوع أصلاً لم يكن يشغلني لسبب أو لآخر. أذكرها لأؤكد أنه لم يكن يهادن ولم يكن يرائي.

قبل سنوات استضفنا في الورشة الأدبية في باقة الغربية  شاعرنا عبد اللطيف عقل.  يومها قرأ الأدباء الواعدون من نتاجهم. كنت أتوقع أن يقسو عليهم، لكنه فاجأني بحنوه البالغ واستعداده للمساعدة، وإذا بمقاييسه الصارمة تنقلب إلى حريرية رئيفة، سألته عن سر ذلك:

قال:"ألا يكفي أنهم يقرأون، أنهم يكتبون في هذا العصر الذي يتلظى فيه الشرق بالعار، وشعر القدس محلول على ظهر الجسور المشرعة”.

أظن أنني قدمت لقطات حضرتني، وبغيتي أن أعرّفكم بعمق معرفة حميمية بشخص عز علينا جميعًا، ليكون ذلك تخطيطًا يعكس ملامح رجل عظيم.

  عظيم في شعره وفي فكره وفي إنسانيته، وكم تعلمت منه!

أتساءل أحيانًا بعد أن تحضرني لحيته: هل حقًا رحل إلى غير عودة؟؟!!!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


 

مــــن رحلتــــي النقديــــة

 

 

عندما دخلت القوات  الإسرائيلية قريتي (21/5/1949) تركَـنا معلمونا- الذين وفدو إلينا من نابلس وضواحيها، وصرنا أضيع من الأيتام، وليس بيننا وبين العربية إلا إذاعات لا تكاد تبين، وكتب نادرة تمزقت لكثرة ما استعيرت.

كان والدي قارئًا، كنت أرقبه وهو يجلس إلى آلة الخياطة يتصفح صحيفة أو يقرأ كتابًا دينيًا.  وكان يسافرأحيانًا إلى يافا للاتجار بالبضائع القديمة، وكثيرًا ما كان يحضر معه بعض الكتب التي كنت أتصفحها، فهذا مثلا كتاب"العمدة” لابن رشيق- عليه اسم صاحبه – موسى عبد المجيد سمور (دير ياسين).

 ولكن، أين موسى اليوم؟؟!!

كنت قد قرأت  بدءًا  من الصف الثامن عشرات الكتب الأدبية- أولها تاريخ الأدب العربي للزيات، حيث قرأت هذا الكتاب من غلاف إلى غلاف، وأكثرت من قراءة القران وحفظه، لأنه المفتاح الأول لمعرفة اللغة.  وكثيرًا ما كنت أسأل والدي بلهجة ناقدة عن معني هذه الآية أو تلك، وكنت أشعر أنني أضايقه، فهو يعتبر أن في سؤالي كفرًا وتجديفًا.  لذا فقد طلب مني أن أبتعد عن كتابات سمع أن فيها إلحادًا –ككتابات خالد محمد خالد-"هذا هو الطوفان”، "من هنا نبدأ”-  الأمر الذي حفزني على قراءتها سرًا، وعلّمني أن اتخذ موقفا مستقلاً.

ما زلت أذكر أنني كنت أبدي رأيي بقصائد"المحفوظات”، فأبدي إعجابي بهذه القصيدة، وأحفظ قصيدة أخرى لا تروق لي مرغمًا، وأنا ألعن الشاعر والمعلم معًا.

ولجت عالم الأدب وفي طبعي نقد للظواهر الاجتماعية والسياسية المختلفة، وهكذا مضيت في تلخيص الكتاب الذي أقرأه، وفي التعليق عليه؛ وكم من كتاب أعود إليه هذه الأيام- لأجد في الحواشي ملاحظاتي التي قد أستغربها، أو أعجب بها.

*****
تعرفت إلى مجلة"الآداب” البيروتية في مكتبة جبعات حبيبا أولاً، ثم في جامعة بار إيلان، فراق لي خطها الوطني، راقت لي تجربة الشعر الجديد فيها. وكنت أتابع"قرأت العدد الماضي من الآداب” التي أخذت تصقل من حاستي النقدية، فتعرفت إلى أسماء لامعة في الأدب العربي الحديث، وأفضيت إلى عالم ممتع جميل.*

 

...............................................................

(جدير بالإشارة إلى أن  د. سماح إدريس محرر الآداب كلفني -فيما بعد- بتحرير ملف خاص  بالثقافة الفلسطينية في الجليل والمثلث، فصدر العدد تحت عنوان: فلسطينيو 48 - حجر الزاوية. العددان 7-8 تموز 2003)

 

أما مقالي النقدي الأول فقد كان موازنة بين كتابين (صحيفة"اليوم”18/9/1960) وهو مقال تربوي، ثم نشرت مقالة بعنوان"مناقشة لفيلم الوسادة الخالية” (اليوم17/2/1961) وهي مقالة فنية.

غير أن مقالات النقد الأدبي بدأتها في صحيفة"المرصاد” بدراسة عن ديوان" موعد مع المطر” لفوزي عبد الله ( العدد 9 /1961) حيث جر علي هذا المقال شتائم حذفها الرقيب من مقالة فتحي قاسم بعنوان- نقاد بلادي. 

ثم كتبت"لقاء مع تسعة شعراء” وناقشت تسع قصائد لشعراء محليين. فلم يرض الشاعر جورج فرح على ما قلته عن قصيدته، وأثنى سعود الأسدي على ما كتبته عنه.

إذن هناك من يرضى، وهناك من يغضب – وهذا هو الدرس الأول.

 

ثم نشرت في مجلة"الجديد” في حزيران 1967 مقالاً بعنوان"شوائب ومغالطات في محاضرات الدكتور شموش“ (وكان المقال قد صدر قبل ذلك في كتاب مشاعل في طريق الأدب - عكا- 1967). كان هذا مقالي الأول في مجلة مهمة وجادة كنت قد عكفت على قراءتها وأنا يافع.

ثم كتبت زاوية في صحيفة"الأنباء” وهي"قصيدة وشاعر”، وكانت الحلقات التي تربو على العشرين مطعّمة بنفَس مارون عبود  الذي قرأته وأعجبت به- وفيها أستاذية وتناص كثير من المقروء، وخاصة من التراث.  وما زلت أذكر قولا للأستاذ الأكاديمي س.سوميخ قاله لي:" أنت تكسب لقاء كل مقالة كذا مبلغًا وتخسر صديقًا”.
 وأعترف أن مقالاتي كثيرًا ما تثير زوابع وردودًا قاسية أكثر مما يجب، حتى أن بعضهم يرى أن الحركة الأدبية لا تنشط إلا إذا ألقيت في بئرها حجرًا،  وقد يصدق  صاحبنا إذا علمنا بالمعارك التي أثيرت بعد كتابات"أحمد منير" وقبلها عند تأسيس رابطة الكتاب، وبعدها عند إعداد مناهج الأدب العربي للمدارس الثانوية أو عند  جوائز التفرغ أو...

                                                         ******

في دراستي الأكاديمية في بار إيلان التقيت أساتذتي س. سوميخ،  د. صيمح،  ش. موريه (وهم من يهود العراق)، فقدمت لهم  الأبحاث والدراسات التي نشرت بعضها في الصحف.  وكانت رسالة الماجستيرعن" لغة الشعر عند بدر شاكر السياب وصلتها بلغة المصادر القديمة"بإشراف الأستاذ سوميخ  (صدرت الدراسة سنة 1993، وقد أثنى عليها الشاعر عبد الوهاب البياتي  على الرغم من علاقته غير الإيجابية بالسياب- بما يدعوني إلى الاعتزاز بشهادته).

كنت قد نشرت دراستي عن"صلاح عبد الصبور شاعرا مجددًا” جامعة حيفا 1979، وقد تسنى لي أن أهدي الكتاب للشاعر نفسه-  في زيارتي له في  الهيئة المصرية العامة للكتاب، ومع أنه تناول الكتاب متعجلاً، إلا أنه أفسح لي مجلسًا في ندوة  أصدقاء كانت في المكتب، وكان فيها مجاهد عبد المنعم وفوزي العنتيل وكمال نشأت وعبد المعطي أبو النجا، وكنت أدلي بدلوي في مواضيعهم، وأشعر بأنهم يقدرون متابعتي لحركة النشر والثقافة.  وقد أهداني عبد الصبور كتابه"مأساة الحلاج” مدونًا:

     "الأخ الكريم الشاعر الناقد الأستاذ فاروق مواسي مع خالص التقدير1980/8/ 19”.

في هذا الكتاب يقرأ القارئ عن لقائي بالشاعر.


أما أطروحة الدكتوراة" أشعار الديوانيــين – العقاد والمازني وشكري” – بإشراف الأستاذ م. بيلد فقد قدمتها في جامعة تل أبيب، ولاقيت فيها"الأمرّات”.... ولها حكاية طويلة...

وبالطبع فإن الدراسة الأكاديمية جعلتني أطالع مئات المصادر، وجعلتني جادًا ودقيقًًا ما استطعت.  واعترف أن المسابقات التي اشتركت فيها أواسط الستينيات عن المتنبي والخنساء والمعلقات والأدب المهجري والقرآن الكريم  وفوزي فيها، بالإضافة إلى متابعة حركة النشر، جعلتني أمتلك الثقة بالنفس، فأنصب نفسي حكمًا. ولكوني معلمًا فقد كنت أتوجه بأستاذية ما- هي مبررة حينًا، وغير مبررة أحيانًا.

لكني أقول اليوم – بصدق – إنني لم أكن مغترًّا أبدًا، فكم شعرت بالنقص والتعطش للمعرفة،  وكم تعلمت من طلابي ومن زملائي"، يدفعني إلى ذلك اقتناعي بأنه ما من أمر مبتوت فيه نهائيًا، وأن الحقيقة نسبية لا مطلقة.

                                                        *****

 

صدر كتابي النقدي الأول  –”عرض ونقد في الشعر المحلي" (1967)، وهو أول كتاب نقدي يصدر في بلادنا – أعني في الداخل في الجليل والمثلث، وقد جمعت فيه المقالات التي كنت قد كتبتها عن شعرائنا المحليين، وزعمت لنفسي في تصدير الكتاب أنني أنتهج” المنهج الوسطي” فقلت:

“ولا بد من الإشارة إلى أن منهجي يأخذ من  الأكاديمي الدقة في الاستشهاد والحذر في الأحكام، ويأخذ من الذوقي ذاتيــة جمالية أستشفها من خلال التجربة.”

ثم كان أن أقمت"الورشة الأدبية” التي نشطت في الثمانينيات – خلية نحل يشتار طلابها من المتأدبين ما يستصفون من جنى، فكانت الورشة تستضيف كل مرة أديبًا من أدبائنا الذين رسخت أقدامهم وعُرفت أقلامهم، فيصغي الضيف  لقراءات الشبان ونقاشاتهم، ثم ما يلبث أن يسوق رأيه، فأخذت الورشة تتعرف إلى مصطلحات"التأويلية”"التفكيكية”"البنوية” الخ.  وكنت حيويًا فعالاً في تنشيط الحركة الأدبية، ولا شك أن لقاءاتنا مع الجمهور في المدارس وفي النوادي هنا وهناك كانت تحفزنا على مواجهة مسائل نقدية يستفتي فيها الجمهور، وكان من الطبيعي أن يكون لي رأي في القضايا وفي إشكالات مطروحة أمام المتلقين.

ثم صدر لي"الرؤيا والإشعاع"(1984) وفيه مقالات أخرى عن الأدب الفلسطيني، وكان قد صدر بعضها في  مجلة"الجديد” أخص منها زاوية نقدية مستحدثة هي"مونولوج نقدي”. 

وهذه التجربة بحاجة إلى معاينتها من جديد، لأنها لون مستجد، ولم اقرأ على غراره من قبل ومن بعد (هذا بالطبع لا يعني أنها موفقة).

ثم أصدرت كتابي:”الجنى في الشعر الحديث” و” الجنى في النثر الحديث، وأسميت الكتاب على اسم ابنتي جنى، فيسرت الأدب الحديث لطلابه وقرائه، ففي الشعر أقمت معيارًا أو منطقًا يندرج في :

أ- إجمال المضمون

ب-الوسائل الفنية وخصائص النص

ج- توظيف اللغة والألفاظ، وكيف تُوظف اللغة في خدمة المعنى

د- إثبات بعض الإشارات الثقافية للدلالة على مَعين الشاعر الذي استقى منه، حتى يتجلي لنا تداخل التناص.

لكي أثري  الحوار حول النص أبقيت أسئلة للنقاش. وفي تقديري أن هذه الأسئلة هي من أصعب ما في الكتاب، فالسؤال-كما نعرف- يستلزم صياغة فنية ومعرفة عميقة.

وما زال الكتابان ماكثين في أيدي الطلاب لنفعهما، ويضيئان للمعلمين قبل الطلاب معالم جديرة بالاهتمام. ويظل الحكم فيهما للقراء، بل ظل جيلاً بعد جيل.

                                          ******

 

أما في البحوث حيث الدراسة الأكاديمية المحايدة التي تحلل وتعلل من غير تدخل فإنني أمتحن نفسي بما يلي:

1- هل قرأت أغلب ما نشر سابقًا عن الموضوع المدروس؟

وهل أنا أمين في ذكر ذلك للقارئ؟

2- هل أورد  فكرة جديدة من اجتهادي وتصوري،  أم أنني سأنسخ أو أترجم؟

3- هل تكون الاقتباسات دقيقة أم عشوائية؟ وهل هي ضرورية وموظفة أصلاً؟

       إن الأبحاث التي كتبتها لا تقتصر على الأدب فقط، بل تجدها تتناول مسائل لغوية، أما النقد فغالبًا ما يدور في فلك الشعر، وقليل منه في بعض الروايات والقصص.  وقد جمعت بعضًا من هذه الدراسات في كتبي"دراسات وأبحاث في الأدب العربي الحديث”(1992)، و”هدي النجمة(2001)، و نبض المحار (2009)، محمود درويش- قراءات في شعره (2010)..

لجأت في كتابتي بين الفنية والأخرى إلى التوقيع باسم مستعار، فكان أن نشرت بعض المقالات بتوقيع”لؤي جعفر” للدفاع عن نفسي بعد أن هوجمت، وكان صعبًا علي أن  أحاور المبتدئين في الأدب ممن يتطاولون بدون رصيد أو معرفة، فآثرت أن أصدهم  من  وراء قناع.   

 

أما تجربة"أحمد منير” فكانت مثيرة حقًًا:

كُتبت في أواخر عام 1991 وحتى  أواسط العام التالي زاوية في صحيفة"الاتحاد” تحت عنوان"مداعبة / معاتبة”. كتبت ست عشرة حلقة حول أدباء محليين، وبدأتها بمناقشة الربذي (اسم مستعار لسميح القاسم). ورغم كون المقالات قصيرة إلا أنها كانت مكثفة، وأخذ القراء يتساءلون: من هو أحمد منير؟

الطريف أنني نقدت فاروق مواسي، في الحلقة التالية، بشكل فيه بعض القسوة الجارحة، وذلك حتى أبعد الشك عني، ثم إني في بعض الحلقات أقسمت ثلاثـًا أن (أحمد منير)هو اسمي الحقيقي- الأمر الذي أثار تساؤلاً أكثر(وما درَوا أن قسمي صحيح، ذلك لأن اسمي في شهادة ميلادي هو أحمد منير- كما سجله جدي موسى في مكتب الداخلية في طولكرم).

كنت أرقب الكاتب منا يفتح الصفحة الأدبية ليقرأ أول ما يقرا زاوية أحمد منير.  وكنت أستمع إلى المحاورات الكثيرة حوله، وأعرف أن أعضاء كنيست من الجبهة وشخصيات أخرى كانوا يتحرون عن حقيقة هذا الكاتب، فأسعد بهذا التكتم الذي ساعدني فيه محرر"الاتحاد”- سالم جبران.

وظل الأمر محتملاً وسرًا، حتى نشرت الحلقة الأخيرة "جرد حساب الأدباء”، وأظن أنني أخطأت فيها الخطأ الجسيم، وذلك بسبب التعميم.  عندها قامت القيامة، وأصيب أحدهم بنوبة قلبية خفيفة، حيث اشترط صاحبنا على سالم جبران قبيل زيارته له في المشفى- أن يفصح له  من هذا الكاتب الذي"تطاول عليه”، وقال إنه لا جديد في شعره.

 وهناك كاتب آخر غضب، لأنه لم يُذكر إطلاقا في المقال، حتى في باب المآخذ. وخرجت الشتائم القلمية واللسانية والقصائد الهجائية، فيتلقاها أحمد منير، كما كنت أتلقى أنا-  مباشرة-  بعضها ممن كانوا يسربون اسمي في مقالاتهم الهجومية، والعجيب أن صحيفة"الاتحاد” كانت تبقي على اسمي الصريح، وكأنها توافق الكاتب على ذلك، أو كأنها تعتذر للكتاب على"التجني”الذي مسهم.

صدر كتابي أو كتاب"أحمد منير” في نحو عشرين مقالاً وقصيدة جمع مقالاته محمود مرعي تحت عنوان"  مداعبـــة / معاتبـــة" - باقة الغربية، إصدار خاص – 2001.

ظلت تجربة أحمد منير تثير أصداء، فثمة كاتب آخر أخذ ينشر في صحيفة"الصنارة” بتوقيع”أحمد منير“ دون أن أعرف حتى الآن من هو؟ وهناك صحف ألحت علي أن أعيد الكرّة، وأكتب باسم مستعار، فجربت ذلك مرة واحدة حفاظًا على ود صديق (بتوقيع صادق شامي).

 

والحق أن تجربة الاسم المستعار مجدية- إذا ظل السر مكتومًا، وإذا حافظت عليه هيئة التحرير – وذلك للأسباب التالية :

1-    لأن عنصر المجاملة و”أخذ الخاطر” يقل، فالنصَّ النص قبل العلاقة.

2-    لأن النقاش القاسي الجارح الذي يندفع به بعضنا سيكون موجهًا للاسم المستعار،والقراء- بأغلبهم- لايعرفون من هو، فلا يكون الهمز واللمز مباشرة.

3-    لإغناء الحركة الأدبية في مناقشات من شأنها أن تزيد اطلاع الأدباء ومتابعتهم الثقافية.

كان غرضي شريفـًا، ولكن سبل الهجوم المر والسخرية والمتجنية وطريقة الخطاب أوحت لي أن ضيق الأفق في الساحة الأدبية نابع من كون أدبائنا – معظمهم- يعتبرون أنفسهم في مستوى لا يصح أبدًا أن تعالجه معاتبة أو حتى مداعبة، ولم تُجدِ لازمة الزاوية التي كنت أختم بها كل مرة"وتحية حب رغم كل ذلك”.

أما كتابي" قصيدة شاعر”- الجزء الأول فقد اخترت فيه ست عشرة قصيدة لشعرائنا المحليين

 (صدر سنة 1996) -قصائد أحببتها، فكتبت عنها. فيها تنويع في الأداء والمضمون، وفيها تلوين يعكس حركة شعرنا الفلسطيني في الجليل والمثلث، فهنا ذوقي في الاختيار، وذوقي في القراءة، ومعرفتي في التحليل وصولاً إلى المتلقي، وكان في نيتي أن أصدر جزأين آخرين أتناول فيهما الشعر في الضفة الغربية وفي قطاع غزة ثم في المنفى، ولكني آثرت سبيلاً آخر لأسباب شخصية محضة.

صدرت دراستي عن"القدس في الشعر الفلسطيني الحديث“- 1996، بينت فيها أن" قصيدة القدس" –موضوعًا متكاملاً متضافرًا، هي قصيدة مستجدة قبيل وبعد النكسة 1967 م، فكان أن ناقشها الكثيرون بحدة لا لسبب، إلا لأنني لم أورد اقتباسًا من أشعارهم التي مر فيها ذكر القدس عرَضـًا. ترى الواحد منهم يؤكد أنه كتب" قصيدة القدس"، وذلك لأنه استعمل اسم المدينة في بيت من الشعر، وقد نسي هؤلاء أن الدراسة انتقاء، تأخذ ما يسعفها في طرحها، فالموضع هو الذي حتم الضرورة، ثم ليس كل من كتب عن القدس أهلاً لأن تأخذه مأخذ الاستشهاد. ويومها عرفت كم هي مهمة كلماتي في نظرهم، وإلا فلماذا يغضبون؟!

ثم صدر الكتاب نفسه ثانية عن وزارة الثقافة الفلسطينية (2010) بتنقيح وإضافة، إذ جمعت نحو عشرين قصيدة هي ضمن المصطلح الذي ارتأيته، وأضفت كذلك نقاشات حول"قصيدة القدس" ومفهومها.

أما الكتاب الذي أصدرته وعبرت فيه عن مواقفي النقدية فهو"أدبيات" (1991)، فقد عالجت مسائل وقضايا تتردد في الأوساط الأدبية نحو الذوق والمعرفة، العلمية في الأدب، سر النص الأدبي، إشكالية المصطلح، السرقة في الأدب، هل الترجمة خيانة...  الخ.  وأنا أعتز كثيرًا بهذا الكتاب الذي ضم خمسة وأربعين مقالاً نشر أكثرها في" الاتحاد" وبعضها في مجلة" الناقد" التي صدرت في  لندن.

إن هذا الكتاب خلاصة تجربة، فكلما عدت إلى قراءته وجدتني مذهولاً به على غير عادتي – فالغالب أن المقال الذي أعود إليه أتمنى فيه إضافات أو حذفًا.

إذن- هي كتب أصدرتها تصل إلى ستة عشر عنوانًا (بما في ذلك طباعة أطروحة الدكتوراه 1995).

إن هموم النقد لديّ كثيرة، وأدعو القارئ إلى أن يقرأ ما كتبت في مجلة" مواقف" عدد أيار 1993م (ص24)، فهناك يجد أنني أتنزّى ألمًا بسبب موقف الصحافة، حيث تفسح المجال أحيانـًا للشتيمة، فتُؤثر (أوثر) السلامة أحيانًا، وتقارع أحيانًا أخرى.

مما أتميز به أنني تابعت وأتابع كل ما يصدر لدينا، أشجع الأقلام التي أتوسم في أصحابها خيرًا، لا أحجم عن رفض ما لا يستحق، ولا أخاف لومة لائم أو لائمة، وحبذا جرأتي لو أني لم أُخلق حساسًا جدًا ومنفعلاً، فهذه آفتي.

لقد حاولت أن أضع مصطلحات نقدية كألفاظ"الواقنسية“"التأدنُس""الشعر الأفيوني“ وغيرها فلم تجد لها سوقًا. كما أغلقت" الورشة الأدبية" أبوابها، وتوقفت النشاطات سواء من
"رابطة الكتاب“ أو غيرها، وقلت المحاورات بين الأدباء في لقاءاتنا بسبب ما تؤدي إلى اللجاجة والخلف والمناكفة، وليس إلى البحث والتنقيب.

لقد علمني ابن قتيبة في مقدمة" الشعر والشعراء" درسًا في الموضوعية ظل أثره قائمًا في نفسي. وقد رسخه ما قرأته للناقد ريتشاردز في كتابه"  The practical criticism 

فقد عمد هذا الناقد إلى قصائد مختلفة، وقدمها غُـفْلاً لطلابه، فعالجها الطلاب بحيادية ودون تأثير مسبق، وكانت محصلة هذا البحث تقديم دليل لصياغة الذوق في الأدب وفق رؤى موضوعية وإشعاعات تفرضها لغة النص.

قلت: ما أحوجنا إلى أن نتخلص من بريق الأسماء وقدسيتها، وقد قمت بتجربة مماثلة ذكرتها في كتابي"أدبيات“:

قدمت قصيدة"الإبرة“ لسعدي يوسف لكثير من النقاد والأدباء ليبدوا رأيهم فيها. ويشهد الله أنهم خسفوها أرضًا واتخذوها هزوا (إلا واحدًا منهم حاول أن يذكر السلب والإيجاب فيها).

ترى لو قدمتها ممهورة باسم صاحبها مباشرة فهل سيكون رد الفعل مماثلاً؟!

 

في صيف سنة 1997 دعيت إلى مؤتمر النقد الأدبي السابع في جامعة اليرموك، وهذه هي الدعوة الأولى (بمبادرة من البروفيسور بسام قطوس) التي توجهها جامعة عربية لي (ولماذا لا أقول"لنا“ نحن العرب في الداخل). كانت ورقتي" إشارات الصدق في لقصيدة الوجدانية كما يستشفها المتلقي".

تعرفت إلى عشرات النقاد والباحثين، وبرزت مداخلاتي وملاحظاتي، وقد كلفتني إدارة المؤتمر أن أرأس إحدى الجلسات، فكان ذلك مبعث اعتزاز لي، وقلت لنفسي" تعبك يا فاروق لم يذهب هدرًا“.  وتلتها دعوة لحضور مؤتمر عن الحداثة وما بعد الحداثة في جامعة فيلادلفيا في نهاية العام 1999 م، فمشاركة أخرى في الجامعة الأردنية (أيار2001)، وتوالت الدعوات تترى، وكم كسبت من أصدقاء، وتعرفت إلى علماء وأدباء.

قد يرى البعض أنني أدّعي هنا وهناك، وحتى أظل صادقًا فإنني أعترف بقصوري إذ لم أصل إلى القارئ الأجنبي، ولم أنشر(حتى اليوم)  دراساتي في مجلات أجنبية محكمة، وباللغات التي تصل إلى العالم، وظللت أراوح مكاني (مكانك عد). فعوضت عن ذلك بنشر كتابي بالإنجليزية الذي قدم له البروفيسور شموئيل موريه:

Studies in Modern Arabic Literature, Garant, Belguim-2007

ومعظم مواد هذا الكتاب كان في الأصل دراسات كتبت بالعربية، ثم ترجمت إلى الإنجليزية.


إنني أطمح إلى أن أشارك باستمرار في مؤتمرات أدبية ونقدية عالمية، وأنا على يقين أن ذلك سـيتحقق لي ما دامت عافيتي بخير.

سأعود إلى ذكر الإيجاب:-

عند انتهائي من هذا الفصل رن الهاتف، فإذا بباحث من غزة يستفتيني في ما يخص دراسته الأكاديمية، وما أكثر ما يصل إلي –كذلك- من رسائل عبر البريد الألكتروني من طلاب الماجستير والدكتوراة، ومن طلاب المعرفة في العالم العربي، فقد أودعت بعض الأسئلة وإجاباتي في موقعي على الرابط:

http://faruqmawasi.com/answers.htm.

هل هذه إشارة إلى أنني أقدم خدمتي، ومكتبتي لطلاب المعرفة.
نعم، فهذا جزء من قدري أن أعطي وأعطي.

إن النقد أصلاً – هو اتخاذ موقف فيه عنصرا  التقويم والتوجيه، وحتى لو كان وصفيًا مجردًا  فإن ذلك كله يصب في نهر العطاء وخدمة هذا المجتمع الذي نعيش بين ظهرانَيـــه.

لعل ما يشفع لي إن عشرات الكتب المهداة لي يقدمها لي أصحابها: "إلى الشاعر الناقد”، ومعظمها من أعلام بارزين يشار لهم ببنان الحب والتقدير. 

شكرًا للأستاذ هاشم ياغي الذي ذكرني في كتابه"حركة النقد الأدبي الحديث في فلسطين”،- 1973، ص 322، وهناك ذكرني بإشارة عابرة-"الناقد الحصيف”- صفة تبعث على الاعتزاز، فما كان من د. يوسف بكار، وبعد سنين، وفي لفتة ذكية، أن كتب لي على إهداء كتاب له: إلى الحصيف حقًا!

 ولكن هل أنا كذلك في نظر نفسي؟!

 

 



 


 

جولاتــــي القصصـــيـة

 

 

مع أن أبي كان محدثًا يسرد حكاية ما جرى معه أو مع سواه بأسلوب مشوق، ويتابعه ضيوفه منتظرين النهاية  إلا أنني لم أنتبه للقص في الأدب، باستثناء ما قرأت وكررت قراءته  من روبنسون كروزو وسيف بن ذي يزن، وبعض قصص ألف ليلة وليلة.
كنت أتابع الطريقة التي يصف أو يصور بها الکاتب جزءًا من الحدث أو جانباً من جوانب الزمان أو المکان اللذين يدور فيهما، أو ملمحاً من الملامح الخارجية للشخصية،أو يتوغل إلی الأعماق فيصف عالمها الداخلي، وما يدور فيه من خواطر نفسية، أو حديث خاص مع الذات.

كتبت القصة الأولى "فقر للبيع" بعد أن أخذت الفكرة من برنامج أدبي أذاعته محطة الشرق الأدنى.
 ونُشرت في عدد أدبي خاص من مجلة المصور التي رأس تحريرها فؤاد شابي، العدد 45 ، ص 16 سنة 16/5/ 1962. من هنا يبدو لي أن بداية النشر الأدبي كانت لدي القصة لا القصيدة أو الدراسة، وهذه معلومة فوجئت بها وأنا أوثق سيرتي.
ثم وبحكم لقاءاتي مع الصديق محمد علي طه وقراءاته على مسامعي نماذج من قصصه أخذت أتابع القراءة ليوسف إدريس، وزكريا تامر خاصة، وكل ما يصل إلينا من قصص وروايات عامة، فكنت أتابع  ما يروي الكاتب لآخرين عما رأی أو سمع أو تصور، وذلك لأنني أبحث عن نفسي من خلال المرويّ عنه، وعن الظروف الواحدة من حياة ممكنة أو متوقعة، وعما تخالجنا من أوهام ورؤى واحدة أو متقاربة في حالات الشدة والرخاء والحزن والفرح.
كنت أتابع الشخصية التي تبث عنصر الحرکة والحيوية في مسار الحدث، ولا تهمني إن كانت نامية متطورة أم مسطحة ثابتة، فالمهم أن تقنعني، تمامًا كحالنا نحن في عالمنا الذي نعايشه، فما يهمني من الشخصية التي ألتقيها، أن أقبلها كما هي، ولا ضرورة لتبدل الدور أو المفاجأة أو المفارقة، فماذا يضيرني إذا بقيت على طبيعتها، ولماذا كانت مسطحة أصلاً، ومن قرر ذلك؟  فورستر؟ صاحب أركان القصة؟

أهتم بالطريقة التي يتناول فيها الکاتب الحدث،وکيفية رصده، و ربطه بعناصر القصة الأخرى ربطاً عضوياً بحيث لا يبدو وکأنه عنصر منفصل أو مفقود لذاته. ولا يهمني ما يراه البعض من أن سير الأحداث يجب أن يتم وفق نظام العلة و المعلول، أو السبب والمسبب، بحيث لا يجری حدث إلا وهو نتيجة لحدث سابق أو مؤثر سابق، ولا يعنيني أن يكون تسلسل الأحداث تسلسلاً رتيباً متوقعاً، بل قد تأتي غير متسلسلة، وقد تبدو متناقضة في الظاهر، ولکن هناك خيطاً شفافًا ينتظمها، ويربط بين أجزائها ويفسر تعاقبها أو عدم تعاقبها.
في رأيي ليس هناك حدود ما للبيئة التي يرسمها القاص،وتتحرك من خلالها الشخصيات وتتعاقب الأحداث، مع أن وظيفة الزمان والمكان في العمل القصصي هي خلق الوهم لدی القارئ بأن ما يقرأه قريب من الواقع أو جزء منه. ومع ذلك فقد تكون الشخصية في أكثر من مكان وأكثر من زمان حسب تطور الحدث وملابسات تنقل الشخصية.
في السرد كنت أحب الحوار، وأعرف صعوبته، ولكم جربت أن أجري حوارًا طويلاً له معنى مسرحي أو درامي فما أفلحت. من هنا كان سبب عدم كتابتي المسرحية، وكم من مرة طُلب مني أن أعد مسرحية طلابية، فكانت خطابية مباشرة أكثر من كونها مجالاً لإبراز عناصر الصراع الداخلي والخارجي بين الشخصيات.
كما أنني لم أفكر في نشر روايتي اليتيمة الحب البعيد، إذ بقيت في الدرج، وأنا أخشى أن أعود إليها، أو حتى أروي لكم حكايتها، مع أن هناك ناشرًا أراد نشرها "على الغميض"، ثقة منه بي، ولكني رفضت ذلك، فأنى لي أن  أكون روائيًا وأنا لم أقرأ روايات عالمية وعربية بصورة تشفع لي ولوج هذا اللون أو النوع.
سألتني مجلة الشرق (العدد الرابع تشرين الأول،1996، ص 5):
  القصة القصيرة... هل تعتبر نفسك ذا خصوصية فيها بعد أن أصدرت مجموعة أمام المرآة سنة 1985، وأعدت نشرها مضافة إليها قصص أخرى سنة 1995؟
أجبت: القصص جميعها لدي فيها تكثيف، وفيها لغة السرد الذاتي (الأوتوبيوغرافي)، تجمع القصة لديّ زخمًا أو طاقة فنيّة، هي أشبه بالقصيدة، فما عجزت عنه شعرًا في رثاء غسان كنفاني – مثلاً – عبّرت عنه قصتي "أمام المرآة"، كما يعرف دارس الواقعية معنى قصة "أنفة" – إذا قرأها، ويحضرني هنا قول القاص سهيل كيوان عن هذه القصة "أرغمتني دائمًا على تخيل حركة حمدي السكاك".

أما د. نبيه القاسم فقد ذهب في مقالته "أمام المرآة والمرايا التي يجب أن تتكسر" – الاتحاد 7/6/1985 إلى أن كل قصص المجموعة (لاحظ كل؟؟!! وبعد قليل سيستثني واحدة) لأي قاعدة من قواعد فن كتابة القصة القصيرة، ويمكننا أن نرى فيها لوحات أدبية متفاوتة، ولكننا لا نسمح لأنفسنا بتسميتها قصصًا قصيرة، ما عدا قصة "صرخة" حيث يمكننا أن نتغاضى عن بعض العيوب، واعتبارها قصة. ويضيف أن التعليقات الجانبية زاد  من ابتعاد  بعض اللوحات عن كونها أدبًا، ثم يذكر أنني جئت بالتشبيهات والصور الساذجة مثل: "يقذفون دموعهم البيضاء بين نهودهن"، "ريشه كأنه قد بلله القطر، والثاني يتقافز وراءه وأمامه"، وقد استغرق نبيه في بيان الركاكة في كتابتي القصصية، و"الابتذال" والميوعة العاطفية،  والهروب من مواجهة الواقع، ويتساءل: هل نكتب القصة لمجرد تسويد الصفحات والتسلية؟...إلخ-
 الأمر الذي جعلني أرد عليه في الاتحاد بمقالة عنوانها :"أين النباهة يا نبيه؟!"، ولم أعد نشرها في أي كتاب من كتبي، مع أن نبيهًا أعاد نشر مقالته أكثر من مرة، وكأن الأمر فتح في نقده الهجومي هنا.
أجيز لنفسي هنا في سيرتي السردية أن أسرد عليكم  ردي عليه إنصافًا لنفسي أولاً.
بعد أسبوع من نشر مقالته أي في 14/6/1986 سألته: "هل هناك قواعد ثابتة لكتابة القصة يا نبيه؟
أما زلت تفكر أن القصة مقدمة فعقدة فحل؟
هل قرأت قصص الطيب صالح ويوسف إدريس وزكريا تامر كلها؟ أم أن قصصهم لوحات؟
أقول: إني أرى ألا قاعدة ثابتة للقصة، ومقياسها فقط قول كاتبها إنها قصة، وبعدها نتعامل معها وفق أذواقنا ومواهبنا.
تقول يا نبيه إن التعليقات الجانبية أبعدت "اللوحات" عن كونها أدبًا، وجوابي: ألم تسمع بالمونولوج الداخلي وتيار الشعور، ان هذه التعليقات هي أصداء لأصوات عبر تمزقات داخلية.
والأنكى أنه يسوق نماذج تشبيهات وصور، ويجعلها ركيكة أو ساذجة، فالكاتب فهم "الدموع" بسذاجة،  فجعلها هو مجرد دموع، وفهم "يتقافز" بدون حركيتها وضرورة الموقف.
يرفض نبيه كتابتي السياسية، فإن رمزت قال "إبهام"، كما في قصتي "أمام المرآة"، وهي تجل شفاف لاغتيال غسان كنفاني، وإن  عدت إلى التراث لأستوحي منه، في نحو  "وخرجت زرقاء اليمامة"، وذلك لإثارتها قومها كي يطردوا الدخلاء ولكي تحذرهم منهم، قلت "رمز تقليدي ساذج". وإذا جعلت الرمز واضحًا "يا ولدي" قلت: "هذا عرض سردي بعيد عن التعامل الأدبي"، وأقول بعد كل هذا: "احترنا يا قرعا".
عجبت  لعدم فهم المغزى الأخلاقي لقصتي "عندما غازلت ابنتي"، وعدم فهم قصة "عبد الحي"، وعجبت أكثر لأنه لم يجد قصة واحدة -أو حتى لوحة كما سماها- يحدث عنها بإيجاب. فهل النقد هو بحث عن "المثالب"؟!
ختمت مقالتي: "لعل ما يشفع لنبيه أنه كتب، وحتى لو لم تكن كتابته مقنعة، أو جدية، فنحن بحاجة إلى أصداء، وإلى تجاوب، ونقاش، بل  إلى معارك أدبية، وذلك من غير أن نكسر مرايا بعضنا البعض، فكل زهرة لها الحق أن تعيش، وليس من حق أحد أن يحكم بالعدم على أي نص لكاتب.

نشرت قصصي الأولى في صحيفة الفجر الأدبي التي حررها  الشاعر علي الخليلي، كما نشرت فلسطين الثورة بعضًا منها، وعلق الشاعر فيصل قرقطي على قصة "وخرجت زرقاء اليمامة" تعليقًا ذكيًا ومستقصيًا.

في المجموعة الثانية أمام المرآة وقصص أخرى أضفت إلى القصص السابقة سبع قصص، أولها "حجر...علم" التي تتوقع الدولة الفلسطينية، و"شيخ وأمنية" وهي قصة قصيرة مهمة جدًا – اسمحوا لي أن أزكي نفسي- تتناول مدينة القدس، وكانت قصة "عيد للصدق"، و "أنفة"، و "وقوف على الضريح" قد أعيد نشرها في منشورات ومواقع كثيرة.
في تصدير هذا الكتاب كتبت:

لا شك أن بعض القراء المتابعين لكتاباتي سيتساءلون: ما لصاحبنا والقصة؟! حسبه النقد والشعر والمقالة، وكأني بهم ينكرون علي أن أدلي دلوي فيما أنا مضطر فيه، فالإبداع يبحث عن مخرج أو طريقة يتفتق فيها مَعِـينه، ويعلم الله أنني لا أقبل على لون إلا لأن أخاكم مكره لا بطل.
في كتاب د. حبيب بولس أنتولوجيا القصة العربية الفلسطينية – 1987 ورد ما يلي:
" فهو – أي مواسي يخربش في قصصه سير الزمان ولا يحدد المكان" ؟
لكنه يتابع:
" قصصه تعتمد السرد، ولكنه سرد مكثف موجز بعيد عن الترهل، ويكتنف معظم قصصه الغموض والرمز. مواضيعه فلسطينية، ولكنها تحرق المسافة بين الخاص والعام. من قصصه يبدو الكاتب متأثرًا بالقصة الأوربية الحديثة، وخاصة وليم فوكنر" (ص 381).
مِن أنصف ما نُقدتْ به قصتي تحليلاً وتعمقًا كانت دراسة محمد علي سعيد بعنوان "أبعاد المضامين في مجموعة فاروق مواسي القصصية" - قراءات في الأدب المحلي، مطبعة الشرق، 1995 (ص71-81)، إذ انتهى الكاتب إلى القول:
"إننا أمام مجموعة قصصية ناجحة تمتاز بتعدد الأبعاد، وهذا ما حاولت الوقوف عليه، وأما الناحية الشكلية المبنوية فإنها تحتاج إلى دراسة مستقلة".

لم أنشر أية قصة قصيرة بعد صدور كتابي نهاية سنة 1995، حتى إذا اشتهر أمر القصة القصيرة جدًا وجدت لي مسلكًا جديدًا، فأخذت أنشرها في المواقع، وحفزني أكثر ما كتبه بعض النقاد في المواقع، مبرزين أهمية قصصي، بل منهم من اختار اسمي في رأس قائمة المبدعين في هذا الفن، على غرار مقالة الناقد المغربي جميل حمداوي – انظر مثلاً: http://dawawin.ibda3.org/t3749-topic

شجعني ذلك على أن أصدر أول مجموعة في بلادنا –  في أدبنا المحلي، بعنوان مرايا وحكايا (دار آسية 2006)، وقد قدمت للمجموعة بما يلي:
"أريد من قصتي  أن تشي، أن تهمس، أن  تنقل، أن تحرك، أن تجتاز  إلى مناطق مختلفة معلومة ومجهولة.
أن أقص قصة فهذا  اضطرار، تمامًا كما قلت عن كتابتي - عامة:
أكتب لأنني مضطر أن أكتب، وليس ترفًا أو طواعية، فالقاص فيَّ  أسوة بالشاعر والناقد مشوق للقص ، يبغيه ،" يموت " حتى يحكيه.
عندما تكون لدي قصة أسأل نفسي: لماذا أقص؟ ولماذا الآن؟ ولماذا لهؤلاء؟
فإذا لم أجد جوابًا شافيًا فهذا يعني أن القصة ليست بمستوى.
أسأل  نفسي ما جدوى القصة لدى المتلقين، فإن لم تكن ثمة  جدوى فلن يقبل علي أحد فيما بعد.
بالطبع سأجعل من النهاية المفتوحة مثار نقاش، وسيلة تفكير ومتعة.
أختار أنا الراوي وأكون حميمًا له، فليس بالضرورة أن يكون هذا إياي، ولكنه من الضروري أن يكون قريبًا مني جدًا، فقصتي تنطلق من ساحتي الذاتية، وهي صلاتي  ونسكي بطريقتي.
هناك محاور تتصل - كما  أراها-  بكتّاب القصة:
أنت – قدرتك وشخصيتك راويًا، وعليك تبعًا لذلك تطوير هذه القدرة وتثقيف النفس بالخبرة  المتعددة المصادر.
الجمهور، حيث لا ننس أن القصة هي حوار اجتماعي، ومن هذا الحوار يتولد التغيير، ولو بطيئًا. 
القص، وهو مسرحيد درامي بصورة أو بأخرى، وتتسع أبواب القصة  في تكثيفها  وطاقتها الكامنة فيها.
 أما ق. ق. ج  فمن المفروض أن تعبر عن أحاسيس عفوية واعية  مقاربة للحياة  بألفتها وتواصلها.
أعدكم أنني سأقتصد بكلماتي، وأحاسب كل حرف قبل أن يدخل حرم قصصي.
سأكثف ما وسعتني الحيلة حتى أجانب السطح، ولن أستطرد وصفًا، و قد أستبدل عنصرًا قصصيًا بآخر، فأستغني عن الزمان أو المكان أو السرد الوصفي، لكني سأرافق المفارقة وأهتز معها، وأعمد إلى  الدفــقة الختامية.
وإذا كانت نتالي ساروت قد أصدرت أول مجموعة قصصية قصيرة جدًا سنة 1938 وسمتها (انفعالات) فها أنا أترسم الصيغة وأقدم انفعالات أخرى أو مرايا، فإن صحبتموني أدع لكم:
قراءة ممتعة !"

ختمت الكتاب بشهادات نقدية هي مبعث فخر لي، كتبها كمال العيادي، أديب كمال الدين، بريهان قمق، وصبري يوسف.

بعد صدور الكتاب لم تواتني أية فكرة لقصة أو لقصة قصيرة جدًا، ولعلني عوضت عن ذلك بدراسة عن "القصة القصيرة جدًا وإلى أي مدى هي قصيدة نثر" ألقيتها في مؤتمر جامعة اليرموك النقدي حول تداخل الأنواع الأدبية.

نشرت في موقع: http://thakafamag.com/index.php?option=com_content&view=article&id=2123:2011-06-30-01-41-07&catid=4:2010-05-31-17-34-55&Itemid=22

 

 


 

رحلتي....  في رحاب لغتي

 

منذ أن شرعت أقرأ، وأعي ما أقرأ، أخذت لغة القرآن تتنفس في وجداني بيانًا وإيقاعًا وإمتاعًا.  كنت أنهض من النوم على قراءة والدي لسورة (الكهف) أو (مريم) وسواهما، فأشنف أذني بهذا الخشوع، وأحاول أن أتدبر-  وأنا على فراشي- معنى هذه الكلمة وتلك، ثم أخذت أُكثر من استعمال المعجم أو كتب التفسير حتى أعي المعنى.

ثم تمكنت بصبر غريب أن أطالع معجم  المنجد  كله، لأدوّن ما أحب من كلمات ارتأيت أن أعرفها، أو لأصوب خطأ شائعًا، أو لأخطّئ هذه العبارة أو تلك. 

وظلت هذه"الآفة”  تلاحقني.... فلا  يكاد يخطب خطيب إلا رأيت أن هناك خطبًا في اللغة، بسبب اللحن والركاكة أو التكرار أو الإطالة المملة، أو كلها معًا. ولا يكاد يكتب كاتب ويسلم من ملاحظاتي- إذا أحب أن يسمعها فعلاً، وإذا كان يتقبلها بتسامح، وما أندر ذلك التسامح!
بل إني جمعت أخطاء وقع بها أدباء من أصدقائي، وجعلتها تحت عنوان جل من لا يسهو، ولعل ما يشفع لي أنني دونت أخطائي كذلك، وخير الخطائين الذين يصوبون ولا يكابرون.

أسعفني على هذه"الحراسة” الطوعية للفصيحة أنني عدت أولاً إلى كتب"النحوالواضح” و”مبادئ العربية”، و"سلم اللسان”، فحفظتها، أو على الأقل تدارستها.  وكان لتدريسي مادة العربية دافع لأن أدرس"البلاغة الواضحة”، وأمثلة الكتاب فيها، وأحفظ القصائد الكثيرة التي أعلمها خاصة، وأتابع كتب"تيسير الإنشاء” المختلفة، وأدْرس العروض وحدي، ذلك لأننا لم نلَقّـَن هذا العلم في المدارس،  ولا في الجامعة.

وكانت دار الإذاعة قد أعلنت عن إجراء مسابقات في اللغة والأدب، يحظى الفائز فيها بجائزة مالية، إضافة إلى هذه الجائزة المعنوية التي لا بد منها إعلاميًا.  فشاركت في مسابقة عن المتنبي وشعره، وحفظت آنذاك سنة 1966 مئات الأبيات، وشاركت كذلك في مسابقة عن الشعر المهجري، و أخرى عن الخنساء، وكنت الفائز الأول فيهما.  بيد أن مسابقة القرآن  الكريم كانت مفصلاً هامًا في حياتي، فقد تقدم نحو خمسين مرشحًا للفوز بجائزة"حفظ القرآن الكريم-الفائز الأول”، وبعد إجراء امتحانات تحريرية وشفهية حظيت بالجائزة  المميزة (آذار 1967)، ولم يتسنَّ لي ذلك لولا هذا الحفظ الذي خَصصت له وقتـًا طويلاً، وكنت أقف في ذلك على كل شكل لحرف، مما يدعوني أحيانًا لأتساءل عن إعراب هذه الكلمة أو معنى تلك، والتساؤل هو بداية البحث- كما هو معروف-.

برغم هذا الجو المحافظ الأصيل، فقد تركت لنفسي فسحة لكل تجديد، وكانت جملة طه حسين عن اللغة: "..... ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها" التي كنت استمع إليها في مقدمة البرنامج اللغوي الإذاعي (أبجد هوز) محفزًا لي على التسامح في بعض الأمور اللغوية (وسأتناول ذلك بعد سطور)، ذلك لأن مارون عبود الذي قرأته في أواسط الستينيات كان له تأثير ملموس على توجهي اللغوي والأدبي؛ يقول عبود في كتابه"مجددون ومجترّون” :

“فالتقليد داء أدبنا الوبيل، هو تصلب شرايين قلب الأدب العربي. قال الشاعر العربي:

"وسقى ضريحَك صيّبُ القطر"، والله لا أدري لماذا هذه السقيا، أليفرخ وينبت ويصير دمنة ترعاها الإبل والشاء؟ أم لترتوي كبده الباردة؟

أما نحن فأعدنا كلامهم بلا تفكير، ورددنا ما قالوه أجيالاً، ولم نتساءل لماذا؟  وأما نحن فما يجعلنا نقول مثلهم؟ ألسنا نقول هذا لأننا نفكر بعقول غيرنا؟؟!".

****

 

رأيت أن لغتنا"يسر لا عسر”، وقد كتبت للأستاذ محمد علي سعيد الذي جشم نفسه في إعداد كتاب”كنوز اللغة العربية”-لطلاب المدارس الابتدائية، سنة 1980- أن هذه المجموعة لا تقدم غذاء لغويًا صحيًا، بل جرؤت على القول إنها تنفره من لغته، إذ ليس ثمة ضرورة أن يعرف التلميذ كنى وألقابــًا عفا عليها الزمان- كأن يعرف أن"أم ليلى” هي الخمرة، وأن"أبا خالد” هو الكلب،"وأم دفر” هي الدنيا.

ثم ما حاجة التلاميذ لمعرفة صوت الدب بأنه (القهقاع) وصوت القفل، وكذلك العقرب والفيل والخنزير والفأرة أنه (الصَئِيّ) وأن(الشبرق) هو صغير القط و(الخرنق) صغير الأرنب.

وتبقى مشكلة لفظ كل حرف وحرف، وكيف يجب أن ننطق الكلمة. وأكرر ذلك كيف يجب أن ننطق كل كلمة؟

من هنا فإننا مدعوون  للابتعاد عن التكلف والثقل في مثل هذه الألفاظ، وذلك حتى تكون لغتنا مأنوسة لطيفة محببة.

وثمة من يسألني هنا:لقد قدمت أنت برامج إذاعية لغوية، ومنها" وقفة مع اللغة"، وقبل ذلك كتبت في" صدى التربية" في أواسط السبعينيات ست عشرة حلقة عن اللغة الصحيحة التي ترتئيها وهي"من أحشاء اللغة“، فلماذا تسلك سبيلاً تحرمه على غيرك (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)؟ فماذا تبغي؟ أفصِح!

أجبت عن هذا السؤال في كتابي" أدبيات" – مواقف نقدية" (ص 173) وبينت رؤيتي في فهم اللغة وتطورها، إذ أنني أصبو إلى ما يلي :

-         أن نلفظ الكلمة الصحيحة كما اتفقت عليها المعاجم –  دون اللجوء إلى الشاذ الغريب.

-         أن ألفظ – على سبيل المثال - عَدي (بالفتح، وليس بضم العين التي تعني تصغير عدو)، وألفظ عَرَف-   بفتح الراء، وأقول حَـيْـرة (مصدر حار)...  الخ، كما يجب الانتباه إلى صحة لفظ الأسماء التاريخية ونحوها.

-         أن نحافظ على النحو والصرف بالقواعد المتبعة المألوفة، فلا أجيز" جاء أباك" حتى لو كانت هناك عشرات الشواهد. فعلينا مثلاً في الصرف أن نقول"ظرف معيش“ لا
"معاش“، ولا نقول:"الدولتان الأعظم“، وقس على ذلك. ومع ذلك فثمة مجال للاشتقاق هنا وهناك، إذا جرى ذلك على أصول ومنطق صرفي  معين.

-         أن نتقبل الشائع إذا كان صحيحًا، أو أن نجد  له تخريجًا لغويًا، فلماذا ألفظ"على الرُّغم"  بضم الراء – ما دام الفتح فيها جائزًا، وما دامت هذه الطريقة طريقة لفظنا المألوفة؟!

-         أن نستعمل الكلمة الأعجمية الشائعة في لغات العالم، وذلك إذا لم يكن لها بديل دقيق يؤدي دلالتها تمامًا، فأنا أستعمل في كتابتي"التلفزيون“ و"الرادار“ و"الكاسيت“ و"الفيتامين“....  إلخ؛ بل لا ضرورة للمزدوجين في كل منها، إذ أدخل العباسيون مثلاً كلمات مستحدثة وعرّبوها، فلا جناح علينا أن نسير سيرتهم، ومن يستصعب ذلك فعليه الر جوع إلى كتاب"لحن العامة“ للزُُّبيدي - عندها سيُفاجأ بكثير من الكلمات والألفاظ التي يريد صاحبنا أن يخرجها من دائرة العربية، مع أنها اليوم في صميم اللغة وفي كل المعاجم.

-         أن ننحت ونولد كلمات جديدة، فقد قمت شخصيًا بابتداع  ألفاظ على نحو:"حتَّن“ بمعنى وافى بآخر المستجدات (ويستعملونها في المغرب حيَّن، وفي بعض المواقع- حدّث)، وقد أنشأتها من لفظتيْ (حتى الآن)، وأوجدت كلمة (مَشْرى) للمجمَّع التجاري، و"المِجواب" للرد الآلي في الخلوي، و(الواقنسية) للشعر الواقعي الرومانسي، و  (الاجتأدبي) مختصرة من الاجتماعي – الأدبي، وثمة كلمات أخرى كثيرة لا مجال هنا لذكرها، وكلها تدل على محاولاتي الجادة بأن تظل العربية سائدة وسائغة على الألسن، ولكل امرئ ما نوى. 

-         وكذلك الأمر أن نتقبل التعبير والأساليب التي لم يكن للعربية القديمة بها عهد، ولن يضار اللغة أن نسوق لها عبارة مترجمة عن لغة أخرى، فهذه اللغات أنهار تتلاقى شئنا أم أبينا. وتبقى هنا مسألة الذوق في قبول هذا الأسلوب أو رفض ذاك.

 

***

إن شجرة اللغة قد تتساقط منها أوراق ذوت، أو تراها أصبحت هشيمًا تذروه الرياح، لكن هذه الأوراق (أعني الألفاظ والتعابير) سرعان ما تستبدل بأوراق أخرى يانعة دعت إليها الحاجة واستلزمها الظرف، والشجرة تبسق أصيلة شامخة.  وهذا الفرع منها إذا انكسر فإنه لا يغير من اطراد نموها، وسيظل أصلها ثابتًا وفروعها الأخرى في السماء. ونحن العرب في هذا الوطن نصارع يوميًا في سبيل الحفاظ على أسباب حياتنا وتطورنا، ونحن نصطدم بواقع مغاير – واقع متحرك دينامي في المجتمع الإسرائيلي،  وعلى لسانه لغة  تحاول أن تأخذ من حضارتي وتراثي الكثير من فولكلور وألفاظ وآثار، حتى وصلنا بسبب هذه القوة الحضارية – اعترفنا أم لم نعترف – إلى أن هذه اللغة أخذت تقحم الجملة العربية، بل تتداخل في نسيج التعبير، وأضحى شبابنا ومثقفونا (من محامين وأطباء واختصاصيين وتكنولوجيين) يكررون على مسامعنا كلمات هي بالعبرية الفصحى.

هزني ذلك فكتبت مقالتي اللغة" العِـرْبِـية" عن اللغة التي لا هي عربية تعرف، ولا عبرية تفهم، فالأولاد يأخذون (البيجديمات)،  واشتروا (كرطيسين)، وقس على ذلك.

وحاولت أن أقدم حلولاً افتراضية للخروج من هذا الخلط، أو على الأقل للتقليل منه.

وفي ظني أن المبادرة التي قمنا بها نحن بعض عشاق اللغة – تدل على الغيرة اللغوية، حيث قررنا أن نقيم جمعية لغوية، عُقدت أولا في عبلين، ثم التأمت ضمن اللجنة العليا اللغة العربية، وأعضاؤها هم – مع حفظ الألقاب:-

سليمان جبران وفهد أبو خضرة وخولة السعدي ومحمود أبو فنة وجورج قنازع ونزيه قسيس وجميل غنايم وإلياس عطا الله وفاروق مواسي. 

وقد كانت لنا جلسات كثيرة تخللتها نقاشات جادة وأحيانًا حادة. وتمكنا من إصدار ثلاثة كُتيّـبات، فيها ترجمات لمصطلحات وتعابير تسعف الكاتب في كتابته.

ثم أخذ الأستاذ موفق خوري – مدير دائرة الثقافة العربية – يدعم  مجمع اللغة العربية في البلاد، وكلفني أنا والأستاذين حنا أبو حنا ونايف خوري (كانون الثاني 2001) بأن نسافر إلى القاهرة – إلى معرض الكتاب)، وكان لنا في القاهرة لقاء مع د.  شوقي ضيف رئيس المجمع الذي حدثناه عن الفكرة، فوجد أن تحقيق الاعتراف بنا عسير، بسبب أن هناك مجمعًا فلسطينيًا آخر قد ووفق عليه.  (من العجيب والطريف أن هذا الشيخ الهِـمّ كان يقرأ بدون نظارة) – وكان لجمال مراد سكرتير المجمع فضل في التقليل من عبثية اللقاء، فأهدانا بعض الإصدارات، وأهديته شخصيًا بعض نتاجي، ومنه مقالة لغوية لي حول (الاسم المقصور) نشرت في مجلة  (جامعة) – العدد الأول 1997- باقة الغربية.  وقد عكفنا الأستاذ حنا وأنا على تدبيج رسالة شرحنا فيها ضرورة أن نجد لنا سندًا وعضدًا، في ظروفنا أو على الأصح في ظروف لغتنا، ولا أدري إن ظلت رسالتنا في طوايا الملفات والنسيان. ومع ذلك تأسس المجمع وعقد جلساته الأولى للتداول في الدستور.

وكان لي حلم آخر:فقد عهدت لي كلية الشريعة في باقة حيث كنت  أرأس فيها قسم اللغة العربية بأن أؤسس (مركز اللغة العربية)، وذلك لتشجيع الأبحاث اللغوية، والنية معقودة كذلك على الاهتمام بوسائل تدريس اللغة في فروعها المختلفة، وقد رأست المركز وأصدرت كتابين  تحت عنوان" دراسات وأبحاث في اللغة" (2004، 2005).

لعل لي حلمًا آخر يتحقق – وهو تبني صف متميز من المتفوقين في العربية من طلاب الصفوف العاشرة (من جميع المدارس الثانوية العربية)، بحيث يدرسون يومًا في الأسبوع في الكلية دروسًا إضافية في اللغة والأدب، كل ذلك لإعدادهم بأن يكونوا باحثين ومحاضرين في دور المعلمين والجامعات، ونحن بحاجة ماسة لإكمال ما كان قد بدأه الرعيل الأول، هذا الرعيل الذي أعطى الكثير، ولكن الزمن يغير عليه بالشيخوخة – اعترفوا أم لم يعترفوا.
ثم جرت مياه كثيرة في الأنهار، وإذا بي اتصل بعضو البرلمان غالب مجادلة، وأدعوه ليأخذ موضوع المجمع على محمل الجد، وأن يعمل على استحصال ميزانية مع اعتراف رسمي، فتحقق له ولنا ذلك في 21 آذار 2007، وانتخبت لأكون عضوًا في أكثر من لجنة، كما انتخبت لأرأس لجنة المصطلحات والألفاظ. بيد أن مجمعًا آخر تأسس متزامنًا في أكاديمية القاسمي يرأسه الدكتور ياسين كتاني، وكنت فيه عضو لجنة الأبحاث.
 حاول المجمعان أن يبديا عدم الرضا من كوني أرقص في عرسين، لكني  لم أقدم استقالتي من أي، بسبب أنني من المؤسسين للأول إن لم أكن المؤسس، ولأنني محاضر في القاسمي، حتى إذا ما عزب علي الأمر أردت بيني وبين نفسي أن أعلن عن تأسيس مجمع ثالث مؤلف من عضو واحد فقط.

 

***

 

كلفتنا وزارة المعارف نحن مجموعة من أساتذة اللغة العربية بأن نعد منهاجًا جديدًا لتدريس قواعد العربية، وكنت من الذين تحمسوا جدًا لفكرة إرجاء تدريس النحو إلى المرحلة الثانوية وإلى التخلي عن أسلوب"النحو الواضح“ لأستاذينا علي الجارم ومصطفى أمين. وقد كتبت مقدمة كتب"الجديد“ للمرحلة الثانوية بتكليف من زميليّ  د. فهد ابو خضرة و د. إلياس عطا الله، فقلت /قلنا:

"هذا الكتاب يقدم منهجًا جديدًا لتدريس القواعد، فيه اجتهاد في ترتيب المواد ودقة في تعريفها. ونحن لا نزعم أننا استحدثنا في المادة بقدر ما نؤكد أننا جددنا في أسلوب التدريس، وقد شملنا ما رأيناه ضروريًا فيسرنا، معتمدين الأهم والأعم، والأجود والأفيد.

رأينا أن نتناول وظيفة الكلمات في الجملة كالفاعل والمفعول به في الدراسة، مرجئين مسائل الإعراب إلى المدرسة الثانوية، وذلك لأننا أيقنا صعوبة الإعراب لدى الناشئة، بل إن معظم الكبار لا يبقون منه إلا ذكريات مريرة وجهلاً مطبقًا بالقراءة المثلى.

ومن مظاهر الجدة أننا اعتمدنا النص مفتاحًا للدرس، وغالبًا ما يكون تراثيًا، ليفيد الطالب من مضمونه، ويجيب عن أسئلة فهم المقروء، ولا بد منها بادئ ذي بدء.

لم نغفل لحظة أن غايتنا الأولى والأخيرة أن نضبط كلامنا بالشكل، فكثرت التمارين الوظيفية ملائمة لمعرفة الطالب، ومواكبة لمسيرته، وقد اعتمدنا على أشعار العرب- قديمها وحديثها."

                        (انظر مثلا مقدمة: الجديد في قواعد اللغة  للصف العاشر)

ولا شك أن للصديق د. محمود أبو فنة يدًا طولى في المناهج الجديدة للغة والأدب، وهو يدعوني للاشتراك الفعال فيها، وقد قمنا بشبه ثورة في مناهج الأدب العربي كذلك، إذ أخذنا ندرّس الألوان الأدبية من قصة ورواية ومسرحية وشعر حديث ومنه الشعر الفلسطيني
(المحلي)، كما اخترنا نصوصًا أدبية تمثل اتجاهات أدبية متباينة، وتمثل عصورًا مختلفة.  على إثر هذا المنهاج الذي أقِر في الثمانينـيات أصدرتُ كتابين مساعدين لتحليل النصوص أتيت على ذكرهما في سيرتي الذاتية هذه في حديثي عن تجربتي النقدية، وفي ذكري مواضيع أخرى.

ثم عكفنا على إعداد منهاج جديد آخر للأدب يلائم القرن الحادي والعشرين بمستجداته المتباينة، ويتلافى ما نقص من المنهاج الأول، بل يكون في عدد من الوحدات. ولا شك أن اللجان المختلفة التي تعهد لنا وزارة المعارف بها من شأنها أن تحرك وتحفز، ومن يدري فقد نكون بنينا لبنة في صرح اللغة، أو على الأقل أخلصنا لها، وحرصنا عليها ما وسعتنا الحيلة.

 

***

كنت وما زلت أنفر من التنطع وفضفاضية العبارات في دائرة الخواء،فقلت منتصرًا للغتي يوم أن سـيقـت للتمسح على الأعتاب:

- تبا للغة المبتذله

  لغتي بيعت في سوق الأوحال

       تبا للغة المسبـيــّه

      لقحها عبد الشهوات الدجال

      كفرًا بالإنشاء وبالأفعال وبالأسماء

      كفرًا إن نأسن في هذي الحال

(تنويعات منا فينا، المجموعة الكاملة،المجلد الأول، ص176)

كنت وما زلت أنفر من هؤلاء من الذين يهاجمون الجديد، لا لسبب إلا أنهم لا يعرفون أو لا يألفون ما استجد، ولقد أوذيت إثر ذلك، واتُّهمت في لغتي؛ فوقف بعض الزملاء متصدين لمنهاج القواعد الجديد، وللكتب التي أعددناها، وكأنهم الذادة عن اللغة المنافحون لرد"الكيد” الذي يراد بها، وقد استمعت إلى دعواهم أو دعــاويهم، فما أبانوا ولا أفصحوا، بله لاكوا العبارات في أخطاء لغوية فاحشة...  وصبري بالله.

وضقت ذرعًا بأخطاء ولحون يشترطها هذا" اللغوي" أو ذاك، فيجعل الأمر استبدادًا، أو على الأقل استئثارًا، أو على أقل الأقل منظارًا أحاديــًا.

ومن باب التيسير – تحمست لفكرة توحيد شكل كتابة الهمزة وجعلها (ئـ ) على نبرة في كل موقع.  وقد وردت الفكرة أولا لدى بعض أهل المجمع اللغوي في القاهرة، وكتب في ذلك الأستاذ وديع خوري (البيادر – القدس – نيسان 1997، ص 19)،  وعرض الأمر بشكل علمي الدكتور فهد أبو خضرة في مجلة المنبر (العدد الأول سنة 1989)، ثم كتبت أنا وبموافقة للطرح نصًا تجريبيـًا(العدد الثاني 1989)، فكان أن تجنى بعض الزملاء الغيورين على ذلك، فوصف صاحب الاقتراح كتابة الهمزة بأنه" ذلك الغبي الذي ظن أن يستطيع أن يسهل الكتابة” (المواكب 78/1993)، ويا سبحان الله!

واللغة وعاء الفكر، وهي بأهلها، وقد لا يروق البعض إذا غبطت العبرية على مرونتها.....  وليس أدل على ذلك من صيغ التصغير فيها، أو بناء صيغة لأصحاب المهن، وخلق كلمات جديدة سرعان ما تشيع على الألسن وفي السطور، إذ أن لهم مجمعًا لغويًا لا مجامع، وهم لهم دولة ونظام لا دول وأنظمة.

ولكم عملت جاهدًا على تطويع لغتنا لكل مبتكر، وأن تكون لغتنا العلمية دقيقة المؤدى، ولها توصيل من غير حشو أو ترهل، وأن تكون العربية الميسرة على ألسنة طلابي، كما دعوت إلى ذلك في دورات الاستكمال التي قدمتها لمدرّسي اللغة العربية. وأعتز كثيرًا بأنني لا أني عن تلبية أية دعوة فيها نصرة للغة، وذلك بالتطوع في إلقاء المحاضرات على طلاب المدارس الثانوية المختلفة، وقد كنت من المتحمسين الفعالين في"سنة اللغة العربية“ التي تقيمها المدارس بين سنة وأخرى، وحصلت على دروع (بالعشرات)، وعلى رسائل تقديرية من هذه المعاهد العلمية، وعلى ثقة المستفتين بالمسائل اللغوية، وليس أدل على ذلك من المكالمات الهاتفية التي تصلني تترى عن معنى هذا الاسم للمولود / ة، أو عن إعراب هذه الكلمة في هذا البيت، أو في الآية.  ثم إني  كنت وراء المذياع أجيب (في مطالع السبعينيات) عن كل سؤال طلابي من مضمار اللغة والأدب فإذا بي – بعد أن توقف البرنامج – أجيب  كل سائل عند معرفتي، أو أنقب في المصادر حتى أفيد أنا وأفيد الآخرين، وفي موقعي على الشبكة زاوية"اسأل فاروق مواسي" تدل على هذا التجاوب والتفاعل..

ما أكثر ما تعلمت من معاجم الأخطاء الشائعة للعدناني ومصطفى جواد وزهدي جار الله وإميل يعقوب! وما أكثر ما أتصفح" إصلاح المنطق" و" أدب الكاتب" و كتب الألفاظ والمعاني.

 

***

من طموحي أن يولي أهل الاقتصاد والاجتماع اهتمامهم برقي اللغة، فيجعلون وكدهم دعم التخصص والدراسة في خضم اللغة، حتى يبحثوا ويعملوا بجد لا تطوعًا واحتسابًا فقط.  وما أروع العمل الجماعي إذا كان أعضاء المجموعة الدارسون يتحلون برحابة الصدر ورحابة الأفق معًا. 

من طموحي كذلك أن نكثر من مشروع" سنة اللغة العربية" الذي اكتسب زخمًا خاصًا في السنة المدرسية 2010- 2011،  فيكون بين الفينة والفينة  وفي كل المواقع، حتى يفسح المجال لزملاء آخرين كي يتعبدوا في محراب هذه اللغة أو في جوب آفاقها. وسأسعد حقًا أن أرى أكثر من غواص يبحث عن صدفات اللغة، ويطلع علينا بالدر المكنون الذي يبهجه، فيتنافس الطلاب والكتاب في صنوف الآداب، فالعربية كما يقول عبد الحميد الكاتب"ثقاف ألسنتكم“، وها هي في عصر الحاسوب أخذت تصارع بحق وحقيق في سبيل بقائها على الأقراص. فاثبتي يا لغتي!!      


 

جولاتي في الترجمــــة

 

 

يقول المثل الإيطالي ( الترجمة خيانة ) – traditorre traditorre، وأرجو أن أكون قد كتبت إملاءها صحيحًا - كما  أملاها علي أستاذ إيطالي، وقد وضع على الحرف الأخير إشارة فوقية ليس السبيل إليها في حاسوبي، ولفَظ جناسها أمامي. فقد قالوا ذلك لأنهم يعرفون أن نقل التجربة تمامًا مستحيل، ولكن ما العمل؟  أنكتفي بنقل الحضارة الأوروأمريكية مثلا بتجلياتها العلمية، ونتخلى عن أدبياتها فـ (ريحة الجوز ولا عدمه) كما يقول المثل الفلسطيني.
ترجماتي هي في معظمها من الشعر العبري، وقليلة تلك النصوص التي نقلتها من العربية للعبرية.
من قناعاتي في هذا الباب أن يكون المترجم على
اطلاع على اللغتين - التي يترجم عنها والتي يترجم لها- وأن يستشير أهل اللغة الأخرى وسابري أغوارها - لدى مجابهته تعبيرًا بحاجة إلى تدقيق، وهكذا أحاول أن أفعل؛ بل أصدرت مجموعة مترجمة عن العبرية هي مدارات = אדוות ، وقد وضعت النص في اللغتين، حتى يكون ذلك نوعًا من الاستغراء/ التحدي للتنقيب عن أي مأخذ، وذلك يدعوني إلى مداورة النص ومحاورته أكثر وأعمق، ومن يدري فقد يخلق هذا التوازي بين اللغتين تنافسًا أدبيًا ما. ثم إن قراءة النص باللغة الأخرى تفحص مدى أهلية  المتلقي لاستيعاب الآخر ولغته، فيتم تعارف واستكشاف، فالقارئ قرأ النص مرتين لا مرة، وبلغته وبلغة سواه. 
أحب أن أفتح المعاجم لأستطلع المترادفات أو الألفاظ المتقاربة حتى أمسك بالسمكة الملائمة، فلفظة (جورال) العبرية – مثلاً- تعني في المعجم: مصير، مآل، نهاية، قضاء، قدر، قسمة، حظ...إلخ، فعندما ألجأ إلى الانتقاء أستلهم الكلمة "الجامعة المانعة" أكثر من كوني  أستذكر في رحلة الذاكرة، ولعل اللفظة المتوخاة تغيب.
ترجمتي من اللغة وإليها فيها رسالة اجتماعية، أولاً لأنقل قضية شعبي، ومعاناته، وكذلك فكره،  وثانيًا حتى لا نظل نعمّم، فليس كل كاتب عبري بالضرورة هو معاد، فثمة كتاب منهم يكتبون عن قضيتنا أفضل من كتابنا.
  مرة أخرى، أنا معنيّ أن يتعرفوا إلينا، فيدرسوا في أي فلك نحن نسبح، لأن اللقاء الثقافي بين الشعوب عامة لا مندوحة عنه، فهو يهيئ اللقاء الفكري، ويجعلنا نسبح مع موجة واحدة، وبالتالي نفسح أبوابًا إنسانية، ونفتح المؤصدة منها.

ترجمة الشعر هي الأصعب، لأن في الشعر رموزًا وأبعادًا وظلالاً للفظة، ولها معان مركزية ومعان هامشية، وتلبس الاستعارات حللاً فيها شفافية أحيانًا، وفيها غموض أحيانًا، وفي كلتا الحالتين يعلَق  المترجم "علقة" ساخنة.

في مقالة لي -"محمود عباسي مترجمًا" (الشرق، العدد 3، تموز 1995، ص 77) بينت نماذج من المآخذ مما يقع فيه كثير من المترجمين من العبرية إلى العربية، وهي في غالبها تتبدى في:
1- حذف الجملة وإنقاص في المعنى 2- زيادة على الأصل يتكرم بها المترجم  3-   عدم الدقة في اختيار اللفظ  4- عدم إتقان العربية  5- عدم مراعاة أصل النص الذي تُرجم قبلاً عن العربية   6- عدم الاهتمام بالقافية في الشعر المقفى  7- عدم التقيد بالمقاطع، وعلامات الترقيم  8- عدم فهم العلاقة بين العربية والعبرية في الأمثال. وقد سقت على هذه الآفات نماذج من ترجمات أخطأ فيها المترجمون -حسب رأيي.
 من المترجمين من لا يتروى حتى يعرف ما المقصود من لفظة (ذكر) مثلا، هل هو المذكر، أم عضو التذكير، أم مجرد ذكر الشيء وعدم نسيانه، أم أنه فعل أمر يطالب بالتذكير، أم أنه طقس من طقوس الصوفية؟
 ومنهم من لا يفحص معنى الكلمة فـ (عسعس الليل) هي في ترجمته طال، والموشح هو(البالاد)، و(برّيّتي) هي بئري، و(المعلّقات) هي التي كانت معلقة (ربما بحبال أو مرتبطات بسبب من الأسباب ....)، وقد جمعت  مئات من هذي الأخطاء.


أقول، لا كما قالوا: "الترجمة أمانة لا خيانة"، إذ لا بد من أن نعلم أوليات الترجمة، ولا بد من دورات
مكثفة، وجهد، ومتابعة، فالتعلم يتم فقط بالمتابعة والتمرس. والترجمة مسؤولية، وقد تكون كلمة ما ذات مفعول سحري أو مفعول غضَبيّ، فقد ترجمت ذات مرة كلمة إلى العبرية، ولم أُوفق في اختيار الكلمة العبرية الدقيقة، فكاد أن يقع خلاف في الجلسة، لولا أنني تداركت نفسي، فصححت خطئي، وبفضل الكلمة التي "شرّفت" في اللحظة الحرجة - بقيت الجلسة مفتوحة. أذكر أنني كنت أضيف تفسيرًا ما بسبب حماستي لموقف فلسطيني مثلاُ، حتى لاحظ أحد الإسرائيليين ذلك، فقال: هذا رأيك أم رأيهم؟؟!! كنت تود أن يقولوا ذلك!!!!
الحيادية أمانة، ولكن هل هذي تتيسر دائمًا؟؟!! واللبيب اللبيب من كبح جماح هواه، وظل إلى الموضوعية أقرب.
جربت الترجمة الفورية، فألفيتها  أصعب، فأنت ملزم بمتابعة جمل هذا الذي يطيل عليك، (في تجربتي القليلة هنا كنت أطلب منه أن يتوقف حتى أستوعب، لأنني أحيانًا أسرح، وخاصة إذا لم يعجبني المتحدث أو حديثه) ، ثم أنت مراقَب لغويًا ، خاصة وأنت تدعو ليل نهار إلى الحفاظ على اللغة. أما في الترجمة التحريرية فثمة  تنقيح ومراجعة ومساءلة لصاحب النص هاتفيًا – إذا أمكن-، وكثيرًا ما فعلت ذلك – من باب -  قال بلى، ولكن....


ترجمتي قليلة، أقوم بها وفق رسالة، أو بناء على طلب أقتنع به، لكني راجعت ترجمات عن العبرية في ميادين مختلفة، فكنت أفحص دقة الترجمة، وأنقح اللغة، وثمة طرائف كثيرة تجابهني: فأحدهم يترجم عن العبرية، (شجوياس محمود) بمعنى أن محمودًا جُنّد، فإذا بالمترجم يجعلها (بأن جويس محمود) – ربما بتأثير جيمس جويس-  ظانًا أن الفعل هو اسم شخص. وقد ترجم أحدهم
prehistoric  وهي بالعبرية مأخوذة تمامًا بحرفيتها - التي تعني قبتأريخي، فقال لا فُض فوه (بقرة تاريخية) لماذا؟ لأن (بارا) بالعبرية تعني بقرة.


لي ديوان بالعبرية بعنوان ترجمتُه: (الأحزان التي لم تُفهم)، وكنت ترجمت أشعاري أولاً بنفسي، لكني عندما أطلعت أحد الأدباء العبريين ممن يتقنون اللغتين تحفظ من بعض ترجمتي، واقترح علي أن يقوم هو بالترجمة لقاء مبلغ زهيد رمزي، فوافقت، وليتني لم أفعل، لأنه كان يبتعد عن المعنى الأصلي بسبب قصوره عن معناه، فمثلا:
 طار طير نحو أيك
نحو مغنى
ليس يفنى
فقد أردت من وراء كلمة (مغنى) وطن= منازل بدليل قول الشاعر :
                        مغاني الشعب طيبًا بالمغاني        كمنزلة الربيع من الزمان
فجاء المترجم وجعلها بمعنى الغناء، فأين السارح من الرائح؟؟؟

المشكلة الأولى التي تجابه المترجم إلى العربية هي اللغة، إذ أن اللغات الأخرى الحية  تتجدد وتتفاعل وتتقبل كلمات وتعابير كما هي من لغات عالمية وغير عالمية، دون أن يطرف لها جفن. أما نحن فنتردد، ونركن إلى مجامع لغوية تسوّق لنا أكثر من لفظة للمصطلح الواحد، فتضيع هذي كلها في معمعة التنافس مع التعبير الأجنبي، وتبقى (فيديو) أقوى من كل بديل، ويحار المترجم مع تعابير مثل (مودولاري)، (موروتوريوم)، (رومانتي) -لاحظ الخلاف في كتابتها: رومانسي، رومانطيقي، رومانتيكي، وبدون حرف الألف في كل منها، وقس على ذلك الكثير الكثير!!

هل ثمة إمكانية حقًا لتوحيد أي مصطلح ؟

لا أظن . نقطة !

ومن يشك فليسأل مصطلح (التضمين) كم يشمل من معانٍ؟ فهو نقل حرف جر إلى آخر، وهو الجريان في الشعر (وبعضهم يسميه التتميم)، وهو الاقتباس من الشعر والنصوص، وهو مصدر ضمّن بمعنى حوى.

نحن بحاجة إلى احترام أنفسنا أولا، فنحترم لغتنا، فنحترم لغويينا ودارسينا، فنحترم جهودهم، ونتبناهم، ولا يجري ذلك إلا بعد أن يتحلى كل منا بالحديث الشريف "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، وأضيف عن لغته التي هي هويته، ومعنى وجوده.


اختارني مجمع اللغة العربية في حيفا -وأنا عضو فيه- لأكون رئيس لجنة الألفاظ والمصطلحات، وكنت قبل ذلك عضو اللجنة العليا لشؤون اللغة العربية، وقد  أصدرت هذه اللجنة ثلاثة كتيّبات تحت عنوان (المنهل) ضمت مئات التعابير واقتراحات لترجمتها من العبرية إلى العربية، فهنا تكمن المشكلة المستعصية، ثم قمنا بتوزيعها في المدارس، وللصحف؛ وأعترف أننا  كثيرًا ما كنا  نتناقش بحدة في ترجمة هذي اللفظة أو تلك، وكنا نضع أمامنا عشرات المعاجم، ولكننا لا نلبث أن نتفق، وما أصعب الاتفاق إذا رأيت الأغلبية ضد رأيك، فأمامك خياران: إما أن تنسحب، أو "تسحب" معهم.

كان يشغلني وما زال اللفظ العبري الشائع والذائع في الوسط العربي، فلا بد من ترجمة له، وتشجيع استخدام اللفظ البديل، وكنت قد بادرت في سنوات السبعينيات لنشر زاوية "أبـدِ رأيــك!" في مجلة  صدى التربية، ثم نشرت زاوية أخرى مشابهة في الاتحاد، أقترح البديل من الدخيل.

من ترجماتي لمن همspecial-care pupils  المُستَـرعَــون- أي الذين يحتاجون إلى رعاية منا، فالترجمة  (معوّقون) هي حادة ولئيمة.

وترجمتupdated  مُحَـتَّـن (منحوتة من لفظتي: حتى الآن)، وقد نجحتْ، رغم أن بعض أصدقائي أحب أن يستأثرها لنفسه، فأضاف لامًا  بدون ضرورة ذوقية حتى على أسلة اللسان، فقال: مُحـَتْـلَـن، ومما "قهرني" أن واضع القاموس العبري الجديد استخدم الأخيرة،  ويا تعبي ...!!!

أما في الأماكن التي أعمل بها،  وفي الكتب التي أراجعها فتسوّق كلمتي، وهذا نصف عزاء.

ومن ترجماتي (مَشْرى) للمجمع التجاري (كنيون)، والموجِّه للريموت كونترول، والمَعْـشَـب للمسطح الأخضر .. وغيرها مئات مما ابتكرته، أو مما أدعو له من اقتراحات سُبقت فيها، ونتدارس أنا والأستاذ جميل غنايم - وهو مترجم عن العبرية أثق به-  على إصدار كتيب فيه ألفاظ مما لليس مثبتًا في المعاجم .

أنا معجب بجرأة منير البعلبكي منذ أن أخذت أفتح معجمه المورد  في ترجمة التعابير الإنجليزية، فله ابتكارات أبدع فيها على غرار: (تحأرضي، بيمِهَـني، دو وعيي، الفوبنفسجي ، سمرئيات، مدَوْلَـب ....إلخ)

وجرأتي تأتت – كذلك - ربما بسبب ملاحظتي الدقيقة لتطور اللغة العبرية الدينامية بصورة تبعث على الإبهار، وليس أدل على تأثير العبرية في الشارع العربي  في الداخل من هذا المزج بين اللغتين في الجملة الواحدة، حتى سميتُ اللغة المستجدة بين ظهرانَينا (اللغة العِـرْبـِيّـة – أرجو قراءة مقالي عن هذي اللغة في مادة "من الأدب" في موقعي، فهناك أؤكد لكم أنكم ستستمتعون من المقال الساخر.)

في تقديري أنه يجب أن تكون مؤتمرات للترجمة، بحيث تكون هناك ورشات عمل، ومتابعات، وموازنات، فلو أحضرنا مثلا نصوص الترجمات الأربع (القط، عوض، جبرا، وعبد المقصود) لفصل من فصول هاملت مثلا، سنجد أن جبرا  على شهرته ومعرفته –مثلا-  لم يكن دقيقًا، وإنما كان يحفز ذاته الشاعرة، فيحذف ويضيف.

أحب متابعة الترجمات الفورية والكتابية، فكم من مرة كنت أراقب المترجم عن الألمانية أو الإنجليزية أو العبرية، وأضع السماعة بشكل يفسح لي مجالاً لسماع الأصل – المتحدث من جهة، وأسمع من السماعة الترجمة من جهة أخرى ، فأتعلم  غالبًا، وأنقد أحيانًا.

أود لو تكثر الترجمات عن العبرية، فبالله عليكم هل يجوز أن يمر بيالك أكبر شاعر عبري، ويمر تشيرنخوفسكي وراحيل  ووووو دون ترجمة جدية  إلى العربية (بل ما الذي تُرجم؟ وهل كان هناك مراجعة لأي كتاب صدرت ترجمته من قبل أن ينشر؟ هل هناك معاهد دراسات في العالم العربي على مستوى لدراسة ما يصدر في إسرائيل؟ مكاتب توثيق عربية منظمة لما يصدر فيها؟

مرة أخرى أعود لتأكيد أهمية الترجمات، وأستذكر دار الحكمة التي أسسها المأمون.

يقيني أن الآداب الإنسانية والفنون لها تأثيرها على التقريب و التواصل بين الشعوب والثقافات المختلفة،  والعولمة الحقيقية. من هنا فمن الإنسانية أن نستلهم  رؤية الآخر، وإدراك  بعض معاناته، والاطلاع على  نماذج من حياته كما تعكسه تلك الآداب والفنون، فالإنسان هو إنسان بهمومه وشجونه، بفرحته وحزنه وقلقه وخوفه وبوحدته وحنينه، وبأسئلته الشائكة حول الوجود والخلق، وبتناقضاته ونوازعه.
إزاء وطأة الصراعات القائمة على النزعات والنزاعات الدينية والمذهبية  والعرقية  نحن أحوج ما يكون إلى متعة الحروف، وثراء الكلمات والتعابير، وقدرتها على فك شيفرة صراع الإنسان التائق إلى التحرر والانعتاق، والعيش الكريم المطمئن، ونقله صورًا حية ثرية مفعمة بالحياة، وحافلة بالجدة والاختلاف، صور تنشد الحب والحرية والمساواة والعلاقات الحميمة التي توفر لنا قدرًا من الطمأنينة، وتشحن أعماقنا بحب الحياة، وبالقدرة على ابتلاع بعض ما فيها من قسوة وتنكر وعدوانية.

هذا هو الأصل في الأدب الإنساني وفي ترجمته، أو على الأقل هكذا يجب أن يكون.

أما إذا تمت ترجمة الأحقاد والعدوانية والعرقية المتنكرة لحق الآخر في الحياة، والاستعلائية الفوقية،  والمباهلات المذهبية غير المبررة، فهذا مما ينفّر، وأظأماهن ذلك حربًا لا أدبًا، ويبدو أن المترجم الذي يقبل على ترجمة النصوص يعبر عن دواخله هو، إلا إذا كانت ترجمته تكليفًا ووظيفة.
كم أسر وأنا أرى من يقرأ مجموعتي الجديدة بالعبرية "جئت إليك"- الصادرة عن دار سفرا في تل أبيب - 2010 وإلى من يستمع إلي بتلهف، وأنا أترجم مباشرة قصائدَ عبرية، إلى لغتي التي يتعشقها كثير من المستمعين العبريين، فيأخذون في الإعجاب المتناهي بالإيقاع وموسيقا الحروف، وقد حدث أن شاعرًا عبريًا طاعنًا في السن توجه إلي بعد استماعه لي في تل أبيب، فقال وهو يمسك بكتفي: "أنتم سرقتم إيقاع الشعر الذي في التوراة، ولم يبق لنا شيء اليوم. للحفاظ على تراثنا اليوم. علينا أن نستمع للشعر العربي!".


 


 

الكتاب متعتي ونزهتي

 

      كان أبي من القراء القلائل الذين يطالعون الصحيفة أو الكتاب في سنوات الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، كنت أراه يتصفح صحيفة فلسطين أو الدفاع، وتارة يقلب صفحات كتب فقهية أو تاريخية على ندرتها، فأورثني حب المطالعة والكتاب.

كان إبراهيم المحمود – أبي-  يعمل خياطًا، يتاجر أحيانًا بالملابس القديمة، وكثيرًا ما أحضر معه من يافا، وبعد النكبة كتبًا كان يسائلها قبل أن يقتنيها:"هل تفيدين ابني؟".
تأتي البضاعة من يافا، وكانت تأتي معها بضعة كتب، عرفت منها في صغري روبنسن كروزو لديفو، وفقه المذاهب الأربعة، والإمامة لابن قتيبة، والعمدة لابن رشيق، وقد حدثتكم قصة مؤثرة عن هذا الكتاب في رحلتي النقدية.

كنت أضمها لمكتبتي الصغيرة، فأقرأ وأقرأ، وكأنني خلقت فقط  للقراءة.
 ثم كان أن نشرتُ في مجلة حقيقة الأمر مختارات مما كنت أجمعه من هنا وهناك، نحو: ماذا قالوا في العيون، كأن في التشبيه، أبيات عن التواضع....إلخ. كنت أذكر المقولة ومن قالها، ويدفعني حب الاستطلاع  لمعرفة القائل، الأمر الذي ساقني وأنا في الصف الثامن للبحث عن كتب، ولقراءة كتاب تاريخ الأدب العربي من الغلاف للغلاف، فأعجب بهذه اللغة الزيَاتية المميزة. كنت استعرت الكتاب من قريب لي، فوجدته متهالكًا ممزقًا لكثرة ما استخدمته الأيدي، وبقيت محافظًا عليه إلى أن اشتريت الطبعة الجديدة، فنقلت إليها ملاحظاتي التي أحب عادة أن أضيفها في كل كتاب أقرأه.

في سنة 1961 تعرفت إلى الصديق نواف عبد حسن، فوجدته يناقشني في مقالات نقدية مبتدئة كنت نشرتها في المرصاد، وله حافظة عجيبة، يذكر ما كتبت، وأنا لم أكن أذكر، إنه ظاهرة مميزة وغريبة، يعرف أسماء ما استجد من  الكتب الصادرة حديثًا، وعن أي دار نشر، ويحفظ ما أعجبه من"البرنامج الثاني" الذي كان يذاع من القاهرة، في الأدب والفن. بل دعاني لأن أصحبه إلى مكتبة جبعات حبيبة حيث كانوا يشترون لمعهد الأبحاث مجلة الآداب، والأديب. فكنا نستعير هذا الكتاب أو ذاك، وننسخ الكتاب تلو الكتاب مما يروق لنا، أذكر منها أنني نسخت قالت لي السمراء لنزار، لم يبق إلا الاعتراف لحجازي،  أباريق مهشمة للبياتي...

أخذت أشتري جميع الكتب التي تصدرها دار أجيون في حيفا، ودار النشر العربي، ومكتبة الاتحاد، ومكتبة فؤاد دانيال، واحتفظت بمعظمها، بل إن الأغاني للأصفهاني بدئ بنشره شهريًا في آذار 1963، واحتفظت  بكل جزء إلى أن تم النشر، وظل الكتاب مصاحبًا لي حتى غدا لون ورقاته أصفر، فودع المكتبة يوم أن أهدتني أكاديمية القاسمي الكتاب في طبعة جديدة، وذلك بعد حصولي على الأستاذية (آذار 2011).
في المسابقات التي أعلنتها دار الإذاعة ضمن برناج"نجم الشهر" كنت نجمًا في مسابقة المتنبي، الخنساء، الأدب المهجري، وبلغت ذروة الفوز في مسابقة القرآن الكريم، وسميت"حافظ القرآن الكريم"، (آذار 1967)، حيث طُلب منا، وكنا خمسين متسابقًا-  أن نحفظ  سور البقرة، آل عمران، والنساء والمائدة، وبعض أجزاء أخرى قصيرة الآيات، فبحثت عن كتب التفسير، وعن كتب الأديان المقارنة.

بدأت المكتبة البيتية تتسع وتتسع، بعد أن ترددت على مكتبة المحتسب في القدس، والدنديس في الخليل مرارًا، مكتبة القطب في نابلس، والطبري في طولكرم، وعصفور في جنين، وما من سفرة إلى أي وجهة إلا وكنت أحمل رزمات الكتب، سواء من مدن الضفة المختلفة، أومن القطاع، من الناصرة وحيفا – مكتبة كل شيء، من المعارض التي كنت أترقبها أنا ونواف حتى لحظات عمره الأخيرة، من عمان ومن القاهرة. كتب... كتب... كتب، مجلات.... مجلات، التهمها قراءة وشراء، واثنان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال.

وتتكدس حتى ضاقت أمي ذرعًا، فصرت إذا أحضرت الكتب أدخل غرفتي متسللاً، وبقيت هذه المحاذرة أيضًا بعد زواجي.

قالت زوجتي: أنت تنفق راتبينا على الكتب، حتى لا نبني بيتًا جديدًا لنا.

قلت لها: هذه الكتب هي التي ستبني لنا البيت. ذلك أنني كنت أشتري ما يفيدني في أبحاثي وكتاباتي، وبالفعل فإن كتابـيّ الجنى في الشعر الحديث، والجنى في النثر الحديث قد درّا علي في سنوات الإصدار الأولى (1984-1985) أموالاً طائلة قبل أن يسرق الناشرون ثمرة أتعابي، وقد أفدت من مكتبتي، ومن المصادر النقدية التي عالجت الأدب الحديث.
وصدق تصوري، فبنيت منزلي - المنزل الذي أحب أن يسميه الشاعر حنا أبو حنا"الزَّهراء" لرحابته وجماله وموقعه، وزينت المدخل بنقش الآية:"وقل رب زدني علمًا"، لأظل أشعر أنه ينقصني الكثير مهما قرأت، وكنت قرأت لبلزاك قولاً أعجبني:"كلما قرأت كتابًا فتحت نافذة على جهلي". 

أعترف أن مكتبتي مميزة، فقد جمعت إلى ذوقي ذوق نواف الذي كان يبيع مكتبته بين الفينة والأخرى، ليجددها، ويجدد قراءاته، فأشتري معظم ما أجد ضرورة في اقتنائه. ذلك أنني في كل شراء من أي مكتبة أتصفح الكتاب أولاً، وأعرف مواده، والفهرست ومبناه، وأسأل نفسي إن كان هذا الموضوع يهمني أم لا؟ فإذا كان الجواب سلبًا فإنني لا أمتلك الكتاب حتى ولو مجانًا، وإذا كان الجواب إيجابًا أقتنيه وبأي سعر، وإذا ترددت وكنت بين بين فإن سعر الكتاب يقرر اقتنائي أو عدمه.
 أختار الكتب بعناية، بعضها بسبب مؤلفها الذي يروق لي، وبعضها بسبب موضوعها الذي يهمني، وبعضها لأبحاثي التي أعالجها أو سأعالجها.

أحرص على امتلاك كل ما صدرلأدونيس وعنه، لمحمود درويش وعنه، نزار قباني، سميح القاسم، البياتي، عبد الصبور، أحمد دحبور، سيد القمني، صلاح فضل، بورخيس، ريتسوس، شكسبير، ناظم حكمت، نجيب محفوظ، توفيق الحكيم، محمود أمين العالم وعشرات غيرهم، كما أحرص على الحصول على جميع النتاج المحلي للمميَّزين وللمتوسطين.

أنهمك في القراءة  ساعات الصباح، ولدى إعداد بحث، عندها تكون القراءة متواصلة عدا ساعات الليل، فهي للراحة، ولمسؤوليات عائلية.

في مكتبتي الموسوعات، والمعاجم، وكتب التفسير ومئات الكتب اللغوية والنحوية. فيها دواوين الشعراء المعروفين القدامى والمحدثين، ومئات المجموعات الشعرية المحلية مرتبة هجائيًا حسب الشاعر، وفيها مئات الكتب النقدية، وعشرات الروايات، ومجموعات القصص القصيرة، ومئات الكتب بالعبرية، وأخرى بالإنجليزية، وعشرات بالألمانية.

لدي كتب صدرت في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أعتز من بينها بكتاب  مسارح الأذهان لخليل بيدس، القاهرة-  1924، وهو أول مجموعة قصصية في الأدب العربي – على مبلغ علمي.

أعتز بإهداءات الكتاب، وأقدر أنها تناهز المئات، أذكر منها ما أهدانيه الشاعر صلاح عبد الصبور: مأساة الحلاج، وقد كتب لي:

"إلى الأخ الكريم الشاعر الناقد الأستاذ فاروق مواسي مع خالص التقدير". 19/8/1980

وإهداء من نزار قباني:في كتاب جمهورية جنونستان وبخطه الجميل المنمنم كتب:

"إلى صديقي الحبيب

الشاعر فاروق مواسي

مع أصدق مشاعري واعتزازي الكبير

10/7/1988"

في مكتبتي إهداءات من شعرائنا وكتابنا، وخاصة من سميح القاسم، ومن الكتاب الذين التقيتهم نحو أحمد عبد المعطي حجازي، محمد أبو دومة، محمد إبراهيم  أبو سنة، محمود أمين العالم، وعز الدين المناصرة، وناصر الدين الأسد، ومحمود السمرة، وووو

من الكتب التي أردت اقتناءها، ولم يتيسر لي ذلك: كتاب (يارا) لسعيد عقل، حتى أدرس فكرته الغريبة العجيبة - بكتابة العربية بحروف لاتينية.(الكتاب مخزون في مكتبة الكونغريس، ولا بد لمن يرغب بالحصول عليه إلا أن يقوم بتصويره من هناك، وقد كلفت صديقًا، فأمسك بالكتاب، لكنه استثقل عملية التصوير، بسبب ضيق وقته).

هناك مئات الكتب صدرت في العراق وفي المغرب العربي لا أستطيع الحصول عليها. ولكني لدى زيارتي لمعارض الكتب قد أجد بعضها، وقد أخذت بدءًا من سنة 2010 بالتقليل من الشراء، لأن معظم ما أشتريه أجده في مكتبة أكاديمية القاسمي.

مع ذلك، فما زلت أقتني عن طريق صديق عزيز في عمان هو الكاتب محمد المشايخ مجلات نزوى، وهي كاملة الأعداد في مكتبتي، أسوة بمجلة فصول، ومجلة إبداع، ومجلة عمّان، ومجلة شعر المصرية، ومجلة الآداب البيروتية، ومجلة أفكار، ومجلات علامات وجذور وعبقر الصادرة عن نادي جدة الثقافي، ومجلة دبي الثقافية، وعدد كبير آخر من المجلات لا أحرص على اقتناء كل عدد منها، وإنما أشتري ما يهمني موضوعها.

حفظت أعداد الجديد (معظمها)، جميع أعداد  الكرمل الجامعية، مواقف، المواكب، الشرق، الفجر الأدبي، الفجر الجديد، مشاوير، الأسوار. ولدي أعداد الكرمل الفلسطينية عدا ثلاثة، مجلة الناقد، الفجر الأدبي، البيادر (رام الله)، و البيادر التي كانت تصدر في تونس، وعدد كبير من أعداد الأقلام، المعرفة، الموقف الأدبي، وأعداد مجلة المهد الأردنية. أذكر ذلك لأقول: هذه المجلات معظمها لا تكاد تجدها حتى لدى محرريها، ولا نكاد نجدها في مكتبات الجامعات. أقول ذلك بعد فحص ومساءلة.

مكتبتي تقع في غرفة طولها عشرة أمتار، وعرضها أربعة، وثمة مخزن بجوارها، وتحتل الكتب جزءًا من غرفة العمل حيث الحاسوب، وكلها تمتلئ برفوف الكتب من الأرض حتى السقف، قد تصل الكتب والعناوين إلى خمسين ألف، والأهم أنها مرتبة حسب مواضيع، وحسب تفريعات،هنا المجلات المجلدة، وهنا الكتب التراثية وكتب نادرة ذات قيمة أدبية رفيعة، مجموعات روائية، وأخرى مسرحية عربية، وهناك المحليات. هناك الكتب المترجمة إلى العربية، وهنا الكتب باللغات الأجنبية، العبرية، الإنجليزية والألمانية.
 كثيرًا ما يسألني الزائر لمكتبتي، وهو مندهش: هل قرأت كل هذه الكتب، يقول ذلك وهو يحرك يده.

أجيبه عادة:  هذه المكتبة هي في الأساس مراجع ومصادر، وأنا أنتقي ما قد يلزمني في كتابتي وأبحاثي ودراستي وتدريسي، ولكن هناك كتبًا كثيرة جدًا قرأتها من الغلاف إلى الغلاف.

قد يَعجب البعض إذ قلت إن القرآن-الذي حفظت أكثر آياته غيبًا- هو أستاذي الأول في اللغة، فقد قرأته كله وأنا صغير اثنتي عشرة مرة. كتاب اكتشف فيه دائمًا بعدًا لغويًا وبيانيًا جديدًا، وأنا أعجب بكتاب محيي الدين درويش"إعراب القران الكريم وبيانه"، وقد عرفت عن المؤلف من شاعرنا أحمد دحبور، فعند لقائي به في منتزه عبلين حدثني عن محيي الدين وعن طرائفه.

      وكان أستاذي الثاني المتنبي وديوان شعره، وأتمنى لو أنني أجد الوقت لحفظه أكثر، فقد حفظت ما يربو على خمسمائة بيت من قصائد له مختلفة، وهي رصيد لي يسعفني في أكثر من سياق أو مجال. لذا فإنك واجد في مكتبتي أربعة شروح لديوانه، وعشرات الدراسات حوله.

أصدقكم أنني في مكتبتي أحس بالعلماء والأدباء أحياء، يخاطبونني، وأخاطبهم، وما اصدق الشاعر الذي قال:

لنا جلساء ما  نملّ     حديثهم

                              ألبّـاء مأمونون غيبًا ومشهدا

يفيدوننا من علمهم علم ما مضى

                             ورأيًا وتأديبًا ومجدًا وسؤددا

هذا الإحساس لازمني كذلك في أثناء كتابتي قصيدة"أغنية إلى الإنسان بابلو نيرودا" -(ديوان غداة العناق) قلت في وصف موته، وكأني أتخيل مكتبته:

من يتساقط

فرماد وحديد ولهيب من جمرات

في مكتبة ملأى بالأصوات

أما عن الإعارة، فقد أعرت الكثير ولم يرجع، ولكن هذا لا يمنعني من تزويد طلاب الماجستير والدكتوراة على وجه الخصوص بالمراجع المطلوبة، فهذه مسؤولية، وأنا مضطر إلى أن أقوم بها على المستوى الأخلاقي والاجتماعي. بعض طلاب الشهادة الأولى يزورونني، خاصة وقد جعلت غرفة الحاسوب بجانب المكتبة- غرفة ضيافة، وللمطالعة والتلخيص، وكنت أتمنى أن تكون لدي ماكنة تصوير ليصور من يشاء ما يشاء.

صدق الشاعر في صدر البيت التالي، ولا أوافق على عجزه:

 فمعشوقي من الدنيا كتابي

                           فهل شاهدت معشوقًا يعار

أما انه معشوق فوالله هذا صحيح، فالكتاب بالنسبة لي أغلى من سرج السابح في نظر الفارس، وهو أعز مكان وخير جليس، كما ذهب أبو الطيب. واقرأ ما يقوله الجاحظ عن الكتاب في كتابه"الحيوان" حتى ترى مدى هذا الحب للسِّفر. وأقول اليوم: لقد كتبوا فدرسنا، ونكتب فيدرسون.

معدل قراءتي في اليوم خمس ساعات (ولا أقصد ساعات الحاسوب فهي كثيرة)،وهي تتضمن قراءة الصحف والمجلات الأدبية الكثيرة التي أكتفي بمعرفة مضامينها للإفادة منها مستقبلاً. ويعلم الله أنني أكثر المتابعين للإصدارات المحلية، ويندر الكتاب المحلي الذي ليس له مكان في مكتبتي، ويندر الأديب الواعد الذي لا أعرفه إما عن طريق الورشة الأدبية التي أقمتها وشجعت فيها الكتابة الجديدة، وإما عن طريق الصحف.

الكتب هي غذائي ومتعتي ونزهتي.

أخاطب نفسي أحيانًا، وأقول: يا فاروق أنت فيك الكتاب،ومن قلمك الكتاب، وإليك الكتاب.

وأقول:  لا أتصور أي عالم آخر أعيش فيه دون كتاب، حتى ولو كان جنة.

 


 

عن كتابتي:

 

يبدو لي أن"الطقوس" كما يسميها الكثيرون أو العادات المنتهجة أو"السلوك الكتابي" كما أرى، فيها ما يشي بالمضمون، وإذا كان الأسلوب هو الكاتب كما يرى بوفون فلا بدع إن لاحظنا أن الشكل حتى الخارجي عن النص أو السابق له، له علاقة ما بالفحوى، أو بصاحبه.

وقد ألف س.ر مارتين كتابه"في تجربة الكتابة"- ترجمة: تحرير السماوي، فعرّفنا إلى بعض السلوك الكتابي، فسيمنون يصحو من السادسة صباحًا ويحضر لنفسه القهوة، ويأخذ فنجانه يوميا" إلى غرفة عمله... الستائر تظل مسدلة فهو يحب العمل تحت المصابيح الكهربائية. سيمنون كان يعمل لمدة ثلاث ساعات يوميًا أي أنه في التاسعة صباحًا يكون قد أكمل ما يقارب العشرين صفحة دونما استراحة تستمر طباعته كطلقات الرشاش، ويطبع نسختين من كل صفحة خوفًا من أن تضع إحدى أوراقه... في فترات الاستراحة لا يقوم بأي عمل (ص92)

أما أجاتا كريستي ففي الحمام تأتيها أفضل الأفكار كما قالت:

كانت تجلس في البانيو ساعات طوالاً حتى تجد القصة الملائمة وتضيف:" لا أستطيع وضع التصاميم إلا في الرياح الممطرة، أما إذا أشرقت الشمس فيكون أحب شيء الى نفسي هو الجلوس في الحديقة. ففي الأيام العشرة قبل الأخيرة قبل البدء في الكتابة أحتاج لتركيز محكم. عليّ أن أظل وحدي دون ضيوف ودون تلفون ورسائل (ص 108)

ولم يكن همنغواي يستعمل المكتبة لعمله بل كان يعمل في"البرج الأبيض" المطل على العاصمى هافانا (ص12) الأمر الذي يذكّر بميخائيل نعيمة و"الشخروب" في أعلى بسكنتا.

لا بد من الاشارة كذلك إلى مقال كتبه صالح علماني في صحيفة تشرين السورية 2003/05/28 حيث استعرض كتاب"عندما تأتي ربات الإلهام" للمؤلفين الإسبانيين راؤول كريماديس وأتحل اشتبيان. أما الأول فقد كان إستاذاً للأدب الإسباني والأمريكي اللاتيني في جامعات مختلفة، وحرر مقالات أدبية ونقدية في صحف كثيرة، وأما الآخر فهو أستاذ الأدب الأمريكي في جامعة غرناطة. وهذا الكتاب يدرس عادات ستة عشرأديباً في ستة عشر فصلا"، نحو: ألبرتي، نيرودا، بورخيس وأوكتافيو بات وإدواردز...الخ.

فبورخيس مثلاً كان يغطس في الصباح الباكر في حوض الاستحمام ليستغرق في التأمل وليناقش الحلم الذي حلمه الليلة الفائتة، وليدرس إن كانت فكرة الحلم تنفعه في صياغة  أدبية ما، فإذا اهتدى إلى البداية والنهاية لم تكن لديه صعوبة في استمرار معالجته النص.

ومن الجدير أن نذكر أن ماركيز كان يؤمن بأن الأزهار على منضدته تجلب له الحظ، وقد ذكر أنه يستهلك مئات الأوراق حتى يستخلص قصة في اثنتي عشرة صفحة.

أما الحديث عن يوسا وانضباطة ودقته فيذكرنا بنجيب محفوظ الذي كان يمر في وقت محدد تُضبط الساعة حسبه. ولكن المفاجىء في سلوك يوسا الأدبي أنه كان يكتب وأمامه دمى لأفراس النهر.

وكنت قد قرأت أن شوقي كان يكتب في المقاهي وعلى أوراق علبة الدخان، وكان يترنم في شعره على شاطىء النيل، وأن نزار قباني كان لا يستخدم إلا الورق الملون في كتابته.

وقد تعرفت إلى بعض الأدباء الذين يُعدّون للكتابة عدتها، فيحضر هذا الطاولة والأقلام والورق، ويعد القهوة، ويستمع الى الموسيقى الكلاسيكية.

ونحن بالطبع لا نستطيع أن نصل بين خط السلوك وفحوى النص تمامًا، ولكن ذلك يحتاج الى دراسة مسؤولة، والافتراض أن ثمة علاقة ما كما أشرت.
 سأحاول أن أبيًن ذلك من خلال سلوكي الشخصي (وعذرًا لأنني أذكر نفسي بين عظماء أنا تلميذ لهم، فقد طُلب مني أصلاً أن أكتب عن سلوكي أو طقوسي الشخصية: إن النظام والانضباط والدقة أهم ما أهتم به، والصدق هو العمود الفقري لكتابتي، فإذا وردت القصيدة وكنت سائقًا كتبت بعض أبياتها وأنا أقود سيارتي، وإن كنت على فراشي ليلاً فإنني أدوّن الوارد والنور مُطفأ (خشية من تعكير الصفو على العائلة)، وإن أطلت الفكرة أو الإشراقة لجأت إلى الهدوء لأتابع ما أحسه ويختلج في مشاعري وفكري.

أقرأ بصوت عال كل ما أكتبه، وفي قراءتي يتبين لي الشعر بتلقائية، وألاحظ كيف يرتفع صوتي وينخفض مع وتيرة دمي. بعض قصائدي كانت تأتي إثباتاً لمقولة"إن الشعر فيضان تلقائي"، فتولد القصيدة كاملة دون أن أحس فيها حرفًا منها على سبيل المثال:"ند في أضرحة عراقية" التي كتبتها والدمعة ترف على مآقيّ.

أما القصائد التي أقرأها على نفسي بإلقائي المتفاعل فقد أجد ا كلمة بحاجة الى تغيير، أو الى معنى جديد جدير أن أتوسع فيه، أو أختزله، فأفعل ذلك أسوة بعبيد الشعر الذين اشتهروا في الجاهلية بسلوكهم الكتابي الذي كان يمتحن الجملة الشعرية، ومنهم زهير في حولياته، عبيد بن الأبرص، الحطيئة وعدي بن زيد...

ولعل في هذا ايجابًأ أيضًا أن الشاعر لا يعتبر كلماته كمالاً مطلقًا، وقد توصل الى ذاك لاحقاً العماد الأصفهاني الذي  رأى في التغيير علامه على"استيلاء النقص على جملة البشر".

أما كيف تولد قصيدتي، فالأمر يتعلق بما شُحنت به أو عبّئت أشجاني وأحلامي وعاطفتي. تأتيني جنية الشعر (ولا أقول شيطانهُ) فأتبعها بلباسها الشفاف.
هل الصورة أوشكت أن تكون؟ إذن فاسمعوا ما أقول:

انحنت لي قليلا فبدا تكوّر نهديها/  فرمقت الزغب الأبيض.

في شهوة/  ومضينا في الكلام وفي القصيدة.

عندما أختم القصيدة أحب أن أقرأها فتكون رفيقتي عفاف (تسمي نفسها"الأذن الأولى") هي التي تستمع، فأقرأ وأراقب تعابير وجهها، وأستمع الى تعليقها، ولكني لا أتقيد به.

أما كتابتي النقدية والبحثية فهي من قبيل القصدية، فأنا معنيّ مثلاً بفكرة أو بنص أو بأديب أحب أن أعرف به أو مبدأ شعري أو فكري.

أقرأ أولاً ماذا كُتب، وأعطي كل ذي حق حقه، فلا أسرق من هذا ولا أنتحل، ولا أنكر على ذاك فضله، فقد جعلت رائدي الصدق –كما قلت-.

أبحث عن متلق يستمع إلي وأشترط فيه (في قرارة نفسي) أن يقدّر جهدي، فلا يتوقف لدى الملاحظة التي لا تروق له.

شرط كتابتي أن يكون هدوء حولي لاركّز فكرتي، وأغوص في أعماقها شعراً ونثراً.

فهل هذا الصدق وهذا الهدوء وهذه الدقه تنعكس في كتابتي؟
 أدع الجواب للمتلقي الذي أرحب أن يكون موضوعياً.

                  

 

                          نشرت في مقال كتبه كمال الرياحي في مجلة عمان العدد 121 – تموز 2005، ص 9 – 11.


 

صفحاتي السياسية:

                                          

صفحاتي السياسية!!! 

لماذا أكتبها؟ ألكي أدُل على علاقاتي ونشاطاتي في السياسة ومع السياسيين؟ أو حتى أدِل بها؟

أم أكتبها لأنها جزء من مسيرتي وسيرتي؟

فلتكن هذه الأخيرة أولاً وقبلاً؛ لأنني انطلقت بدءًا من أن ترجمة حياة الكاتب هي سيرة مرحلة، وهي حكاية الفرد التي تعكس بصورة وأخرى مجموعًا، وهي نص له علاقة بكتابة من يكتب، وهي  أضواء عليَّ وظلال، وهي مثار التساؤل في كل توجّه، وهي وجهة نظر؛ وثمة من قال: الإنسان موقف.

لن أزعم أنه كان لي موقف منهجي، أو أنني التزمت بنمط سياسي مُبَرْمَج واحد وموحد. ولعلي أعترف أنني لست سياسيًا ناجحًا، ولذا لم أنجح بإقناع أحد أن أُرَشََّح لمنصب سياسي، ولم أحاول أصلاً أن أقوم بذلك، فكم من فكرة سياسية أو طرح أثبتت الأيام صدق ما أقوله – لم أكن أفلح في إقناع أحد به، ويبدو أن القيادة تحتاج إلى مهارات لم أحظ بها، فإذا ناقشت أحدًا في أية مسألة سياسية فغالبًا ما يتفوق علي من يحاورني- إما بصوته أعلى، أو بدعم جماعة حوله يهزون رؤوسهم بالموافقة، أو بالقوة الاستهزائية، أو بالاستعلاء المعرفي الذي ينتهي غالبًا بالغضب وكيل الاتهام لي ولمعرفتي، وكثيرًا ما كنت ألوذ إلى الصمت طلبًا للسلامة وحفاظًا على العلاقة، وراحة لحنجرتي.

حدثتكم في محور طفولتي عن نشاطاتي الأولية في خلية الحزب الشيوعي في قريتي، وفي مشاركاتي الفعالة ضد الحكم العسكري، كما حدثتكم عن هذه النشاطات في محور علاقتي المتواضعة مع إميل حبيبي وتوفيق زياد.

بالإضافة إلى ذلك كنت أحضر ندوات كان يقيمها حزب العمال الموحد(مبام)، الذي كان يقدم لنا ندوات في معنى الاشتراكية ونظام الكيبوتس والقومية  والوجودية.  ويبدو أن ذلك كان بقصد إبعادنا عن الفكر الشيوعي الذي كان يتبنى  في أوائل الخمسينيات بعض  طروحات  من الفكر الناصري، وبالتالي فقد كان هذا الحزب يمتص الطاقة القومية لدى شبابنا.

 

عبد الناصر:

 

كنت في الخمسينيات متحمسًا  كأبناء جيلي لأفكار جمال  عبد الناصر الثورية الحماسية. أنتظر خطبته وأتلهف لمضامينها، لكنني – فيما بعد-  ولأسباب لغوية محضة أخذت أرفض هذه اللغة العامية على لسانه، وهذا اللحن الكثير الذي كان يشيع في خطبه؛ إذ كنت أقول في نفسي-  إن ترتيب اللغة هو ترتيب أفكار، وترتيب الأفكار يترتب عليه تنظيم الواقع والإطار،  وبالتالي هو تنظيم  للواقع الحقيقي كما يراه صاحبه. 

وكنت أتضايق لأنني لا أستطيع أن أقنع أحدًا بضرورة الاهتمام باللغة – حتى في الأمور السياسية  المصيرية. كان عبد الناصر مقدسًا لدى مجتمعنا- عامة-،  ولذا يحظر عليّ الدخول إلى حرمه أو حرم كلماته.

ثم أخذت  أشك في المبالغات، و كنت لا اقتنع بها وبما تصنع"الثورة”، وكذلك  في هذين" القاهر" و” الظافر”-  اللذين نراهما في التلفزيون،  وهما صاروخان  أثبتت الأيام أنهما وهميان. 

كما كنت غاضبًا لما قام به عبد الناصر من إغلاق مضايق تيران، لأنني اعتقدت جازمًا أنه لا يستطيع أن يتحدى إسرائيل وأمريكا، فأجد الجميع ممن يتحلقون حول التلفزيون يرمقونني شزرًا، بل يكيلون لي كل اتهام. 

كنت على يقين أن شر الهزيمة سيلحق بنا، وهكذا كان. 

ولكن الصدمــة العنيفة لم أتحملها، فقد كان هذا الزلزال – لا مجرد صدمة-  فوق ما يمكن أن يُتوقع.  كنت أرقًا قلقًا في الأيام الستة إلى حد بعيد، استمع إلى نشرة الأخبار كل نصف ساعة.

وكنت أتابع الأخبار باللغة العبرية، ذلك لأنني أيقنت مدى الكذب والدجل في إعلامنا وفي إذاعاتنا العربية. وكنت- من بين القلائل جدًا- من يصدق الأخبار في الإذاعة الإسرائيلية بالعبرية، فالكل من حولي يقولون: لا  تفتح على إذاعتهم، فما يروجونه  دعاية، والحقيقة ستبين  بعد أيام، وهي أن  الجيش الإسرائيلي انهزم شر هزيمة، وسترى.

  عندما دخل الإسرائيليون القدس بلغ قهري الزبى، وفي رحاب الأقصى أخذ الراب غورن قائد الاحتياط ينفخ البوق، ثم  شرع  يقرأ آيات من المزامير، فلم أتمالك نفسي من البكاء، فإذا بي أرمي بالمذياع بقوة صوب بوابة الدار لألقيه متناثرًا على مبعدة مني. (من العجيب أنه ظل يواصل إذاعته القاهرة والظافرة). 

لا يمكن أن أنسى هنا أنني فقدت صوتي طيلة أسبوع كامل، فكنت أخاطب الناس بالإشارات وبالإيماءات، ومما زادني قهرًا وموتًا أنني استمعت من الإذاعة الإسرائيلية إلى تسجيل  للرئيس عبد الناصر  وهو يخاطب  الملك حسين:

“ أنت حتطلع بيان وحنا حنطلع بيان”!!!

 ولم يكن البيان إلا تمويهًا وقلبًا للهزيمة بحيث تكون انتصارًا حققته الأمة العربية الماجدة.

ومع ذلك رحبت مع الجماهير الحاشدة بعودة عبد الناصر، ولم يكن  يهمني في الرجل إلا الرمز.

حاولت الامتناع عن القدس وزيارة أقصاها، فلن أدخلها إلا محررة، ولا بد من رد هذه الإهانة، وأية إهانة؟ إذ " ظلت النكسة  تذروني هزائم وتمائم" - كما قلت في قصيدة لي-.

 آليت على نفسي عهدًا لم أستطع الإيفاء به، فوجدت نفسي في رحاب الأقصى  أصلي، وأخذت أطوّف في مكتباتها، وخاصة مكتبة المحتسب، وقد حدثتكم عن ذلك أعلاه.

عندما افتقدنا  عبد الناصر، وأعلن نعيه كنت أستمع إلى النعي وأنا حزين. (وهل كلمة حزين تكفي؟)، بل أزعم لنفسي أنني أول من كتب له قصيدة في الرثاء، أنجزتها بعد ربع ساعة من سماع الخبر، وكتبتها على نفَس واحد، وجعلتها تحت عنوان"القصيدة الأولى في الرثاء”

 قلت فيها:

 

طافَ في كُلِّ البُيوتْ

دَيْدَبانًا لا يَموتْ

 طاف في كُلِّ القُلوبْ

                        ***

أيُّ حُزْنٍ سَوفَ يَجتاحُ الفِراخْ؟

أيُّ رَوْعْ؟

جَفَّ دَمْعْ

                   ***

 

أحْمَدُ اللَّهَ لأنِّي

عِشْتُ في وَقْتٍ أَثيرِ

عَصْرِ عِمْلاقٍ كَبيرِ

ونبيُّ العَصْرِ إنسانْ

يَصْنَعُ الْخَيْراتِ لليوْمِ الأَخيرِ

أيُّ قَولٍ لا يَفيهْ!

- كُلُّ قَوْلٍ لا يَفيهْ

هُوَ دَرْسٌ قَدْ ثَقِفْناهْ

هُوَ حُبٌّ وَشَرِبْناهْ

أطْفأَ الْمَوْلى الْمَنارهْ

واصْطَفى الْمَوْتُ الكِرامْ

 

أقمنا في كل القرى العربية مواكب جنازات شيعنا فيها أمل الجماهير العربية عامة، والفلسطينية خاصة- الرئيس  العظيم  جمال عبد الناصر.

ومضت الأيام.

عندما كحلت عيني برؤية القاهرة في أوائل الثمانينيات كانت زيارتي لضريح عبد الناصر في سلم الأولويات، وما إن دخلنا الحجرة التي يرقد فيها، وألقينا نظرة على صورته الضخمة  التي على الجدار  حتى تخيلته بأبهته وقامته وعنفوانه حبيبًا قريبًا إلى القلب، وأذكر أنني حزنت، ووجمت أمام  هذا الرجل العظيم. تقدم إلي الحارس، وسألني: حضرتك فلسطيني؟!

نعم، وكيف عرفت؟

هذا الحب وهذا الخشوع أمام الضريح.

ومن العجيب أنني في زيارة لاحقة لمعرض الكتاب، وقد تسنى لي أن أقرأ من قصائدي،  لاحظت  أن حب عبد الناصر ليس عميقًا في قلوب المثقفين المصريين، فما إن قدمت بعض التمجيد لشخصه، وكيف أننا في الجليل والمثلث والنقب نحبه و نرى فيه موئل العرب وعنوان كرامتهم، فإذا بالجمهور في القاعة يعرض عن كلماتي – بصورة أو بأخرى-،  ولم أسمع أي تصفيق كما كنت أتوقع.

لكن أحد محرري صحيفة (العرب) وهي صحيفة ناصرية أحب أن يجري معي حوارًا لمناقشة مقال كتبه عصمت سيف الدولة عن الناصرية، وقد ظنني ذلك المثقف السياسي المتابع، فاعتذرت لسببين: أولاً أنني لا أعتبر نفسي مفكرًا سياسيًا، وثانيًا لأنني لم أقرأ المقال.


 

حركة الأرض:

 

نشطت حركة الأرض بقيادة صالح برانسي ومنصور كردوش، وكنت ممن يرى في صحافتها"الأرض” بأسمائها المختلفة (حتى لا تُصادر ووفقًا للقانون) بذرة طيبة وصالحة، ولكني كنت أخشى عليها مغبة التطرف.

 ومع ذلك فحين عقد مهرجان جماهيري حاشد يوم  20/4/1964 في قريتي باقة الغربية أحببت أن ألقي كلمة، فطلبت من عريف الاحتفال الناشط السياسي الوطني  إبراهيم فريد غنايم أن يفسح لي مجالاً بأن أكون على المنصة. وأنا اليوم  لا أذكر إن كنت قد أعددت الكلمة أم لا، وماذا يمكن أنني قلت أو سأقول فيها.

لكني أذكر أن إبراهيم أبى أن أشارك، وقال لي بالحرف الواحد: أنت المعلم بيننا، وقد تم مؤخرًا فصل معلمين، فلا تشاركنا  بإلقاء كلمة، لأن مصيرك الفصل، خاصة وأنت معلم جديد غير مثبّـت، ونحن بحاجة إليك كي تخدم الأجيال، فهذا هو دورك التثقيفي والسياسي.

 كنت ألح عليه بالطلب، وهو يلح علي بالرفض.

وصدق حدس إبراهيم. فما إن انتهى المهرجان حتى اعتقل المتحدثون ومنهم خيري الشاعر صديقي وجاري وقريبي، كما اعتقل محمد مصاروة (الذي أصبح فيما بعد محاميًا فرئيس مجلس فسفيرًا)، وأحمد كيوان (الشاعر الذي ظل يؤمن بخطه الناصري بشكل  متواصل) وغيرهم.

من الطريف أن أذكر أن المحكمة التي عقدت لهم كانت القضية فيها هي تهمة"التجمع غيرالقانوني“. ومن حيثياتها أن القاضي سأل إبراهيم غنايم، وهو عريف المهرجان عن تصريحه في أثناء إلقاء كلمته:"بالأمس كان لنا قائد هو خالد، واليوم لنا قائد هو أبو خالد" -(كنية عبد الناصر)، فهل قلت ذلك؟

أجاب إبراهيم: نعم

فوقف رئيس المجلس- يومها- السيد فارس حمدان، وقال للقاضي:

هل يأذن سيدي بملاحظة؟

تفضل!

إن إبراهيم يعني أنني أنا قائده، وأنا كنيتي أبو خالد.

فأسقط في يد القاضي.

 

نحن فلسطينيون:

       من الطريف أن هذه الحركة لم تضع في برامجها الطرح الفلسطيني مباشرة، بل كانت القومية العربية هي مبتدأها ومنتهاها.  تذود عن الأرض حتى لا تُصادر، وتدعو إلى  التثبت بالجذور.  ولم نكن  نقرأ في صحافتها أو في صحافة الحزب الشيوعي أننا "فلسطينيون“  أو ما هو بتعريف" الشعب الفلسطيني في الجليل” مثلاً.

حتى إذا كان مؤتمر فتح، وكان تأسيسه في الفاتح من أيلول 1969، عندها  أخذ النفَس الفلسطيني يتردد هنا وهناك، فكانت كتابات محمد أبو شلباية من القدس تدعو إلى دولتين لشعبين، وإلى كيان فلسطيني مستقل، وإلى التصريح علنًا بأننا أبناء الشعب الفلسطيني، ويجب أن يكون للفلسطينيين كيان كسائر الشعوب.

بعد ذلك صدر ديوان محمود درويش"عاشق من فلسطين” سنة 1970، وليس ثمة من سبقه في الإشارة إلى الهوية تصريحًا  قبل ذلك.

 ومع ذلك فقد اتهم أبو شلباية بأنه يخدم السلطة والاحتلال، فالأولى اليوم – حسب رأي الشيوعيين وغيرهم-  هو إعادة الأراضي المحتلة إلى حيث كانت،  فالضفة للأردن، والقطاع لمصر، والجولان لسورية، حتى يُطبق قرار الأمم المتحدة  بإعادة الأراضي المحتلة إلى الحدود التي كانت يوم 4 / 6 / 1967، ومن ثم يكون النضال لتحقيق الاستقلال الفلسطيني. وكنت شخصيًا أحاور كثيرًا سكرتير الحزب الشيوعي – في باقة حول هذه القضية، وكيف يجب أن ندافع عن حق قيام  الدولة الفلسطينية، وكنت أرى أن  كتابات أبو شلباية هي قمة في الوعي السياسي، وهي جريئة، فيجن جنون أبو عمر – وهذه هي كنيته – ويكيل له كل اتهام.

تعرفت إلى أبي شلباية فيما بعد، وحييته وشكرته على مقالاته المهمة التي تأثرت بها، بل أذكر إثر ذلك أنني في مقابلة تلفزيونية قلت:

“ نحن أبناء الشعب الفلسطيني في إسرائيل........ "

   ومن العجيب حينها أنها لم تُحذف من التقرير، ومر الأمر بسلام، فقد خشيت من الاعتقال،لأننا لم نكن نصرح علنًا بمثل هذا التصريح.

وشجعني ذلك أنني حضرت محاضرة لموشيه ديان في جامعة باراريلان(1970) وكان هو في حوار مع كامل الطيبي، وكان ديان يتحدث بغرور وصلف عن انتظاره  لمهاتفة من عبد الناصر حتى يستعيد سيناء.

وقفت لأسأل المحاضر عن حق الشعب الفلسطيني في كيان خاص به إلى جانب دولة إسرائيل، وأنه لا بد من ذلك حتى يعم السلام وتكون مساواة في الحقوق لأبناء الشعب الفلسطيني في إسرائيل.

 ولم أكن أعرف معنى الكراهية كما أبداها بأنيابها متدين  يهودي يميني، فأخذ حق الكلام، وانطلق يهاجمني بحقد يتنزى من عيونه التي تشف كراهية وعمى، وأحسست أنه على وشك أن يضربني.  وضاعت الكلمات، وضاع الحوار في مثل هذا المشهد.

 

أكتوبر 1973:

لست أدري لماذا دخل في رُوعي – منذ البدء-  أن معارك أكتوبر هذه إنما هي  تمثيلية محبوكة، وذلك  حتى يتم نصر-  ولو وهميًا-  فيكون بذلك مبرر لعقد راية السلام. لم أصدق إسرائيل في بكائها وعويلها يوم الغفران، كما لم أصدق مبالغاتنا العربية المتواصلة حافرًا على حافر. وظل هذا الشك يرافقني سنين طويلة، ولم أستطع التخلص منه – حتى وأنا أشاهد بانوراما 6 أكتوبر  في القاهرة  فيما بعد.

  لن أستفيض في ذلك ما دام هذا الرأي شخصيًا لا يهمه أن يحصل على موافقة هذا أو ذاك.

 

شارون:

استضاف نادي الهستدروت بإدارة غالب مجادلة (عضو الكنيست فيما بعد) أريئيل شارون وذلك في آب 1974، وكان شارون جنرال احتياط، عاد من حرب سيناء مزهوًا منتـفخًا، فقد  تباهى بأنه عبر الدفرسوار، وصد تقدم الجيش المصري.

 وأصبح الشارع الإسرائيلي يغني بالعبرية (أريك ميلخ يسرائيل) بمعنى أن أريك (اسم دلع لاسمه الحقيقي) ملك إسرائيل، وهي أغنية استحدثوها على غرار الأغنية العبرية المعروفة التي تقول إن  داود هو  ملك إسرائيل.

بدأ شارون يطرح أمامنا رؤيته السياسية، ومن المهم أن أذكرها هنا، لأنها قناعته

- كما يبدو-، وكثيرًا  ما تصرّف بعد ذلك بوحي منها، ومن يدري كم وكيف ومتى يعمل من أجل تحقيقها؟!

صرح – وكان ذلك التصريح لأول مرة من سياسي إسرائيلي –أنه يؤمن أن الفلسطينيين هم شعب عريق، وتحق لهم دولة، ولكن، أين؟

 إنها في شرقي الأردن، حيث الأغلبية هناك فلسطينيون، فيجب أن يتسنم الفلسطينيون هناك حكم الأردن. أما الضفة فتبقى كما كانت تحت الحكم الإسرائيلي، ولكن إسرائيل لا تمانع السكان فيها من أن يحملوا جوازًا فلسطينيًا وهوية وانتماء لدولة فلسطين في شرقي  الأردن.

وقف محمد مصاروة (من كفر قرع)، وعرّف بنفسه، ثم سأل شارون:

كيف للمهاجرين من بولونيا وغيرها- وأنت منهم-  أن يقرروا مصير من ارتبط بأرضه وهو فلسطيني الجذور، ما هو الحق الأخلاقي لكم؟

أجاب شارون مباشرة وكأنه كان على موعد مع السؤال:

لقد سمعت اسمك. إنك تقول في نهايته"مصاروة". قل لي، ما هو الحق الذي لك هنا ما دمت جئت من مصر؟

 وكان النقاش بينهما سجالا.

وأذكر أنني قلت له:

أنا مواطن في إسرائيل رغم أنفي، فلم يستشرني أحد إن كنت أوافق على أن تحكمني إسرائيل، بل إن منطقة المثلث سُلمت لكم بعد سنة من قيام الدولة، ولو كان الأمر بأيدينا لما وافقنا  أصلا على حكم أجنبي، فلماذا –إذن- أعامل في موطني بتمييز؟ لماذا تصادرون أراضينا؟ لماذا لا تحررون الوقف الإسلامي؟ ألا تدِلك هذه المعاملة على أن وثيقة الاستقلال التي تنص على ضمان حقوق الأقلية وبأنها واجب أساس – لا تُحترم، وبأن المواطن العربي هو من الدرجة العاشرة؟

 من العجيب أن شارون رد علي بهدوء شديد – خلاف عصبيتي-  ودلّ عليّ وعلى السامعين أن حزبه(حيروت) هو الوحيد الذي يخدم الأقلية العربية في البلاد، ويعمل على مساواتها، بدليل أن هذا الحزب هو الذي ألغى الحكم العسكري، وأنه هو الذي سيعـقد السلام مع الدول العربية. (ثبت فيما بعد أن بيغن زعيم الحزب هو الذي بادر إلى عقد السلام  مع السادات سنة 1978).

 

يوم الأرض الثاني:

       كنت نشيطًا سياسيًا أكتب في صحف الحزب الشيوعي، وأخطب أحيانًا على منابره من غير أن ألتزم بخطه الحزبي  أو بسواه.

 ففي ذكرى يوم الأرض الأولى (1977). كنت شاهد عيان على كذب السلطة وادعائهم أن الطلاب هاجموا الشرطة بالحجارة. فقد شاهدت بأم عيني الهمجية تلاحق الأطفال، وتدخل المنازل، وتضرب المسنين وووو

 تنادينا إلى مهرجان حاشد شاركت فيه السلطة المحلية وعضو الكنيست توفيق زياد.  وقد ألقيت قصيدتين – كتبتهما هما: يوم الأرض، أسماك القرش (كنت  قبل سنة كتبت قصيدة" الستة في حوار“  على إثر مقتل الستة في سخنين ودير حنا).

 في" أسماك القرش“  سجلت فيها حكاية ما جرى في عدوان فقلت:

............

وَبَعْدَها بِبُرْهَةٍ كانَ النِّداءْ

بِأَنَّ قِرْشًا فاغِرًا فَمَهْ

وَيَحْمِلُ العِداءْ

يَطوفُ في باقَةَ في الشِّوارِعْ

وَيَقْذِفُ القَنابِلَ الَّتي تُهَيِّجُ الْمَدامِعْ

تُهاجِمُ الأَطْفالَ في الْمَدارِسْ

شَراسَةُ الأوغادِ، تَقْحَمُ الْجَوامعْ

عِصيِّهُم سِلاحُهُمْ وَنَقْمَةُ الغَضَبْ

تُلاحِقُ الكِبارَ والصِّغارْ

(فَتَحْتُ عَيْنِي مَرَّتَيْنْ

لأَنَّني ظَنَنْتُ أَنْ قَدْ مَسَّني دُوار)

وَهُم يُجَرْجرِونَ خَمْسَةً وراءَ مَرْكَبَهْ

يُمَثِّلونَ لُعْبَةَ الْقِطارْ

وَتُصْفَعُ الْعَجوزُ صَفْعَتَيْنْ

وَتُكْسَرُ الأَبوابُ، يَبْكي طِفْلُنا الْحَبيبْ

وَتُقْذَفُ الْحِجارْ

أيْقَنْتُ أَنْ لا بُدَّ مِنْ قِرْشٍ أغارْ

ها هُمْ يُكَسِّرونَ، يَصْرُخونَ يَهْجُمونْ

وَيَشْتُمونَ يَرْكُضونْ

حَتَّى يُضيفَ القِرْشُ نَصْرًا في سِجِلاَّتِ انْتِصارْ

يُمَزِّقون رايَةً مِنْ فَوْقِ دارْ

يَعْتَقِلونَ خَمْسَةً وَيَنْظُرونْ

بِنَظْرَةِ احْتِقارْ

وَيَزْحَفُ الْحِقْدُ

على عُيونِنا الغِضابْ

وَيَضْرِبونَ يُلْحِقونَ الضَّرْبَ في الأَشْجارْ

ومَا دَرَوا

بِأَنَّها تَموتُ في انَتِصابْ

                   *

ـ عَلَّمْتُمُونا يَوْمها دَرْسَيْنِ في الحِسابْ

1 ـ في أَننا مَعًا وَعِنْدَكُمْ عَلى صَعيدْ

2 ـ وَصاحِبُ الأَموالِ مَنْ يُوهِمُ نَفْسَهْ

بِأَنَّهُ السَّعيدْ

تكَشَّفَتْ لَهُ حَقيقَةُ الثَّراءْ

فالعارُ والشَّنارْ

سَيُخْذَلُ التَّتارْ

فَسَجِّلوا وَجَلْجِلوا

فَلْيُخْذَلِ التَّتارْ!!!

    31\3\77

(ألقيت في الاجتماع الاحتجاجي بباقة الغربية)

 

 

ثم عقدت الندوات الكثيرة في الوسط العربي لاستنكار مصادرة الأراضي، والعدوان على الجماهير العربية، وكنت أشارك بقصائدي التي كنت أحس أن لها صدى واسعًا وحماسيًا  في الجمهور، بل عرفت يومها أن الشاعر له دور ووظيفة في معارك شعبه.

بعدها ثابرت على مشاركتي  في مهرجانات يوم الأرض سنة تلو سنة، حتى ولو لم  يفسح لي مجال لإلقاء كلمة هنا أو قصيدة هناك، وذلك بسبب تنافس الأحزاب وممثليهم على اعتلاء المنصة – وما أحبها لدى الكثيرين !!!!!-، ولم تكن لي مشاركة إلا في راهط يوم أن شاركت في مهرجان يوم الأرض ممثلاً عن الحركة التقدمية للسلام والمساواة، يومها كانت الدبابات الإسرائيلية تطوق المكان، وعيون الجنود كانت تقدح شررًا وغضبًا علينا، ومن جهة أخرى كان الشيوعيون وأنصارهم ينظرون إلي بغضب كاد يفترسني، وذلك لأن الحركة التقدمية كانت المرأة الضرة التي لا يقبلونها بأي حال.

 

حركة شيلي:

       قبل أن أشارك في تأسيس الحركة التقدمية شاركت في تأسيس حركة (شيلي) وربما هي نواة التقدمية. كانت شيلي  حركة اليسار الإسرائيلي برئاسة أوري أفنيري الذي  أكن له الود بسبب جراءته وتحديه.

 ألقيت كلمة في غابة (بن شيمن)  مثلت فيها أنصار الحركة من  الجمهور العــربي، وكنت مشجعًا تأسيس هذه الحركة، ويبدو أنني كنت طامحًا لأن يقع اختيارهم علي لأكون مرشحًا للكنيست، لكنهم انتخبوا الأستاذ وليد صادق، فقلت لنفسي: خلفًا در!! فهؤلاء أيضًا أخذوا يعلنون – فيما بعد- أنهم حزب صهيوني، وحسبك من شر سماعه!

كنت أدرك صعوبة الانسحاب، لأن ماتي بيلد هو  الأستاذ المشرف على الدكتوارة التي أعكف عليها، وهو من نشيطي هذا الحزب الجديد. ومع ذلك- والحق يُقال-  لم يؤثر هذا الانسحاب على علاقتنا بشيء.

 

تأسس الحركة التقدمية:

     تحمست لهذه الحركة منذ بدايتها، فمحمد ميعاري رئيسها هو  المحامي ذو الشخصية الوطنية المتحمسة، ويشارك معه أستاذي ماتي بيلد من جامعة تل ابييب وأوري أفنيري. بدأت الحركة معتدلة في التوجه السياسي، وأذكر أنني  زرت في مراحلها الأولى بيوتًا يهودية، ونوادي يسارية إسرائيلية  لشرح فكرتنا التي ستكون من اجل السلام بين الشعبين. غير أن الحركة أخذت تتبنى – وبصورة حادة-  خطًا فلسطينيًا واضحًا وتعلن أنها فلسطينية الجذور، وتصدر صحافتها بألوان العلم الأربعة.  وكانت خطب القس رياح أبو العسل تؤجج المشاعر الوطنية.

 في المقابل كانت حملات الحزب الشيوعي شرسة ضد القائمة الجديدة، واتهمت صحافتهم الحركة الجديدة  بالعمالة (قاد هذه الحملة إميل حبيبي)، ذلك رغم أن القائمة ألغيت أو رفضت أولاً، فعقدت محاكم كثيرة، وكانت التماسات كثيرة، حتى تسنى لها  أن تمارس حقها، وتنافس في المعركة الانتخابية. 

كنت نشيطًا جدًا في هذه الحركة، أكتب في صحافتها، ومنها التضامن ثم الوطن،

وكنت أنشر أشعارًا وطنية، وأطوف في الجليل والمثلث والمدن المختلطة، وزرت مضارب النقب، وأماكن مختلفة لم يكن لي بها عهد، فنُقابل أنـّى توجهنا بالحماسة والتصفيق والمد الوطني، وكأننا نمثل حركة فتح حقيقية، وإن كنا لا نعلن عن ذلك رسميًا.

في باقة بلدي أعددت مع زملاء آخرين مهرجانًا خطابيًا كبيرًا قرأت فيه قصائد، ودعوت إلى التصويت لهذه القائمة الفلسطينية التي هي منا وإلينا، فكانت نتيجة الانتخابات مفاجئة جدًا، إذ صوتت الأغلبية الساحقة من سكان بلدي لهذه القائمة الجديدة.

لم يجد توفيق زياد قبيل هذا النجاح الباهر من يهاجمه في خطابه الذي ألقاه بالقرب من بيتي في  باقة إلا"الشاعر"، دون أن يذكر اسمي، وأخذ يشدد على حرف الراء بسخرية جعلت بعضهم يضحك على هذه المسرحية الطريفة.

وكان معنا في الحركة التقدمة بعض المثقفين الممتازين مثل المرحوم سامي مرعي والشاعر المرحوم فوزي عبد الله والكاتب أحمد درويش ورئيس مجلس عرابة السابق أحمد جربوني والقاضي(لاحقًا) صبري محسن والمحامي عزيز شحادة وأبناء الناصرة رشيد سليم وكامل الظاهر وغيرهم، وكنت أحس أن لي مكانة رفيعة  خاصة بينهم.

آل بي الأمر إلى أن أصبحت عضو اللجنة المركزية بعد فروغ مكان سامي مرعي.  فكان عدد الأصوات الذي حظيت به يؤهلني إلى أن أحضر جلسات هذه اللجنة التي كانت كثيرة، ولكنها أخذت – مع جلساتي  – تتسم بالبرود والخفوت، فأين حرارة البداية وحماسة الانطلاقة؟!

 وكنت أرى أن اقتراحاتي ما هي إلا جهد بذلته، وسفر أضعته. 

ثم كان موضوع تأسيس اتحاد الكتاب العرب الذي بادرت إليه شخصيًا (بسبب أنني كنت رئيس رابطة الكتاب العرب ضمن اتحاد كتاب إسرائيل –، فتبنى الكاتب محمد علي طه الفكرة، وعرضها على الحزب الشيوعي وخاصة على إميل حبيبي، فإذا بالاتحاد يُؤسس، ويخرج إلى حيز التنفيذ،  فينتخب سميح القاسم رئيسًا وفاروق مواسي نائبًا للرئيس ومحمد علي طه سكرتيرًا للاتحاد. وضمت اللجنة المركزية نخبة من كتابنا وشعرائنا المتميّزين.

 لم يفلح الاتحاد بإقناع شعراء وأدباء آخرين من الحركة التقدمية بالانضمام إليهم، فاعتبر هؤلاء أن ما قمت به أنا  خيانة للحركة التقدمية، واتخذوا قرارًا بتأسيس رابطة الكتاب الفلسطينيين.

ولم أستطع أن أقنع زملائي في الحركة بصواب ما فَعلت، فبدأ الجفاء يسود بيننا، وقد تَوّج ذلك المرحوم فوزي عبد الله في مؤتمر الحركة، إذ استشاط غضبًا، ووجه هجمات شرسة صوبي غمزًا ولمزًا، وهو يذكر أن الحزب الشيوعي يرسل هنا بعض أعوانه للطعن بنا وبوحدتنا، ولم أفلح في الدفاع عن نفسي أمامهم، فهو قد اكتسب تأييدهم وكسب الجولة. 

ثم كان أن دعاني وزير الدفاع (في حينه) أرنس  أنا  وبعض الأدباء للتداول حول الشؤون الأدبية والثقافية في الوسط العربي، فلبيت الدعوة، ولم أهادن كعادتي في مثل هذه اللقاءات، وطالبت بحقوقنا الأساسية...   ووو

لكن هذا اللقاء أغضب قيادة الحركة، فقررت لجنة الإعلام فصلي من اللجنة المركزية.

(ثم نشرت صحيفتهم – فيما بعد-  أنني ما زلت عضوًا في الحركة التقدمية.)

وفي الانتخابات التي جرت في 14 / 2 / 1992 لم تفز الحركة بأي تمثيل، وطويت صفحات سياسية كثيرة.

 في الختام، لا بد هنا من ذكر ملاحظتين:

الأولى: كانت محاولات لإعادة بعث الحركة بدون ميعاري، فاتصل بي أحمد جربوني وأحمد درويش، ولكني اعتذرت، لأنني مقتنع أن الشرارة أو الانطلاقة التي  بدأت لا تعود بنفس حرارتها، وكيف لنا أن نقنع أحدًا  بصحة الخط السياسي في ظروف الخلافـات والنقاشات بيننا؟؟

الثانية: على ذكر أرنس  ولقائه، فقد  التقيت أرنس ثانية في 6 / 4 / 1992 في قاعة المجلس المحلي في باقة، وبدعوة من رئيسه سمير درويش، وهناك طرحت قضايا آنية كنا نعاني منها كصرخات"الموت للعرب!!“ تطلقها  الغوغاء من اليمين الإسرائيلي في كل مناسبة رياضية أو سياسية، وأنتم- يا حضرة الوزير- تبثون ذلك في إعلامكم، فكيف يمكن أن يكون الحال لو صرخ نفــر من المواطنين العرب:"الموت لليهود“!

  وبالطبع، فإن أجوبة السياسيين تكون مقتضبة، وتوافقك – أنت السائل أو المعلق-  في كثير من طلباتك أو آرائك، وتعترف لك بقصور السياسة الإسرائيلية نحو المواطنين العرب...  وووو

 

شخصيات إسرائيلية قابلتها:

 

ما من شخصية سياسية بارزة إلا وكان لي حديث معها أو استفسار منها، فأنا لا أستطيع أن أسكت أو أصبر إذا ألح عليّ رأي أو راودتني فكرة.

 

*فأما إسحق رابين رئيس الحكومة الذي اغتاله اليمين الإسرائيلي، فقد كتبت إليه في 21/3/1993 مطالبًا إياه  بإطلاق سراح المبعدين إلى مرج الزهور في لبنان، فأجابني برسالة يزعم فيها  مدى "خطر هؤلاء المبعدين” على مسيرة السلام.

 ثم حدث أن التـقيته بعد أن استقال من رئاسة الحكومة، وذلك في كيبوتس جان شموئيل  القريب من مكان سكناي (في 23/10/1993) حيث كانت تُعرض هناك  مسرحية.

 وقد تسنى لي أن استمع إلى حوار له مع لفيف من الحضور، وكنت واقفًا معهم،  فلم أستلطفه وهو يدفع بألفاظه دفعًا. وربما كان هذا النفور متأتيـًا بسبب أنني كنت قد  استمعت إليه سابقًا - وبصوته الثقيل  في الإذاعة-  وهو يصف كيف طرد عرب اللد، وكيف أشرف على ذلك.

وبسبب هذه النغمة الثقيلة الوطء، وبهذا الصوت الذي يدب لم اطمئن إلى أن مبادرة أوسلو كانت حقيقية تمامًا، مع أنني صفقت لها في مراحلها الأولى، ذلك لأن "الفأر لعب في عبّي” في مرحلة مبكرة، وقدّرت أن الهدف الماكر  هو تجميع الفلسطينيين الفعالين سياسيًا في الضفة والقطاع، وحصرهم، والتضييق عليهم بشتى صنوف الممارسات القمعية،  ومن ثم فإن الخروج من مدنهم لا يعني إلا  الإيقاع  بهم  كلما همّوا بالتحرك أو بـممارسة "الإرهاب" حسب  قاموسهم.

شاهدت بأم عيني الشريط الذي بثه الإعلام الإسرائيلي مرة واحدة فقط، وفيه تفصيل باغتيال رابين  خطوة خطوة. 
 أما لماذا لم يذع الشريط  ثانية؟ ولماذا تجاهلوه وهو بينّة ساطعة، فالعلم عندهم وعند ربهم.

 

* زرت إسحق  نافون رئيس الدولة- في أواسط الثمانينيات- ضمن  وفد اتحاد روابط الكتاب، وقد طرحت أمامه مسألة أحقيّـة الأديب العربي في الحصول على جائزة التفرغ (ولم يكن قد حصلنا عليها بسبب سياسة التمييز المتبعة) ثم، وبعد انتهاء دورته رئيسًا للدولة – التقيـته في استوديوهات التلفزيون في هرتسليا، حيث حضر هو لتسجيل دعاية انتخابية لحزبه (المعراخ)،  وحضرت أنا لتسجيل برنامج ثقافي؛ فتيسر لي أن أجالسه أكثر من ساعة تناولنا فيها الأوضاع السياسية. وبالطبع، فإن قوالب الإجابة لديه هي كالمألوف والمنتظر منه ومن غيره ممن ليسوا من اليسار.

عندما عين وزيرًا للمعارف حضر إلى كلية الشريعة في باقة الغربية – حيث أعمل-  لزيارتها، وللاعتراف بها وكانت حديثة العهد، وقد قمت بترجمة أقواله في لقائه مع مجلس الأمناء.

 لكنه، وفي لقاء آخر في اليوم نفسه لم يتحمل كلمتي وتعليقي عندما سألته: "أنت في المجلس الوزاري المصغر، وأنت"ابن عرب” كما تقول، كيف توافق على هذه الجرائم اليومية التي تحدث للشعب الفلسطيني؟” وإلى متى؟

وقد أخبرني   سمير درويش- رئيس المجلس-  أنه تضايق جدًا مني.

 

* وكان لي أن أجالس إسحاق شمير رئيس الحكومة إذاك، وكنت مع الأدباء مصطفى مرار و د. محمود عباسي وميشيل حداد الذين فازوا بجائزة رئيس الحكومة، وكنت أنا محكّمـًا، فأخذ يلقي بكلماته الثقيلة المستفزة أيضًا، ويتناول الوضع السياسي بما يشف عن  كراهية للفلسطينيين، مع حرصه أن يمايز بينهم، فنحن- العرب في إسرائيل- نختلف عن سائر العرب، لأننا مواطنون مخلصون، ويجب أن نحظى بالمساواة التامة.
(حكـــي!!!).

 

* وعلى ذكر الاسم(شمير) فقد تعرفت إلى  موشه شمير الكاتب اليميـني المتطرف، إذ كنت وإياه في جامعة بئر السبع على منصة واحدة ضمن محاضرة عن الأدب والسياسة، وكان النقاش السياسي حادًا، وتبيّن لي كم يكره هذا الكاتب الوجود العربي في البلاد.

 

* وأما شمعون بيرس فما أكثر ما التقيت هذا السياسي الماكر، وذلك في أثناء زياراته الانتخابية لباقة الغربية، أو في حضوره للتعزية لبعض الأقرباء كرئيس المجلس عبد اللطيف مواسي، أو في اجتماع له مع الأدباء.

 وكنت ألاحظ أنه مثقف متميّز حاد الذهن، وهو كذلك يكتب الشعر، بل أهديته مجموعتي الشعرية بالعبرية "الأحزان التي لم تفهم”، فرد عليّ برسالة ممتدحًا وشاكرًا.

ومع ذلك، فقد "نزلت عليه“  بعد جريمة( قانا)  وأخواتها، فقلت ما قلت، وهو يصغي.
  ثم أخذ يجيب على طريقة الرد بأن ما جرى هو  دفاع عن النفس، وأن لتحقيق السلام لا بد من ضحايا الخ...  ولم يأت لي بأي  جديد، وما قلته كان مجرد إشفاء  بعض غليل.

 

* أما إيهود باراك – رئيس الحكومة-  فقد زار كلية الشريعة في  24/3/1999 ضمن حملة انتخابية، فلما طلبت حق الكلام رفض مرافقه من أبناء بلدي ذلك، لأنه خشي أن أضايق رئيسه براك، لكن مرافقًا آخر هو السيد وجيه كيوف رئيس مجلس عسفيا - فيما بعد-  أنكر عليه منعي من حق الكلام، وقال له: ألا تعرف من يخاطبك؟ ومن هو؟ 
 فدعاني إلى ذلك، واعتذر باسم ابن بلدي.

 بدأت الحديث موازنًا بين الحزبين المتنافسين – الليكود والمعراخ، وان المواطن العربي لم يعد يميّز بين الشر والشر، فليس هناك أهون بينهما....

وأجاب باراك ما أجاب، لكنه ختم كلامه بالحرف الواحد وبالعربية: "يا دكتور فاروق الحكي ما عليه جمرك”.

وأنا لا اعرف لماذا قال ذلك؟ هل قصد كلامي؟ أم أي كلام في السياسية؟ أم أنه يقصد أن السياسة الإسرائيلية هي بالفعل لا بالقول؟

 

* في 9/3/1996 دعاني رئيس المجلس المحلي جلال أبو طعمة للقاء مع وزير المالية بايجا شوحيط، فعرضت أمامه قضية الحصار على شعبنا، وإغلاق المؤسسات التعليمية وفرض منع التجوال بصور مستمرة، وسألته عن موقف حزبه المعراخ الذي يدعي انتهاجه نهج السلام – من بقاء المستوطنات في الضفة الغربية والقطاع؟

أجاب شوحيط متهمًا عرفات بأنه السبب في جمود المسيرة السلمية (وهذه شنشنة يعودون إليها دائمًا، وقد نسوا أنه شريكهم  في"سلام الشجعان“).

أذكر أن بعض أقربائي هم  وحدهم الذين تضايقوا من كلماتي، فكان أحدهم يرغي ويزبد، وسبب دعواه أنني قلت: "ليس ثمة فرق جوهري بين الأحزاب الصهيونية" فأخذ أحدهم يصرخ  ضد هذه الموازنة الظالمة للمعراخ.

 

* أما أمنون  روبنشتين فقد قابلته مرة وهو  وزير للمعارف، ومرة أخرى وهو وزير للعدل، وعرضت أمامه في فترة تسنمه وزارة المعارف تأسيس أول جامعة عربية، وكنت قد عرضت هذا المطلب أكثر من مرة ولأكثر من مسؤول، وما زلت أطالب به، وكانت أجوبتهم جميعًا تتلاقى أن هذه الجامعة ستكون بؤرة معادية للدولة.

 

* في 23/3/1993 تسنى لي اللقاء بوزير القضاء ليبائي فعرضت أمامه شكوى  من الإعلام الذي يبث صراخ الموتورين"الموت للعرب”، فهل كانوا يذيعون  صرخات"الموت لليهود” في الإعلام الإسرائيلي لو سُـمع ذلك؟ مع أن ذلك منعدم بيننا بسبب المستوى الحضاري المختلف. 

أجابني ليبائي: "أنا أرفض ذلك قطعًا، وكم بالحري ونحن ضحايا العنصرية"،
وقال لنا إنه "دعا إلى تأسيس دستور لضمان المساواة الحقيقية."

 

من الطريف أن أذكر أنني ألقيت في المركز الثقافي في القدس الشرقية

(23/10/1996) –وعلى مسمع من إيهود أولمرت قصائد وطنية. وقد حاول أحمد كبها الذي كان يترجم القصيدة أن يتهرب من بعض الألفاظ: عين غزال، الأقصى، ولكن أولمرت  كان يعي ما يقال من كلام يؤذي مسامعه، وينتبه إلى تصفيق القاعة، ولم يعترض.

 يومها قال – وكانت موجة الحرائق المتصلة في غابات البلاد –"إن المخربين هم الذين يفعلون ذلك، لأنهم بعيدون عن الحضارة”.

فأجبته وكنا معًا على المنصة: "إن الوطني الحقيقي يشعر أن هذه الأرض أرضه والأشجار له، فلا يمكن أن يحرق ماله، لأنه في ذلك يحرق قلبه. فعلينا إذن أن نفكر في أسباب أخرى  معقولة“. 

وكنت قد التقيت أولمرت أولاً في 14/10/1995 في منزل رئيس المجلس عبد اللطيف مواسي وهو من أعمامي. يومها كان يتحدث بلهجة واثقة، وبقدرة وبدفاع عن الباطل بصورة عجيبة وقوية،  وبطلاقة لم أجد نفسي قادرًا على مجابهتها.

                              

                                                             ***

 

من جهة أخرى فقد كنت فعالاً في الحركات اليسارية الإسرائيلية ضمن حركات السلام المختلفة بأسمائها وتوجهاتها. وشاركت بصورة فعّالة مع مبادرة الأدباء الإسرائيليين والفلسطينيين برئاسة إميل حبيبي ويورام كانيوك، وقد توجنا هذه اللقاءات السياسية في نابلس 30/7/1994-  حيث حضرت اللقاء آنذاك الشاعرة فدوى طوقان، وقمت بترجمة النصوص من العربية إلى العبرية وبالعكس.

كان يجمعنا إطار واحد  خلاصته: دولتان لشعبين، وأن حدود 67 هي الحدود الرسمية، وأنه تجب إزالة المستوطنات، وأن القدس العربية هي عاصمة للدولة الفلسطينية.

ثم زرت مدارس يهودية كثيرة مع شعراء يهود يساريين.

 

لكني أذكر أنني في مدرسة دينية قرب مستشفى هليل يافه جوبهت بعداء شديد وتهجمات عليّ وعلى العرب، حمدت الله بعدها على سلامة الوصول إلى بيتي.

على ذكر هذه الخوف من هذه العدوانية الشرسة فقد حدث أن كنت في معلوت (قرب ترشيحا)، فقرأت قصائد سياسية.  وفي أثناء خروجي أرشدني موظف هناك إلى طريقة الخروج من القاعة، وكانت في الدور الأسفل، وكانت الساعة بعد منتصف الليل، فخرجت من دهليز  لأدخل في دهليز آخر برفقة هذا الشخص  المتجهم. كنت أراقب حركاته بنوع من الارتياب، فلم أأتـمنه، وقلت في نفسي بعد أن  لاحظت كيف كان  صدود الجمهور في القاعة عني: هنا النهاية!.

 

الشيء بالشيء يُذكر: كنت قبل ذلك بسنين في جفعات حبيبه- مقر الحلقات الدراسية الإسرائيلية- وقد اجتمعت مع مجموعة سياسية كبيرة أسمعتهم ما لم تستسـغه  آذانهم.

ولما عدت إلى قريتي في سيارتي بعد الواحدة صباحًا كنت حذرًا جدًا وخائفًا جدًا، أنظر ورائي من خلال زجاج السيارة، وذلك بسبب الحدة التي جوبهت فيها، فمن أدراني إلى أين تنتهي الحدود؟!.

 

ومع ذلك رأيت في أن  استمرار العلاقة مع اليسار الإسرائيلي ضرورة كبيرة،  وقد شاركنا مع بعض الأدباء منهم  في زيارة معتقل أنصار(كتسيعوت) للتنديد بهذه الاعتقالات وبظروفها الهمجية. وكان الأدباء اليهود معي يجابهون بصدورهم الجنود الذين تجمعوا لمنعنا من التقدم.

 

كنت قد شاركت في لقاء ثقافي واسع في  نادي تسافتا في تل أبيب- وذلك في أيلول 1985-، وأذكر أن وقع كلماتي كان قاسيًا جدًا، ومن العجيب أن أحد"الأدباء" العرب كان يهزأ من أقوالي استرضاء للأصوات المعارضة لي، وكان يهاجم حركة فتح والحركات الفلسطينية الأخرى التي لا يُطمأن إليها، ففي رأيه أنهم أوصلوا الشعب الفلسطيني إلى ما وصلوا إليه.

أغضبني جدًا هذا الادعاء-  إلى درجة أنني أبيت أن يعود معي في سيارتي من تل أبيب في طريقه إلى قريته.

ثم تسنى لي أن أتعرف جيدًا إلى أعضاء كنيست من اليسار الإسرائيلي: ران كوهن  الذي كان  يقطن جوار بلدتي - (جان شموئيل)، وكان لي معه قبل انتخابه في البرلمان أكثر من نشاط ثقافي.

 و شولميت ألوني المرأة الحديدية التي لا أعرفها إلا مناضلة ضد الاحتلال والغطرسة العدوانية، وحتى عند تسنمها وزارة المعارف كانت لها لغة أخرى في القاموس السياسي الإسرائيلي. 

و يوسي سريد الذي اجتمعت إليه أكثر من مرة، وهو ذكي، حاد المزاج، يتهم الأعضاء العرب في البرلمان الإسرائيلي  بأنهم يركزون معالجاتهم في القضية السياسية بدلا من اهتمامهم بقضايا الوسط العربي اليومية، وله" نهفات"  تبعده في رأيي  عن اليسار، مع أن له كثيرًا من المواقف  التي تسجل له إنسانيًا ومنطقيًا.
راقت لي بعض قصائد يوسي الذي يكتب الشعر أيضًا، فترجمتها ونشرتها له في الصحف الورقية والألكترونية، وحدث أن اتصلت به لاستشارته في هذا المعنى أو ذاك.

 

حدثتكم أعلاه عن علاقتي بماتي بيلد عضو الكنيست والمحاضر(الذي أشرف على أطروحة الدكتوراة التي أعددتها في جامعة تل أبيب)، كما حدثتكم  عنه ضمن  نشاطي في" الحركة التقدمية“،  وكذلك عن أوري أفنيري الذي أرى أن آراءه في الساحة الإسرائيلية هي التي يجب أن تعتمد، لأنه حريص جدًا على وطنه بمفاهيمه، ويعرف بدهائه أن مصلحة الشعبين تقضي بالعيش المشترك والحفاظ على كل حق. وقد نشط أوري في اللقاءات الثلاثية بين الأدباء والكتاب الفلسطينيين والإسرائيليين والألمان، وإلـيـك فكرة عنها.

 

اللقاءات الثلاثية بمبادرة ألمانية:

 

     بادر مركز التربية السياسية في ولاية راين لاند بفالتس في ألمانيا ورئيسه جورج ماير إلى عقد مؤتمرات  ثلاثية يشارك فيها أدباء وكتاب فلسطينيون وإسرائيليون وألمان، وتعقد هذه تباعًا في موقع من المواقع الثلاثة: في إسرائيل، فلسطين وألمانيا.

عقد المؤتمر الأول في ألمانيا ولم أكن مشاركًا فيه، ثم كان الثاني سنة 1996  في جبعات حبيبا، وشارك فيه من أدبائنا: محمد علي طه، أدمون شحادة، محمود دسوقي، فاروق مواسي، جمال قعوار وغيرهم، ومن الجانب الإسرائيلي كان عدد  لا بأس به  من الأدباء والكتاب، وقد تناولت الصحافة الإسرائيلية الحدث بنوع من الاهتمام.

 

ثم دعيت بعد سنة إلى مدينة شباير في ألمانيا، كنت مع الأدباء  شكيب جهشان وسالم جبران وسامي الكيلاني وغانم مزعل، ومن الجانب الإسرائيلي برز أوري أفنيري، آشر رايخ وروت ألموغ وليئه فلايشمان وأهرون ميجد. وكان هناك أدباء ألمان معروفون، منهم هيلدا دومين وزيغفريد جاوخ  ومارتن لودكه وغيرهم.

كان كل أديب يقرأ نصًـا له، ويلي ذلك نقاش؛ وكثيرًا ما كنا نستطرد لندخل في حوار سياسي، ومنه ما هو حاد، الأمر الذي كان يعكر الصفو، ويقلل من متعة الرحلة إلى ألمانيا الباهرة.

ومع أن أغلبية اليهود المشاركين هم أصلا من المعتدلين، إلا أنهم كانوا يجدون الحرج إزاء الممارسات الإسرائيلية الرسمية، ويجِمون أمام الألم الفلسطيني الذي يعبر عنه سامي الكيلاني من يعبد – مثلا-، وهو يصف كيف استشهد أخوه في الانتفاضة الأولى.  وأنى لهم أن يكابروا وهم في بلد أذاقهم الوبال والويل والموت؟؟!!

لكن قِسمًا منهم  – مع ذلك – كانوا   يترصدون  ما يقوله الألماني هذا أو ذاك، فإذا ما جرؤ أحدهم على قولة فيها ميل للفلسطينيين  فسرعان ما يُتهم بأنه لا سامي.

أما إذا كان النقد من إسرائيلي كما ينقد أوري أفنيري أو سيزيبيل قليل (الأديبة الشابة)  فإنهم يواجهون هذا النقد على استحياء، وبنوع من التفهم، وفي حالة
   (قليل) بأنها عديمة التجربة والخبرة.

 

كنت أشارك في اللقاءات، وأدلي دلوي في كل بئر.  ففي شباير – في قاعة البلدية – جرى حوار سياسي، فما كان مني إلا أن أبديت تعليقًا  لم أكن أدري مدى إزعاجه لبعضهم:

 أنا ضد أن يقتل أي إنسان نفسه، وهو أمر غير طبيعي أيضًا، ولكن أليس من المنطق أن نضرب الكابح مرة، ونسأل: لماذا يفعلون ذلك؟ فهل هم"مقطوعون“ بلا أهل وأبناء وأمهات؟  لماذا وجد الموت هوى في نفوسهم ونجح البعض _ كما يُقال _ بغسل أدمغتهم؟  لنسأل، ولنفكر، فلعل هناك إجابة أخرى لا نكررها!

وهنا قامت قيامة بعض الأدباء اليهود، فقد أصبحت في نظرهم مبرِّرًا لما يفعله هؤلاء الذين يفجرون أنفسهم، وأنني أؤيدهم  وووو، بل صرح "صديق“  لي منهم  أن أعداء الدولة الحقيقيين هم العرب في إسرائيل، وهو يكرههم أكثر من غيرهم، بسبب أنهم  يطعنون في الظهر.

 

شاركنا في مؤتمرات أخرى (في أريحا و في ماينز وفي أيدار أوبرشتاين)، وأضحت ذات نمطية وتكرار. ومما يدفع الملل فيها –
أولاً أنها في ألمانيا ذات الجمال في الطبيعة والطقس والناس،
 وثانيًا أننا نقابل بعض العقلاء من الألمان والإسرائيليين ممن يؤمنون أن لا بد من تغيير ما في ظرف ما في قضية ما، فالابتعاد لا يجدي، والحوار ضرورة.

من الغريب أنني وأنا المواطن الإسرائيلي أُحاسَب هناك، وكأني أمثل الفلسطينيين، بل كنت أفعل ذلك  دون أن أقصد ذلك، فقد دبج المؤتمرون بيانًا في أحد اللقاءات، وطلبوا توقيع جميع المشاركين. 

وقع جميع الفلسطينيين، لكني تحفظت من بند يحاول- بصورة غير مباشرة – أن يتهم الطرفين بنفس التساوي، فقلت لجورج: كيف نساوي بين الفرس والفارس، بين المضطهد والمضطهَد؟

احتد جورج ماير، ورفع صوته- ولم أكن عرفته بهذه الصورة  بسبب هدوئه-  وقال:

 أنت لم تفهم النص كما يجب، إنه لا يساوي، أأنت أحرص من فلان وفلان من الضفة الغربية – من قلب فلسطين؟

  ووجدت نفسي أوقع بعد أن اقتنعت أن هذا القرار ليس من مواثيق الأمم المتحدة، وبعد أن رأيت من أثق في وطنيته وقد وقّع، ثم من يحسب حساب توقيعنا؟

من الجدير ذكره أن هذا المركز يصدر في كل مؤتمر كتبًا وبمحاور مختلفة، وتكون للمشاركين وسواهم مشاركات أدبية.  وقد صدر في الألمانية والإنجليزية  كتاب

"معنى الوطن“  سنة 1997، كما صدرت أضاميم شعرية ونثرية وبلغات المشاركين  الثلاث.

 في تشرين الثاني 2004 عقد مؤتمر آخر في  ألمانيا بمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيس الفكرة، وكان محور اللقاءات" الأدب بين الجمالية ومعايشة الواقع".

ثم توقفت اللقاءات بدون سابق تنبيه!

 

 

مع الرئيس ياسر عرفات:

 

          في فندق فلسطين في غزة، وفي 3/7/1994 بعد عودة عرفات مباشرة إلى الوطن التقى وفد اتحاد الكتاب العرب برئاسة الشاعر سميح القاسم القائدَ الفلسطيني أبا عمار.
كانت الوفود تأتي زَرافات لمصافحته، وكانت الكلمات تتساوق، والأمل في تحفز مستمر. 

لاحظت أن أبا عمار كان دقيق الملاحظة، يوزع نظرات عينيه هنا وهناك، وكانت شفتاه ترتجفان. وبعد أن  قبّلناه بالأحضان ألقيت الكلمات، ومنها  كلمة الصديق محمد علي طه الحماسية، و كان أبو عمار خلال ذلك  يرفع إصبعيه علامة النصر.

بعد اللقاء الرسمي تطرقنا إلى ذكر الشاعر محمود درويش الذي افتقدناه في مثل هذا اللقاء، فقلت لأبي عمار وكأنني أبرر غيابه:

“ولكن السلطات الإسرائيلية تحول دون حضوره”

 أجاب أبو عمار:"محمود  عضو باللجنة التنفيذية، وبإمكانه الحضور رغمًا عنهم، وحسب الاتفاق المنصوص عليه“.

ثم توجه إلى سميح القاسم وقال له:
"لماذا رفض أن يكون صاحبكم  وزيرًا للثقافة؟ هنا دوركم أنتم؟”

ثم التقطنا صورًا كثيرة.

وهيهات أن تظهر الصور، لأن "الفيلم” كان فاسدًا!!!


وهبت نسائم كثيرة في البلاد، وهبت عواصف.


في 11/5/2002 اقترحت على الصديق محمد علي طه – وهو يومها الفعّال والمنظم في الاتحاد-  أن يؤلف وفدًا للتضامن مع أهلنا في الضفة الغربية بعد أن بالغ المحتلون في جرائمهم،  وفي تصرفاتهم الهمجية اليومية، فاتصل بالكـاتب يحيى يخلف الذي أعد للأمر أهبته.

توجهت مع  الأدباء  سميح القاسم وحنا إبراهيم ومحمد علي طه ويعقوب حجازي وحسين مهنا ومفلح طبعوني ووليد الفاهوم إلى رام الله.

زرنا أولاً وزارة الثقافة، فوجدنا الهمجية التي لا توصف،  وقد عبثت يد الظلم والظلام  فخلفت في مبنى الوزارة التكسير والتمزيق والفوضى والتخريب والحقد، ومن الطريف أننا رأينا في مكتب يحيى  يخلف، أو على الأصح في الركام كتاب"في ذكرى صبرا وشاتيلا” وهو ملقى بين الكتب.

 

انتقلنا إلى مركز السكاكيني، فرأينا هناك أيضًا آثار القدم الهمجية. ففي غرفة محمود درويش كانت الكتب مبعثرة، ولا أزال أذكر على المستوى الشخصي أن كتابي"هدْي النجمة” كان من  بينها، وقد أُلقيَ  مقلوبًا على صفحتين مفتوحتين...  وهنا كانت فكاهات سميح ومحمد بأن ما جرى هنا عقاب لدرويش على قراءة كتابي.


في دخولنا "المقاطعة” كان الحرس كثيفًا، وفي كل بقعة كنت تجد مسلحًا فلسطينيًا.

دخلنا مكتب الرئيس عبر أكياس من الرمل في المدخل، ومن مسرب إلى مسرب، وكانت آثار الهدم في المقاطعة في كل ناحية.
لما وصلنا إلى مكتب الرئيس غمرنا  بقبلاته المعهودة، وكان يحيى يعرّف بنا واحدًا تلو الأخر.

تحدث سميح مشبهًا همجية ما حدث بهمجية يشوع بن نون.

وأكد محمد علي طه على الثوابت الفلسطينية، وبأن عرفات لا بد سينتصر على هذا الحصار وهذا الدمار.

تحدثت أنا مستذكرًا أبياتًا كنت قد قلتها عشية انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في عمان، وهي:

 

وقـبلة عـلى جـبين متعب أمين

 يـســيـر فـي ثـقــه

 الــقـدس مـن أسـراره

 إن لـم تـكــن حـــبه

 

أعجب بها أبو عمار، فسلخ ورقة من جملة أوراق أمامه، وطلب من مساعده أن أكتب له الأبيات بخطي، ففعلت.

 كما تحدث كل من حسين وحنا ومفلح ووليد.

 

أطال عرفات في الحديث عن الماضي، فوجدت نفسي أقاطعه، وسألته أن يحدثنا عن المستقبل.

فأخذ يعرض تفاؤلاته برغم كل هذه المعاناة التي يعانيها الفلسطينيون.

والتقطنا صورًا كثيرة، وهذه المرة كانت صالحة، ومن بينها هاتان الصورتان المرفقتان.

 

                                             *    *       *

 

مشاركات لي  فعالة

 

ثمة مشاركات سياسية لي كثيرة شاركت فيها خارج بلدتي باقة، وأكثر هذه النشاطات مع أعضاء الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، فكم أعتز بعلاقاتي مع أعضاء البرلمان منهم، مع أن لي صداقات أيضًا مع سواهم من الحركات الأخرى، وأعتز بعلاقاتي الطيبة أيضًا مع قادة الحركة الإسلامية، وقد شاركت في أكثر من لقاء أدبي نظموه  هم أيضًا سواء في سخنين أو كفر قاسم أو...

ولعل المرة الأولى التي شاركت فيها في مهرجان سياسي في بلدتي كان مهرجان الحركة التقدمية الذي حدثتكم عنه أعلاه.

بعد بضع سنين شاركت في  مظاهــرة  في بلدتــي (12/10/1992)، حيث وقفت على طرف الشارع مع آخرين، ورفعنا الشعارات متضامنين مع المعتقلين الفلسطينيين، كنت أنصت لتعليقات المارة الذين كانوا يرمقوننا بنظراتهم المتعجبة، فهذا يقول: انتظروا دقائق، ستقبض عليهم الشرطة.

وآخر يقول: إنهم جواسيس يدعون الوطنية  للتغرير بنا.
في ختام المظاهرة ألقيتُ كلمة وقصيدة.

ثم كان أن شاركت في اللقاء الجماهيري في أرض الروحة للدفاع عن هذه الأرض المهددة بالمصادرة، كما توجهت في اليوم نفسه –يوم الأرض- لزيارة قرية غير معترف بها هي عين حوض، فكنت أنا والسيد صبحي بيادسة في ضيافة محمد أبو الهيجا رئيس رابطة القرى غير المعترف بها. أطلعنا  هناك على أسطورة البقاء والتـشـبـث بالأرض، وأذكر أنني كتبت في دفتر الاستقبال هناك أبياتًا أثبتها في  قصيدة"عين حوض" التي نشرتها في ديواني أحب الناس الصادر سنة 2010، وفيها:

يا قصةَ الأرض التي ضاعت  ولن  تضيع

ضاءتْ على جباهنا صلاه

صلَّت على الضوء مناه

ظلت على عذابنا

     حياه   

لأنها أوحت لنا :

بأننا هنا

باقون كالجبال

كالبحر  هذا إذ نراه

أمامنا

في طلته

في طلة الراوي الذي يمتد في دلال

يا عين حوض !

هذا هو السر الذي عاش الوطن

عاش البقاء والوفاء والشجن

يا سيدي، شيخي أبا الهيجا

الأرض والسماء كم

يناغمان صوتك العـــتــي

مجلجلاً

في دوحة الفضاء

يا سيدي

حتى  نظل

رواية جليلة البهـــــاء.

 

زرت كذلك أطلال القرى عين غزال والسنديانة وأم الزينات (أخبرت الكاتب محمد الأسعد، وهو من أم الزينات- عن هذه الزيارة، وقرئت كلمته في المهرجان الذي أقيم هناك).
 وشاركت في عشرات النشاطات السياسية والثقافية الأخرى مع أدباء آخرين من الجليل والمثلث.

من نشاطاتي أنني رأست لجنة الجائزة الخاصة التي أعلن عنها مجلس كفر قاسم عشية ذكرى المجزرة سنة 1999، فقرأت عشرات النصوص، وكنت في هذه اللجنة مع   المرحوم شكيب حهشان والمرحوم علا عيسى.

ثم أقيم المهرجان الكبير، وقد  شارك فيه سميح القاسم وآخرون، ورغم أنني كنت فعالاً جدًا في هذا المهرجان، إلا أن الصحف في نهاية الأسبوع لم تتكرم بإيراد أي ذكر لي أو لاسمي.

***

لا بد في هذا المحور من سيرتي الذاتية  أن أذكر بعض رفضياتي:

في 14/11/1996 رفضت اللقاء مع  زبولون هامر وزير المعارف حيث دعيت مع بعض الأدباء للقاء معه ضمن"سنة الصهيونية”، رفضت لقاءه  مع أنني كنت أعرفه سابقًا  في أثناء دراستنا في جامعة بار إيلان.

وكنت قد رفضت جائزة إسرائيل (إذا كان ذلك التوجه الهاتفي لي جادًا، وذلك  قبيل حصول إميل حبيبي عليها).

كما رفضت لقاء بيرس في لقاء انتخابي لحزب العمل.

 وهذه الرفضيات أخذت تزداد، وهي كثيرة لا مجال لسردها كلها، وذلك بعد أن أخذت ألاحظ عدم جدوى مثل هذه  اللقاءات، فنحن في واد وهم في واد، وإن ملاحظاتي أو نقداتي تلاقي  لديهم  أذنًا  من طين وأذنًا  من عجين...

 ومن أنا؟ حتى أغير سياستهم؟!!

وسؤالي الهام هنا:

هل أثرت أفكاري السياسية ونشاطاتي على عملي ووظيفتي؟

- بالطبع، وقد تناولت ذلك بشيء من التفصيل في حديثي عن صفحات التربية والتعليم أعلاه، وأراني أعترف أن هذا التأثير أخذ طابعًا آخر ولباسًا جادًا ومراقَبًا في عملي في السنين الأخيرة في كليات دور المعلمين، بحيث أن قصيدتي عن الشيخ رائد صلاح مثلاً أخذت تفعل الأفاعيل، وتحرك تساؤلاتهم، ولن أستطرد اليوم  في شرح مدى التأثير علي في ذلك.

     قال لي صاحبي وهو يحاورني:

أنت تؤكد على ديمقراطية إسرائيل في كتابتك هذه، وكأن النظام في إسرائيل ديمقراطي حقًا؟!!

قلت له: لا يهمني ماذا يقال في ذلك.  يهمني أن أسرد لك ما حدث معي.

قال لي: لقد قرأت لك فصل"الهوية الفلسطينية  في كتابتي”، وقد تناولت القضايا والمسائل الوطنية في كتابتك الشعرية والنثرية، وما قصرت في تناول آلام جمهورنا وآماله، فكيف سكتوا عنك، وغضبوا لقصيدة كتبتها مؤخرًا؟

فقلت له: لم يسكتوا عني سابقًا كما ظننت، إلا إذا فكرت في إيداعي السجن أو أكثر، لكنهم حالوا دون وصولي إلى وظائف تقدمت إليها وكان شعارهم:"أنت حر ماذا تقول، ونحن أحرار ماذا نفعل”.

***

أعرّف نفسي بأنني بعيد عن العمل السياسي – رغم كل ما ذكرت-.  إلا أنني أجد نفسي مسوقًا للتعبير عن قضايا ملحة، فالأديب الحق –كما قيل-  ليس ثورًا حتى يدير قفاه لآلام الناس وخاصة شعبه؛ لذا كان لا بد لي وأنا مسكون بالهم الجماعي أن أدرس وأعلل وأحلل بطريقتي ما يدور على الساحة المحلية.

 من هنا فثمة ضرورة لطرح آرائي التي تدور في دماغي لعلها تجد من ينصفها (بعد أن شرحت لكم في بداية هذه الصفحات مدى خيبتي في الإقناع).

في مقالة نشرتها في  صحيفة  الندوة (16/3/1990) تحت عنوان"العرب في إسرائيل إلى أين؟“ دعوت إلى أن تعكف نخبة من أكاديميينا ويدرسوا  الوضعية الخاصة التي نحن فيها، فيبحثوا بعمق:

هل يجب أن  نطالب بالمساواة التامة في الدولة؟ وكيف، ومتى؟

هل نطالب بالاتونوميا؟ باستقلال كياني منفصل؟ بالانضمام إلى الدولة الفلسطينية العنيدة؟ بالعمل على بقائنا ضمن دولة إسرائيل؟

وما هو اسمنا؟ عرب إسرائيل؟ عرب 48؟ فلسطينيو إسرائيل؟ عرب الداخل؟ عرب الجليل والمثلث والنقب؟

هذه الأسئلة وعلى غرارها متأتية بسبب  عدم الاستقرار لدى أبناء شعبنا، وخاصة فيما يتعلق بمستقبل أبنائنا، وخاصة الخاصة  في أجواء العداء والعنصرية وفرض الشعور علينا  بالاغتراب والاستلاب.

ورب سائل يسألني: ما هي الخطوط العريضة التي تؤمن بها اليوم في واقعك السياسي؟

أجيب:

أنا أومن بأننا جزء من  الشعب الفلسطيني خاصة،  والأمة العربية-  عامة-، وهذا لا يتنافى وكوننا مواطنين في  إسرائيل.

  أنا أومن بضرورة التعاون مع القوى اليهودية التقدمية التي تشاركنا في مطالبنا العادلة، وأنه يجب أن نتفاعل لا أن نتقوقع، ونفرض واقعنا عليهم، لا أن نيأس.

أنا مواطن في إسرائيل، وأحمل هويتها وجوازها، ومرتبط بحياتي الاقتصادية واليومية بها؛ وعليّ أن أناضل كي  تكون الدولة لجميع مواطنيها العرب واليهود، وأن أعمل على إلغاء مظاهر العنصرية وكافة القوانين التي تستأثر بجعل هذه الدولة صهيونية محضة. 

مطلبنا هو أن يكون المواطنون في مساواة تامة واحترام متبادل في دولة ديمقراطية مشتركة.

أنا أرفض أشكال التمييز وصوره على المستوى العرقي والجنسي والقومي والديني.

أنا أطالب بالاندماج في حياة الدولة مع أخذ حقوقنا الكاملة في الحصول على أراضي الدولة –كما يسمونها-.

أطالب بوقف مصادرة أراضي العرب، والاعتراف بالتجمعات العربية غير المعترف بها، وإعطاء كل ذي حق حقه – خاصة فيما يتعلق بالمهّجرين، ومنع هدم البيوت، وحل مشكلات الخرائط الهيكلية.

إن الانطلاق السليم لحل القضية الفلسطينية –في رأيي- هو تنفيذ قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بها، وتقضي بإقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس.

وأعترف أن مثل هذه الآراء يتبناهابشكل أو بآخر كل من أحزاب  الجبهة والتجمع والحركة العربية للتغيير والحزب العربي الديمقراطي وغيرهم.

وأحب أن أضيف أمرًا هامًا يشغل بالي:

  من الواجب مقاومة  هذا الشعور الذي أخذ يغزو الأذهان في الوسط العربي، وهو  الخوف من تهديد اليمين لنا بالترحيل أو(الترانسفير)، وأصوات هذا التهديد نسمعها يوميًا وعلى جميع الأصعدة وحتى من وزراء في الحكومة.

إن مظاهر التشاؤم أخذت ترين على الساحة السياسية والاجتماعية، فمن واجبنا أدباء ومثقفين أن نتصدى لها، وأن نتحدى  ما يحول دون مواصلة دربنا.

 لا بد من  أبيات هنا  تعبر عن إيماني في هذا السياق، وكنت كتبتها  قبل سنوات عديدة، وما زال صوتها يتصادى:

 

الأَمَلُ المُخْضَرُّ عَلى صَفْحَةِ قَلْبي

يَسْأَلُني يَوْمًا يَوْمًا عَنْ دَرْبي

يَسْأَلُني هَل أَمْلِكُ أَنْ أَحْفَظَ عِرْضي؟

أَنْ أَعْشَقَ أَرْضي؟

هَلْ تُثْمِرُ كَيْ يَطْلُعَ حُبِّي؟

والأَمَلُ المُخْضَرُّ يَقولُ:(نَعَم)

والبَسْمَةُ تُزْهِرُ في عَيْنِ الأَطْفالْ

وَتُغَطِّي كُلَّ أَلَمْ

والهِمُّةُ تُشْرِقُ في عَزْمِ رِجالْ

وَيكونُ عـلَـم!!

 


 

مع الشيوعية وعن رمزين فيها:

 

 

كنت في الثانية عشرة من عمري يوم أن رأيت فرقة من خارج القرية، أعضاؤها يلبسون زيًا رسميًا، وقد نزلوا في السوق القديم قرب منزلي ينشدون،(قيل لي فيما بعد أنهم من أم الفحم والطيبة)، وكانوا يهزجون:

طوفي على المعمور             بجناح مثل النور

لا نقبل التضليل                   من حاكم مأجور

كانوا يدقون الصنوج، وما يلبث خطيب منهم يصرخ بصوته العالي:"فليسقط الحكم العسكري“، وكان هذا يهاجم دافيد بن غوريون  وأعضاء الكنيست العرب (ومنهم ابن بلدنا فارس الحمدان).

وأذكر أني شاهدت أحد أقرباء الزعيم- ابن بلدنا-  كان يتصدى للموكب معترضًا، إذ ما معنى أن يهاجم ابن باقة  في عقر دارنا؟ ثم عرفت أنهم شيوعيون، يرتبط اسمهم آنـًا بالإلحاد، وأخرى بالخروج عن التقاليد، طورًا بالرفض السياسي، وبأنهم"الرجال“، وأخرى بأنهم عمال فقراء، ومهما يكن فقد أحببت جرأتهم، ها هم ينشدون:

من جمال الطبيعة / في قرانا المنيعة / نتلقى سر الجمال

من أزيز العواصف / والرعود القواصف / نستمد فنون النضال

قد كفاكم تمادي / يا لصوص البلاد / وكفانا خنوعا وعار

أرضنا اغتصبوها / أهلنا شردوها / أين يأوي البنون الصغار؟

إنهم يهتمون بما يقولون، يحسون في أعماقهم معاني الكلمات: جمال الطبيعة، قرانا المنيعة، لصوص البلاد، أرضنا، أهلنا...

ألفيت نفسي في خلية الحزب، وأنا في الصف الثامن.

كان يحضر إلى مقر الحزب في باقة الأستاذ نمر مرقس (وكان ذلك قبيل فصله عن التعليم بسبب مواقفه السياسية)، وكان يشرح لنا الفروق بين الشيوعية والاشتراكية، ويكرر أمام مسامعنا:"قال ماركس“،"قال لينين“،"ويرى إنجلز“.....

كنا نتصفح"الاتحاد” و”الجديد” و”الغد”، وكنت نشيطًا في الخلية السرية، حتى أنني رُشحت للسفر إلى بلغاريا للمشاركة آنذاك في وفد الشبيبة الشيوعية، لكن أبي ومربي الصف أقنعاني أن أعزف عن السفر، وذلك بسبب حرصهم على ابتعادي عن العمل السياسي، وبدعوى أنني لن أجد وظيفة في المستقبل أرتزق منها، وها هم الشيوعيون يُنفـَون ويفصلون عن وظائفهم و”عينك بالناظر”.

كان أبو عمر(الرفيق إبراهيم بيادسة) من أكثر الشخصيات التي أثرت علي بصدق عزيمته ووضوح رؤيته واطلاعه على الثقافة العربية والماركسية، وأذكر أنه أكد على مسامعي- ذات مرة- مقولة استقاها من أحد المصادر” أن قطار الشيوعية لا بد إلا أن يصل”......  قلت له يومها:"أنّى لنا أن نعرف متى يصل، وكيف يصل، ثم ألا يمكن أن يصيبه عطب أو تلف قبل المحطة النهائية"؟

كانت هذه ملاحظة مبكرة، ولكني عندما زرت ألمانيا الغربية، أو على الأصح برلين الغربية سنة 1980، قلت لمضيفي الألماني ديتر:"هذا السور لن يستمر طويلا، وألمانيا ستعود موحدة".

 

ضحك مضيفي ساخرًا وقال:"جولة واحدة في برلين الشرقية تجعلك حالمًا“- (فيما بعد عند زيارتي إلى مدينة ماينز الألمانية سنة 1995، شاهدت في متحف المدينة بعض حجارة السور، قلت:أين أنت يا ديتر؟!).

مضت الأيام، وكنت قريبا من الرفاق أقرأ صحافتهم وأتابع نشاطهم، ولم أكف عن قراءة "الاتحاد“ في سنِي تدريسي الأولى، حيث لا تكاد تجد معلّمًا يجرؤ على قراءة الصحافة الشيوعية بصورة علنية، وأحيانًا كنت أشارك خطيبًا على منابرهم، فليبلعوا البحر!

غير أن الخطيب الذي كان صيته مدويًّا، وكان صوته كذلك كان إميل حبيبي.

إميل حبيبي الذي أقرأه، هو نفسه أبو سلام، جهينة، أو أبو الشَّمّقْمق..  كنت أعجب بإعجاب الناس به وتقديرهم له، ولم أكن أعرفه شخصيًا.

عندما كنت فعالاً في تأسيس الحركة التقدمية كانت سخرية حبيبي تصل إلى الأوج، وظني أنه هو الذي قاد الحملة على الحركة الوليدة، تارة يسميها" المتكديمت"- الكلمة العبرية للحركة التقدمية – وبالطبع فهو يغمز على تبعيتها للسلطة، وطورًا يتهمنا مباشرة بأننا ربائب السلطة. ومن المفارقة أن السلطة حاولت جاهدة أن تلغي القائمة، وكان ذلك يؤلمني، فكيف يتهمنا رفاق الدرب بما ليس فينا؟! أذكر أنني استخدمت بيت الشعر في إحدى مقالاتنا التي تدافع عن الحركة، والبيت هو للحلاّج :

ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له

                                                  إياك إياك أن تبتل    بالماء

فكان إميل يعود إلى البيت مرة بعد أخرى ليسأل سؤاله:وما الذي أجبركم على هذا السلوك؟

وبدا تحفظي من هذا السلوك في الحزب حيث التسلط، ودعوى انفراده بقيادة الجماهير العربية، بل أذكر قبل ذلك، أنني أصدرت مع مجموعة من الأدباء مجلة"مشاوير“ وقد صدّرناها بتحية للصحافة الشيوعية التي هي أستاذتنا ورفيقة دربنا، ولكننا بعد أيام قرأنا في  كلمة  لـ”الاتحاد“ :

“..... ولكم مشينا المشاوير وتسلقنا الأسوار فما ثبت إلا نحن".

ثم إنني كنت من مؤسسي"رابطة الكتاب العرب“ المنضوية تحت تجمع"اتحاد رابطات الكتاب في إسرائيل“.  طلبت الاجتماع بإميل، وشرحت له إمكانية مطالبنا بحقوقنا ضمن هذه الرابطة، كأن نحصل على جوائز تفرغ، وأن نحصل على منح للكتب التي نصْدرها.

تحمس إميل لكلماتي، ونهر شخصًا كان يرافقني و(مع ذلك كان في الجلسة يسخر مني، أو يغمزعلي)، فأيقنت أن أبا سلام  جاد، وأن اختلافنا السياسي لن يحول دون تعاوننا.

وعرفت فيما بعد أن الحزب اجتمع بهيئاته واتخذ قراره أو توصيته بتأسيس اتحاد الكتاب العرب: سميح القاسم رئيسًا، وفاروق مواسي نائبا للرئيس، ومحمد علي طه سكرتيرًا... 

عند تأسيس الاتحاد جلس على المنصة إميل حبيبي وتوفيق زياد، فيما قاطع عدد من الأدباء هذا الاتحاد (بعد ذلك أسس بعضهم رابطة الكتاب الفلسطينيين)، بدعوى أن هذا الاتحاد اتجاهه شيوعي محض، ولم يشفع لي كوني عضوًا في اللجنة المركزية للحركة التقدمية التي تبنت هذه الرابطة، فألفيت نفسي خارج الحركة، وقادوا حملة شعواء علي خاصة، وعلى اتحاد الكتاب عامة.

*****

 

أعترف لكم أن قصص سداسية الأيام الستة لإميل كانت في مقياسي الأدبي عادية لا تتميز بنفس روائي (ذهب الناقد حسني محمود إلى كونها رواية؟؟؟)، بل لم أر فيها  النفس القصصي فنيًّـا.  كنت أسميها"كتابة” أو"نصًا جميلاً“، وبالطبع فإن كل خرزة فيها لقطات رائعة وطيبة.  وهكذا كان رأيي في"الوقائع الغربية- المتشائل“ التي قرأتها كذلك بالعبرية والإنجليزية.

كنت وما زلت أعجب لهذا السيل من الإطراء لأدبه، وبهذه الدعوات له لحضور مؤتمرات هنا وهناك باعتباره روائيًا متميزًا. قلت في نفسي :"العيب قد يكون فيّ، وفي ذوقي، وإلا فلماذا يمدحونه بعد كل نص ينشره...  اهدأ يا ولد!”.

من جهة أخرى كنت أعزي نفسي عندما أستمع إلى خطبة له هنا وهناك، فلا أجد – شخصيًا – تماسكًا في العبارات، أو تأصيلاً أو توثيقـًا دقيقـًا، أو لغة منسابة.  كانوا يصفقون ويصفقون في إعجاب متناه، وأنا أقلّب الأمور، وأعجب.
قلت في نفسي :" ومن أنت حتى تخالف الناس كلهم؟! اهدأ يا ولد!".

ثم إن إميل زارني في بيتي أكثر من مرة.  كان يعرف تحفظاتي، ولكنه كان يتقبل كل ملاحظة: تارة بسخرية، وطورًا بصراخ، آنا يوافقني ويتبع ذلك بنكاته وضحكاته....  وإميل كان كثيرًا ما يلاحظني مطرقًا  وهو يخطب، فيفاجئني في معمعة الخطبة :” شو رأيك”"مالك” احكي.... مش عاجبك؟؟!! (يمد الألف).

كرر ذلك في أكثر من موقف. وبالطبع كان يحصد التأييــد تصفيقًا وبسمات، فيحمرّ وجهي وأسكت.

قلت له بعد أن أصدر لُكــَع"ما هذه الرواية؟”

كان يجلس على مكتبة بالاتحاد فقال:"كلكم لا تفهمون النص”..

وتطرأ التحولات في منهج إميل..... 

اعترف بها فيما بعد، وبعد ذلك  برز نشاطه ضمن لقاءات التعايش الإسرائيلي الفلسطيني، فكان يلتقي اليسار الإسرائيلي، وقد عقد هو ويورام كانيوك اللقاءات والحوارات. كان إميل  فيها مترجمًا جيدًا، وكان يطلب مني أحيانًا أن أساعده، فأترجم، ولاحظت أنه راض عن ترجمتي رغم أنه كان يصوّبني هنا وهناك.

أما روايته سرايا"بنت الغول” فقد كتبت نقدًا عنها رفضت كل الصحف أن تنشره.  فكيف يصح أن تنقد مثل هذا الكاتب الكبير؟

يومها عرفت أن لبعض الكتّاب هيبة لا يصح أن تُمسّ.....

كنت أرجو من إميل أن يقدّم لنا نصًّا عن سيرة حياته، أن يتركز على شخصيته هو بكل ما فيها من ذكاء وطموح وإيجاب وسلب، لأن تاريخه شئنا أم لم نشأ –هو تاريخ مرحلة.  كنت أريد أن اقرأ كتاباته سلسة شأنه وهو يحدث.  وكم بالحري إذا استبدت به سَورة الشراب، ففاضت أشجانه وجمحت خيالاته.

شاركته كثيرًا في لقاءات مع الأدباء اليهود، وكانوا يرنون إليه بإعجاب منقطع النظير، وكنت أسكت بدعوى"رحم الله امرءًا قال  خيرًا فغنم....... ".

أذكر أن معهد"جبعات حبيبة” قد كرّمه، وكانت سهام داود سكرتيرته  بصحبته، فما أن أبديت ملاحظة على ملاحظاته حتى قالت بقسوة:

“ماذا يعنيك أنت؟ أنت شاعر فقط أنت لست ناقدًا، فاترك النقد للنقاد."!

وأذكر أنني نشرت مقالاً تحفظت فيه من حصوله على جائزة إسرائيل (نشر في"نداء الأسوار”) فقال لي باعتزاز:"وسأحصل على جائزة فلسطين أيضًا (كان ذلك قبل حصوله حقـًًا عليها).

كان إميل في أواخر عهده يكثر عن الحديث عن الديمقراطية، وتجربتي معه في هذا السياق أرويها:

كتبت قصيدة"عصام السرطاوي يقرأ في أسفار العودة“، واستخدمت فيها نبوءة للتعايش السليم فقلت:

“(ماتي)،(أوري) رمزان إلى واحة يمكن“.

أصر إميل- إذا شئت أن أنشر القصيدة- أن أغير  اسم (أوري) –بسبب علاقاته السيئة مع أوري أفنيري- وأجعلها (يوسي) -يقصد يوسي أميتاي.

                                             

                                                                                          ** ** **

 

في لقائي الأخير قبيل وفاته ببضعة أسابيع كان إميل قد أُعجب بقصيدة لي قرأتها أمامه- "أغسل خوفي”، وهي تسخر من المتدين المتزمت.  طلب من سهام- وكنا في مقر مجلة” مشارف" أن تنشرها، وقال لي بنوع من الاعتزاز:

“أبو عمار:هذه المجلة لكم... "

كان أبو سلام يحدثني عن بعض الأدباء العاقّـين الذين أنكروه قبل صياح الديك.

  كان مؤنسًا رقيقًا ومتفائلاً.  ولكنه ما لبث أن توقف، وأخذ يشكو أمامي  بشدة وحرقة:

“الموت يأتي معلش.....  ولكن لماذا هذا الألم؟ لماذا هيك الألم؟!”.

 

عندما سُجّي جثمانه في ساحة الكنيسة في الناصرة قلت في نفسي:

وقد كانت حياتك لي عظات

                                      فأنت اليوم أوعظ منك حيـــّا

أقبل الشاعر محمود درويش في زيارته الأولى بعد اغترابه، فاستقبلته مع آخرين، وما لبث أن أخذ طريقه إلى أبي سلام، وكنت إزاءه، وقد لاحظت كأن جفنيه انفتحا، وكأنه يرمقه للحظة، ثم أغفى.

"نشيد البجعة” هو مصطلح يعني الطاقة الإبداعية وذروتها قبيل الوفاة، ولكنني لدى إميل  استمتعت بثلاثة أناشيد:

1-    أذاع التلفزيون مقابلة كان قد سجلها قبيل وفاته، فعرفت عمق النظرة وقوة الحجة وسطوع البيان.  ما هذه العظمة!.

2-    نشرت مجلة مشارف في عددها الأخير (مايو 1997)"ذكريات سراج الغولة ولا تطفئوا  هذه الشمعة”، فعرفت أننا أمام عملاق أدبي نافذ.  تقرأ الكتابة وتدهشك بقدر ما تقول لك أنت لا تعرف شيئًا. هذا رجل قلمه متميز، ورب قول أنفذ من صَول.

3-    شاهدت فيلمًا التقطوه له قبيل وفاته، فعرفت فيه الوطني الحق الأصيل. 

ترى، هل أنا الذي تغيرت بعد وفاته.  لقد أخذت أحبه واحترمه كثيرًا، فهل ثَم ضرورة للعودة إلى كل كتاباته لتقييمها من جديد؟!

                                                                       

                                                                        *     *     *     *

 

توفيق زيــــاد كما عرفتــــه:

 

توفيق زياد قرأته شاعرًا ناثرًا! فتابعته بالإعجاب.
 فرحت له يوم أن انتصرت"جبهة الناصرة الديمقراطية”؟ وأضحى رئيسًا:

ورفعت رأسي عاليًا يا ناصره

                                    وصفعت ما كادوا بأيدِ   ظافره

 راق لي توفيق زياد في قصائده التي كان ينسجها فصيحة من رحم الأغنية الشعبية-  مثل-"عذّب الجمّال قلبي"....

 كنت أحس أنه منا وإلينا، فينا وعنا. كفاحه أصيل جريء رغم لجوئه إلى الفحش أحيانا في تعابيره (أذكر ولا أنسى لقطته وهو يمسك بمنطقة حساسة ليتحدى زئيبي الذي يطالب بترحيلنا، ويبدو أن أمثال زئيبي لا يفهمون إلا هذه اللغة، على الأقل حسب مفاهيمنا الشرقية.)

في السبعينيات عندما دعيت مع صديق لشراب في مطعم في يافة الناصرة لم أعرف أنني أمام عملاق الفكاهة، أمام رجل يتمتع  بحافظة نادرة، وبتمثيل باهر. فنان تحبه وتشعر أنه قريب منك جدًا، وكأنك عشت العمر كله معه. 

كان يهتم بما ننشر نحن الشباب في بدايتنا، فيشجع وينبه دائمًا إلى ضرورة أن يكون الشعر للناس، وليس للهواء. 

كانت قصائده الوطنية مثار نقاش طويل حول"فنّـيّـتها”، وكنت من الذين يعجبون بها رغم مخالفتي لرؤيتها الفنية في مقالاتي النقدية، ومع ذلك  كنت أبرر أن اللغة له سحرها، والسحر لا يتبين أحيانًا بسبب كونه سابيـًا باهرًا.

أردد قوله:

 

إنا هنا باقون

فليشربوا البحرا

نحرس ظل التين والزيتون

ونزرع الأفكار كالخمير في العجين   

نأكل التراب ولا نرحل

هنا لنا ماض وحاضر

هنا على صدوركم باقون كالجدار

 ننظف الصحون في الحانات

ونملأ الكؤوس للسادات

ونمسح البلاط في المطابخ السوداء

حتى نسلّ لقمة الصغار

من بين أنيابكم الزرقاء

 

هكذا بمثل هذه البساطة التي استقاها محمود درويش في"سجّل أنا عربي”، وسميح القاسم في "خطاب من سوق البطالة" كانت بدايات شعر المقاومة.
 هنا لا يُحْفل بالقاموس الشعري ما دامت حرارة التوصيل قائمة حية متفاعلة منفعلة.

كتبت في مفكرتي في ذكرى  يوم الأرض  سنة 1993:

كنت وأبو عمر في شفا عمرو. لاحظنا أعدادًا هائلة من الجنود تظهر على ملامحهم إشارات الاستفزاز،  جاءوا وكأنهم على موعد بما سيحدث.

ارتفع صوت زياد (من أين له هذا الصوت؟!) وهو يناقش المتزمتين أن يعطوا المرأة حقّها.
هنا تدخل زعيم من الحركة الإسلامية معترضًا. وأخذت العصي الغليظة تظهر. لم يَخفهم.
 كان يتحدّاهم رغم هجومهم وكثرتهم. اختلط الحابل بالنابل، واحتدت الأصوات. واقتحمت الشرطة لفض الاشتباك.
 (شاهدت في السنة التالية مشهدًا مماثلاً في الطيبة، فقد تكرر المشهد فيما بعد، بصور أخرى، وذلك في أعقاب ظهور الوطنيين المنافسين من كل حدب وصوب)

 

                                                                                         ***

 

قبل ذلك في يوم الأرض 1977 -في باقة بلدي-  كان توفيق  زياد الخطيب البارز على منصة الاحتجاج – على الاعتداء البوليسي الشرس على أبناء باقة وجت. قرأت أمامه وعلى الجمهور قصيدتي التي كتبتها:

                 يا شعبي العملاقَ إنك ملهمي

                                   أنت الكريم، وما سواك معلّــمي

كنت أحس أن القصيدة خطابية مفعمة بصوت زياد ونفَسه.  طلب مني أبو الأمين أن أوثّق الحدَث، حتى نصدر كتابًا أسود عن جرائم المعتدين.

عندما دخل البرلمان كان أبو الأمين يمر على مقهى أبو اسحق – حيث نجلس، فنلتئم حوله، فيحدثنا عن جولاته وقولاته، فنزداد به إعجابًا.

ظلت العلاقة رائقة رائعة، حتى نشطتُ في الحركة التقدمية، حيث كنت من مؤسسيها، فإذا به يشتد ويحــتد، فيخطب في باقة خطابًا سخر مني فيه، ونسي ما بيننا من خبز وملح، ثم ما لبث أن دعاني إلى مراجعة النفس (وفعلاً راجعت نفسي فيما بعد، وتبين لي الأساس المتهافت الذي يبني عليه بعض المتسلقين)، لكن وللحق، فالسخرية لم تكن ضرورية ولا أستحقها. 

وما دام الأمر بين قوسين فقد حضر الأديب حنا إبراهيم بعدها إلى اجتماع شعبي  لحزب لا أؤيده، فأبى أن يقرأ الشعر-كما قال- إلا بعد أن يطلب إذنـًا  من شاعر باقة، واستذكر قصة الخوري الذي جاء ضيفًا إلى بلدته-  البعنة، فطلبوا منه أن يكرز، فأبى وقال: حتى أحصل على إذن من خوري البلد. (مع عدم ادعاء التشبيه، رحم الله من قال في التراث: أيفتى ومالك في المدينة؟!)

وشتان بين الموقفين!

 

                                                                                     ***

 

عندما اتجه إميل حبيبي اتجاهًا جديدًا بعيدًا عن مقولات الحزب أخذ توفيق ينشر قصائد يوجهها له دون أن يذكر اسمه (الندابة-”الاتحاد”5/7/1991)، وقد تأخر نشرها في كتاب. وهذه القصائد محفوظة لدي بأصلها. أذكر هنا  أن  أبا الأمين -الشاعر توفيق زياد قد طلب مني شخصيًا  أن أكتب نقدًا عنها أو دراسة تبين الشعرية قياسا لكتاباته الأولى، خاصة وأن هذه بحاجة إلى النظر الأدبي بعيدًا عن الموقف من إميل فيها. ولمّا أفعل ذلك.

 

كنت أستمع إلى الإذاعة فإذا بنعي توفيق، فقد لاقى الشاعر مصرعه الأليم في حادث سير.
 فَجَعنا، ولم نستوعب ذلك......

كانت التقولات تحوم بأنه مات بسبب الشراب، وهذه تقولات لئيمة مستهجنة حتى في الدين، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول”اذكروا محاسن موتاكم”!

 كتبت قصيدة تحدٍّ، ونشرتها في"الاتحاد” تحت عنوان"كأسك يا توفيق!”، وقد ألقيتها في المهرجان الذي أقيم لذكراه في الناصرة  يوم 24/8/1994، وفيها:

 

             أما أنت

يا عاشق هذي الأرض

في كأسك

تتجلى لك معشوقـــه

موجات موجات

آيات آيات

فارفع كأسك

نشرب نخبك

كأس محبـــــه

كأس جهاد في صولة جرأه

 

وقد علقت فيها  على هؤلاء الملتزمين الذي لا يقولون كلمة حق أمام السلطان

الجائر،كما يقولها توفيق:

 

ثّم الشيطان الأخرس

لا يشرب، يرقبنا

لم يقل الحق.....  فلا خيرٌ فيه.

 

                                                                                          ***

 

في السادس من أيلول سُجّي  جثمانه في قاعة "بيت الصداقة” في الناصرة.

أُلقيت كلمات التأبين أمام حشد هائل جدًا (لا أذكر أني شاهدت مثل هذا الحشد بين ظهرانَـينا) –آلاف مؤلفة تنطلق منهم دموع دامعة.  فأحسست باللوعة والدمعة، وقد أصابت المناوئ السياسي قبل الرفيق الحزبي.

من الجميل الذي أعجبني وأكبرته-  أن إميل حبيبي كان قد كتب في"الاتحاد” كلمة رقيقة صفح فيها عن كل ما عكر صفو الأحبة، وقال:

“لقد اتفقنا على طول الطريق ومنذ نعومة أظافرنا (أظفارنا.  ف)، وما آلمني شيء أكثر من الاختلاف معه في أي موقف.
 التشييع المهيب لجثمانه عبر تعبيرًا مهيبًا عن حب هذا الشعب لهذا القائد الفذ الأصيل الذي لم يكتف  بالكلام عن المنجزات والكرامة”.  (الاتحاد 8/7/1994).

 

هكذا قدّر إميل حبيبي كما قدرنا  نحن في زياد تضحياته من نفي وسجن وتعذيب وبطالة، وكيف كان بيته هدفـًا ثابتـًا لهجمات الشرطة كلما قام أهل الناصرة بمظاهرة احتجاجية*.

ومضى الرجل، وترك عظيم الأثر.**

............................................................

 (*) يعتز كاتب هذه السيرة بأنه حصل على جائزة توفيق زياد الأدبية للأبحاث سنة 2001.  وقد جرى احتفال مهيب في 11/9/2001 بحضور رئيس البلدية رامز جرايسي وعقيلة الشاعر السيدة نائلة زياد والقائمين على"مؤسسة توفيق زياد"- السيدين أديب أبو رحمون وسامي الحاج، وحصل على الجائزة كذلك الكاتب سهيل كيوان.  وقد ألقيتُ كلمة بهذه المناسبة، وقرأت قصيدتي" كأسك يا توفيق".
(**)- كتبت دراسة  عن "النفس القصصي في شعر توفيق زياد"، وقد ألقيتها في عمان في مقر رابطة الكتاب العرب في 5 شباط 2005، وكنت محكَّـمًا في أكثر من سنة لقرارات لجنة الجائزة.

 

 


 

رحلتي في مذهبي

 

“إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد

حُمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر."

                                                                                 محمد عبده

 

في الدين- كل دين-  بحث عن اليقين.  ولكنك-  مع ذلك-  كنت تستصعب التسليم بأي يقين، ولسان حالك-  فيما بعد-  ما قاله أبو العلاء المعري:

أما اليقين فلا يقين  وإنما     أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا

 

وبسبب هذه الازدواجية: يقين- لا يقين، سأدعك تتذكر حكاية ما جرى لك في هذا الباب أوالمشرع، وما فكرت به، وما اتُّهمت فيه، إلى أن غدوت معتمرًا وتكتب قصيدة "الحج الأصغر”، وحتى وصلت إلى قناعة ما، رغم ما ينتابها من موجات القلق الفكري والوجودي بين الفينة والفينة.

تذكر في طفولتك أنك  حفظت جزء عمّ،  وكنت تتردد على الزاوية الصوفيّة القريبة من منزلك تصحب والدك المتدين  آنًا، وتدركه آنًا آخر في عتمة الليل عند صلاة الصبح-  دون أن تخشى أحدًا- رغم منع التجول.  كنت تقرأ الأوراد مع الدراويش، وتقيم معهم حلقات الذكر،  بل تترنم وأنت تردد:   

   نحن بالله عزنا                     والحبيب     المقرّب

  بهما عز نصرنا                    لا بجاه  ولا منصب

    كل من رام ذلنا                   من قريب   وأجنبي

    سيفنا في قولنا                   "  حسبنا الله النبي"

 

صليت تسع سنوات،  وصمت حتى النوافل،  بل أذّنت لصلاة العصر مرتين،  وخلا الميدان لك بعد غياب المؤذن،  وكيف تنسى أنك  صليت في الناس إمامًا ذات مرة.

وحفظك الدين من بضعة أخطاء أو موبقات  وقع فيها بعض أبناء جيلك، وذلك لأنك كنت تؤمن أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ولذكر الله أكبر.

وبسبب الاتصال بالكيبوتسات أو المستوطنات مرة وبسبب اشتراكك في الخلية الشيوعية أحيانًا، اصطدمت بآراء أخرى مباينة، وأفكار دُهشت لها أولاً، ولكنك سرعان ما أخذت تسائل  نفسك: وأنًى لي أن أثبت لهؤلاء إن هناك إلهًا بكل أسمائه أو صفاته التسع والتسعين؟!

مضت سنوات عشت فيها في شكٍ مريب، لا تجد في يفاعتك من يوجهك أو يشرح لك أو يجيبك عن تساؤلك عن حقيقة الله والملائكة والشياطين والجن والبعث والنشور  والعقاب والحساب ويوم القيامة، وعن دور الأنبياء، ومن هم؟ ومن هم الأولياء؟ وما هي حقيقة الإسراء والمعراج، وما هو القضاء والقدر؟ وهل الشر هو من صنع الخالق أيضًا؟  وهل أنت مسير أم مخيّر؟

وكانت الأسئلة تزداد كلما طالعت القرآن وكتب الحديث، فتخضع ما تقرأه للمساءلة، وتسأل:

لماذا سمح الإسلام بالرق؟ وما هذه الأحكام التي يعاقب فيها السارق أو الزاني أو القاتل أو الذي يريد طلاق زوجته ثم العودة إليها؟

وتظل الأسئلة حول المرأة أكثر ما يضايقك، فأنت لا تعرف كيف تجيب، ولا تجد مرجعًا جادًا يوجهك، فلماذا للمرأة النصف في الميراث؟  ولماذا الرجال قوامون على النساء؟ أليست هناك نساء أقدر على تصريف أسباب الرزق-  خاصة إذا كن بمستوى تميّزٍ عن بعض الرجال؟ ولماذا شهادتها لا تعادل شهادة الرجل؟ ولماذا يمكن أن تُضرب إذا لم تطع زوجها؟ ولماذا أصلاً يمكن للرجل أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع، ويحق له الطلاق متى شاء بينما لا يحق لها قرار الطلاق متى شاءت- وبنفس التساوي؟ وهل طلب منها أن تضع على رأسها النقاب؟ في أية آية حصرًا؟ وهل يعني قوله"يدنين عليهن من جلابيبهن” أو قوله"يضربن بخمرهن على جيوبهن“ يعني  أن يغطين شعورهن، ومن هم الولدان المخلدون؟ وما ضرورتهم، بل ما معنى"ما ملكت أيمانكم"....؟!

أسئلة وأسئلة لم تجد من يفهمك أو يوضح لك، وكان أبوك قاصرًا عن الإجابة رغم محاولته المخلصة في الذود عن حرمات الدين وعن المسلّمات.

فإذا ما قرأت بعض الردود من الكتب المتيسرة على هذه المسائل وجدت الظلع في الإجابات، فتؤثر أن تسكت خوفًا من الهجوم الكاسح أو الاتهام من هذا وذاك بأنك كافر مارق، فرحم الله امرءًا قال خيرًا فغنم، أو سكت فسلم.

اعترف الشيخ (عفيف) لأبيك أنه أوقف تعليم ابنه في المدرسة الثانوية خوفًا من فساده كما"فسدت” أنت، فالتفكير يؤدي به إلى التهلكة، ولا يزيد ه ذلك إلا خسارًا أو تبارًا،  بل إن والدك طلب منك الابتعاد عن كتابات خالد محمد خالد التي كانت" شركة الكتاب العربي“ تسوقها فهو الذي"أتلفك”، وكان أبوك يلعنه دون أن يقرأه.  وألح عليك أن تجالس الشيخ سعيد الجتّي الشيخ الأزهري لتسأله ما يعن على بالك.

 ولم تجد لدى الشيخ الذي أحببته لدماثته ما يشفي غليلك،  وكان في بعض إجاباته   تكرار لجمل أو نمطية في الفكر، ولكنك أحببته. ثم وفيما بعد رثيت الشيخ يوم أن توفي،  وقرأت على ضريحه قصيدة طويلة،فخلعت عليه  شعرًا قلت فيه  ما يراه الناس فيه، و منها:

يا مرجعًا للعلم من سيؤول فينا مرجعا

نأتي إليه فنهتدي ونعود نكسب  منفعا

خلفت أرض العلم هذا اليوم تبكي مدمعا

وجعلتنا أيتام هذا الدين والدنيا معا

فتواك يا شيخي لتنطق" كان فذًّا أروعا 

والهيبة العظمى على نور تألق بالطيوب

بقيت تحلق فوقنا وتضيء في كل الدروب

 

ثم أخذت تتهرب من مجابهة المسائل الدينية، حتى ظننت أنّك تستطيع أن تعيش مستقلا  دون اللجوء إليه، ولتترك للناس معتقداتهم  وعاداتهم.  وقلت:- لماذا من الضروري أن تحمل نفسك ما لا طاقة لك به؟ ومن قال إنك مسؤول عن إجابة كل معضلة.

*        *           *


 

مسابقة القرآن:

 

في آذار سنة سبع وستين وتسعمائة وألف  أعلنت الإذاعة  عن مسابقه  في حفظ القرآن الكريم تحمست لها لأسباب لغوية محضة،  وقررت المشاركة فيها.  ويبدو أن غرض القائمين على المسابقة لم يكن نزيهًا تمامًا، فقد تزامنت  إذاعتها مع حزيران  سبع وستين، فأقبل الناس على البرنامج، واستمع إليه كذلك أهلنا في  الضفة والقطاع- ممن ستحتل  إسرائيل أراضيهم  بعد أقل من ثلاثة أشهر، فأخذت الإذاعة تعيد بثّ  المسابقة مرة تلو المرة، ولسان حالها يزدهي بالحرية الدينية المتاحة للعرب الذين بقوا في  ديارهم عام ثمانية وأربعين، فلا تخشوا يا عرب السبع والستين!!!

وزار بيتك بعد الاحتلال بعض الأقرباء وغير الأقرباء  ممن جمع بينكم الاحتلال، وسألوا عن هذا الفتى" رجل القرآن الكريم"، وكنت كأنك في عرس آخر  فيه جلالة ومهابة،  لم تكن قد نعمت بهما يوم عرسك. (قيل لك إن المسابقة كانت أصلا لاختيار قاض للمحكمة الشرعية، ولكن طابعها تغير عندما وصلت إليك، ولم تهتم ولم تغتم).

سأعود بك إلى مسابقة القرآن الكريم وكيف بدأت:

رشحت نفسك للمسابقة الإذاعية التي أشرف عليها الإذاعي أبو جرير، فقد تم تسجيلك متأخرًا بناء على رغبة مشتركة لك ولوالدك. أما أنت فكانت رغبتك أن تخوض بحر  اللغة العربية، فلا فهم لغوي حقيقي دون تدبر آيات القرآن وبلاغته، وأما والدك فكانت بغيته تشجيعك على العودة لله- على طريقته هو، فقد أغراك بأنه سيضاعف الجائزة المالية  وتكون الجائزة من حظك  جائزتين. 

تقدم للمنافسة نحو خمسين  متسابقًا، منهم الإمام في المسجد، ومنهم الفقيه المتعبد، ومنهم من لا ينثني عن ترديد الآيات التي يصعب حفظها-  ليل نهار-، و عجبت لبعض الأسماء المشاركة، مما لا يحسن بك الإفصاح عنها.

في الامتحان الشفهي للتصفية الأولى ورد لك السؤال:

اذكر ثلاث آيات تبدأ بقوله تعالى" الله لا إله إلا هو..."؟

كنت تحفظ آيتين هما آية الكرسي، والآية الثانية من آل عمران، فارتأيت أن تحسن التخلص أولا، فتبدأ بما هو ليس متوقعًا، فأخذت تجمع بين أجزاء آيات، ولم تتلجلج، فإذا  الأمر يمر بسلام، ولم يعترض أي من أعضاء اللجنة خشية من اتهامه هو بأنه لا يحفظ، وإذا بك تفوز في التصفية.

في مسجد الجزار كانت المسابقة النهائية، وقد دعي إليها مئات الضيوف من علية القَوْمين، وانطلقت الأسئلة تترى، والإجابات على إثرها، وبدأ المشاركون يقصّرون في السباق  الواحد تلو الآخر حتى بقي اثنان:أنت وأبو فاروق من قرية مجاورة لبلدتك. 

أغراك أبو فاروق بأن تحظى بالجائزتين معًا- وأقسم- على أن تفسح له مجالا بالفوز، فهو يخشى ألسنة أهل بلده ولذع سخريتهم فهو مدير المدرسة، وهو في عمر متقدم، و لن ينسى لك صنيعك.

قلت له وأنت تنظر إلى والدك ونخبة من أصحابه، وقد حضروا لسماعك:

“ وماذا نقول لأبي فاروق الآخر الذي يبتسم من بعيد مزهوًّا؟ "

وأعلن عنك أنك" نجم الشهر" و" حافظ القرآن"  و" رجل القرآن الكريم".

هنأك الناس من كل حدب وصوب، وسرت على بركة الله رغم قصيدة كفرية غاضبة أطلقتها في أعقاب النكسة، ولم تنشرها،  وكأن الله هو الذي ساق إلينا الهزيمة؟ وكأن الشاعر فيك قد نسي أن" لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

 

*            *          *

 

سمحت السلطات- ولا يهم من هي – للعرب  في الداخل أن يؤدوا فريضة الحج، ومع الفوج الأول  سنة 1978 كان وداع أشبه بمهرجان متواصل طيلة ثلاثة أيام، وكان لك القِدْح المعلى – أنت ونخبة من زملائك-  في إدارة دفة المهرجانات، بل ألقيت قصيدة عبرت فيها عن مشاعرك الدينية  قلت فيها:

ودع حجيج الله واسأل ركبهم    أن يقرئوا أرض الحجاز سلامنا

إنا لفي لهف نحن ونرتــجي     أن يرفع  الإسلام   صوتًـا بيّنـــا

ولم تنشر هذه القصيدة  كما لم تنشر عشرات غيرها، لأنك اعتبرتها خطوات أولى في مسيرتك الشعرية. 

ثم ألقيت قصيدة في الترحيب بالحجاج بعد عودتهم، قلت فيها:

رحب بحجاج بيت الله  والحرم    أهلا  وسهلا بكم من معدن الكرم

كيف الرسول وأهل البيت عترته    إني أحبهم في خاطري   ودمي

.........

ليست ديانتنا قشرً ا  يزيننا      بل جوهر صوغه من ثورة الهمم

ما الشكل إن لم يكن مضمونه دركًا

                                       للبر والأمر بالمعروف والحكم

 

*         *          *

 

محنة:

 

برغم ذلك فعنك لم يكن مرضيًّا لدى  بعض أفراد  المجموعة الإسلامية التي ضبطت في أواخر  السبعينيات،  ولا تدري كيف بلغك أن اسمك كان معدًّا للتصفية الجسدية- بسبب آرائك في الدين-، وذلك أسوة ببعض الشيوعيين وبعض العملاء.

ثم وصلت إليك بعد بضع سنين  رسالة  بتوقيع (المسلمين) مؤرخة في 1 / 11 / 1982، وهي مهيأة لأن تكون منشورًا سيوزع في المساجد، ومما جاء في الرسالة:

“ لقد تعودنا أن نلتقي لمعالجة قضية معينة أو للرد على مغرض أو مضلل، أو للتحذير من مؤسسة هدامة تبث سمومها خفية وتحت شعارات براقة خادعة.

وهذه المرة نكشف لكم القناع عن وجه بشع وصورة قذرة لمعلم انحط إلى أسفل سافلين، ولطخ شرف المهنة التي استغلها لمآرب دينية.  هذا المعلم هو فاروق مواسي.  فقد توجه إليه أحد الآباء مستشيرًا إياه بخصوص تعليم بناته، فقال له:- أنصحك بعدم تعليمهن لأنه لا أمان على البنت في هذه الأيام، فمثلا أنا عندما ألتقي طالبة لا أغض عنها بصري، وأتملى جميع أجزاء  جسدها-، وعلل ذلك بأنه يحب الجمال ويتذوقه، وهو يركز أسئلته على الطالبات المثيرات من الناحية الجنسية، وكانت دهشة الأب لا تقدر، فقرر بعد ذلك أن يمنع بناته من الاستمرار في التعليم الثانوي. لهذه الأسباب وغيرها طالـب المسلمون وما زالـــوا(؟) يطالبون بفصل البنين عن البنات، واختيار المعلمين الأشراف. 

إننا نهيب بالمجلس المحلي أن يطرد مثل هؤلاء الساقطين وإبعادهم رحمة بأبنائنا وبناتنا... "

ويبدو أن الكاتب أدرك مدى تجنيه، فكتب رسالة أخرى بدون توقيع:

“ إلى فاروق مواسي 

السلام على من اتبع الهدى!     (لاحظ نوع السلام وخلفيته)

 

عندما استعرضت(؟ بدل استعرضنا) المنشور قبل الطبع وجدت فيه أشياء خطيرة جدًّا، تحتاج إلى التحقق والاستبانة  امتثالاً لأمر الله عز وجل" إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبيـنـو"(؟)، لذلك فإننا نمنحك فرصة الدفاع إذا كان ما ورد في المنشور غير صحيح، أو الاعتراف والاعتذار إن صح، وذلك بأن تحضر إلى المسجد بعد صلاة العصر  من يوم السبت 6 / 11 / 1982، وتعلن موقفك على الملأ(؟) الحاضرين.

إذا لم تحضر وتبرر موقفك فإن المنشور سيصدر وسيوزع.  نود أن نزيدك علمًا أن الأب الذي استشارك هو(ي.  غ)."

توجهت إلى هذا الأب، فأنكر كل الإنكار أن يكون قد جرى بينك وبينه  أي  حديث، واستشاط غضبًا، وقال لك: دعهم  لي!  فأنت أشرف من الذين يحاولون المس ببناتي، وأنت آمن منهم.  إنهم يعرفون مدى حرصك ودفاعك عن حق الفتاة بالتعلم، فجاءوا يهاجمونك في  نقطة قوتك.  

ولم يكن في نيتك أصلا أن تذهب لمحاكمتهم، ثم بلغك بعد ذلك أن الأمر لم يمر بسلام.

ورددت في إيمانك:" قل جاء الحق وزهق الباطل”.

 

وفي خارج باقة  أيضًا:

 

أصدرت لجنة الآباء في المدرسة الثانوية في أم الفحم (يسمونها أم النور في كتاباتهم)  في 1 / 12 / 1982   كراسًا اتهموا فيه مدير المدرسة الثانوية بإدخال نصوص للمطالعة  تدعو إلى سوء الأخلاق، ومنها نصوص فاروق مواسي، فسألوا في الكراس :

“ إذن ماذا تقول عن كتاب (اعتناق الحياة والممات)  لفاروق مواسي حيث يقول في الصفحة الثامنة تحت عنوان- "قصيدة غزلية":

مطر ما بين نهد وشفــه

وبياض وبياض

لدروب المعرفـــه

أستريح الآن من أتعاب ماضيَّ بحضــنك

....

أوليس هذا فساد أخلاق؟؟

وفي صفحة(18) يقول فاروق في قصيدة(الرحلة):

 

والعلم يدل على غيبـــة رب

أو أن الله بكل الذرات

فتعالى الله!!!

 

ثم كان أن  كتبت للمشرفين على إصدار الكراس  لتبين لهم تجنيهم،  وذكرت لهم أن الغزل مشروع، وقد سمعه  الرسول من كعب، فخلع عليه بردته. 

أما القول الثاني فينتهي بـ” تعالى الله"، وقد ارتأى كاتب المقال أن يحذفها على طريقة" ولا تقربوا الصلاة.... "  مما يدل على سوء طويّـة.

ثم رد عليك من وقع باسم يوسف محمود محاميد برسالة ذات ديباجة دينية طويلة، فأخذ يناقشك في المجاز والبلاغة أنت  بالذات، ويتعسف بالتأويل، ولا بأس إن أثبتّ بعض ما كتب في رسالته:

"والعلم يدل على غيبة رب“...... هذا يدل على عقيدة واقتناع القائل نتيجة رحلته العلمية واحتوائه علم الأولين والمعاصرين.

“أو أن الله بكل الذرات“.... هو في علم البلاغة تساؤل إنكاري.

“فتعالى الله“..... هو في اعتقاد القائل أنه بعد أن ثبت له (علمه) ودله دلالة قاطعة على غيبة رب.  يكون المقطع الأخير في اعتقاده وما يعنيه هو قول الجاهلين والأغبياء الذين لم يتعلموا كما (تعلم وعلم) القائل علم الأولين والمعاصرين، ومع سياق المعنى مع المقطعين السابقين له.  هو أيضًا في علم البلاغة أيضًا جواب إنكاري.

أفبعد هذا ما هو أشد كفرًا وإلحادًا وزندقة من هذا القول؟؟؟؟!!!“

ويمضي صاحب الرسالة  كاتبًا:

“ اعلم أننا لسنا في مجال النقد للشعر والأدب إن وُجد، ولكننا في معركة الرد والإيضاح على الهجمة الحاقدة الخبيثة الماكرة والمركزة على الفكر الإسلامي ككل.  والرد هو من أجل قتل الفتنة الي أريد لها أن تحتدم  ويشتعل أوارها. 

وقولك إن الرسول سمع الغزل من كعب في (بانت سعاد) فالجواب: أين وجه المقارنة مع الغزل العاري والأدب المكشوف والشعر الإلحادي، فعودة يا فاروق  كعودة كعب بن زهير، ودخلة كدخلته في الإسلام مجالدًا ومنافحًا عنه، كيف لا وأنت الحصيف الكيِّــس، إن شاء الله“

                                                                      يوسف محمود محاميد

                                                                            23 / 3 / 1983

وبقيت تردد في إٌيمانك"وقل رب زدني علمًا“  

 

علقة أخرى:

 

في 6 / 12 / 1991 كتبت مقالة في القنديل التي كانت تصدر في بلدك، خاطبت فيها هؤلاء الواعظين في المآتم  أن يكفوا عن ذكر البدهيات، الإلحاح على أن الموت سيكون مآلنا،  فقلت

"نحن بحاجة إلى من يثقفنا، لا إلى من يذكرنا بالموت“،وقلت: "إن عظمة الإنسان بالذات وروعته تتأتى بسبب تناسيه الموت واستمراره بالعمل،" وناشدت الوعاظ أن يفسروا لنا الآيات ويعرفوننا بقيم دينية وثقافية مختلفة بدلا من التركيز على الموت" (أعيد نشر المقال في كتابك" حديث ذو شجون"، النهضة، الناصرة – 1994، ص 155)

 

أثار المقال أولا أحد زملائك ممن كانوا يعظون، وظن أنك تقصده، فأخذ يرغي ويزبد ويتحرش بك، وكدت تتشابك بالأيدي معه، ويعلم الله أنك لم تقصده، ولم يكن في خاطرك، وقد نسي هذا أن هناك من أثنى على المقال من بين رجال الدين بسبب القصد النافع من وراء المقال، وخاصة صديقك أبو زامل الذي لا تأخذه في قولة الحق لومة لائم، فأخذ يثني على المقال في كل حديث عنه.

ثم رد عليك  الشيخ توفيق محمد عبد الجواد في (صوت الحق والحرية 13 / 12 / 1991)  بمقالة تحت عنوان" عظة لواعظ الوعاظ"، ومما ورد في مقالته:

“ إن الثقافة والعلم والتفسير والإلمام بكل العلوم التي سبق ذكرها كله يبقى فارغًا دون معنى كالزبد يذهب جفاء إذا لم يكن مقرونًا ومدعومًا بالقلب السليم الخاشع والعقيدة الصافية التي يصلها الإنسان عن طريق معرفته لكُـنْـه الدنيا والآخرة والتذكير  بالموت والاستعداد لدار الخلود، فنحن جميعًا  وأمتنا  كذلك  بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى من يذكرها بالموت....."

ثم أخذت الرسالة تذكّر بأحاديث تناولت"هادم اللذات“، و بأنه الواعظ  وكفى به.

تلا ذلك نوع من الحصار، فأنى توجهت كنت تجد منتسبًا للحركة الإسلامية في هذه القرية أو تلك قد  عرفك واتخذ منك موقفًا، فأنت قلت في قصيدة كذا- كذا وكذا والعياذ بالله، وأنت..  وأنت... وكنت تناقش أحيانًا أشخاصًا لا تعرفهم  وتذود عن نفسك، وتنكر طريقة فهمهم.

وصل الحال  بفئة باغية  أنهم أشاعوا أنك دست على الكتاب  الكريم في الصف، وأن الطلاب ضربوك ؛ والإشاعات لمن لم يمر بتجربتها  تخرج الإنسان  عن طوره، فيحتاج آنًا إلى الهرب، وآنًا إلى البكاء، وأخرى إلى المجابهة الحادة  والغضب.

ووصل الأمر بأحد الأئمة الشباب أن يحرض عليك في خطبة صلاة الجمعة، ومن العجيب أنه من خاصة أقربائك، فقد ادعى أنك قلت في الصف  إن القرآن ليس كلام الله، وإنه ليس معجزًا، وإنه... ولم يذكر اسمك، بل ذكر صفاتك، فالمعلم هذا – أيها المؤمنون-  شاعر يعلم العربية منذ كذا سنة، و قد أصدر كتبًا،  وووو

يومها سألتك أمك وهي تبكي وتخشى على حياتك: أصحيح يا ولدي ما يقوله عنك الشيخ؟!!

أغضبك ذلك جدًا، فقررت التوجه هذه المرة  للشرطة، دون أن تقتنع أنها ستفعل شيئًا، وبالفعل لم تجد الشرطة-  كما ادعت-  بينة أنك أنت المقصود. 

 وبقيت في إيمانك  تردد"ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله”.

ومضت الأيام.

 محنة جديدة:

 وإذا بمعلم الدين إياه  يتربص بك وأنت لا تدري. 

قلت في صف من الصفوف أن المسيح عليه السلام مات كسائر البشر، واقتبست ما ورد في القرآن "فسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيّا“، وقوله" فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم...".  فإذا بالمعلم  قد هاج وماج، وحرض الطلاب، فمن المحظور عليك أن تقول شيئًا دينيًا ما دام هو في الحضرة.  ويكتب المعلم بخطه رسالة إلى مدير المدرسة ونسخة منها للسلطة المحلية، وقعها الطلاب، و ورد فيها:

“إن هذا الأستاذ الفاضل طالما عمل على التشويش على الإسلام وعلى إيصال فكرة معينة إلى الطلاب تسيء إلى الإسلام بكلماته المغلفة، فمثلا في 21 / 11 / 95 في الحصة الأولى طرح في الدرس آية"إني متوفيك ورافعك إلي..." فأكد أن المسيح توفي، ثم أخذ يسأل:

محمد سيد الأنبياء مدفون تحت التراب، وعيسى يسرح ويمرح، كيف هذا؟؟؟!

عجبًا لك يا أستاذ، أتريد أن تعلم الله كيف يتصرف؟ اتق الله!

نسأل الله الهداية له، وأن يكف عن تشكيكه وهجومه على الإسلام وأهله. كما نرجو النظر في هذه القضية التي تخص عقيدتنا ومبادئنا، وأن تبحثوها بمنتهى الجدية!

طلاب تخصص الدين الإسلامي- باقة الغربية

 

تطور الأمر أكثر، فإذا بمعظم طلاب الصف يخرجون من حصتك  أو تعلنَ توبتك.

ثم حضر وفد ديني إلى الصف، وجرى حوار بينك وبينهم جميعًا، وكدت تقنعهم  لولا أن قرروا مسبقًا إدانتك، وما هي إلا دقائق  فإذا بالأستاذ يصرخ: أنت علمتني، وأنا أعرف كيف تغلف آراءك.

إذن هذا من تلاميذك يا فاروق، وها هم تلاميذك اليوم يحتجون عليك ولا يريدونك، فاشرب ماء!

 لا.  لا،  لا تنس كيف وقف معك بعض الطلاب كالأسود، وخاصة الطالبات – كاللبؤات- بشجاعة منقطعة النظير- ذهلت لها أنت كما ذهل  لها الحاضرون.  كانوا قلائل، لكن أصواتهم طغت، فدافعوا عنك وعن إخلاصك وحبك للطلاب وللمعرفة، وطلبوا منهم أن يثبتوا كفر ما قلته، مما جعلهم يتراجعون عن ادعاءاتهم التي بدأت حادة، فإذا بها"يجوز الوجهان“.

لم يكفوا عنك، فتوجهوا إلى كلية الشريعة حيث تعمل، وتوجهوا برسالة  إلى مديرها صديقك أبي زامل - الذي ذكرته آنفًا-  فصدهم عن سبيلهم، وقال لهم إن ما نسيته أنت من معرفة لن يصلوا إليه، فحرام عليهم.

ولم يكتفوا بذلك، فإذا ببعضهم يعقدون جلسة في قاعة المجلس المحلي للنظر في كفرك وخطرك على الطلاب المسلمين، وإذا بأحدهم- وهو من أقربائك أيضًا، وكان صديقًا في الماضي  يصرخ في  الجلسة:

"هذا سلمان رشدي“.

وقفت وحيدًا، فأصدقاؤك الذين تسامرهم غابوا عنك، وأصهارك وأخوتك  لم يصدقوا هول ما أنت فيه، فلاموك على تورطك  معهم، فماذا يدعوك لأن تقول كذا وكذا، فأنت الذي تأتي بوجع الرأس....؟

آل بالمتزمتين المآل إلى تهديدك بصورة مباشرة وغير مباشرة، فأخذت تحسب لهم الحساب، فمن يدريك أن أحد فتيانهم ممن غسلوا أدمغتهم يكمن لك تحت شجرة في دارك فيطعنك؟

كنت تصل إلى المنزل فتطلق صافرة السيارة حتى يرافقك أبناؤك إلى الباب.......

ثم بدأت  الأحداث بالتلاشي، فإذا بنفر من الشيوخ في هذه الحركة يحضرون إلى منزلك  بدعوى استجلاء الحقيقة، ويكون بينكم  حوار ودي أظهرت فيه معرفتك بالدين أكثرمنهم، ولكنهم خرجوا بتوصية فيها غمغمة أن عليك أن تعود إلى الهداية والصواب كما عادوا  هم، وأنك إن عدت ستكون قائدهم  ووووو

 وسجلت محنتك في قصيدة" أغسل خوفي"  ونشرتها في الصحافة ثم في ديوان

 لما فقدت معناها الأسماء حيث كانت  حاسمة، ولا بد منها هنا:

 

أَغْسِلُ خَوْفي

 

قد يَكْمُنُ لي" وَجهٌ" أو آخرُ أَو آخَرُ

                          حتى الآخرةِ

                               وَبينَ حدودِ الخوف

ممنوعٌ أن تروِيَ

         أن تنويَ

قال: (فأنا وحدي أعوي

                     من ثَمَّ الجوقهْ)

خلعوا سروالَ هَباءْ

- ما شاء الله –

معنىً  وفضاءاتٍ  مَعْدومَهْ

       يا زمنًا منكفئًا غُصْ!

هاهم ظَلُّوا بِتَفاهاتٍ مُدْهِشَةٍ

                      (مُكْرشةٍ آنًا)

أو

        صَلَّوا كلمات

        صاموا في كلمات

جرحوا ذاكرتي في آيَةِ".... زدْني عِلمًا"

بتفاصيلٍ جعلوها في فعلٍ –” اُسْكتْ"

وسمواتٌ فارغةٌ ظَنُّوها ممتلئهْ

(أو مُفْعمةً بالحُور)

وَأَنا أُمسِكُ

بِتلابيبِ الأسماء أُعَرِّيها

وَأُمَنِّيها

وَأُجاريها

أغْسِلُ خوفي في خَوْفٍ مُتَناهٍ حتى أَنْسى

             معنى الخوف

أولادُ اللؤمِ وأولادُ الحقدِ وأولادُ الـــ....

          ويُريدوني ألاَّ أنْسى

كيف يَخيطونَ المعنى من لا شَيء

جعلوا لُغتي لا تَنْبضُ، أو لا تقبِضُ

مَع أَنِّي أقْبضُها بمجازٍ وَبِحُبٍّ

يا أقفاصَ القارِ المبثوثِ بشَعرٍ كهَباءٍ مُنْبَثٍّ

                            في العارِضِ والعارِض

أَيَّةُ أجسادٍ

أَيَّةُ آمادٍ

       لا تدري من أنتم

وأنا مُتَّكِئٌ، وفراشُ الذِّكْرى مثلُ وِسادهْ

أَقَتنصُ المعَنْى

              مِن

                مَعْنًى

                     مِن

                       خَلْفِ نِقاب الحَسْناء

وَيْ لامرأةٍ وضعتْ خَيْشًا فوق جبينٍ

                                        في أحسنِ تقويمٍ

                                          وَجَبينِ بَهاءْ

أدعَكُ شَمْسي.  والشمسُ

                 ها قد أَفَلَتْ

هذا رَبِّي، هذا أكبر

وهدايَتُهُمْ كَانتْ في بحرِ ضَلالٍ مَسْجور

         يُدعى" حُسْنًا"

مأساةٌ كُبْرى!

اختَصِِرِ الدُّنيا

 كَلِماتٍ غَضْبى

                 وبآياتِ الفُسْقِ

                        تَوَقَّفْ!

اِعْرفْهُ بِسيمائِه

       من بَعْدِ غَباء كانَ وظَلّ

قلتُ: هُنا مَعْنى تَكرار الشَّمسِ وَمعْنى تكرارِ الليلِ

                                     وَمَعْنى تكرارِ القَوْل

لا تُدْخلني رَمْزًا

لا تُطْعمني خُبْزًا

فَأنا في دائِرةِ الجَهلِ المَجهْولِ...  سَأخُرج

غُذَّ السَّير!

أَطْعَمْتُ الليلَ الخَوْفَ فَما خَاف

سِرْتُ أَنا بَيْنَ القَوْلِ وَبَيْنَ الإيلافْ

وَأُحيطُ بِكُلِّ الأسماء العِلْمَ لأَنِّي أُوتيتُ

                              مِنَ العِلْم قَليلا

أُوتِيتْ

أَقْبضُ ضَوْءًا

في وَسْط الظُّلْمَةِ

أَقْبِضُ ضوءًا

       ضوءًا

       ضَو

       ضَو

هل وَصَّفْتَ لآلئَ عَرْشٍ كانَ يَكُون

- أنتَ هناك تُعانقُ هَيْكَلَ عَظْمٍ-

قُلتْ لَهُم:” إني أَعْلَمْ

بِهُيولى الأسماء أَنا أَحْلُمْ

أَمَّا أَنْتُمْ

يا أَنْتُم –

              أَولادَ ضَلالَهْ

لا تَحْوُونَ الطِّيبهَ

(لا تَبْغُونَ دلالَهْ)

                         كَلِماتي تَجْري فِي دَرْبِ بَراءَهْ

والأبْناءْ

خرَجَوا مِنْ دَرْسي

                 مِن عُرْسي

يا غَرْسي، هَل ذاكَ بُكاءْ؟!

وَكَذا يا قُبَّعتي في الرِّيح

           طارَتْ وَهْيَ تَطيرُ إلى رَوح،

فَلَعلَّ تُلاقي كُثْبانَ الشَّوْقِ الَممْهورهْ

                                ذَرَّاتٍ مَسْرورهْ

وَلَعَلَّ العُشْبُ عَلى الأيَّامِ يَكونُ لها خُضْرهْ

              بَعْدَ الصُّفْرهْ

وَصِفاتُ نُعومهْ

مِنْها ما أَعْرفُ

مِنْها ما لاأَعرْف

مِنْها ما لن أعرف

منها يَخْتَلطُ الدَّمُّ على شُرُفاتِ المَعْشوقهْ

اجعَلْ عَيْنِي دُرًّا يا وَغْدُ!

                لا لا،

كَيْفَ سَيَجْعَلُ عَيْني دُرًّا

                 ما دامَ الوغْدَ، وَما دامَ الوَعْدُ

                                       يَسُوقُ الوَعْد

                                     ليس يضيرك

هل سَلَّحْتَ القَلْبَ بمَعْنى الجأشِ؟

هل بُلْتَ على أَنْفِ حُمَيَّاهُمْ؟

ها بوذا وَمَسيحٌ وَجَريحٌ وَكَسيحٌ

                  عِنْدَ النّاصِيَةِ اليُسْرى

في سُؤْلٍ تَسْآلٍ عِنْدَ خِوانِ إجابَهْ

فُكُّوا إنْ شِئْتُمْ كُلَّ رُموزِ السِّرِّ

دُلُّوني حَتَّى أَبْقى بِمَعاني الطِّيبِ

                     مَغْاني الفَجْرِ

حَتَّى أرْقُصَ مَعْ غَيْثٍ مَخْبولٍ مَهْمُولْ

كَيْفَ يُوَاتي مَطَري هذا حِقْدًا مَسْلُولْ

لَو تَتَدَحْرَجْ

           يا زَمَنُ!

لو تَتَمرّى

في مِرآةِ شَجَنْ!

كنتُ بقيتُ أَنا عِنْدَ خَليجِ الأيَّامْ...

بِعِناقٍ وغناءٍ وهُيامْ

يَسْمَعُني حتى الْمَجْنونُ بلا جِنَّهْ

        تشْكُرُني مِنْ غَيْرِ جَميلٍ أو مَنَّهْ

هَل يَعرفُ قَلْبي كم عانى

                       مِنْ أَنَّهْ

                                         لو أَنَّهْ........

 

16/3/1995

 

*      *       *

 

    وتجد نفسك في سبيل تشقه لنفسك، فأنت تؤمن بالله إيمانًا صوفيًا عميقًا، وأن الإيمان مائة شعبة أولها قول لا إله إلا الله وآخرها إماطة الأذى عن الطريق، وكنت تردد

“الدين المعاملة“ و"الدين النصيحة“ و تتسامح مع أبناء الديانات الأخرى  فـ"لكم دينكم ولي دين“، وتدرك أن التقوى  تعني الخوف الحقيقي من الله، فلا تعتدي على حق، ولا تكذب، ولا  تسيء  و...، أن تكون إنسانًا بمعنى الكلمة، وليس القياس في ذلك نابعًا من العبادات وحدها. 

شاع بين أصحابك منهجك وفهمك لله سبحانه، حتى أخذ بعضهم يتغامزون أن لك "الله"  خاصًا بك؛ وشهادة حق أن بعضهم أخذ يردد – فيما بعد-  مقولاتك وآراءك وينسبها لنفسه، بعد أن كانت مقولات الإلحاد على لسانه، وكأن هذا الكون بتجلياته تأتّى بدون خالق  وبدون عقل كلي نظم القوانين والأسس لهذا الكون بما فيه. 

وكنت قبلا قد قبلت  تكليف مدير المدرسة الثانوية سنة أربع وسبعين  أن تدرّس  مادة الدين لصف من صفوف الثانوية، وإذا بك – يومها-  تصول وتجول، وتفلسف المعاني والفرائض، وتوصل الطلاب بفكر الاعتزال، فالقدر هو ما تقدره أنت من أعمالك، ويجب أن ننزه الله عن ابتغاء الشر لمخلوقاته  الأبرياء،  والصلاة هي صلة بين العبد وربه، ويمكن أن تكون هناك أكثر من وسيلة لهذه الصلة، و كنت تفيد من كتب مصطفى محمود ومن كتاب نديم الجسر قصتي مع الإيمان، وهذا الكتاب بهرك وشد من إيمانك  إلى درجة أنك كنت تبحث عن كتاب صنو له يكون  عنوانه على غرار "قصتي مع العبادات“، وقد سألت – فيما بعد – الشيخ عبد الله نمر درويش  في جلسة حوار عن ذلك، وذكرت له يومها أن البحر لا ينتظر خضوع ذرات الرمل، وأن الجبل لا يهمه موقف حصاة، وأن عظمة الخالق لا توجزها كلمات مهما بلغت.

 

الشيخ رائد صلاح:

 

كانت علاقتك الشخصية  المباشرة مع هذا الشيخ الجميل الجليل راضية مرْضية، حتى في قرية كفر مندا  وفي حدة الحوار بينك وبينه.  فقد دعيت أنت وهو و د.  جمال قعوار إلى حوار حول الدين والنظام العالمي. فما كان منك إلا أن أبديت رأيك في وجوب جعل الشريعة بمنأى عن التطبيق  في عصرنا هذا في بلادنا هذه، وعلينا إزاء ذلك أن نرسخ الناحية الروحية في جوهر الدين، ثم ما لبثت أن قلت آراء لا تتناقض مع بعض التفاسير، فإذا بقعوار يغمزك، ويقول لك: أما تخشى من أن يعتدي عليك أحد بين الجمهور؟  ماذا جرى لك؟

ثم أخذ قعوار يقرظ حكم الإسلام على أهل الذمة، ويقول -وهو النصراني-  إنه  لا يجد تسامحًا في أية فترة كما كان  في الحكم الإسلامي.

كان الشيخ يصول ويجول في الرد عليك، وفي تقريظ قعوار، وكان الجمهور يهتز لكل ما يروق له بصوت واحد:"الله أكبر ولله الحمد“. ولكنك استرسلت في الرد على أسئلة الجمهور بما لا يتوافق مع مسلماته، فإذا بشيخ يقبل عليك هائجًا مائجًا، ويطالب الجمهور إنزالك، فهل جاءوا لسماع الكفر؟

ولولا الشيخ  وتكراره"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة“، ولولا رئيس البلدة-  السيد محمد زيدان، وهو صديقك-  لما عرفت مصيرك؟

 وكان تحذير قعوار في محله ووقته.

وانتهى اللقاء بوجبة عشاء – على مائدة الرئيس، وعاد بينكم الصفاء.

(من الطريف أنك تحتفظ بقرص الفيديـو الذي سجلوا فيه الحوار طيلة ساعتين، فهل هناك من يهتم بتفريغه ونشره على المعنيين؟)

 

في تموز 2003  اعتقل الشيخ رائد، فصعب عليك الأمر – خاصة وأنك قدرت براءته، وكان اعتقاله في المستشفى حيث كان يودع أباه في رمقه الأخير، وكان منك أن كتبت قصيدة نشرتها في أكثر من مكان تعبر فيها عن تعاطفك مع الشيخ مع أنك لست من حزبه.

أثارت القصيدة ضجة كبيرة لدى السلطة، فتدخلوا في  عملك، واتصلوا بك في وزارة المعارف، واتهموك بأنك  من"حماس“  وووو

رد عليك الشيخ بقصيدة عمودية ذكر فيها  تشوقه لمواطن في هذه الأرض التي يحبها، وقد أهدى القصيدة إليك. 

 لا بد هنا من اختيارك لقطة من القصيدة التي تخيلت فيها  المعتدي يرد على الشيخ في تساؤله: لماذا تعتقلوني؟؟؟!

 

-            "  أوَتسألْ؟!

 تهبطُ أودية  علويّه

تصعد أشواقًا نورانيّه

تشهد أندية عدوانيه

أوَتسأل؟!

 تدفع

لذوي البيت المهدومْ

وتعين السائلَ والمحروم

وإعاناتِ يتامى وأيامى

 أوَتسأل؟!

تجمع أموالَ زكاةٍ أو صدقاتٍ

تتأملْ

متكئًا قربَ جدارِ الوطنِ الراعفْ

تحملُ لا فتةَ الجرحِ النازف ْ

وتُضمِّـدْ

كلَّ جريحٍ مكلومْ

تمنعُـنا أن نسرحَ أو نمرحْ

في هيكلِـنا

(في هار هبايت)

وتُـرمّمْ

ثَمَّ مساجدْ

دونّاها حاناتٍ ومتاحفْ

كي تبقى للذكرى للتاريخْ

وترمِّمْ

نسمَ بلادٍ  ليستْ ببلادِكْ

حيث هواءٌ مملوء بالأحقادِ وبالأنقاضْ

قال الأتباعْ:

صدرُكَ مفتاحْ

وجهُـكَ وضّاحْ

صوّرناكَ وأنتَ هنا و هناكْ

تبني مشفى

تتعهد روضةَ أطفالٍ تبهجُ كلَّ صباحْ

تمنعُ دمعه

وتواسي لوعه

سجلنا ما هاتفتَ وما كاشفتْ

(حين تجسّسنا)

قلتَ:

“ أبغي أن أجعل مني أو منكَ عصاميا"

ولذا أصبحت َ ثريّا

يا شيخًا ملكيا

 

قسمًا سنحاسبُ فيكَ وبكْ

من يمشي منتصبَ القامةِ والهامه

أو من يرتادُ دروبَ كرامه

أو من كان أبيًّـا عربيّا

فالعزةُ عزتُـنا

والكلمةُ كلمتُـنا

والصولةُ أكبر

 

العمرة: (7-20/8/ 2001)

 

عد إلى مذكراتك، واقرأ علينا ما كتبت:

“عندما اتخذت قرارًا بالاعتمار كان ذلك مفاجئًا للجميع، وأولهم زوجتي عفاف التي رافقتني.

شددنا الرحال، أو على الأصح ركبنا  الحافلة إلى الناصرة  حتى ينضم لنا آخرون هناك، وألفيت نفسي أصلي الظهر في مسجد  فيها  شأني شأن المسافرين  الآخرين، وربما  كانت هي الصلاة الأولى لي  بعد انقطاع  طويل.

في  مطار عمان لبسنا ملابس الإحرام (رغم أن ليس هناك مكان مخصص  لذلك)، ثم  حلقنا صوب البلاد المقدسة  التي يولي المصلون وجوههم شطرها، فوصلنا مطار جدة بعد منتصف الليل، ثم أقلتنا حافلة  صوب مكة، وكانت تتعمد أن تصل  متأخرة  لسبب ما.

وما إن أطلت علينا  مكة حتى شعرت بغبطة روحية عميقة، فهل يعقل أنني هنا في حضرة تاريخ وقداسة، وأنني في رحاب الرسول الذي سبق وأن كتبت سيرته شعرًا، وقلت فيها أو فيه:

يا رسول الله إني عاشق                 سيرة تبقى وذكرًا يُعشق

وصلنا إلى الكعبة، فبهرتنا بمنظرها وجلالها وكانت تظهر من مبعدة،  حتى إذا وصلنا  للطواف أرشدني أبو أحمد - من قرية  معاوية- إلى أن أبدأ بباب السلام، وطفت أنا وعفاف مع الطائفين خاشعين  ذاكرين، ولمست الركـن اليماني (الذي يتجه إلى اليمن)، وقد تيسر لي كذلك  أن ألمس الحجر الأسود الذي يتقاطرون عليه لتقبيله، وصليت في مقام إبراهيم، وهو من جهة الشرق، كما صليت في حِجر إبراهيم، وأحسست بخشوع عظيم تصاحبه رقرقة دمعات.  وشعرت – أحيانًا- أن الكعبة بما فيها من هيبة وحضور وخشوع  الناس  قد تلهي الزائر عن التفكر في الله ذاته – مع أن كل ذلك هو لله، ومن أجل عبادته.

كانت  حرارة الطقس  متوهجة لافحة حتى في صلاتي الفجر والعشاء، ولا تسل عن الظهيرة حيث لا تحول دون  تسابق المصلين، وخاصة يوم الجمعة-  لكي يحظوا بمكان في الحرم.

سعيت بين الصفا والمروة، وشربت من ماء زمزم.

ولعل ما يبعث على عمق التماثل  أنني كنت أشعر وكأن بعض  الصحابة  كانوا يرافقونني في الطواف والسعي، فاستحضرت في ذهني أبا بكر وعمر وعليًا وهارون الرشيد الذي كان يحج عامًا بعد عام، وكان معي الفرزدق وتخيلته يجيب السائل: "من هذا؟“، وكان يطل علي عمر بن أبي ربيعة وهو يترصد الحاجات الجميلات.
  كنت أراجع التاريخ وتاريخ الأدب وما أحفظ من أبيات فيها ذكر مكة، وأربط بين ذلك وبين المكان، فأنا في مكة!!!

من العجيب أن أمي وأبي كانا يسعيان معي بين الصفا والمروة  وكأنهما من الأحياء.  وكانت أمي تبتسم لي مزهوة بي،  لأنني عدت إلى الله- كما كانت تلح علي أن أفعل.

في قراءتي للقرآن توقفت على السور المكية، و على أسماء الأماكن  المكية أو المتعلقة بالكعبة،  لأربط ما استطعت بين الآية والظرف المكاني، فأجد لكل سورة طعمًا مختلفًا وجديدًا، فاللغة تتألق هنا بشكل لا عهد لي به، وأجد عذوبة بالغة فيما أستوعبه، وأضرب صفحًا عن معان كنت أحاول أن أفلسفها وأخرجها، ولكنها هنا كانت بردًا وسلامًا على فكري. 

في اليوم الرابع أقلتنا الحافلة إلى جبل عرفات للتعرف إلى الموقع الذي  لا تجد فيه موطئ قدم- في موسم الحج، وتوقلت الجبل  الأجرد، واستحضرت في ذهني  خطبة الرسول  وبلاغتها.

 ثم ما لبثت أن استأجرت سيارة لأتعرف إلى سائر  المناسك ومواقع المشاعر، فهنا منى، وهنا المزدلفة، وهنا يرمون الجمرات، وكنت أتخيل المواقع  في صور أخرى مختلفة.

 ووقفت أدنى  الجبل الذي فيه غار حراء،  كما عرفت أين يقع غار ثور، ومن العجب العجاب أن الغارين عاليان جدًا جدًا،  ومن أعسر السبل  أن يصل المرء إليهما، فهما يحتاجان حتمًا   إلى  أجسام رياضية  متميزة.  قلت في نفسي، وأنا أرنو إلى حراء:

من هنا، من هذا الجفاف، والأرض الجرداء، وهذا الحر الحران، وهذه الشدة  انطلقت

(اقرأ)، وأخذت أقرأ السورة  لأتدبر معانيها الجديدة.

جبت مكة، وقرأت أسماء الشوارع التي تحمل أسماء الصحابة، وخلت أن هناك علاقة بين المكان والاسم، ومن يدري؟

أشار إلي من كان يدري دراية  معينة أن هذا البيت هو للأرقم بن الأرقم،  وهنا كانت دار الندوة، وأن مكتبة" مكة المكرمة" هي مكان ولادة الرسول، ولكن الوهابيين لا يجيزون لأي مكان قدسية، وأن أي تقديس لغير الله  كفر.

ولاحظت كثرة النقاب الأسود على وجوه النساء  حتى كأن الأرض في بعض  المساحات غطيت بالسواد، كما لاحظت كثرة الصلوات  في الكعبة، فليس من هم لأحد هناك إلا أن يقيم الصلاة، ويدعو الله الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد.                             

 

غادرنا مكة وشعابها، ومضينا في طريقنا أو في حافلتنا  إلى يثرب  إلى  مدينة الرسول، وهي تبعد زهاء خمسمائة كيلومتر عن مكة.  في الطريق كنت أسرح نظري في جانبي الطريق، فأجد الجبال الشاهقة والأرض الوعرة الجرداء، وكنت أسأل نفسي  في أمر طريق هجرة الرسول، كيف؟ ومن أين؟ وكيف تعذب المهاجرون في هذه الرمال وهذه الأحوال وهذه الجبال؟ أعجب، وأعجب، وأقلب طرفي بين الأرض والسماء؛ فإذا بالطقس يتغير على حين غرة، وإذا بالأمطار تتساقط عنيفة بشكل لا عهد لي بمثله، فتذكرت وصف امرئ القيس للسيل، وأحسست بصدق الوصف.

مع إطلالة المدينة المنورة  أخذت أنشد" طلع البدر علينا"، ويشاركني  في النشيد بضعة أطفال كانوا معنا، بينما كان بعض الكبار يسخرون من هذا البالغ الذي يغني مع الأطفال.

سعدت وأنا أرى الحرم النبوي، وتمتعت بمنظر الروضة والمنبر  فما" بين  بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة“، وسواء كان ذلك من الجنة أم لا، وسواء صح الحديث أم لا،  فقد صليت بخشوع وسكينة وكأنني في جنة حقيقية.
   تعرفت إلى قبر الرسول وقبر أبي بكر وعمر، وزرت البقيع ليدلني من أظهر معرفة على بعض قبور الصحابة  وقبور نساء النبي، وهي ليس مرتفعة عن الأرض.

 ثم أخذت أقرأ السور المدنية لأستشعر ما استشعرته في مكة، ولعمق إحساسي وحبي للنبي أخذت العبرات تتسابق على مآقيّ، ولا أذكر – في كبري – أنني بكيت كما بكيت في حضرة الرسول، وكانت زوجتي تنظر إلي مندهشة، وتغبطني على هذا الإحساس العارم  الجياش، ولا أدري سر ذلك حقًا، فما هي إلا تجليات ضعف أصابتني وهزت عاطفتي. 

وكما كنت أبحث في مكة عن الأمكنة، من أين  كان الفتح؟ أين الجبل الذي أراد النبي أن يلقي نفسه من عليه ساعة انقطاع الوحي.... إلخ - هنا أيضًا أخذت الأسئلة تهاجمني:أين موقع الخندق؟ أين وقف كعب بن زهير يلقي قصيدته؟ أين دار عثمان؟ أين بيوت المهاجرين و هل بقي من الأوس والخزرج بقايا؟

وقُدر لي أن أحضر درسًا دينيًا في الحرم، فإذا بالشيخ يعرب خطأ، وذلك في قوله تعالى" إنها محرمة عليهم أربعين سنة  يتيهون فيها،" فذهب إلى أن"  أربعين سنة" هي مضاف ومضاف إليه، وهنا تدخلت، وأعربت، وحظيت بنظرات الرضا من طلاب الحلقة، فيقول الشيخ" يجوز الوجهان".

في السادس عشر من آب توجهنا إلى مسجد قُباء، وهو أول مسجد صلى فيه الرسول صلاة الجمعة، فقد بركت الناقة  مأمورة ليكون موضع بروكها بناء المسجد، ثم توجهنا إلى مسجد القبلتين حيث صلى الرسول فيه موليًا شطر المسجد الأقصى، ثم تحولت القبلة إلى الكعبة.

وصلنا إلى جبل أحد – الذي لم يعد جبلا، بل هو أشبه بمرتفع، ولكن خيالي سرح، ورسم مواقع الكفار ومواقع المسلمين، وكيف دارت المعارك، وكيف احتال خالد بن الوليد ليجعل من نصر المسلمين هزيمة. 

في يوم الجمعة، ورغم تبكيري إلى المسجد لم أستطع أن أجد مكانًا بين هذه الأمواج البشرية، فصليت واقفًا.

خطر ببالي لو أن الرسول أفاق اليوم ورأى هذه الآلاف المؤلفة ذات السحن المتباينة في ألوانها وبنياتها  وصورها؟  هل كان يصدق  مبلغ هذه الكثرة الكاثرة؟

لو أن المغنين الذين كانوا في المدينة (معبد والغريض وحبابة وفضل ولبابة و... "  ظهروا اليوم، فهل يقبلهم هؤلاء الذين ترى أمارات الورع بادية عليهم؟  ألسنا اليوم أكثر تزمتًا من السلف؟.
أجواء كثيرة من عبق التاريخ تطل علي، أستذكر وأعايش، ويظل النبي محلقًا أتمثله في كل خطوة جريئًا جميلا بليغًا، ومحط قلبي وبصري.

في فندق هلتن في المدينة قرب الحرم وقبيل الاستعداد للعودة-  كتبت قصيدتي"الحج الأصغر“ على نفس واحد، وإليك القصيدة:

 

 الحج الأصغر

 

بسم الله دخلت أنا مكة

أعزف شوقًـًا لنبيّ عاش بوجداني

شوقًــًا ينساب بصفو أماني

فأرى مكــه

بجبال وشعابٍ وهجير

قد تيّمها عشقٌ  ليس بفانِِ

ما زالت تذكره طفلاً

ونبيًا يتدثّر أو يتزمّل

وخديجة تحنو « لا يكذبْـكَ الله »

تذكُرُ هجرتَـَه ثم الفتح

تحدو صُورًا لرجال الإيمان

يبدو من جهة أخرى كفار كأبي لهبِ

وأبو سفيان في دار الندوه.

تأتي صفحاتٌ من عهد الجهْلاءْ

وتعود لتدرك معنى ألا يعبدَ زُلفى للّه

صنمٌ سمَّوه(هُبل)

تذكًُر إبراهيم

تذكر إسماعيل

والبيتَ وأمنَ الناس مثابَتهم

كيف الذرّيةُ أضحت في وادٍ من غير الزرع

كيف الثمرات تَظَلُّ هنــا مغدِقةً بالرزق

أفئدةٌ تهوي نحو المسجد

وهناك طوافٌ حول الكعبـه

                           هذي الكعبــه

جاءوها من كل فِجاج الأرض

تحمل كل الألوان...  لغاتٍ...  دعوات

مُزجاةً في حزنٍ وأمل

ويطوفون...  يطوفون

الهامة تعلو تاره

أو تُخفض تاره

تعلو كي تسمو للنجم بإكبارِ

أو تُخفض تخشع للباري

ولحونُ الحبِّ..  الإيمان..  الصفو

من كل طُيوب المجدِ..  الزهو

عابقــةً جاءت تحمل نصرًا أو نصرا

أفواج حجيجٍ كالأمواج

ما أزخرَ هذا الموضعَ بالخلقِ !!!

بقلوب واجفةٍ ولْهى بالآيات

هذا أول بيت أو آخر بيت

ِقبلتُــهم أو قُبلتُــهم

لا تنسَ الحجر الأسود !

ولمستُه.....

ظلّ الأثرُ

في خاطرِ يدْ

واشرب من زمزم

يروي روحَك.

                          ***

 

 

قلت: سأذهب نحو حراء

حتى أستوحيَ كيف أتى الوحي

مع سورة « اقرأ»

فإذا بالجبلِ

أعلى مما كنت أرى

أسأل:

         « كيف رقى»؟!!!

قلت: سأذهب حتى أشهد(ثَور)

حتى أستوحيَ كيف أتى الوحي إليه

إذ يذكر « لا تحزنْ.. »

كيف غدت أسماء بنطاقَيها

قلت:

 سأمضي نحو مناسك حجاج البيت

نحو مِنى وإلى عرفات

وإلى موقع رمي الجمرات

يعلو التوحيد بكل الأجواء

يهفو القلب إلى أصداء الأصداء..

 

وأعود إلى الحرم

فهنا كانت أحياء قريش

إذ أطعمهم من جوعٍ

آمنهم من خوف

وهنا كانت لغتي

شعّت من آيِ القرآن

وهنا آلُ البيت...

أين الشِّعبُ...

    وصحيفتهم؟

أسأل:

       أين الجبلُ؟

- حيث نوى أن يُلقيَ نفسه

حتى أضحى الوحي...

أين الجبلُ

كان وراءه

عمرٌ يتهدّدْ

كفارَ قريشَ بسطوتهِ

ها إني أقرأ سورًا مكيــه

حتى أستلهمَ هذا الجوِّ المكيّ

أدعو التاريخ إليّ

كي أُدرك معنى الآيات

وهنا بالذات

حتى تتجلّى لي في معنى آخر

وأصلّي.

                     ***

                    

 

بسم الله دخلت أنا طَيْبَـــه

كانت تُدعى يثرب

فإذا بنبيّ نوَّرها فهي مدينتهًُ

...  يتصافى الأوس مع الخزرج

ليُغنّوا « طلع البدر علينا »

وأنا حين وصلتْ

أطلقتُ مع الصبيان غنائي

« طلع البدر علينا »

حتى وصلتْ « قصوْاء»

بركتْ عند قُباء

فإذا بالعطر المُنداحِ على الأرجاء

يغمرني..  ويفوح:

ها أنت هنا

قرب حبيبٍ...  أنت سمِيُّـــه

 

في الروضــه

صليتُ  وناجيتْ

في دمعِ دعاء...

ودعاءِ الدمعات...

وقرأت « الحجرات»

 طالعت هنا سورًا أخرى مدنيـــه

فإذا بي أقرأ ما لم أقرأ.

 

قلت لعلي آتي «اُحُدًا» حتى أذكرَ أو أتذكرْ

كان معي عمرُ الفاروق

(ولكم أحببت)

          كيما يُطلعني عن كثبٍ

كيف الأمرُ...  مضى

وقضى فيه الشهداء

فاتحةً يا حمزه

فاتحةً يا مُصعبْ

وسلامًا يا « أحياء»

كان النّور الوضّاء

في طيبٍ نبويّ

يختال بكل الأرجاء

وأصافحُ

كل صحابي أعرف منهم

وذكرت له ما أعرف عنه

إذ كنت أرى فيهم إشعاعَ وفاء.

من طَيبةَ سارت أعلامْ

ومراكب إيمان ومضاء

ومواكبُ فتحْ

حتى في حرَّ القيظِ الصهْد

   - لا أدري كيف احتملوه-

ساروا حتى ملأوا الآفاق لواء.

 

ورأيتُ كذاك أبا لؤلؤة الموْتور

قلت له:

“ بُؤْ في إثم وضلال

كم من مثلِك أمثال.."

 

..  وشهدتُ حصارًا يوم الدار

أرقبُ.....       لا أكشف بعض الأسرار

حتى أقبل معبَد

وَغَريضٌ جاء يغني

..  عن ماض باهٍ كيف مضى

وهناك أبو ذرّ وحده

يعتبُ أو يغضب

يمضي نحو الربذه

..  سلمانُ  أيا سلمان !!!

يوم الأحزابِ انهزموا

وأنا أقف اليوم

قرب الخندق

(ما كان الخندق)

ها أقبل من ثَمَّ عليّ

متشحًا بالسيف المشهور

في الصوت جراء ه

والوجه وضاء ه

قبّلتُه

أكثرَ من قُبلــه

واحدةً: لم يسجد للأصنام

أخرى: للنهج..  بلاغه

ثالثة: لمعاناةٍ في دنياه.

 

سأعود إلى الروضـــه

فهنا المنبر

وهنا البيت

وهنا يرقد من قلنا..  منذ طفولتنا

« صلى الله عليه وسلم»

بالقربِ...  أبو بكرٍ      وعمر

وهنا كعبٌ أمسى يقرأ

« إن الرسول لنور يستضاء به.. »

فأرى البُرده

وأرى آثار الكلمات.

                              ***

 

أحمل خارطةَ الحب الأوفى

أسأل عن كل سبيل

ما أكثر ما أتساءل...؟؟

       فأُناجي

وأصلي.

                                             المدينة المنورة  15 / 8 / 2001

 

ترى، ألديك إجابات اليوم عن الأسئلة التي كانت تراودك قبلاً وتلح عليك؟
ألست تتهرب من بعض الإجابات  لسبب أو لآخر؟

 أليست صلاتك ذات منهجية برمجتها لنفسك، وألفة جعلتها سبيلك؟

أعلم أنك تنوي الحج الأكبر، فهل تحدثنا فيما بعد عن مشاعرك وعمق إيمانك؟  

 لنرَ ما يكون من أمرك، ومن حسن ختامك!

 

 

 

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

 

 

معالم وشخصيات أخرى


 

مع ماتي بيلد:

 

في زيارة قام بها د.  متتياهو بيلد إلى باقة تعرفت إليه لأول مرة. كان ذلك في أواخر سنة 1977، ضمن وفد يساري حضر إلى القرية لمناقشة سبل التعاون المشترك بين القوى التقدمية العربية واليهودية.

أعجبت بهدوء متتياهو (ماتي) العجيب، رغم ما ساورني إزاءه من ريبة، فكيف لهذا الضابط الكبيرالمتقاعد أن يحرص على قضايانا الملحة أكثر منا؟

إذن، لا بد لهذه الدماثة أو الرقة أن يكون وراءها ما وراءها.

 

وتمضي الأيام.......

 فإذا بماتي يزورني في منزلي، وطلب مني أن أزوده برسالة الماجستيرالتي كتبتها عن السياب، حتى يرى إمكانية إرشاده لي ضمن دراستي للدكتوراة.

عندما أعاد لي الرسالة أبدى استعداده أن يرشدني في موضوع أدبي حديث.

قلت له: كم أود أن أتناول باستقصاء طبيعة الشعر الفلسطيني الحديث.

قال: اقترح أن نتناول موضوعًا حُددت أطره وبانت معالمه، فقد لا تستطيع الخروج من الموضوع الفلسطيني، أو ربما يستجد في أثناء دراستك ما يهدم لك كثيرًا من بنائك.

أضاف بيلد: ما رأيك في"مدرسة الديوان” في شعر العقاد والمازني وشكري؟ فكر، ثم أجبني لاحقًا!

كان ذلك اقتراحًا عابرًا، ولكني نسجت حوله كل الخيوط، وأخذت أعد العدة على التو.

كان بيلد –وأنا في خطواتي الأولى –يتوجس أن كيدًا ما سيداهمني، ولذا فقد ألح علي أن اكتب الأطروحة بالعبرية أو الإنجليزية، حتى تجد الأطروحة قراء لها محايدين لا يخضعون بصورة أو بأخرى إلى إيماء أو إيحاء.

والدكتور بيلد لمن لا يعرفه باحث جاد، يكثر من السؤال، ولا يسلم بأية مقولة دون أن تدفع هذه المقولة ثمن المساءلات. يستنبط ويستخلص بما يوجهه إلى رفض المقولة أحيانًا، أو يؤدي إلى تعريفها تعريفـًا جامعـًا مانـعـًا. هكذا كان يطالبني، ويثقل علي. فإذا قلت مثلا"لغته فصيحة” اعترض على الوصف، وقال:ما معنى ذلك تمامًا، ثم ما معنى"لغة”؟ هل هو الأسلوب؟ الألفاظ؟... الخ

 يشهد الله أن كل كلمة في أطروحتي المكتوبة بالعبرية قد مرت عبر مصفاة قاسية.

لم يكن عملي يسيرًا. فقد عانيت أكثر من أمرين، ومع معاناتي كنت أسرّي عن نفسي وأنا أتساءل :هو مستشرق، فهل يحرص على لغة أمي أكثر مما أحرص أنا؟

ألا يدل بتشدده هذا على حرصه علي؟

اتعب يا فاروق!

زرت القاهرة زيارتي الأولى سنة 1980م، والتقيت الشاعر المرحوم صلاح عبد الصبور في الهيئة العامة المصرية للكتاب، حيث زودني بمراجع هامة كنت احتجتها.

 فرح ماتي لحصولي على هذه المصادر النادرة وقال:الآن أرنا شطارتك!

كنت أقرأ وأبحث، وفي نفسي جرس خوف يرن، وكأنه يقول لي:لا بد من عرقلتك و"لعن أساسك“، فكل ما تفعله هباء في هباء.....

 لكن ناقوس العزيمة كان يقول لي:امضّ!  إن النجاح حليف كل مثابر.

بعد فراغي من الكتابة الأولى للأطروحة ارتأى بيلد، وعلى حين غرة أن أغير بناء الدراسة، أن أقلبها رأسًا على عقب.

لم استسغ ذلك أولاً، ولكن لا بد مما ليس منه بد.

وبينما كنت في هذه المعمعة، وإذا بفكرة الحركة التقدمية تداعب طموحاتي السياسية، وإذا بي أُفاجأ بان أستاذي في صفي السياسي أو على الأصح أنا في صفه، ولما بدا تعاوننا في هذا المجال كذلك اكتشفت إنسانيته وإخلاصه لشعبه من خلال ما يطالب به لشعبي، كان يحدثني عن لقاءاته بابي مازن وعصام السرطاوي وشخصيات أخرى لا اذكرها.

وأذكر غضبه – على قلة ما يغضب – لمصرع السرطاوي، وربما بسبب منه تأثرت شعريًا، فكتبت مرثية له، ألقيتها في حفل تأبيني في بلدة (سرطة) في جو حاشد بالرقابة العسكرية، قلت في هذه القصيدة:

معتصم هذا الثائر بالفجر

معتصم حتى الحلكة

يستنشق خبز الطابون

والجبــنة نابلسيه

ما أطيبها بعد الفرقــه

معتصم هذا الفارس بالجهر

ويعيد القول :

ماتي...  يوسي.... رمزان إلى واحة (يمكن)

وسبيل الصحراء نعيب...

 

أما"الجبنة النابلسية" التي ذكرتها في القصيدة فقد كانت بسبب ما قاله لي بيلد إن السرطاوي طلب منه أن يحضر له جبنة نابلسية من"ريحة البلاد“.  وأما (ماتي) فهو أستاذي الذي رمزت فيه بالإمكان، فليس مستحيلاً أن يلتقي العرب واليهود على أسس عادلة وصالحة.

أما الذين يرغبون باستمرار النعيب فعليهم بالصحراء، لأننا نريد الواحة ليس إلا.... 

كان بيلد يطالب المثقفين العرب، وفي كل كلمة يلقيها، ألا يبقوا على الحياد، أن" يبقوا الحصوة"، وكان مع ذلك يتابع الدراسات الأدبية الحديثة.

 السياسة والأدب عالمان يعيش فيهما من غير تناقض، فالدكتوراه التي كتبها عن محفوظ بعنوان RELIGION MY OWN، ومقالاته العديدة في المجلات العلمية المتخصصة بالأبحاث، وكتابه عن الأقصوصة التيمورية في مرحلتين تشير إلى هذا العشق للأدب العربي، وقد ختم حياته بإنجاز كبير هو ترجمة رواية لسليم بركات  فقهاء الظلام، وحظي بجائزة الترجمة لسنة 1994. كل هذا لم يحل دون نشاطه السياسي المكثف.

لا أدري لماذا فرحت جدًا لانتخاب أستاذي عضوًا في الكنيست.  كنت أحس بأن صوتي كان هو المقرر، وأنني فعلت المستحيل من أجل إنجاحه.  ذلك لأنني رافقته إلى عشرات الأماكن في طول البلاد وعرضها، وخطبت.
في باقة أقمنا للحركة مهرجانًا ضخمًا لم تعرف باقة في تاريخها مثيلاً له. لا أزعم أنني كنت السبب، لكني أؤكد أنني كنت ألهب الجماهير بقصائدي، وكان القس رياح أبو العسل كذلك يكسح الأصوات المؤيدة بحماسته، وفعلا حصلنا سنتها في باقة على 80% من الأصوات.
  ثم وصل بي الحال إلى أن أكون عضوًا في اللجنة المركزية للحركة التقدمية.

لكني ما لبثت أن تخليت عن الحركة لأسباب لا مجال هنا لذكرها، وقد تزامن ذلك مع إعلامي بعدم قبول أطروحة الدكتوراة، وأرفقت الجامعة تقارير الرفض بعد سنتين من المماطلة غير المبررة.

حاول البعض أن يلمح لي أن السبب هو في تخليك عن بيلد وحزبه، لكني لم أقبل الشك في ذلك، ولم يخطر على بالي قط ألا يكون بيلد نزيهًا أيما نزاهة، وعندما التقيت أستاذي وجدته غاضبًا لا أقل مني.  اعتبر الخيبة التي مُنيتُ بها قضية شخصية تتعلق به،"إن هذا الرفض موجه لي أكثر مما هو موجه لك“. شعرت أن إلى جانبي يقف رجل، فقد كتبت وظيفتي وفق إرشاده، واعتبرها هو ممتازة، بل كان يظن أنها ستحصل على علامة الامتياز، وتبين لي أن هنالك مؤامرة، كشفت بعض خطواتها وخيوطها في مقابلة لي مع فؤاد عبد النور في كتابه عن المثلث.

 كتب بيلد أكثر من رسالة ينافح فيها عني، يقول في إحداها:"...  من الطبيعي والمفهوم أن هناك ملاحظات وانتقادات وجهت لمواسي، وقد يتناقض بعضها ببعض، فهذه أطروحة في بحث أدبي، ولا بد أن يكون ثمة انطباع شخصي هنا وهناك مما يحمل أحكامًا ذاتية، وأظن أن المشكلة الأساس هنا هي: هذا التعارض أو التناقض الذي أورده الحكام الذي قرأوا الأطروحة ورفضوها. لقد اعترضوا على نتائجه، ولكنهم لم يعترضوا على إسهام مواسي في فهم الظاهرة بمعنى طبيعتها ومكانتها في شعر مدرسة الديوان. لم يكن هناك من يعترض على أصالة البحث وجدية التناول، فالملاحظات تركزت في قضايا ثانوية وهامشية".

ورسائله وسواها تدل على ملاحظاته البناءة وقدرته النفاذة للوصول إلى عمق الشيء.

وأخيرًا وبعد شق الأنفس لبست عباءة الدكتوراه وقبعتها، وبعد بضع سنين حصل أستاذي على لقب بروفيسور.

ولم نكن نلتقي إلا قليلاً تذكرنا الأعياد بوجوب المهاتفة والتهنئة.

ثم إن جامعة تل أبيب أكرمته بمناسبة إحالته على التقاعد، ولم يجد أي مسؤول في الجامعة بعض الكرم ليدعو طالبه الوحيد للدرجة الجامعية الثالثة حتى يشارك في تكريمه.

وحزنت عندما سمعت لأول مرة عن المرض العضال الذي ينخر فيه.

والتقيته اللقاء الأخير قبل أكثر من سنة، وذلك في يافا في اجتماع لحركة السلام – هذه الحركة الجديدة التي لا تهادن رابين، ولها رغبة في التغيير الجدي، وتطالب بإزالة المستوطنات.

قلت لبيلد يومها:المستوطنات مثل مسمار جحا.

قال لي:لا اعرف القصة أو المثل.

وبعد أن شرحت له قصة المثل ضحك طويلاً.  ولعل هذا المشهد – وهو يضحك- هو آخر ما بقي في ذاكرتي منه.

واليوم، وبعد أن صدرت أطروحة الدكتوراة، وذلك بعد أن ترجمتها (أو ترجمت نفسي) للعربية أحزن لأنني لا استطيع من تقديم الكتاب إليه يدًا بيد. وكنت قد دفعت بكتابي إلى المطبعة يوم نعيه، وراجعت للمرة الأخيرة طريقة إهدائي وشكري لأستاذي، فإذا بي أجد ما نصه:

“...  واظبت على هذه الدراسة يرشدني في منهجيتها الأستاذ متتياهو بيلد الذي كان مرافقي في كل فصل من فصولها، ويتوقف عند كل جملة فيها، فله الشكر من قبل ومن بعد"*.

ترى لماذا كتبت في جملة الشكر"ومن بعد“؟!!

*    *     *

 

من المؤسي أن الكاتب ع. محاميد عاب علي في موقع"فلسطيني"(وهو بإشراف الكاتب الفلسطيني جميل خرطبيل)-  في مقال له" اللغة وآداب العربية في"الدولة العبرية" 31/7/2009 أنني كنت طالبًا"لجنرال الحرب متتياهو بيلد الذي شارك في كل حروب (إسرائيل)، وساهم في تشريد الشعب الفلسطيني عام 48، وفي الاعتداء وقهر وإذلال الأمة العربية عام 67 مع العسكريين"الإسرائيليين"- جنرالات الموت."
 وضحت لصاحب الموقع الأمر، ومدى التجني، ولكنه قال:" يا أخي هذه حرية رأي"؟؟!!، وطلب مني أن أكتب ردًا، فكتبت:

"لم يكن لي ذنب في مقالة المتجني غير المركزة إلا أنني درست الدكتوراة بإشراف الأستاذ بيلد، ولأنني قدمت له شكري، فبالله ما الخطأ، وما الجناية التي جنيتها؟! ألا يعرف المتجني أننا نحن المرابطين في الأرض نعيش في ظروف تختلف عن ظروف إخوتنا؟ وأننا بحكم ظروفنا نتوجه للدراسة في الجامعات الإسرائيلية، أم أنه يريد لأبنائنا أن نتوقف عن الدراسة في هذه الجامعات، وعندها ما أدراك ما سيكون مآلنا، فربما في شراء الشهادات سيكون الخلاص؟!

لم تجاهل المدعي دور بيلد اليساري، وأنه كان رأس حربة ضد اليمين المتطرف الذي يدأب على قهرنا إن لم يكن ترحيلنا ؟ بيلد كان أستاذي في المرحلة الأكاديمية من حياته، وكان بعد إنهاء دوره العسكري من أنقى الأصوات اليهودية، وليس أدل على ذلك اليوم من مواقف ابنته نوريت التي تواصل مسيرته النضالية في الذود عن حق الشعب الفلسطيني في دولته وعلى أرضه، ولها مؤسسة اليوم شغلها الشاغل أن تتصدى للجرائم التي تلحق بشعبنا، وتذود عن الحق ليزهق الباطل. ترى، هل نقول لنوريت: كفي، فأنتم كذبة، وأبوك كان جنرالاً وكان...

قد يفهم القارئ لحدة كتابة المتجني أني أشكر المحاضر لأنه جنرال، وأشكره لأنه قام بما قام به يوم أن حارب شعبنا؟؟!!

 

 

 

 

 


 

جامعة النجاح في ذاكرتي

 

(دعتني جامعة النجاح لأن أوافيها بمكانة النجاح لدي، وذلك بمناسبة اليوبيل الفضي لتأسيس الجامعة. والاحتفال كان في 5 / 5/ 2003)

 

كانت أولا ً كلية.

وكان أول عهدي بها زيارة قمت بها  بعد الاحتلال الحزيراني  مباشرةً، حيث تعرفت إلى مديرها الدكتور العلامة قدري طوقان، يومها  تباهيت أمامه أنني قرأت كتابه "بين العلم والأدب”، وأنني أحفظ لفدوى، وأنني من منطقة جبل النار.

   كان لقائي الثاني مع جامعة النجاح يوم أن حضرت إلى مكتب د.  رشدة المصري لأطلب عملاً في الجامعة، ولأكون محاضرًا للغة العربية.  قالت لي ليس لديهم شواغر، و إن بوسعي أن أدرّس اللغة العبرية. ولم انضو في سلك التدريس في هذه الجامعة التي أحببت-  مع أني كنت متلهفًا لذلك.

ثم ارتدت مكتبة الجامعة، فأهديت كتبي التي صدرت آنذاك، وثابرت على تقديم الكتاب تلو الكتاب، فأحصل على شكرٍ تلو شكر.

 

في أوائل التسعينيات حضرت مع وفدٍ من كلية الشريعة في باقة (حيث أحاضر) إلى إدارة الجامعة، وتداولنا بل اتفقنا أن يكون تعاون ٌ أو" توءمةٌ”، ولكن الاتفاق لم يخرج إلى حيز التنفيذ لظرفٍ أو لآخر.

   ثم إن بعض الزملاء من محاضري جامعة النجاح كانوا وما زالوا يعملون في كليتنا، وقد اقترحواعلي المشاركة في يوم دراسي تعقده النجاح تحت عنوان"الدراسات العربية حول البلدات الفلسطينية”، وكان ذلك في 1996-4-22.

بدأ اليوم الدراسي بكلمة د. عبد الغني العنبتاوي – رئيس مجلس الأمناء- فرحب بالحضور بكلمته  الفصيحة المتميزة، تبعه د. خليل عودة، فالأستاذ محمد نوفل من قسم اللغة العربية، فأجادا وأفادا.

قدمني د.  وائل أبو صالح تقديمًا  خاصًا، وأشعرني عامدًا بمدى انتمائنا الفلسطيني المشترك، فقرأت بحثي عن"القدس في الشعر الفلسطيني”، فلاقى البحث تقديرًا واستحسانًا- كما لمست آنذاك- اللهم إلا من د.  عادل الأسطة الذي لم يستوعب فكرتي وموضوعتي المطروحة (قصيدة القدس)، فظن أن كل ذكر للفظة" القدس” كان كافيًا لجعل القصيدة ضمن محور البحث، وبقي الصديق عادل على"خروجه عن مسلكي” في كتاباته عني، وذلك في مجلة" كنعان" وسواها، وظل اختلاف الرأي- مع ذلك – لا يفسد للود قضية.

استمعت يومها إلى محاضرتيْ د. سعيد البيشاوي عن حيفا في العصر الصليبي، ود.  أحمد حسن حامد عن الوجه الثقافي في مدينة نابلس في القرن العشرين، وما فتئ أثر المحاضرتين الطيب في ذاكرتي.

     في 1997-11-26 دعيت لحفلة توزيع جوائز فلسطين بمشاركة الرئيس الفلسطيني- يومها تعرفت إلى كثير من الأعلام وسعدت بهذا الجو الفلسطيني الرائع الماتع.  وتكررت الدعوة في السنة التالية(1998-12-19) لحفلة التوزيع الثانية(ويبدو أنها حتى الآن هي الأخيرة)، فكنت مغتبطًا بلقاء أعلام الفكر والأدب تحت هدي هذه المنارة التي تحتضنهم بكل حدبها وإعزازها.  وتظل في أعقاب هذا اللقاء كلمات الفائز في ميدان الشعر- أحمد دحبور- وهو يوجهها لي شخصيًا متمنيًا:"العقبى لك” – كلمات تدغدغ عاطفتي وفكري.

     دعاني د. خليل عودة الى حفلة تكريم الشاعرة فدوى طوقان ومنحها الدكتوراة الفخرية (1998-11-28)، وطلب مني أن ألقي كلمة، فارتجلت ما أتيت به على لقائي الأول مع فدوى في بيتها، وقرأت قصيدتي عنها، وتطرقت إلى كتاباتي حول أدبها- وخاصة في تحليل قصيدتها" صلاة إلى العام الجديد”.

 يومها قبلتني فدوى متأثرة، وألحقت ذلك برسالة تشكرني فيها، وتطلب مني أن أرسل لها الكلمة، ولكن لم يتسنّ لي ذلك،لأن الكلمة مسجلة في محفوظات الجامعة فقط.

                                       

*    *    *

أذكر أني حضرت يوم 1997-7-9   مناقشة رسالة الماجستير لطالبة من طالباتي في باقة كانت قد  التحقت بجامعة النجاح، وكانت رسالتها بإشراف د. عبد المنعم أبو قاهوق.  غير أنني استمعت إلى مناقشة علمية جذبت نظري قام بها د.  شفيق عيّاش الذي لم أنس حضوره وتميزه في معالجة الدراسة ونقدها. قلت: ما أحوجنا إلى هذا المستوى من الانفتاح، وليس إلى ذاك التزمت و" الغضب” الذي يلتف به بعضهم!

     في جامعة النجاح – هذا الصرح العلمي الذي له إعزاز في الفكر والقلب – تعرفت إلى أعلام أفذاذ وأساتذة أجلاء وعلماء مرموقين، سواءٌ كانوا في هيئات النجاح أم من زوارها، فهي البيت الذي يحتضن أبناءه على اختلاف أذواقهم ومشاربهم.

ففي النجاح  تعرفت إلى مريد البرغوثي ورشاد أبو شاور وصالح أبو إصبع وجعفر طوقان ووليد أبو بكر ومحمود شقير وعزّت الغزاوي ويحيى يخلف، بالإضافة إلى أصدقائي وأحبائي الذين شاركت مع بعضهم في مؤتمرات في الوطن وخارجه:
 د. عادل الأسطة، د. خليل عودة، د. أحمد حامد، د. جبر خضير، والكاتب سامي الكيلاني، وإن أنس لا أنسَ الباحث اللغوي الكبير د.  محمد جواد النوري.

وتعود بي الذاكرة إلى صديقي الشاعر المرحوم د. عبد اللطيف عقل الذي كتبت عنه في سيرتي الذاتية فصلاً خاصًا، ولكم زرت مكتبَـه في الجامعة، ولكم تمتعت بمجلسه وبقراءاته!

ورحم الله كذلك د. عبد الحليم الزهد الذي كتب هو فصلاً عن النقد في كتاباتي.

    لا بد من الإشارة إلى أنني أستضيف في كل سنة وضمن اليوم الدراسي للغة العربية أساتذة من النجاح يحلّون ضيوفا على أكاديمية القاسمي (في باقة)، وقد رحّبنا بالدكتور خليل عودة والدكتور يحيى جبر والدكتور محمد جواد النوري والدكتور إحسان الديك، حيث قدّم كل منهم محاضرةً في مجال اختصاصه، فقدموا بذلك مثلاً على ذلك العناق العلمي والتعاون المثمر بين المؤسسات الفلسطينية على اختلاف مواقعها، ويا حبذا أن نمضي على هذا السنن!

تبقى تحية تقدير لرئيس الجامعة صديقي د. رامي الحمد الله الذي لا يني عن عطاء، ولا يكل له وفاء.

                                             

 


 

في حضرة الدكتور السمرة

 

 

تعرفت  إلى د. محمود السمرة أولاً فيما نشره في صفحات مجلة العربي، وكانت زاويته"كتاب الشهر" تثير اهتمامنا نحن الذين نتصيد المجلة في منطقة حيفا أو الناصرة – أيام كان الحرف العربي بين ظهرانَينا غريب الوجه واليد واللسان.
كنا نستشعر ذوقه وهو يلخص الكتاب بالعربية أو الإنجليزية، ويبدي ملاحظاته النقدية عليه، فنحاول أن نقلده دون أن نجد من ينشر لنا.

كانت الدعوة التي شرفني بها د. أسعد عبد الرحمن، وهو صهر السمرة، فرصة نادرة جمعتنا في مطعم زميرو (5 آذار 1995). يومها قال لي أسعد:"ستكون لك مفاجأة"، ونعم المفاجأة، فقد حضر د. محمود السمرة مرحبًا، وأجلسني إلى جانبه، وأهداني بعض كتبه، ومنها"دراسات في الأدب والفكر"، حيث كتب في الإهداء:" ذكرى لقاء سعدت به في عمان".

والواقع أنني أنا الذي سعدت أكثر، فهو محدث لبق، وصاحب بداهة وطرفة، حتى لحقني رشاش منها، وهو يقول:"والله يا باكا"، فباقة بلدي نلفظها نحن سكانها بترقيق القاف، فهو يعرف القرية، أيام كان يمر منها في طريقه إلى طولكرم. أصابني مزيج من المشاعر، فهو من جهة يستذكر بلدي كما يصفها وهي مغطاة بدخان الطوابين، وأن أهلها لم يكن بينهم متعلم واحد، ومن جهة أخرى يمتدحني أنني ذلك الذي فاجأ.

أنصت إلي وأنا أمتدح" كتاب الشهر" وما كان يكتبه بأسلوبه السلس الرائق، وذكر أن هناك نية لإصدار المواد كلها في كتاب. (يشير السمرة في سيرته الذاتية- إيقاع المدى  إلى أنه عُرف أولاً وقبلاً بين الجمهور الواسع عن طريق هذه الزاوية – ص 122).

*     *       *

أما اللقاء الذي لا أنساه فهو في منزله العامر الأنيق في عمان (29/10/2009).
كان الرجل العظيم متهالكًا يقود خطوه وحده بصعوبة، ينظر بعينيه الملونتين ليضفي لون العذوبة للقاء. قبالته كانت السيدة ربة البيت سهام تراقب وتوزع الرقة. هي امرأة ما زالت تحافظ على جمالها، دؤوبة على النظافة، حتى لقد عجبت من المكتبة الفخمة التي لم أجد عليها ذرة غبار. ومن خلال الصفحات التي أثبتها في"إيقاع المدى" نجد هذا الوصف المحب، والرسائل العاشقة لها (ص 85-102).

يسألني أبو الرائد عن أحوالنا نحن المرابطين في الجليل والمثلث والنقب والمدن المختلطة، فأجيبه أولاً عن الطنطورة بلده، وكيف أنني أتذكره كلما جئت شاطئها، فهو حي في ذاكرتها، ودعوته لأن يصحبني إليها بعد استحصال تصريح، فأبى، بسبب تقدم سنه وصعوبة السفر،  كما أبى د. إحسان عباس من قبل يوم أن عرضت عليه أن أسافر به إلى عين غزال ليكحل عينه بمناظرها الخضراء.

قلت له: عرفت أنك اطلعت على بحث تيدي كاتس عن الطنطورة والمذبحة التي جرت فيها (إيقاع ص 51)، ولكنك قلت إن تيدي" غيّر ما كتبه"، وللحقيقة فإنه لم يغير، بل اعتذر في المحكمة، وفي لحظة ضعف للكتيبة المعتدية، ثم ما لبث أن تراجع وعاد إلى رأيه  ليقف موقفًا صارمًا لا هوادة فيه وهو ينافح عن دعواه. وأنا أعرفه شخصيًا، فهو يسكن على مبعدة ثلاث كيلو مترات من بلدتي، كما أعرف سبب التراجع المؤقت الذي طرأ عليه.

 

*      *     *

 

أحتفظ  بمكتبتي الخاصة بمعظم كتب الدكتور، إن لم يكن كلها،  وقد حصلت على بعض منها إهداء منه، فهي كتب قيمة، أذكر من بينها على وجه الخصوص كتابه عن القاضي الجرجاني – الأديب الناقد، فهو حجة في موضوع السرقات الأدبية التي درسها في هذا الكتاب، ومن جهة أخرى ما زلت أحفظ ما أثبته من شعر في بداية الكتاب على لسان القاضي: يقولون لي فيك انقباض....وأعترف أن بعض أبيات القصيدة المثبتة في الكتاب  أثرت على سلوكي قولاً وفعلاً.

غير أنني أشرت له بأن كتبه عن العقاد وطه حسين ومحمد مندور لا تقدم إلا استعراضًا يضاف إليه ذوقه الرفيع، وأما البحث المستقصي فالدراسات الحديثة  توليه تعمقًا أكبر وأكثر.

  قبل ملاحظتي برحابة صدر، ذاكرًا أن السلسلة هذه إنما هي تعريف للمثقفين ولشداة المعرفة.

أما كتاب"إيقاع المدى" – سيرته الذاتية (الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- 1966)  فهو سيرة تشير لنا أن هذا اللون من الأدب له أهميته، لما له من تجميع في التجربة الأدبية، وتوثيق للحياة بكل جوانبها المتاحة للكاتب اجتماعية أو أدبية، سياسية أو فنية، ولما لها من تواصل مع المتلقي. فسيرة السمرة سلسة الأسلوب، مشوقة لما فيها من صدق في التعبير، وأصالة في الموقف. هو يركن إلى الشعر حيث يجب أن يكون، يثقفنا ويعرفنا إلى رحلاته، بل يصحبنا معه، فنذوق أطعمته، ونلهج بمشاعر الود منه وإليه.

عندما التقينا حدثته بانبهار عن الكتاب الذي أرى فيه سيرة فنية مميزة، لا تقف بموازاتها سير أخرى صدرت مؤخرًا، لكن لي تساؤلات عرضتها أمامه: منها أنه لم يذكر أي سنوات علم في فاضلية طولكرم، ولم يذكر لنا شيئًا عن تجربة التدريس سنتين في يافا. والعجيب أنه لم يعرفنا بوالده داود، والأعجب أنه حين زار البلاد بعد النكسة، وذلك سنة 1968 زار يافا ولم يزر الطنطورة؟  بل إن الحديث عن شوقه للطنطورة كان بنسبة ضئيلة إزاء التفصيل المحبب في العرض. كما أن الحديث عن أطروحته للدكتوراة في لندن كان موجزًا جدًا.
   غير أن  للأديب الحرية في انتقائية أحداثه، وإلا فكيف نقتنع أن المرأة في حياته لم تكن إلا زوجته اليوم؟ خاصة وهو المسافر الوسيم، والحصيف اللطيف؟

أجابني الدكتور مبررًا بإيجاز في كل مسألة، لكننا سرعان ما عدنا لنتحدث عن الرسائل من سهام عقيلته وإليها، وعن براعة الرسائل، وأشرنا إلى ضعف هذا اللون الأدبي اليوم، فأين الرسائل اليوم بين الأدباء أو بين المثقفين، فالبريد الإلكتروني يقدم الرسائل السريعة والبرقيات التي غالبًا ما تضيع.

ابتسمت المصون بدلّ واعتزاز إذ انفردت بغزلياته، واستمعت إلي وأنا أردد البيت الذي كتبه لها (وهو من شعر الشريف الرضي):

   سكنتِ سواد القلب إذ كنت شبهــه

                                                فلم أدر من عزٍّ مَـن القلبُ منكما؟

ذكرت للدكتور بعض النقاط التي وردت في السيرة، ولا أراها بريئة تمامًا، فابتسم، وقال:"والله ما انت قليل".

*      *      *

 

ثم عدنا إلى حديث السياسة، فهو يرى أن العرب ليست لهم رؤية واضحة فيها، وتحدثنا عن كتابيه اللذين خصصهما لفلسطين:"فلسطين- الفكر والكلمة" (1974)،"فلسطين أرضًا وشعبًا وقضية" (1980)، فكانا صدقية لرؤيته بوجوب خدمة المثقف الحقيقي لقضايا وطنه:"وأنا أومن أن المثقف لا يجوز أن يقف صامتًا من القضايا المصيرية التي تهدد الوطن والأمة" (إيقاع ص 198).

قلت له: ما ألمسه في أثناء زياراتي للأردن هذا الحب لك، وأني لأغبط الأدباء الذين يشاركون في صالون الأدب كل شهر في بيتك العامر الغامر بالكرم والمحبة"، فقال: أريدك أن تأتي مرة، فأرجو أن تنسق مع حبيبنا د. خالد جبر!.

 

                                                          *    *    *

 

أسأل نفسي:لماذا تجد هذه الراحة الكبرى في نفسيتك وأنت في حضرة المعلم؟

أجبت نفسي: ما أكثر ما نلتقي، فمثلاً رأيه في جورجي زيدان ورواياته حول التاريخ الإسلامي يوافق رأيي، فأنا طالعت الروايات وأذهب إلى أن معرفتي في تاريخ الإسلام مصدرها روايات زيدان، وعندما كنت أذكره أمام محدثيّ كانوا يتصدون لي أنه مدسوس، يدس السم في العسل إلخ، ولم أجد أحدًا يقول ما قاله أستاذنا السمرة:
"جورجي زيدان لم يُقدر حتى الآن قدره" (إيقاع ص 30).

وأرى هنا من يوافقني على الهوة التي تتردى أكثر فأكثر بيننا وبين العالم، فيقول بصريح القول:" الهوة  التكنولوجية والثقافية والحضارية بيننا وبين العالم  تتسع..."

أما رأيه في التراث فهو جريء إذ يقول:
" فهناك التراث العبء الذي يجب أن نرفضه، لأنه يقف دون الأمة والتقدم، فالانبهار بكل ما في التراث والانشداد إليه بحيث يعيش المرء فيه، ويستغرقه، ويصرفه عن قضاياه ومشكلاته إنما هو في الواقع تعطيل لقوى الإنسان الفاعلة، القادرة على الخلق والإبداع، وهو نوع من الهروب من هموم الحاضر وتحدياته" (إيقاع ص 199)

فأين هذا القول مما سمعته في مؤتمر جدارا الذي شاركت فيه مؤخرًا حول سؤال النهضة، فقد طغت أجواء المحافظة على التراث، حتى أن إحدى المحاضرات ذكرت  أنه يجب أن"نأخذ التراث كله لنحافظ على هويتنا"، فكان أن علقت على ورقتها في مداخلة لي:"معنى ذلك أنك تريديننا أن نعيش في القرون الوسطى"!

ومن يدري فلعل أصداء قوله" لا يترك المرء للحسد والضغينة والحقد مكانًا في نفسه، لأن هذي تمرض النفس وتشقي الإنسان" واردة في وجداني، كما أجد أصداء قولته "القلوب السعيدة هي العامرة بالمحبة" (إيقاع، ص 200) تتردد في الخاطر.

لن أسترسل في ذكر ما أحبه، فذلك كثير وفير، فالرجل عاش حياة خصبة، بمسؤوليات جسيمة، وبمراكز ومناصب رفيعة تسنمها، فأقواله وكتاباته أقرأها أكثر من مرة، فأجد في كل مرة طعمًا جديدًا محببًا وموصولاً.

وليس ثمة وصف أقرب إليه من وصف الصديق د. إبراهيم السعافين إذ يقول في تكريمه (في حفل رابطة الكتاب الأردنيين سنة 2003):

"فهو مع شخصيته المهيبة التي لا تقتحمها العين، ودود محب، محبوب، تشعر أمام شخصيته الأنيقة الجذابة بالتوقير والاحترام، وإن جاز لي أن أصف شخصية الدكتور السمرة بعبارة تنتمي إلى عالم الأسلوب فلا يسعفني إلا الوصف"السهل الممتنع".

وأخيرًا، يسعدني أيها المعلم أن تقرأ كلماتي هذي من فلسطين على مبعدة  ثلاثين  كيلومترًا من الطنطورة ومن بحرها، تقرأها بعافية، فتلمس كم نحبك، وتصغي إلى دعائنا وثنائنا، جزاك الله خيرًا وبرًا!

                                  

      نشرت في عدد خاص عن د. محمود السمرة في صحيفة الرأي (الأردن)، 3 كانون الأول 2010.


 

 

محمود درويش – كما عرفته

 

يوم التقيت درويشًا أول مرة كنا طلابًا في المرحلة الثانوية.  جاء هو ليعمل في كيبوتس عين شيمر، وكان معه أخوه أحمد، وصديقه محمد علي طه، والكيبوتس هو على مبعدة ستة كيلومترات من بلدتي.
 عرّفني صديق به  بنوع من المباهاة التي لم أدرك سرها: هذا هو محمود درويش!

كان فتى طويلاً وجميلاً، وخصلات شعره الكستنائي تتهدل على طرف جبينه، وكان يتحلق حوله عدد من أبناء الجليل يطلقون النكات التي نفتقر إلى حيويتها نحن في المثلث، بل إن بعضها لم أفلح شخصيًا في سبر غورها، فكنت أكتفي بالابتسامة.

 

وتمر الأيام!

أزور مقر مجلة الجديد في حيفا، حيث كان محمود رئيس التحرير، فيرحب بي، بل أرافقه وسميح القاسم إلى مطعم قريب، وكنت أدلّ عليهما بكثرة حفظي للمتنبي، وأدعي أن شعره يفوق شعر شكسبير وغوته  وطاغور و...، وبالطبع فلم أكن قرأت هؤلاء إلا لمامًا.  فإذا بهما في حوارهما يغمزان ويلمزان علي بين الفينة والفينة، ويسألان بعد كل جملة ومقولة، وفي سياق ومن غير سياق: وما رأي المتنبي؟ فعلِـقت، ولا أدري كيف كفّا عني.

أذكر يومها أن محمودًا قال لي إن سميحًا هو"صديقي اللدود". تعلمت العبارة الجديدة المفاجئة  والمدهشة لي لغويًا، وتبين لي فيما بعد أن هذا التركيب هو في البلاغة الغربية (oxymoron) وترجمته العربية: الإرداف الخُلفي.

ومع أني شعرت بالزهو في صحبتهما، إلا أنني كنت أشعريومها أن سميحًا أقرب علي وأندى.

 

وتمر الأيام!

 

أشاهد في التلفزيون المصري فتاة يهتز لها البدن تمتدح شعر محمود، فخيل لي في كل كلمة من كلماتها أنها متلهفة عليه، تبحث عنه. واتفق أن تلاقينا بعد أسبوع في حيفا قرب سينما الهدار، فأخبرته عن اللقطة واللقطة، فلمست لديه نشوة  وزهوة، وقلت له:  مكانك هناك! ولا أدري لماذا خطرت في بالي فكرة رحيله رغم أنه قال بإصرار:

أه يا جرحي المكابر

وطني ليس حقيبة

وأنا لست مسافر

إنني عاشق.. والأرض حبيبة

 

سافرمحمود أولاً إلى موسكو سنة 1970، وقبل انتهاء السنة وصل إلى القاهرة، وتشاء الصدفة أن أستمع إلى مذيع القاهرة وهو يرحب بالشاعر. وتابعت الحوار الحاد في صحافة الحزب الشيوعي حول صحة موقفه أو خطئه، ولم أتخذ شخصيًا موقفًا، كما يتخذ الواحد منا – افتراضًا-  موقفًا بين كل تناقضين.

لكن قولة راشد حسين عندما جاء يزوره، وقد أوقفوه في المطار ظلت تهزني، فأكاد أبكي وأنا أتخيل:

 

واقفٌ

 إنيَ واقف

 في مطار القاهرة

ليتني كنت طليقًا

 في سجون الناصرة!!!

 

فأدرك أن درويشًا  أيضًا لا يحظى كفاية بما يجب أن يحظى به، بل ربما هو صاحب الكلمات التي وردت على لسان راشد، والشكوى مريرة، لا  لسبب إلا لأنه فلسطيني!!!

 

وتمر الأيام!

 

دعاني سميح القاسم رئيس اتحاد الكتاب العرب في إسرائيل، وكنت يومها نائب الرئيس (أو النئيس حسب النحت) أن أرافقه إلى لندن لمهرجان رياض الريس للثقافة (6-15 تموز 1988)، وقد سعدت جدًا بصحبة سميح وطه محمد علي، وتعرفت إلى نزار قباني، محمد عفيفي مطر، أحمد مطر، غالي شكري، صبري حافظ، عبده وازن،  يحيى جابر، زكريا تامر، مها الخال، نضال الأشقر، أنسي الحاج، فوزي كريم، وسركون بولس، ومحيي الدين اللاذقاني، ومي غصوب، وسعاد الصُّباح، وإنعام كجه جي، وظبية خميس، خلدون الشمعة، وياسين رفاعيه، بالإضافة للمضيف رياض الريس وصاحبه عبد الغني مروة.

 

كان محمود درويش وجهًا بارزًا ومميزًا، يتحلق حوله الأدباء، وكأنه كعكة كل لقاء، تجده يدخن بهدوء تارة، وطورًا يتحدث بسرعة، يمتلك قوة مغناطيسية تجذب المتلقين، حتى في كلماته الغامضة المؤدى لعمقها، تجد الواحد مثلي يهز رأسه موافقًا، وأحيانًا من غير إدراك لمرماها، أو يعترض بجملة هنا أو هناك ليدل بذلك على متابعة.

 

دعانا سفير فلسطين في المملكة المتحدة السيد فيصل عويضة لزيارة منزله، فأقلتنا سيارة، وكان بصحبة محمود ثلاث من الفتيات الجميلات. كنت أختلس النظر إلى  جلسة واحدة منهن على ركبته بنوع من الغيرة آنًا، وبالإعجاب آنًا.  وبالرغم من الحراسة المشددة حول المنزل إلا أن  السهرة كانت مميزة، وفيها أصناف الطعام والشراب، وكان بلند الحيدري يصدح بأغانٍ عراقية أسيانة، وسميح قد فك ربطة رقبته وأرخاها، وأبدع في إطلاق النكات.

أما محمود فكان يجلس في جانب من الغرفة مع كأسه التي يرتشف منها رشفات يسيرة، ويتابع إجاباته لأسئلة يسألها بعض السامرين في السياسة. كنت أنصت إليه فأنبهر بصياغة جمله، وبقدرته على تركيب المعاني في لغة مدهشة، وأجد لديه تفاؤلاً غريبًا بحتمية انتصار القضية الفلسطينية. 

 

في اليوم التالي، وفي  لقاء آخرفي قاعة الاستقبال لفندق لندني سألني أسئلة شخصية اهتم بها، وسألني عن الأصدقاء في الجليل وعن أخبارهم. ثم تحدثنا حول أطروحة الدكتوراة التي أنتظر إجازتها بفارغ الصبر، وأنني كتبتها بالعبرية، فعجب أيما عجب، وسأل:  كيف يتوافق في جامعة إسرائيلية تدريس العربية  بالعبرية؟
 فأجبته: نحن لا نتعلم العربية لغة وإنشاء في الجامعة، بل تسعى الجامعة إلى أن نمتلك أدوات نقدية وبحثية، وهذه يمكن أن تتأتى بكل لغة.

كنت سألت محمودًا -بعد أن سمعت عن الدعم  المادي هنا وهناك-  أن تجد مجلة اتحاد الكتاب العرب  48 بعض ما يقيم أودها، أسوة بالمجلات الثقافية الفلسطينية. وظننت أن محمودًا تجاهل الموضوع، لكنه وقبل سفرنا عائدين همس في أذني:"مع سميح ما يمكنكم أن تستمروا في إصدار المجلة".

لما آن أوان الوداع وقف قبالتي، وطلب مني تبليغ السلام إلى الأصحاب وإلى أهله،  فسألت بصوت متهدج: متى  يا محمود تكون بيننا؟ ومع القبلات كنت أرى دمعة تنزلج من وراء زجاج نظارته البيضاء، وشاهدت أمارات الانفعال والحزن عليه.

خرجت مودعًا، وإذا بي في سيارة الأجرة أبكي، وكانت صورة دمعته مصاحبة لي.

(ذكرت اللقطة هذي في كلمتي على ضريح محمود درويش في ذكرى وفاته الثانية، وذلك قبيل حضور الرئيس الفلسطيني أبو مازن، وكانت الزيارة بمبادرة مؤسسة محمود درويش في كفر ياسيف في 11/8/2010).

 

وتمر الأيام!

 

وجه لي الأخ أسعد عبد الرحمن وهو شخصية فلسطينية نشطة دعوة عشاء باسم مؤسسة شومان التي كان يرأس إدارتها في يوم (3/3/1995) في عمان. حدثني أسعد أن محمود درويش يقيم في فندق عمان في عمان.

اتصلت في اليوم التالي، بعد الحادية عشرة صباحًا، وبإلحاح الشوق كررت الاتصال حتى أجابني، وتواعدنا في بهو الفندق.

عندما حضر محمود كان بانتظاره أيضًا الشاعر حيدر محمود، وكان أيامها سفير الأردن في تونس، وعرفت منه أنه من طيرة حيفا.

 ثم انضم لنا أسعد، ولكني لم  أجده في حضرة محمود كعهدي به بشوشًا مرحًا، ولا أدري سر ذلك، مع أنه أوصلني بعد السهرة الطويلة أنا وزوجتي بسيارته الفخمة جدًا.

سألني محمود: كيف تقضي وقتك في عمان؟

أجبته بالأمس زارني  أبو علي (البياتي)  في فندقي، وقد أهديته بعض كتبي.

-         ألم يشتمني؟

-         لا، بالعكس امتدحك.

-         مش معقول، انقلبت الدنيا؟
(الحقيقة أنه اغتابه، وهزئ من فكرة حضور لقاءات محمود الشعرية بتذكرة دخول،  ويحمّله المسؤولية في ذلك، وقال ساخرًا: سأذهب وأدفع تذكرة دخول. وقال أكثر من ذلك).
لاحظ محمود أنني غير صادق، فقال:"لا يدع أحدًا من شره".

قبل أن أودعه سألته إن كان بالإمكان أن يلتقي مجموعة سياحية من باقة سألني  بعض أفرادها متحمسين أن أدعوك، للتعرف إليك، والالتقاء بك.
أجاب محمود:  نعم، سنلتقي الليلة الحادية عشرة.
أخبرت المجموعة، فإذا بهم يتزاحمون على مقاعد البهو، ويفترشون البسط وهم ينتظرون.

ولم أصدق أن عقارب الساعة تتجاوز الحادية عشرة من غير أن يحضر، وأصابني الحرج أمام المجموعة  المتلهفة لرؤيته، وقد أردت أن أفاخر أمامهم بصداقتي للشاعر، وانتظرنا وانتظرنا، وهيهات!

علمت فيما بعد أنه كان في سهرة مع الدكتور خالد الكركي- وزير الثقافة آنذاك.

 

وتمر الأيام!

 

دعيت أنا ونخبة من أدبائنا في الجليل والمثلث يوم 25 حزيران 1999 لنكون ضيوفًا على تأسيس اتحاد الكتاب الفلسطبينيين في رام الله، وكان محمود يشرف على نجاح الاتحاد، وهو ضيف الشرف فيه. كانت هناك ملاحظات بيننا عابرة.
كنت قد دعيت قبل ذلك (22/3/1997) لحضور مهرجان الثقافة الفلسطيني الأول في بير زيت، وكان محمود –كالعادة- الشخصية البارزة التي يتحلق حولها الجميع.

سجلت يومها نقطتين لا بد من ذكرهما:

* الأولى أن بعض أدبائنا المحليين ألح علي أن أسهر في رام الله معهم بصحبة محمود، وذلك لما علموا  أن محمودًا مدعو لمطعم فخم في رام الله، فآثرت أن أقفل راجعًا إلى باقة، وآثر الزملاء أن يتأخروا في رام الله لعلهم في تلك الأمسية يتجاذبون أطراف الحديث مع محمود.
وكان أن انتظروا، وانتظروا، وكان - كما قيل لي- قد أفردوا له مقعدًا، فإذا بصاحبنا يقبل مباشرة على مائدة في الطرف، ويجلس، وكأن بين الجالسين حولها وبينه اتفاقًا للقاء على العشاء. (هكذا حدثني أديب متألمًا، ومنتقدًا، وحامدًا اختياري في العودة). 

 

* والثانية: كنت ساعتها أرافقه في الخروج من قاعة جامعة بير زيت، وإذا بشاب يتوجه إليه وهو يدفع بيده الميكرفون للتسجيل: أستاذ محمود هل بدقيقة لتوجيه سؤال لك للإذاعة؟

-         أية إذاعة؟

-         إذاعة طلاب بير زيت، ونحن سنفخر بحديثك، بل حديثك تاج للإذاعة.

-         آسف!
وقد ألمحت إلى ضرورة المقابلة ولو لدقيقة تشجيعًا للطلبة، لكنه أشاح بوجهه، ومضينا كل في سبيله.

 

وتمر الأيام!

 

كنت أتناول غدائي بصحبة الصديق نواف عبد حسن في مطعم في رام الله، وإذا بمحمود يقبل مع بعض رفقته، فألححنا بالدعوة، لكنه اعتذر. ثم أخذ يسألني -بعد أن انضممنا نحن إلى طاولته لدقائق- عن ترجمة أشعاره للعبرية وقد صدرت حديثًا عن دار"أندلس" العبرية، فأبديت عدم رضاي، وقلت له: ثمة العشرات من الأخطاء، ورأيي في الترجمات ألا يركن إلى المترجم فقط، بل تجب المراجعة.

ذكرنا مجلة الكرمل، وقلت له: أتعرف أنني أحتفظ بجميع أعدادها سوى ثلاثة أعداد، فقال:"عجيب، فأنا لا أحفظ الأعداد، فإذا احتجنا فلنا عنوان".

(في لقائي مع حسن خضر يوم 10/6/2011 في جامعة بيت لحم، وهو مدير تحرير المجلة أكد لي أنه يمتلك جميع الأعداد في محل إقامته في ألمانيا، وأنه عاكف على إصدار العدد الأول من الكرمل الجديد).

قلت له: أتعرف يا أبا سليم  أننا أردنا أن نكون إلى جانبك في باريس يوم العملية.

شكرني، وقال بلهجته المميزة:"كلك ذوق"، وظلت العبارة تتصادى لدي، خاصة بنكهتها وبنغمتها الجليلية التي لا نستخدمها نحن في المثلث.

ثم كان لي أن أبديت له عدم رضاي من لجنة التحكيم لجائزة القدس التي يشرف عليها، فأعضاء اللجنة لا يتغيرون. (جدير بالإشارة إلى أنه حتى في"جائزة محمود درويش" التي أعلن عنها بعد وفاته بقيت غالبية الأسماء نفسها  في لجنة التحكيم.)

لم يعلق محمود، ولمست أن نقدي لا يعجبه.

 

تمر الأيام!

 

لا أدري السبب في أنني لم ألب دعوة وجهها مجلس كفر ياسيف في 27/6/2000 يوم أن عقد له مهرجان احتفائي ضخم، وكانت لي دعوة خاصة لأكون بين المستقبِلين.

ولا أدري السبب الذي جعله يرفض العودة إلى حضن أمه ويشرب من قهوتها، وذلك  بعد أن كلفني يوسي سريد بعرض فكرة العودة عليه، وسريد من الإسرائيليين القلائل المناصرين نسبيًا لحقوق الفلسطيني، وقد أدخل قصائد درويش ضمن منهاج الأدب العبري، وذلك يوم أن كان وزيرًا للمعارف.
 عرضت الفكرة، وهيهات!

 

تمر الأيام!

 

أترقب ويترقب معي الآلاف من محبي محمود نتائج العملية التي جرت في الولايات المتحدة، ننتظر نجاحها، ندعو له، وأقلق كأن الريح تحتي.

أهتز لوقع الخبر- الصاعقة!

 

في اليوم التالي (10/8/2008) أصحب وفدًا من مجمع اللغة العربية في حيفا، فنتوجه للجديدة، حيث بيت العزاء. ألقيت كلمة عبرت فيها عن هول الخسارة الجسيمة، وأننا فقدنا في اللغة العربية صاحب صولجانها وعنفوانها، ونقلت عزاء وزير الثقافة آنذاك غالب مجادلة الذي كان في الصين. وقد لاحظت عين اللا رضا على عضو الكنيست محمد بركة على غير ما ألفناه بيننا من مودة، وكأنه ظن أنني أصبحت معراخيًا (من حزب الوزير).

 

بعد يومين أقلتنا الحافلة نحن وفد الأدباء والكتاب إلى رام الله لحضور الجنازة.

الأبهة، العظمة، المهابة كانت في الجنازة. مئات الشخصيات الفلسطينية تتعرف إليها وأنت في غمرة حزنك.

حضرت الطائرة التي أقلته من عمان، وراقبنا كل حركة وكل طوفة للهليوكبتر، وكيف أنزلوا الجثمان، وحمله الجنود، وكيف أطلقت المدافع تحية، وكيف سار النعش بين صفين من الجنود، والجموع من كل جانب مشدوهة وحزينة.

كنت أنظر إلى النعش، وعيوني يغمرها دمع.

ألقى أبو مازن الرئيس الفلسطيني كلمته، وألقى سميح القاسم كلمة مؤثرة وجميلة، صادقة وأصيلة، لم أملك بعد أن فرغ منها إلا أن أقبله إعجابًا وتحية.

ثم توجه الجمع إلى المكان المعد لدفنه، وكنت في ذلك الجدل الذي دار حول الدفن، من الذين أيدوا دفنه هناك، لأن المكان سيكون محجًا للفلسطينيين، وهو بالقرب من مركز ثقافي ضخم، وفي مدينة الثقافة الفلسطينية، وأن هناك قطعة أرض مخصصة، والمكان فلسطيني أيضًا، وفلسطين واحدة.

مع انفعالي الشديد لوفاته فإنني لم أكتب لا شعرًا ولا نثرًا في رثائه، بيد أني تحدثت في أكثر من برنامج إذاعي وتلفزيوني عنه شاعرًا، وقرأت كل ما كتب عنه، وما أكثر ما كتب!

 وربما كان هذا الفيض من الكتابات حال دون كتابتي، فكثيرًا ما يجد الكاتب مادة كتبها سواه، فيقول: هذا ما أردت أن أقوله.

لكني شاركت في عشرات المواقع التي أبّنت أو تحدثت عن الشاعر، منها مؤتمر جامعة بير زيت (11/3/2009)، ومؤتمر مجمع اللغة العربية في حيفا (4/10/2008)، حيث تحدثت فيهما عن قصيدة"أمي" لدرويش، وحللتها، وأذكر تعليقًا جميلاً للشاعر شفيق حبيب وأنا أقرأ القصيدة عن ظهر قلب في مؤتمر المجمع:"أنت تقرأ بانفعال، وكأنك تتحدث عن أمك".

قبل ذلك كانت ندوة في طولكرم (21/8/2008) شاركت فيها رغم الحصار، وسلكت فيها طرقًا جانبية حتى وصلت إلى المنتظرين، وتحدث عن شعر درويش في مراحل مختلفة من عمره.

في 20/10/2008 كان مؤتمر جامعة النجاح، فتحدثت عن أسباب سيرورة شعر درويش متوقفًا على المستويات الشعرية، والجاذبية الخاصة له من خَلق وخُلق، وتنافس السياسيين في  تلقيه. وقد نشرت  الأيام، والحياة الجديدة مختارات مما قلت.

وشاركت في مؤتمر عالمي في جامعة سوسة في تونس حول الخطاب السجالي (2-4 /نيسان 2009)، وكانت ورقتي  عن"الخطاب المشحون كما يتجلى في الحوار السجالي في شعر درويش".

ثم شاركت في مؤتمر الجامعة الأردنية حول اللسانيات والأدب (4-7 أيار 2009)، فتحدثت عن سلطة النص وسلطة المقاومة لدى درويش من خلال قصيدة"سجل أنا عربي"!.

أصدرت كتاب محمود درويش- قراءات في شعره، ضم مقالة"مالئ الدنيا وشاغل الناس"، و"قصيدة -إلى أمي- وتفاعل  اللغة فيها، وتحليل قصيدة"سجل أنا عربي"، و"الخطاب المـشحون في الحوار السجالي مع إسرائيليين"، و"قراءة أولى في قصيدة الهدهد".

 

أما في الترجمة إلى العبرية فقد ترجمت قصيدة"جندي يحلم بالزنابق البيضاء"، وكذلك قصيدة"سيناريو جاهز"، وقد نشرتا في مجلة غاغ – مجلة نقابة الكتاب في إسرائيل.

 

وأود هنا أن أختم  بمقدمة هذا الكتاب، وهي تلخص رؤيتي لشعره:

مع صحبتي له ولشعره- صحبتي له في بضعة لقاءات لا تتجاوز أصابع يد، وصحبتي المتواصلة لكتابته مع حروف له أو عنه- كنت أتساءل من قبل ومن بعد:

ما سر هذا التألق؟ هذه الشعبية؟ هذا الاستقبال الحقيقي والمجازي؟

كيف تسنى للكلمة أن تجد لها من يضفي عليها طابع القداسة-  مع تباين في مستويات المتلقين وتأويلاتهم؟

يوم أن شاركت في جنازة الشاعر المَهيبة شاهدت بأم عيني دموعي ودموع الناس، وساعة أن حملوا جثمانه تمنيت أن يحمله الشعراء وأرباب الحروف، ولحظة كان صوته المسجل يقرأ كان خشوع، وكنا وكأن على الرؤوس طيور الحزن، تتلو بصمت قصائده.

 

تابعت ما ينشر عبر الإعلام الورقي والصوتي والمشهدي والألكتروني، تصفحت أو شاهدت أو أنصتّ  لجل ما قيل في الغائب الحاضر: آلافًا مؤلفة من النصوص  بصدقها وأصالتها  أحيانًا، وبتدبيجاتها وبغلوها أحيانًا كثيرة. وندر بين الأدباء من لم يدل بدلوه – من المحيط إلى الخليج-، ليعبر كل بأسلوبه عن فداحة الرحيل، وتنافس الشعراء والكتاب والسياسيون في تلاوة آيات الأسى والشجن.

سألني من سأل:

ماذا؟ ولماذا؟ وما سر هذا التيار الهادر في محبة هذا الشاعر؟

 

هل هو تقدير للشعر؟

إن كان ذلك كذلك فمعنى هذا أن شعبنا يقرأ، ومجتمعنا مثقف، ويحب الشعر ويستمع إليه،  ويتابع النصوص، وهذه الألوف المؤلفة يوم جنازته تقدر الشعر في شخص الشاعر المميز.

 

هل هو تقدير للوطن؟

إن كان ذلك كذلك فمعنى هذا أن الناس وطنيون، شغلهم الشاغل الأرض وفلسطين، وهذه الألوف  المؤلفة تتلاقى عند وطنيته، وذلك في ظل تخوينها لبعضها البعض، فلدى درويش القول الفصل وطنيًا وموقفيًا، والناس  يرون فيه العنوان، وأشعاره حتى وإن تحفظ هو من إضفاء صبغة عليها فهي شاء أم لم يشأ الفلسطينية الهوية، والمعبرة عن الصوت الجمعي. وسيظل هو الشاعر الوطني حتى لو دفع شعراء آخرون ثمنًا أبهظ  لوطنيتهم سجنًا واعتقالاً وموتًا.

 

أجبت:

محمود درويش مالئ الدنيا بعد المتنبي وشاغل الناس، وثمة أكثر من سبب لذلك، تتوافى معًا، وتؤلف كلاً واحدًا، وسأجتهد في بيان ذلك:

 

تحرر محمود من المواقف السياسية:

 انتسب محمود في مطلع شبابه، وفي فترة محدودة للشيوعية، وهي الفترة التي ساهمت في انتشار شعره والتعريف به أسوة بكل الشعراء الماركسيين العالميين، وذلك عبر الترجمات والمهرجانات المحلية والدولية. من هنا نبدأ.

لكن محمودًا بعد أن قرر أن يهاجر لم يلتزم طويلاً لحزب أو لتيار سياسي عربي، وهذا ينبع  لديه من موقف أدبي وفكري متعال، ولذلك رأيناه يعزف عن المناصب، فهو في الداخل وليس فيه، وهو ضد أوسلو ويعود إلى الوطن باتفاقياتها، هو مع عرفات وشاعره، ويتحفظ من اتفاقياته بحدة، ويدفع ثمنًا لذلك. هو يكتب وثيقة الاستقلال، ومع ذلك لا يريد البقاء في المجلس الوطني الفلسطيني، إزاء ذلك، وبسبب التباين الموقفي نجد أن كل حزب يجد أبياته  وأدبياته في شعر درويش، ويفسرها وفق منظوره. يعزز ذلك ما يلي:

 

عدم تقيد محمود بالتيارات الشعرية:

هو شاعر متجدد، شعره فيه السهل، وفيه الصعب المرتقى، فيه مراحل ومستويات وفي فترات، ويختلف القراء والنقاد حول أيها أجود، غير منكرين حق الشاعر في التعبير عن نفسه بطريقته، فإذا لم تعجبك" أنا يوسف يا أبي" مثلاُ، فما يعجبك من قصائده عشرات غيرها. وهذا التباين في كتابات الشاعر أدى إلى تباين في التلقي، وهذا التباين أدى إلى منافسة بين القراء وبين النقاد.

لم يعاد محمود أي تيار شعري، فهو مع كل تجديد،  ويتحفظ  أحيانًا من خلو شعر النثر من الموسيقا، مع أنه يصادق شعراء قصيدة النثر، بل ينشر في الكرمل – مجلته - ما يختلف عن منظوره الشعري؛ وهو من جهة أخرى مع الحداثة ومع الكلاسية والرومانتية والواقعية والسريالية على اختلافها، وصولاً إلى النثرية الفنية. هو يقف بعيدًا عن المعارك الأدبية رغم أنه يصاب كثيرًا من رشاشها ومن التطاول عليه، لكنه يظل أنوفًا من الرد وكيل الصاع أضعافًا. ويظل رأيه في أن هذا الاختلاف نابع من إيمانه بالشعر وحده، فاعطني شعرًا، ولا يهمني كيف؟

يعزز ذلك تحليه بـ (الكاريزما).

 

الكاريزما أو الجاذبية:

لا يستطيع الفاحص أن يتبين تمامًا سر هذه المهابة البالغة التي تُضفى على سياسي مثلاً، فينسى الناس معايبه وأخطاءه، ويتركزون على كل صغيرة في حياته ينسجون منها أروع ما يحبون قولاً وفعلاً وصلاة. هل هي حاجة متأصلة لدى الناس يبحثون لهم بين الفترة والأخرى عن سياسي أو فنان أو بطل لينشدوا له أجمل التراتيل.

سأترك دواعي ذلك لعلماء الاجتماع ولخبراء علم النفس الاجتماعي، ولكني موقن أن الفرد لا يستطيع أن يجاهر برأيه إذا كان مخالفًا لجماعة متعصبة، فإما أن يسكت، وإما أن يخفف من حدة رأيه حتى يسلم. وحكاية الأعرابي الذي زار حاتمًا ولم يكرمه معروفة، فاضطرار الأعرابي لأن يقول إن حاتمًا أكرم وفادته هي كحكاية دكتور للأدب العربي في جامعة بير زيت الذي استمع إلى قصائد للشاعر، فاضطر إلى الحديث عنها بإعجاب متناه، بعد أن كان يتعسر منها، لئلا يتهم في ذكائه وفي تذوقه للشعر.

 

استطاع محمود أن يصل إلى القلوب لشخصيته التقبلية الحميمة، فهو قريب وبعيد في نفس الآن، وإذا طلب على قلة ما يطلب تحس كأنك مسؤول عن تلبية طلبه، وإذا دمعت عيناه أبكاك أكثر، فهل هذا بسبب الغربة؟

 

 الغربة وتأثيرها:

ترك محمود وطنه وهو في ريعان شبابه، وقبل ذلك هُجّر من بروته وهو صبي. تنقل من منفى إلى منفى، وعانى ما عانى، وحفظ الناس روايته، فرأى الناس أنهم أمام حزن ومعاناة، بل مأساة، تجسمت في أوجها لدى رحيله الفاجع. وتوازت أو تماهت قضيته بقضية الوطن، فكانت كتابته تعبيرًا مباشرًا أو غير مباشر عن هذه القضية، فحضوره إذن تمثيل للوطن، حتى لو أراد هو  لشعره أن يُنظر إليه مستقلاً، وبمعايير الشعر الفني فقط.

ومع ذلك فليس كل غريب عن وطنه يجد هذه الأصداء المتجاوبة، ولكن محمودًا وجدها بسبب خُلقه وخَلقه.

 

الخَــلق والخُـــلق:

هو جميل ووسيم في حضوره، فيه هدوء الصخب، وصخب الهدوء، وفيه تواضع بكبرياء وكبرياء بتواضع.

هو أنيق في ملبسه ووسيم في شكله، شاب في روحه، لا يعرف معنى للتعصب، يحب الحياة، وبعيد عن الحقد، بل يترفع عن الرد على الكيد.

وكما ذكرت فهو قريب وبعيد معًا. من هنا كان له محبون أكثر. وقد ترك الحوار حوله وحول شعره للآخرين دون أن يتدخل. لذا وجدت هناك من يعشقه، ومن تعشقه، ومن يعشق سلوكه وطيبته. يضاف إلى ذلك أداؤه الشعري المميز.

 

الأداء الشعري:

 يظل إلقاء محمود لشعره مؤثرًا، وتظل شخصيته مثيرة جدًا لدى المتلقي، فالشاعر يعرف كيف يحاور الكلمة ويداورها نغمًا وتوقيعًا وأثرًا-  حتى لو لم تكن مفهومة لدى المتلقي، فهي تعبرعن صدق ملموس يمطر به مطرًا ناعمًا في  جو ثقافي، أو فكري أو نفسي متواصل. يتواصل بموسيقا يجدها كل متلق وفق ذوقه. وقد خلب إلقاؤه ألباب السياسيين أيضًا على قلة اهتمامهم بالثقافة والشعر، فكنت تجد بعضهم في الصف الأول لسماعه.

 

اهتمام السياسيين بشعره:

ليس هناك من شاعر حرص السياسيون في السلطة الفلسطينية وفي العالم العربي أن يستمعوا إليه يماثل درويش، بل إن هذه الجنازة، وبمن شارك فيها، وهذه الحفلات التأبينية، والإصرار على إخراج الوفاة وكأنها جزء من نشاط وطني فلسطيني، وبمشاركة فعالة على جميع الأصعدة-  في جميع مواقع الفلسطينيين جعلت الشاعر وكأنه جزء لا يتجزأ من فعاليات الأحزاب أو السلطة. ويبدو أن محمودًا في السنوات الأخيرة كان قريبًا من جميع أصحاب النفوذ في العالم العربي ولدى الفلسطينيين، فلم ينشر في دواوينه وفي حياته ما يمكن أن يُفهم منه أنه هاجم به نظامًا من أنظمة الحكم العربي، مع أنك تجد  هنا وهناك غمزًا لذا أو لذاك. وكانت علاقاته بقادة العرب في الداخل جيدة على اختلافات بينهم، فوجد كل منهم في الشاعر صوته وصوت منهجه السياسي والحزبي، بل رأى اليسار الإسرائيلي أنه شاعر إنساني وليس عدائيًا، وليس أدل على ذلك من بعض قصائده التي أثارت أكثر من نقاش.

كل هذه الأسباب معًا جعلت محمودًا مالئ الدنيا كجده المتنبي وشاغلاً للناس، وهذا لا ينفي مقولة من يرى أن السبب كامن في شاعريته فقط،  أو في تمثيله للقضية، أو... لكني أرى أن الشاعر سطر اسمه في تاريخ الأدب بسبب هذه كلها معًا.

  إننا نذكر اليوم المتنبي بعد ألف عام ونيف  يومًا بعد يوم، وستذكره أجيال لاحقة جيلاً بعد جيل، بل إن الشعراء قديمًا وحديثًا يختلفون فيما بينهم في مقاييس الشعر ومعناه، لكنهم يتفقون أن المتنبي هو الشاعر الأبرز. وهكذا سيرفع الأدب لدرويش ذِكره، ففي تقديري أن درويش سيُدون في أنصع صفحات الأدب العربي إلى ما بعد ألف عام، وستذكره أجيال لاحقة جيلاً بعد جيل، فنان صياغة، وعاشق أرض، وصاحب رؤيا، وفي تقديري أنه سيتفق الشعراء والنقاد عليه حتى لو تفرقت بينهم السبل.

ثم،

وفاء لذكرى محمود تأسست في كفر ياسيف"مؤسسة محمود درويش للإبداع" (30/10/2009)، وتم اختياري ضمن كوكبة أخرى من أدبائنا عضوًا في المجلس الاستشاري، وتصبو المؤسسة –كما ورد في حيثيات تأسيسها-"إلى المحافظة على ذكرى الشاعر محمود درويش من خلال إقامة الندوات الأدبية، جمع تراث الشاعر وإعادة طباعته، تشجيع الأبحاث الأكاديمية الأدبية بشكل عام وأدبه بشكل خاص،العناية بالإنتاج الأدبي والفني الإبداعي".

 

 

 

 


 

تعرفت  إلى   يحي   حقي

 

طعم قبلته الأبوية ما زال على وجنتي.

وهل أنسى هذه الطيبة الحانية التي أولاني إياها كاتب كبير؟

وقال لي يحي حقي بعدها :"أنتم في القدس التي بارك الله حولها تعانون، أنتم عطر الأحبة، أنتم رائحة البلاد”.  وضغط على يدي ومضى يقول:

"هاهم-هذه الأيام- في المؤتمر الإسلامي يبيعون كلامًا وثرثرة، ولا طائل وراءهم.  صدقني أنهم لا يذكرونكم ولا يتذكرونكم”...... وامتدت برهة سكتة تشي بالألم. 

ثم قلت له: أتشرف بأن أقدم لك كتابي الجديد"الجنى في النثر الحديث” وقد أدخلت فيه روايتك- " قنديل أم هاشم”، ثم أتبعتها بدراستي عنها، وفي أثناء قولي هذا أحسست أن ثمة اعتداء أدبي عليه،  فلا بد أن تكون  له حقوق ما  محفوظة....

 وعندما أحسست ذلك استدركت:"وهذا الكتاب مدرسي، فنحن نعلم طلابنا أدبكم ونحلله لهم.  ويسعدني أن تبدي رأيك في الاجتهادات  المطروحة فيه سواء كانت لي أم لسواي". 

علت ثغره ابتسامة طفل، وهو الرجل الأشيب الوقور.  وأخذ يقرأ الإهداء الذي كتبته له:

“إلى صاحب القنديل الذي أضاء لنا كثيرًا من دروب الأدب”.

 علت على عينه دمعة، وكأنها اعتزاز بالعرفان الذي أكنه له. ثم قال:

هل تصدق أنهم في مدارسنا المصرية لا يعلمون مثل هذه المواد الحديثة؟  وأتبع كلامه بهذه المغالاة التي نعـهدها لدى الأصدقاء المصريين، واعذروني لعدم إثباتها -مع أنها صدرت ممن نعتز به، ونولي كلماته كل الاهتمام.

 

تقول الكاتبة المصرية نادية الكيلاني في كتابها:  أيام مع يحيى حقي – (القاهرة- 2004، ص 45-48):

 

     "وكان يحدث أحيانًا أن تأتيه خطابات أقرأها له، ويملي على الرد عليها، أهم الخطابات هذا الخطاب الذي وصله من فلسطين، من الأستاذ فاروق مواسي، وطلبت منه أن أحتفظ به، وهو مكوّن من أربع صفحات، ونصّه الآتي :

الفاتح من حزيران 1986

     الأديب الأريب الأستاذ يحيى حقي

     مدّ اللــــــه في عمره ذخرًا وذكرًا!

     بعد التحيات... تترى

    يسعدني أن أكتب إليك مخبرًا عن أن  قصتك قنديل أم هاشم هي مادة إلزامية في المدارس الثانوية (التوجيهية) العربية في بلادنا. فقد نجحنا في إدخال مواد أدبية حديثة تصلنا بأدبنا المعاصر، وتوثق عُرانا به، فطلابنا يقرأون اليوم نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس وغيرهم وغيرهم.

    وقد عمدت إلى تحليل النصوص الشعرية في كتاب صدر – قبل سنة – بعنوان" الجنى في الشعر الحديث"، تناولت فيه ثلاثة وثلاثين نصًا، أذكر من بينهم حجازي وعبد الصبور وإبراهيم ناجي بالإضافة إلى الثالوث شوقي وحافظ ومطران، وغيرهم.

   وهاأنذا أعالج النثر الحديث رواية وقصة قصيرة ومقالة ومسرحية.

   فعندما عالجت روايتك مثلا استعنت بكتاب حلمي بدير الاتجاه الواقعي، ومتابعة فؤاد دوارة لك في عشرة أدباء يتحدثون، ودراسة علي الراعي دراسات في الرواية المصرية، وكتاب سلام زغلول دراسات في القصة، ومقال إنجيل سمعان في مجلة فصول المجلد الثاني، العدد الثاني، ومتابعة فاروق شوشة في الآداب سنة 1960م، وكتاب محمد حسن عبد الله  الواقعية في الرواية، ومقال أحمد هواري في فصول المجلد الثاني، العدد الرابع، وكتاب طه وادي  صورة المرأة في الرواية، ومقال بدوي فيjournal of Arabic Literature، وتلخيص لمريام كوك عن كتابها الصادر سنة 1985م، ولم يتسنّ لي رؤيته.

   وعلى ضوء هذه الدراسات التي أضفتُ لها بعض ملاحظاتي قدّمت للطلاب مادة مركزة مساعدة، بالإضافة إلى أسئلة للنقاش عليه أن يجيب عنها.

   وعليه أكون شاكرًا إذا أحببت أن تضيف شيئًا لم يكتب عن هذه الرواية الهامة، مما تحب، لتكون مادتك في دراستي، فتصدر ضمن الكتاب المنوي إصداره.

    وأصدقك أنّ ثمة ألفاظًا مصرية الطابع نجد نحن – الفلسطينيين- في معرفتها بعض الصعوبة، أو عدم التحديد في دقة معناها، فأكون شاكرًا لو تكرّمت علي وعلى طلابي وقرّائي بالإجابة عن هذه التعابير.

   فإذا تعذر عليك إرسال رسالة مباشرة إلى حيث أقطن فبوسعك – إذا تكرّمت- إرسال الرسالة عن طريق أوروبا، أو أي طريق ترتئيه، آملا أن تصل رسالتكم في أقرب وقت ممكن.

  كما أرجو أن تنقل عتابي لهيئة تحرير الهلال – حيث تعمل-  على ما ورد في ملاحظة ضمن
" أنت والهلال" عدد آذار 1986 ص177:

 " ولأنّ اللغــة العربيــة لا بدّ أن تموت في ظل الحكم الإسرائيلي الذي يحاول محو العرب ولغتهم وكل ما له شأن بهم".

  ليثق الأخوة أن لنا أدبنا وأدباءنا، وأننا ما زلنا بخير، رغم كل كيد، ولولا خوفي من أن يُفسـّر الأمر دفاعًا عن خصم لأطلت في ذلك ولأبنت.

 

                مع تقديري لكم ومحبتي

                  فاروق مواسي                                      Mawasi Faruq

                 باقة الغربية – المثلث 30100               Baqa El Gharbiya

                    إسرائيل                                                 Israel

 

تعابير للتوضيح:      الفول النابت، حراتي يا فول، لوبية يا فجل لوبية، الطرشجي، جتك لهوة،

 المنين، دواق ليلة الدخلة، طعمية: هل هو الفلافل أم المدمس بالضبط؟

  بلاش خوتة، غير الأجزا، مبرطشة، حب العزيز، نبوت الغفير، البسيسة، السمبوسكة، حي البغالة.

وثمة تعابير في قصص نجيب محفوظ لا أدري من سيساعدني بتحديد دقة معناها ما دام لا يستطيع اليوم أن يكتب؟

                                       ******************

أما ردّ الرسالة فهو الأتي :

                                       بسم اللــه الرحمن الرحيم

القاهرة في  24 / 6/ 1986 م

سيدي الأستاذ  فاروق مواسي

   فوجئتُ بخطابك، وأسارع بإبداء إعجابي بك بهذا الجهد الذي تبذله في التقصي والجري وراء المراجع، وهذا يطمئنني عليك، وأدعو الله أن يشدّ دائمًا من عزمك، لأني أتوقع لك مستقبلا مرموقًا، لأنّ من كانت له مثل هذه النشاطات خليقٌ بأن يصل إلى غاياته.. وإليك شرح الألفاظ التي طلبتها.

  الفول النابت: يقال إنّ الفول في مصر أكل أغنيائهم في الصباح، وفقرائهم في الظهر، وحميرهم في الليل، وهو غذاء أساسي عندنا، لأنه مصدر هام للبروتين، وكثيرًا ما توجّه النصيحة إلى الفقراء الذين لا يجدون لحمًا أن يأكلوا فولا. وهو يُطبخ بطرق متعددة.. يوضع في قدر فخاري كبير، ومعه ماء كثير، ثمّ يختم القدر بغطاء، ويوضع القدر في مستودع الحمامات الشعبية.  تحوّل القدر الآن إلى قدر نحاسي يوضع فوق البوتاجاز.

أو ينقع الحب في ماء بارد ليلتين متتاليتين أو أكثر، إلى أن تنبت الحبة- بأن يخرج منها بشائر ساقها، ثمّ يسلق بقشره، حتى ينضج ويؤكل متبلاً بالملح والفلفل، وأما ماء السليق فحساء محبّب، ويشربه الناس عند النقاهة من مرض.

   وكانت العادة أن وفاء بعض النذور يتمثل في توزيع أرغفة داخلها كمية من هذا" الفول النابت" على الفقراء والشحاذين خاصة بجوار مسجد السيدة زينب.    

  حراتي يا فول: حينما كانت مياه النيل تغطي الأرض في موسم الفيضان لا يحتاج المزارع إلا إلقاء الحب نثرًا على الأرض، ثمّ لا يسقيها بماء بعد ذلك، وكان الفول يسمّى حينئذ"بعلى" وهو الأفضل، أما الأرض التي لا تغطيها مياه النيل فتزرع بالمحراث، ثمّ الرّيّ أكثر من مرة، وتسمّى الفول"مسقاوي"، ومع ذلك فإنّ الباعة حين يشيدون في هتافهم بجودة بضاعتهم يقولون: فول حراتي، وهذا في نظري تناقض غريب.

  حلي وع النّبي صلي:هذا نداء رجل يبيع الحلوى فهو يطلب من المشتري أن يُحلي فمه بهذه الحلوى أما السجع فظاهرة شائعة في نداءات الباعة.

  لوبيا يا فجل لوبيا:البائع يريد أنه سهل المضغ طريّ، فهو يشبه نبات اللوبيا.

  الطرشجي: هو الـ" Pickles"، وهو من المشهيات المملحة الحريفة أحيانًا، وأشهرها"اللفت"، وأما حرفي الجيم والياء في آخرها فهي من اللغة التركية الموروثة في العامية المصرية، أي صاحب الصنعة، فنقول جزمجي وأجزجي وعربجي.

  جتك لهوة:  مقابلها بالفصحى" بُعدًا لك" انشغل بحالك عني، وتقال عادة لرجل يتدخل فيما لا يعنيه، ربما على شيء من السذاجة، وربما كانت (لهوة)، من قولك :(لها فلان عن شيء أو عن فعل).

 المنين:  المنين نوع من الفطائر الصغيرة المقددة المملحة على شكل معين، يحبه أهل الرّيف.

  دواق ليلة الدخلة: الدواق حلية من الدنتيل والترتر(Pailltte) لونها أبيض توضع على رأس العروس ليلة الزفاف دلالة على البكارة والطهارة.

  طعمية: هي الفلافل.. أهل القاهرة يقولون طعمية، وأهل الإسكندرية يقولون فلافل. 

  بلاش خوتة: (الخوتة) لم أعرف مرجعها من الفصحى، وهي بالعامية تعني ضجّة أو إلحاح مع إزعاج.

  الأجزا: اختار الأتراك هذه الكلمة لتسمية مختلف أنواع الأدوية، ومن ذلك قولنا (أجزجي) وكانت شائعة ثمّ استبدلت بها كلمة (صيدلي).

    مبرطشة:البرطوشة اسم لخفّ رث فقد شكله، وانبعج يمينا ويسارًا.

  حب العزيز: ثمرة صغيرة صلبة سكرية، وتباع عادة في الموالد بجوار بعض المساجد، كمسجد السيد البدوي في طنطا، وعادة تباع في أكياس من الخوص.. ربما كان العزيز اسم أحد الفاطميين.

  نبوت الغفير: حلوى مصنوعة على شكل أنبوب طويل بحجم الشبر وعلبة سمسم، والخفير حارس الليل، والنبوت هو هراوته أو عصاه الغليظة.. وشبّـهوا الحلوى بهذه العصا.

البسيسة: فطيرة مستديرة تنضج بالزيت في الفرن مصنوعة من دقيق الذرة، وتصنع مع السكر.

  السمبوسكة: فطيرة هشة على شكل معين، والسمبوسكة هي شكل المعين الهندسي بالعامية.

  مريوح: تقال لمن ركبه الجنّ فهو مريوح أو ملبوس.

  حي البغالة:حي بجوار مسجد السيدة زينب، وربما كان لسوق بيع البغال.

                                                                                       مع خالص الشكر

                                                                     أملاه / يحيى حقي محمد حقي

 

 

 

 

******

 

كان ذلك في أواخر يناير سنة 1987، وفي معرض الكتاب الدولي في القاهرة،كنت- كعادتي-أحب التعرف إلى هؤلاء الأعلام الذين تركوا بصماتهم أو طباعهم على جونا الثقافي.  كنت – مازلت- أتابع برامج المعرض وما يستجد به، حتى إذا استضافت قاعة المعرض مجموعة من النقاد ألفيت نفسي بصحبة الناقد عبد الرحمن عوف، وكنت قد تعرفت إليه في مقهى"ريش” المعروف، فطلب مني عوف أن ننتظر د. لويس عوض، ونسافر معًا في سيارته  إلى المعرض..  كان الحديث ساعتها يدور حول مقال كتبه أحدهم عن رواية عوض"العنقاء”.  وبما أنني لم اقرأ المقال ولا الرواية فقد وجدت نفسي مستمعًا أحسن الاستماع، وكفى الله الأدباء شر النقاش.

وفي الندوة جلس على المنصة الدكاترة لويس عوض وشكري عياد وسمير سرحان وعبد القادر القط وعبد الحميد يونس، وكان يتوسطهم يحيى حقي بقامته القصيرة وجسمه الضئيل وعينيه النفاذتين الصغيرتين.

ولك أن تتخيل كيف يمكن أن أتلقف بنهم أفكار هذه المجموعة الرائعة.

ولك أن تتخيل أن عشرات من الأدباء اللامعين كانوا يجلسون في القاعة مستمعين متلهفين-تعرفت من بينهم على أحمد حجازي ويوسف إدريس ويوسف القعيد، وكلهم آذان صاغية وقلوب نابضة بحب الأدب.  لم أكن أحسب يحيى حقي بمثل هذه القوة في التعبير والثقافة الموسوعية.  كنت أنصت إليه وأنا لا تطرف لي عين، فهذه الرواية القصيرة" قنديل أم هاشم”  التي عالجتُها لا توحي أن لديه مثل هذه الطاقة، بل ظننت أن اللجوء إلى العامية كان نوعـًا من القناعة النهائية له. استمعت إليه يقول:

“ ومن قبيل الاستطراد أحب أن أتريث قليلاً عند موقف أنصار الفصحى.  كان من حقهم ومن واجبهم أيضًا إذا شاءوا- وأنا معهم – أن يقولوا عن إيمان صادق لا ينازعهم فيه إلا المكابرون- إن الأدب الجدير بالبقاء هو الذي يصاغ بالفصحى، لأنها هي وحدها التي تمد المؤلف بتراثها الضخم، المتضمن كنوزها وقواها الظاهرة والخفية، هي التي تمده، إذا صدق إحساسه بها، وبما يكتب عنه، بتراكيب من وحيها صادقة كل الصدق في التعبير لم تكن تخطر له على بال.  إنه يستثير من حيث لا يدري حشدًا ضخمًا من العباقرة الغابرين يمونونه بخير ما تفتقـت عنه قرائحهم الموهوبة، وكل هذا مفقود في العامية،  فهي متقلــبة وفتات”.

(وهذا الرأي سمعته بنصه منه،واقتبسته من كتاب كان قد نشر فيه فكرته هذه وهو-”عطر الأحباب” – الهيئة المصرية العامة للكتاب-1986ص39-).

وثمة آراء أخرى بهرني بها لما له من سعة واطلاع ودراية عميقة.  وأصدقكم أن رأيه في الأدباء وما نقدهم فيه تعكسه هذه المقولة التي صدّر بها عطر الأحباب، وبكل الحب:

“أهل بيتي هذا لم يسكنوه إلا لأنني أحببتهم واحدًا واحدًا، جذبني الإنسان فيهم قبل الفنان.  لم أتحدث عنهم حديث ناقد، بل حديث صديق.  يسعدني أنهم اجتمعوا تحت سقف بيتي.  وإنني-فيما أرجو- وفيت لبعضهم بحق كان منسيًا.  إنني أتمسح بأردانهم لأشم عطر الأحباب”.

ولا يتوقعن القارئ أنني اعرض عليه أدب حقي، فما هذه النبذة إلا لتعريفكم ببساطة إلى صاحب"أنشودة للبساطة” - هذا الرجل الذي جعلني وأنا متأثر بأدبه أن أجلس في مسجد السيدة زينب – أم هاشم- ساعات طويلة أراقب الرائحين  والغادين والمصلين وأصحاب الدعوات والمدروشين والمداحين والدائخين في حب الله الذين يعلو أفواههم الزبد. هذا الرجل كبير السن والقدر الذي ظل يكتب في"الأهرام”، وفي"الهلال”، وحتى أيامه الأخيرة على ضوء قنديل المعرفة التي ما كف عنها ولا ونى.

قلت لزوجته الفرنسية يوم أن أهديته كتابي: كيف صحته؟ إنه عزيز على أدبنا....

 قالت:"نظره لا يعينه على القراءة، ولكن هناك من يقرأ له، ـ فيملي الكاتب عليه”.

تناولت الزوجة كتابي من يد الأستاذ ووضعته في حقيبتها، وهي تشركني برقة ودماثة، ووضعت يدها على كتفه بحنو بالغ، وما لبثا أن ودعاني بهذه المحبة التي لا تنسى...

 

 

 


 

زكي العيلــــة-  معرفتي به  قصيرة وعميقة:

 

في مخيم اللاجئين جباليا نشأ زكي العيلة، وعاش لأدبه وقلمه.

 في مدارس اللاجئين قضى عمره، فنقل إلى أدبه وقصصه حواري المخيم وأزقته، وأحلام اللاجئين ومعاناتهم، وقهر الاحتلال ومقاومته، ولم لا وهو المنحاز دوما لمخيمه الذي هو رمز للجوء والانتظار والأمل والصمود والانتفاضة والمقاومة.

في اتحاد الكتاب الفلسينيين كان فعالاً يصول ويجول.

تعرفت إلى زكي وعبد الله تايه وتوفيق الحاج، وإلى نخبة أخرى من أدباء غزة إما في الجليل في لقاءات أدبية، وإما في أثناء زياراتنا إلى القطاع. وظل تبادل إهداء الكتب بيننا قائمًا حتى في ساعات الحصار.

 

 عدت الدكتور القاص المعروف زكي العيلة في أثناء صراعه مع المرض اللئيم. سافرت  إلى مشفى إيخيلوف في تل أبيب  يوم 23 آب 2007  بعد أيام من وصوله بإذن خاص  من غزة المحاصرة، ولم أستطع مقابلة الدكتور المشرف للاطمئنان عليه ولسماع نتائج الفحص للعينة التي أخذوها للفحص المخبري، فقد وعد  يومها أن نقابله في اليوم التالي. طلبت من أخيه المرافق له أن يتصل بي في أي وقت، لعلي أستطيع خدمة حبيبنا وكاتبنا الرائع.
ما أروعك يا زكي، فلا عليك بأس يا أخي!
تحادثنا في الأدب وفي الدكتوراة وعن الأصدقاء الذين قابلهم في مصر.
تحادثنا عن مآل شعبنا ومعاناته....
تحادثنا طويلاً، ولولا أن زوجي كانت تنتظر حضوري بسبب افتقادها مفتاح المنزل لبقيت الليلة هذه سهران معه. قال لي: يا فاروق حافظوا على مفاتيح منازلكم، فأنتم خميرة هذا الوطن الساهرون عليه.

قال لي: إنهم في رام الله يعدون لندوة ثقافية حول كتابه عن "شخصية  الإسرائيلي  في القصة الفلسطينية"، وسألني: هل تستطيع المشاركة؟ أم أنهم يعرقلون وصولكم، وأنتم على مسافة قريبة؟!
قلت له: سأسافر بعد غد إلى تركيا، وسأسأل عنك أول رجوعي، وسأزورك إذا مكثت  في المشفى، ولكني أرجو أن أزورك في غزة رغم الحصار الاحتلالي....

وزرته ثانية، وأظهر لي من كرم الخلق  وعزة النفس ما وقفت أمامه  بلا  فعل، وحضرت ممرضة لتقول له: إن  ما تطلبه- يا زكي -من طعام يريح معدتك عليك أن تأتي أنت  به   وعلى حسابك.

قلت للممرضة: ولكنه في المشفى، ومن المفروض أن تقدموا له أنتم، لا أن يبحث  هو وذووه عن مطلوبه.

وهنا ثارت ثائرتها، وكانت امرأة قميئة لا ترتاح لها العين، فكيف بصورتها  وهي تصرخ، ولسان حالها: أنتم عرب، وكان نفورها  لا يحتاج إلى ترجمة.

ومن أجل زكي سكتّ، وكثيرًا ما نسكت!!

طلب زكي كتبي الأخيرة، كما أحضر لي أخوه الذي كان يرافقه بعض نتاجه. وما زلت أذكر جملته:"أنت أخي الأكبر"!

اتصل  زكي ببعض الأساتذة في غزة، منهم الدكتور محمد البوجي، والدكتور نبيل أبو علي فتهاتفنا طويلاً، وكان الحديث عن أدبنا المحلي، وكيف أنهم في المؤسسات الأكاديمية في القطاع يولونه الاهتمام البالغ.

صباح يوم وفاته (8/5/2008) عزيت أهلي في غزة، واعتذرت لهم عن عدم استطاعتنا أن نشارك في الجنازة، فقد حيل بيننا وبين أهلنا في هذا الزمن الأغبر.

ثم جرى له مؤتمر لدراسة أدبه، وإحياء ذكراه (6/10/2009) أقامه مجلس جامعة الأقصى، واتحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين، وصالون نون الأدبي، فطلبوا مني أن أوافيهم بمادة عنه، فأرسلت لهم قصيدة كنت كتبتها بعنوان:"أهكذا حقًــًا نمــــــوت؟؟!!" صدّرتها:

"صديقي زكي العيلة، سألتَــني في آخر لقاء جمعنا في المشفى:

- ما جديدك؟

اليوم أجيب:

- هذا جديدي، وهو من وحيك!"

 

ومن القصيدة:

 

أهكذا حقـــًا نمـــوتْ؟!

ولا نرى أبناءَنا أحفادَنا

ولا نرى مَن

يأسفُ، من يحزنُ، مَن

يقرأُ في  آثارِنا

ولا نحيّي مِـن أحدْ

ولا نردُّه السلامَ، لا

نعرفُ مَن هذا الذي هُنـــا

ولا تَــبِينُ بسمةٌ على شفاهِنا

نَلقى بها نساءَنا

تغيبُ ضحكةٌ، تغيبُ دمعةٌ، تغيبُ نظرةٌ

إلى أحبابِنـــا

لا نكتبُ الكتابْ

لا نقرأُ الكتابْ

ولا نُشيِّــعُ  الصديقَ والقريبْ

ولا نُـقَبِّـلُ العريسَ والعروسَْ

مِن أهلِـــنا

ونلتقي الصحابْ.....

 


 

مع سرجون بولس - قليلاً

 

ما زلت في خاطري في جلسة كأسية، يومها عرفت أنك غريب، والمتنبي  من  عراقك  يقول:"إن النفيس غريب حيثما كانا".

 أذكر أنني أبديت لك دهشتي من عنوان مجموعتك الأولى-  الوصول إلى مدينة أين

(1985).
 قلت لك أعجبني العنوان المدهش، وذكرت لك أن هناك  مجموعة عبرية  تحمل عنوان  (السفر إلى جزيرة يمكن) لمريم شتكليس، فأبديت إعجابك بالعنوان.

 أذكر أنني سهرت معك، وضحكت معك، وقرأنا، وداعبنا الفتيات الإنجليزيات،  وهن يتضاحكن.

ولا أؤكد  أنك  كنت أنت الذي جئت إلى مجلس كان فيه  درويش والقاسم وعفيفي

وغالي شكري وزكريا تامر ووو وألقيت علينا درسًا، لأنهم - كما قلت -" القلب النابض للأمة العربية – ومع ذلك فهم يسلكون  الحيادية إزاء ما يحدث في حلبتشاه  من مجازر.

لا أستطيع أن أتيقن الآن، لكني  أتذكر الخطيب الغاضب في صورتك وملامحك، وأقدّر أن محيي الدين اللاذقاني يستطيع أن يتذكر إن كنت أنت إياه، لأن محيي الدين  كان كثير حركة وبركة.

 في هذه الملاحظات اسمح لي أن أنقل من كتابك: الحياة قرب الأكروبول، دار توبقال 1988 ومن قصيدتك"التوطئة  :"

 

" وقيل إنك عشت في الغابات والمدن

وخالطت البرابرة، أصبحت ضيف المسافة: أضواء تدعوك

في كل زاوية أجنبية في مرماك، راغبة تنال...هل وجدت نهر آبائك؟

أينما استدرتُ.

والتقطت عشبة مجهولة عند ضفافه

فأكلتها، لا ماء فجأة ولا بيت، إنما قدم تسعى وطريقها؟

أصبحتُ قدمًا لا تعرف طريقها.

لأنك متَّ وحييتَ وضحكت وبكيت؟

لقد قاتلتُ قليلاً ثم نسيت."

 

إذن نجوت أخيرًا، أم تراك اليوم آنسًا بالكميـــن؟

   فهل مت يا سرجون برغم أنك أكلت عشبة جلجامش؟

 


 

عن معنى السفر:

 

عندما سئلت في أكثر من لقاء إعلامي عن لفظة تلخص مسيرة حياتي أجبت:"السفر"، ثم أمضي مسترسلاً معللاً  أو مسافرًا عبر الكلمات هذه المرة:

  السفر عبر المكان، والسفر عبر الزمان، والسفر عبر الجمال.

أما الأول فيبدو في عشقي للتجول والسياحة والاكتشاف، وبها ومنها أكتسب طاقة أدبية، ومعرفية، ويبقى الخيال مواكبًا، فمثلاً لا تختفي معالم رحلتي إلى المغرب بمشاهد لا تنسى من جامع الفنا خاصة، وأرى أننا قصرنا إذ لا نكتب عن رحلاتنا وجولاتنا بباصرة وبصيرة مختلفتين. إن من لا يسافر في المكان شأنه شأن من قرأ   (قرأ؟؟) صفحة واحدة فقط.

 وأما الثاني فيتأتى من خلال قراءاتي المستمرة، وإبحاري في عالم الكتب، وصحبتي للمؤلفين ومحاوراتي لهم إلى درجة تراوح بين العقل والجنون. صدقوني أنني في مكتبتي الضخمة أشعر آنا بالصفرية وأخرى بالعملقة، وأسمع صوتًا لشاعر من الزمان يشجعني على المكان:

"سافر تجد عوضًا عمن تفارقه      وانصب فإن لذيذ العيش في النصب"

وأما الثالث فينهل من جمال الطبيعة، أخص جمال المرأة ما وسعته الحيلة والحياة،

ويعجبني ما نسب للحديث القدسي:"الله جميل يحب الجمال"، ومن من الشعراء لا يردد ذلك؟! وأنا كما وصفت:

     أخافُ من الجمال ذرى ووهجًا       ويرميني لقى في كل درب

 

حديثي عن السفر طويل، وقد أعود إليه بعد تدبر أكثر، فالسفر مع النفس أيضًا زمكاني وجمالي معًا، وما أحراها بالحرية التي تصحب، والشعور بما ترغب، ثم إن فيها مسرحًا أو مدعاة لتفكير أو حلم، فاعذروني على هذا الاقتضاب مختتمًا بقصيدة لي عن رفيقة السفر (ليس في كل رحلة؟؟!!) لأسافر بصحبتكم في ربوع فلسطين التي تحبون، ويا ليتنا نلتقي تحت سمائها لنسافر في رحلة روحية هذه المرة:

 

رفيقة السفر

تَعودُ لي رَفيقةُ السَّفَرْ

بِقِصَّةٍ طَريفةِ الخَبَرْ

وَأسْتَعيدُها تُعيدُها

فَيَرقُصُ القَمَرْ

      

تَقولُ لي رَفيقةُ السَّفَرْ

بِأَنّنا نُساجِلُ المَطَرْ :

قَصائِدًا ــ

أبْياتُها بِلادُنا

بِأنَّنا نُبادِلُ الوَتَرْ

مَلاحِنًا ــ   

أنْغامُها بِلادُنا

وَنَرْسُمُ المُنى

في لَوْحةٍ ـ

ألْوانُها بِلادُنا         

    

 

 

             

 

 


 

رحلات:

 

ما أبت من سفر إلا وأتبعته بهمّ إلى سفر آخر.

 أكثر من مائة رحلة قمت بها.

لكن قصوري كان كبيرًا، إذ لم أدون انطباعات في مذكراتي، ولم أصف تفاصيل، وخاصة لقاءاتي شخصيات أدبية وفكرية، وكم التقيت أعلامًا مشهورين مرموقين، وجرى بيني وبينهم محادثات عابرة، أو سهرت معهم سهرة عامرة. ثم إني طفت أماكن باهرة، ومررت بمواقف – فقد جنيت إذ لم أسجلها وأوثقها.

من كل رحلاتي سجلت انطباعات الرحلة الأولى إلى ألمانيا، وكذلك انطباعاتي عن الرحلة الأولى إلى مصر، وسأثبتهما أدناه كما كتبتهما ونشرتهما في حينه.

يسأل سائل: أين نحن من أدب الرحلة؟

-         عرف العرب قديمًا أدب الرحلة، أولا بسبب الحج، فكان لا بد من معرفة الرُّبُط والحبوس التي يقيمها أهل الخير على الطريق معونة للحاج في جهاده الأصغر. (هل أذكر لكم في هذا السياق أنني حققت في بداياتي الأكاديمية مخطوطًا عن درب الحج للفيومي استأثر به المحاضر، ولا أدري مآله).

ثمة حوافز سياسية واقتصادية و"مُجازفية" – إذا صح التعبير -. لكم تصفحنا رحلات ماركوبولو (1245- 1323) وابن بطوطة (1303- 1377) وابن جبير (1145- 1217) وابن فضلان (921م) فما زادنا ذلك إلا إحساسًا بقيمة هذا اللون الأدبي لما فيه من وصف وحكاية وتشويق وإثارة.

 

بعد كل رحلة عادة ما  أكتب رؤوس أقلام، منها ما دونته بعد رحلتي إلى المغرب وزيارة مدينة مراكش. كتبت: "سأصحبكم معي إلى ساحة جامع الفنا.

ساعات المساء كل يوم تجد آلاف السياح والسكان المحليين في حشد ضخم.. ثَم جماعات تتحلق هنا  حول حواة.. وهناك مروض أفاعي الكوبرا...جماعات تتحلق حول طفل مطاطي يقوم بحركات لولبية.. دعاة دين إلى جانب لاعب يلعب الورقات الثلاث، ساحر، قراءة الحظ، شاب يرقص بلباس عروس، حلاق يقلع سن غلام ب" الكلبة"، فرق موسيقية شعبية، قرداتي يصر أن يمسك القرد ويتبرك منك  أو"تتبرك" منه، سقاة ماء بلباسهم الخاص، بائع خناجر تقليدية، طرابيش، بائع حلزون مسلوق.

يا له من جو  مفعم بالغرابة والسحر والغيبية!

هل أتابع، فأصف لكم نساء محجبات بالقناع الكامل (الذي يظهر العينين فقط) وكيف يوصوصن وهن  يقدن الدراجات النارية.

 

ليتني دونت، فأنّى لي الآن أن أفصّل!

 

 

 


 

الرحلة الأولى  والسفر بالطائرة

23/9- 5/10- 1977

 

بعض الرهبة وارتقاب المجهول إذ كنت أمتطي الطائرة إلى سويسرا، فألمانيا الغربية بدعوة من نقابة المعلمين الألمان.

ما إن تحلق الطائرة حتى أشعر بعظمة الإنسان، مركب يمخر الجو، يتسع للمئات، وفيه مئات حقائبهم، تعلو الطائرة تدريجيًا، وما تلبث أن تسرع مئات الكيلومترات في الساعة، ونحو اثني عشر كيلو مترًا في أجواز الفضاء.

لا أصدق!

ما أكثر الظواهر المألوفة التي إن فكرنا فيها تملكنا العجب العجاب، مهما كان الوصف العلمي لها مقنعًا.

يتجلى البحر في أدنى الأرض. سفينة  هناك تبدو وكأنها السفينة التي يصنعها الأطفال من الورق، وأنت فوق الغيم. كتل غيمية بيضاء هنا، وسوداء هناك.
أثينا متسعة يتداخل فيها البحر، وكأنه يعابثها. جبال الألب على قممها بياض هو الثلج، فترغم الطائرةَ على الإحساس بوجودها، فتقع الطائرة في مطبات هوائيـة، وتظل تشق العباب، والمضيفة تهيئ لنا أسباب الراحة من طعام وشراب.

تمضي أربع ساعات فإذا بالربان يعلن:"أنت على مقربة من زوريخ، شد الحزام! درجة الحرارة ثلاث درجات مئوية". تسمع ذلك فلا تصدق، هكذا بسرعة من صيف قائظ في بلدي إلى برد قارس؟؟!!

في سويسرة أول ما يطالعك ويبش بوجهك الأزهار –أزهار في واجهات البيوت، في الحدائق، على جانب الطريق. في كل سبيل وفي كل بقعة نظافة، ذوق، جمال، بيوت لها طابعها الأوربي، جنات تجري من تحتها الأنهار.

بعد طواف في زوريخ أقلتنا طائرة أخرى إلى ميونيخ، وتظل الطبيعة تنفح بسحرها، وتشي بعطرها.

وصلت ميونيخ في يوم احتفالات المدينة في (أوكتوبر فيست)، حيث المهرجانات، الأضواء المتوهجة الملونة، حركة، إثارة، بشر لا يعدون ولا يحصون، أسواق، معارض، أزياء بألوان متعددة، مشارب الجعة بالساقيات السمينات اللواتي يحملن الكؤوس الضخمة، تحمل الواحدة كأسين أو أكثر في يدها الواحدة.

يندمجون في لحن ألماني، يترنحون وهم  في ثملهم، يضحكون بقهقهات تتردد وتتصادى. قيل لي إن هتلر ظهر أولاً في هذه الساحات، وخطب أمام الجمهور خطبه الأولى الحماسية (في اليوم التالي أرشدوني إلى البيت الذي ولد فيه في ميونيخ أو مينشن كما يسمونها).

تبين لي أنه شعب طرب  وشرب وحب ونشوة وأغنية وجمال، لكنه في النشاط والعمل عجيب، ومثير. شعب أنجب عظماء في كل فن وفي كل مجال: كانت وهيجل وبلوغ وماركس في الفلسفة، هاينه وشيلر وغيته ونيتشه في الشعر، باخ في الموسيقا، وإينشتاين في الرياضة، وفي التاريخ قرأنا عن بسمارك ومارتن لوثر.

في صباح اليوم التالي رأينا بالمقابل أفرانًا لحرق البشرية كانت في بدايتها معدة لكل معارض سياسي، ثم انطلقت إلى عنصرية محضة ضد شعوب مختلفة.

 يتساءل أولو الألباب: شعب عظيم وعبقرية فذة أنى لها أن  تحرم الناس حيواتهم؟ أن تعمم أحكامًا؟  أو ليس التعميم مزلقًا لا يقع فيه إلا كل جاهل؟

 كيف لهذه العقلية الجبارة في الطب أن تجري تجاربها الكهربائية على أدمغة البشر؟

أنت في حيرة من أمرك، فتسأل، وتسأل وأنت دهش،  وإذا بالشباب يتنصلون من تبعة ما جرى، والكبار يؤكدون أن هذا مغالى فيه، وبعضهم يؤكد ويشمئز، والآخر يهرب ويتناسى.

زرنا قرية الألعاب الأولمبية في ميونيخ، وقصوا لنا حكاية الرياضيين الذين دفعوا الثمن.

تجولنا في قصور شليسهايم التي بناها أحد ملوك بافاريا، وثمة أعمدة ضخمة، تماثيل رخامية أنى نظرت، وهناك تمثال لشاعر، وآخر لموسيقيّ أو لملك، أو لحيوان.

النوافير ينبثق منها الماء بأشكال فنية وضوئية، فترى هنا امرأة عارية تحمل إبريقين وتصب الماء يمنة ويسرة، وترى هناك نافورة أخرى بشكل هندسي عجيب يضخ الماء صعودًا وهبوطًا.

زرنا أكثر من قصر، كان أبرزها قصر جيمسي في"جزيرة الرجال"، وثَم شموع وبنايات مطلية بالذهب، وأعمدة وغرف من فوقها غرف، لا تملك إزاءها إلا أن تهز رأسك إعجابًا، وإعجابًا آخر بهذه الطاقات البشرية التي استُــنفدِت.

في قصر آخر في مدينة مانهايم أشار المرشد إلى مجلس كان يقعد فيه فولتير ليعلم فيه أبناء الملك، كما يعلم الألمانيين الراغبين أصول المسرح الفرنسي.

في زياراتنا لفلدر شتات وأوفن شتات كنا في مدارس ابتدائية وصناعية، وبدا لي نشاط المعلمين في أبهى صوره، كما لاحظت نشاط الطلاب وجدهم، فهذا الصف الخامس مثلاً ألفيناه في الحصة يصنع آلة تصوير، فيضاء لي ضوء في فكري، فأقول لنفسي: أرأيت لماذا تتفوق الشعوب الأورو أمريكية واليابان؟

في إحدى المدارس أجروا لنا حفل استقبال رسمي، بدأته الجوقة بأغان للسلام، أنشده الطلاب بأكثر من لغة. عندما سمعت كلمة مفتش المدرسة كورت كلاين كان لي مأخذ على موقفه السياسي غير الموضوعي، ولكني عندما التقيته منفردًا، اعترف لي أن حديثه لا يعبر عن رأيه تمامًا، وأنه قال ما قال لمقتضى الحال.

قلت: يجب ألا يتعجل المرء باتخاذ موقف، فلعل النقاش يؤدي إلى تفاهم تام. تعرفت إلى المفتش، فإذا به مؤلف لعدد من الكتب الأدبية أهداني منها كتابه بالألمانية –شخص عرف الطريق.

من هذا الأديب إلى أديب معروف هو الشاعر والروائي والنحات والرسام جنتر جراس.

ولد جنتر سنة 1927 في مدينة دانتسك المشهورة في تاريخ الحرب العالمية.

ظهرت أول رواية له سنة 1959  - الطبل الصغير-، فغدا يمثل جيلاً ألمانيًا جديدًا –جيل ما بعد الحرب-.

يكتب جراس بأسلوب بالغ الخيال، ويصف حياة التشرد والبؤس، وفي كتاباته حماسة وحيوية، وتجارب شخصية. تظهر أعماله الدرامية متأثرة بأدب اللامعقول من أدب أونسكو وبيكيت.

لا أدري لماذا تخيلت قبل سفري أنني سألتقي هذا الأديب.

 في مدينة مانهايم حيث كنا نتجول أمام واجهات الحوانيت الأخاذة التي فيها ما تشتهي الأنفس، وبينما كنت أقرأ الأسعار وأوازن بين سعرها هنا وبين سعرها في بلادنا كانت صورة الشاعر تطالعنا في واجهة مكتبة ضخمة، وتحت الصورة إعلان أن الشاعر سيقرأ غدًا في الثانية ظهرًا في حفل توزيع كتاب جديد له.

عندما حضرت في اليوم التالي كنت أستمع إلى الشاعر الذي وقف على منصة، ومن حوله جمهور حاشد من أجيال مختلفة –فتيات معجبات جذلات بعيونهن الزرقاء، رجال أصحاء يحنون رؤوسهم وهم يتلقفون كلماته، وعجائز وخط الشيب شعرهن يهززن رؤوسهن صعودًا هبوطًا.

كنت أصغي إلى ألمانيته الصعبة المركبة، أفهم جملة، ولا أدري ماذا قال في جمل أخرى

فصرت أتابع إيقاع شعره أكثر مما أفهم المعنى.

لما فرغ من القراءة كانت أرتال المشترين تقف بالدور لتشتري ديوانه موقّعًا عليه بخط يده.

كان يحمل بيده قدح نبيذ، واتخذ له ركنًا ليستقبل قراءه.

سعدت جدًا لهذا الاهتمام البالغ بالشعر في بلد تسوده المادية والصناعة. الصف طويل، والشاعر يوقع، وأنا أنتظر مخاطبته.

لم أتحلَّ بالصبر، بل أجزت لنفس أن أتجاوز النظام، فأتقدم إليه معرّفًا بنفسي. رحب بي، ثم  طلب بطاقة الزيارة، وقدم لي بطاقته، ووعدني بزيارة لدى قدومه إلى البلاد، فهو يعرفها جيدًا بعد أن تردد عليها في أكثر من دعوة.

ألقيت نظرة ثانية على المكتبة الضخمة الأنيقة المرتبة الجميلة، فأيقنت أن ألمانيا هو شعب الكتاب في أيامنا، فمنذ أن طلع غوتمبرغ في القرن الخامس عشر على العالم  بالمطبعة وهم يترجمون ويطبعون وينشرون.(ملاحظة: في زيارة أخرى لاحقة  لألمانيا زرت المطبعة الأولى في مدينة ماينز).

أما الناحية الفنية فإنك تجد في كل مدينة مسرحًا، وبعضها أسس في القرون الوسطى، ونجد كذلك المهرجانات الموسيقية الكثيرة في الشوارع والميادين، تستمع إلى موسيقا باخ وموتسارت وبيتهوفن  - موسيقا شعت بأنغامها من ألمانيا، لتطرب العالم الذواقة. ففي مدينة بوسبادن مثلاً يقام في كل أيار مهرجان عالمي موسيقي.

أجمل ما رأيت في مدينة فرايبورغ أن كل حي وحي في مركز المدينة تعزف فيه الجوقات، وتشاهد الرقصات الفولكلورية، والجمهور حاشد من حول كل مشهد، يدفع بنقوده أمامهم تشجيعًا لهم.

الأدب والفن يتساوقان مع جمال الطبيعة بخضرتها الباهرة، ومع أنهار الراين والنيكر والماين. غابات، وغابات وكروم للنبيذ الذي تتباهى بصناعته أكثر من مدينة.

في الغابة السوداء كانت المجموعة تسير ليلاً في سبل ملتوية بين أشجار كثيفة. الظلام دامس، وخرير الماء يصل إلى مسامعك، وكأنه يرحب بهؤلاء الذين وفدوا من الشرق.

في كل مرة يتبدل قائد المجموعة، ولما طلب مني أن أكون رائد المجموعة تهيبت، لكنهم طمأنوني أنني لن أقع في هوة، و لن أجد خطرًا من حيوان، ولا أدري كيف يؤكدون ذلك، ولماذا صدقتهم. ما أجمل الضياع في الغابة الهائلة! ولكن ما أشد وحشة المكان!

 

قضيت أسبوعين ممتعين في ضيافة كريمة، نختلف فيها من مكان جميل إلى مكان أجمل، فيزداد إعجابنا بالذوق العام وبالنظافة والنظام، وحب المساعدة والاجتهاد، بالصناعات الضخمة، بالاعتزاز باللغة الألمانية.

سألت بعض الألمان مستفزًا: كيف تنظرون إلى تقسيم ألمانيا وهي خاضعة تحت حكم هذا أو ذاك؟

كانوا يتهربون من الإجابة ويقولون: نحن مع الوحدة الأوربية وهي شبه قائمة بين دول السوق، ومن يدري فلعل ذلك يكون مقدمة لوحدة إنسانية شاملة.

أقلتني الطائرة عائدًا إلى أرض الوطن، وقلت لنفسي: لا بد من زيارات أخرى! فقد استمتعت!


 

رحلتي الأولى إلى مصر

12-25 آب 1980

لقاءات مع أدباء

 

مقدمة:-

 

كانت رحلتي إلى مصر تهدف إلى السياحة أيضًا، وعلى هذا كان مبتغاي أن أشاهد الأهرام بعظمتها، وهذه لا تدرك إلا بالوقوف عندها، وأشاهد أبا الهول بعنفوانه وتحديه للدهر، والنيل ميمون الروحات والغدوات، بل كنت في (الأقصر) الشامخة الأعمدة (والكرنك) لا يكبر عنها إلا صوت المؤذن الخاشع في مسجد قريب"الله أكبر”، فتتلامس الروح والمادة في عناق غريب، وأسوان وسدّها وآثارها.  ولعل زيارة المتحف المصري في القاهرة تضطرك إلى البقاء أشهرًا إن كنت من الدارسين، فتشاهد المومياوات والتماثيل وآثار توت عنخ آمون.

زرت متحف المَنْيَل في القاهرة، إلى جو الترف والبذخ الذي عاشته الأسرة الخديوية.

 أما متحف الشمع بالقرب من حلوان فينقلك إلى تاريخ مصر المعبر عنه بالأشكال المجسدة- شمعًا وفنًا.

والمساجد في القاهرة آيات معمارية فنية لا بد من الاستمتاع  بها، وخاصة مسجد القلعة ومسجد الحسين ومسجد قلاوون ومسجد عبد الناصر وغيرها وغيرها.  ومعالم القاهرة تجذبك بأسواقها، وبشاشة أهلها، وضغط سيرها، وسهراتها، وفنانيها، وتناقضها بين البؤس والرخاء، والنظافة ونفيها، والرخص والغلاء، والترتيب والفوضى، وقديمًا قالوا"مصر أم الدنيا”.

لن أحدثكم عن الإسكندرية وبور سعيد وبؤس الريف والصعيد، ولا عن لقائي بالفنانات في الكازينوهات، ولو استوفيت هذه المقدمة تطويلاً وتفصيلاً لخرجت بكتاب لرحالة عصري جدًا قد يهمك لا أقل من ابن جبير، ولكني هنا أتناول الحديث عن الأدب والأدباء في مصر مما أو ممن لي به علاقة، فلنرحل مع الكلمات وأصحابها!

 

أمل دنقل:-

 

وصلت مكتبة (مدبولي) التي قرأنا اسمها على أغلفة كتب كثيرة، وسألت عن الشاعر أمل دنقل وكيف أهتدي إليه؟ أجابني العم مدبولي أنه غالبًا ما يكون في نادي (الأتيليه)، وهو نادي الفنانين والأدباء القريب جدًا من ميدان (طلعت حرب) حيث تقع المكتبة، وكثيرًا ما ترددت عليه، وتعرفت إلى عشرات الأدباء فيه.

 

ثم تعارفنا وأملاً -الذي كان لدى لقائي به يلعب النرد، وقد عجب الشاعر لأننا نعرف كتبه "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”،"العهد الآتي”،"مقتل القمر”، وأخذ يتصرف كشاعر- أعني بتناقض العظمة والوداعة، والكبرياء والتواضع.

قلت له: ما أروع القاهرة التي أراها أول مرة، و أشبهها بمدينة مينخن (ميونيخ) التي زرتها في العام الماضي، عملاقة مفاجئة رائعة. 

 قال أمل: لا تنس في غمرة حماستك أن فيها مظاهر بؤس وشقاء.

حدثني عن عمله في مركز الدراسات الآسيوية والأفريقية المنبثق عن الأمم المتحدة، وحدثني عن أجور الكتابة التي تدفعها المجلات في العالم العربي.

أنصت أمل بنصف ابتسامة، وأنا اقرأ له من شعره:

 

تفردت وحدك باليسر،  إن اليمين لفي خسر

أما اليسار ففي العسر،  إلا الـذيــن يمـــاشـون

إلا الذين يعيشون، يحشون  بالصحف المشتراة عيون

إلا الذين يشون، وإلا الذين  يوشون ياقاتهم برباط السكوت

أبانا الذي في المباحث.  كيف يموت  وأغنية الثورة الأبدية ليست تموت؟!

 

كان المربي يوسف مطر- من كفر كنا وزوجته ليلى ينقّلان الطرف بيننا، وكان أمل يتحدث عن كل شيء إلا الشعر. قدم لنا عنوانه، ودعانا إلى بيته في موعد كان قد حدده للقاء الدكتورجابر عصفور، وكنت قد  قرأت  لجابر في الآداب، فقلت"عصفورين..".

ومما يؤسف له أن الزيارة لم تتم في ميعادها، لأنني أضعت العنوان بين أوراقي الكثيرة التي أحملها، وقد اتصلت هاتفيًا به، فكانت تجيبني امرأة صرخت في وجهي في المرة الثالثة بعد أن ظنتني عابثا.

 

 مع صلاح عبد الصبور:

 

 صلاح  وكيل وزارة الثقافة، صلاح يمشي إلى مكتبة على بساط أحمر. في غرفته عدة تلفونات ومكيف وسكرتيرات وندل، وأناس يروحون ويغدون.  كنت أدندن قول صلاح.

وفيما بعد أعدت الأبيات أمامه:

لقاك يا مدينتي حجي ومبكايا      

 لقاك يا مدينتي أسايا

 

عندما وصلت الهيئة العامة المصرية للكتاب كورنيش النيل، وأشرت إلى الحاجب بأنني أقصد الشاعر صلاحًا، قال لي وهو يرنو إلي  :"تفضل يا أفندم!“. 

وصلاح ملامحه مصرية طابعية، وقد أرسلت له يوم أن أعلنوا عن فتح البريد بين مصر وإسرائيل كتابي عنه، والكتاب دراسة صغيرة عن شعر عبد الصبور المجدد، صدر عن معهد التطبيق في جامعة حيفا سنة 1979م. 

وصلت الهيئة من غير موعد مسبق، ودخلت، فإذا بالشاعر يستقبلني هاشًا باشًّا.  ثم أخذ يعرّفني إلى أدباء مصر الحاضرين في مجلسه :

القاص أبو المعاطي أبو النجا (أهلاً وسهلاً) - قصصك يعجب بها الشباب عندنا، - شكرًا!

الدكتور بدر الديب، الدكتور كمال نشأت (كان يعمل في جامعة بغداد، وقد لاحظت مدى اعتزازه بمصر، فمصر في رأيه هي التي تعرّف الأدباء والفنانين، لأنها في الطليعة)، وتعرفت إلى الشاعرة زينب العزب، الشاعر فوزي العنتيل، وغيرهم.

اعتذر صلاح عن عدم الكتابة إلي، وشكرني على الكتاب، عن دراستي الأكاديمية، وسأل:ماذا يستطيع أن يساعدني في دار الكتب في مجال بحثي للدكتوراة.

وبعد أن أجبته عن بغيتي، وشربت القهوة لم يعجبني الجو الرسمي، فطلبت منه تحديد موعد نستطيع فيه الخروج من الجدران الأربعة، ونسيت أن صلاحًا لا يملك دقائق معدودة من وقته، وعجبت كيف يقرأ، ومتى يكتب؟ فها هو قد أصدر حديثًا كتابًا نقديًا جديدًا" كتابة على وجه الريح" وأصدر مجموعة شعرية" الإبحار في الذاكرة".

                                                         * * *

طلب الأستاذ صلاح من أحد الموظفين تصوير بعض الكتب التي أفتقدها في بلادي، وأمر بتخفيض خاص يستحق الذكر.

عدت لصلاح أساله: هل قرأت كتيّبي عنك؟

أجاب بصراحته المعهودة" قراءة تصفح“. كان صلاح يدفعني للحديث عن مشكلة القدس التي ثارت في ذلك الأوان، ولا أرى فيها – شخصيًا – أمرًا جديدًا، وكنت أدفعه نحو الحديث الأدبي، وعن الشعر والشعراء.

قال صلاح: تعرفت إلى دالية ربيكوفتش وأهرون ميجد في أحد المؤتمرات الأدبية.
سألته عن سبب ضعف الحركة الأدبية حاليًا في مصر، أين" الكاتب، والطليعة، والشعر،  والفكر المعاصر، والمجلة؟” أين الملاحق الأدبية الجدية؟

 قال صلاح: أعترف أننا في ردة أدبية نحاول أن نتداركها، فهذه مجلة"القصة“، وهاك العدَيدينِ الأخــيرين، وسنصدر مجلة "فصول“، وستكون على مستوى رفيع، سيحررها الدكتور عز الدين إسماعيل، ويساعده الدكتور جابر عصفور والدكتور صلاح فضل، وستكون مجلة متخصصة تتناول في كل عدد جانبًا هامًا، وسيكون العدد الأول خاصا بالتراث.

حدثته عن مجلاتنا "الجديد“ و"الشرق“ و"مشاوير“ التي أحررها، وتوقفت، وهنا سألوني ما هي المبالغ التي يكسبها الكاتب عندكم؟

قلت متباهيًا:

“عندنا الأديب العربي هو الذي يكتب، وهو الذي يرسل للمطبعة، وهو الذي يصحح البروفة،  وهو الذي يوزع الكتاب، وهو الذي يخسر“

ابتسم الأدباء للنهاية التعسة، فوجدت من المناسب أن أثير مسالة نشر أدبنا في مصر، ومن كصلاح يعي ذلك؟

أجاب صلاح أنه سيأخذ دواويني الخمسة التي أهديتها له، وسيتفرغ لقراءتها لينتقي مجموعة شعرية من قصائدها، وسيعمل على نشرها في الهيئة العامة.

قال صلاح: سأسافر غدًا إلى اليونان، فاعذرني لأني لا استطيع اللقاء بك أكثر، وقدم لي مسرحية" مأساة الحلاج" في طبعة مكتبة روز اليوسف- 1980 بديباجة أعتز بها:

“إلى الأخ الكريم الشاعر الناقد الأستاذ فاروق مواسي مع خالص التقدير والمحبة“. 19/8/1980 وتعانقنا على أن نلتقي.

في قاعات الهيئة العامة التقيت أديبــًا كنت أقرأ له في مجلة الآداب. عرّفته  السكرتيرة: أستاذ مجاهد.  قلت على التو: لعله الأستاذ مجاهد عبد المنعم مجاهد؟
عندما سمع ذكري اسمه كاملاً تعانقنا وكأننا صديقان التقيا بعد فراق. عجب مجاهد من تتبعي لكتابته، حتى أني ذكرت له مسألة قراره التوقف عن الكتابة، والعودة إليها، و كنت على علم بهما.

قدم لي مجاهد كتابه الجديد" علم الجمال" وكتب عبارات رقيقة، كما قدم نسخة أخرى للشاعر صلاح مما كان في حوزته.

 

 مع الدكتور نبيل راغب:- 

 

في مكتب الأستاذ صلاح التقيت باحثًا معروفًا هو الدكتور نبيل راغب – الذي تعرفنا إليه من خلال دراسته "الشكل الفني عند نجيب محفوظ“، فسرعان ما اشتدت الأواصر بيننا ودعاني إلى بيته.

لبّيت أنا والصديق المربي – الذي لا يغنّي – يوسف مطر دعوته، فاستقبلنا هو وزوجه كأحسن ما يكون الاستقبال، وأهداني كتبه بتقديم أعتز به.

سألت الدكتور عن كتابه عن السباعي ومنهجه، فأخذ يبرر لي دوافع نشره التي تدل على الانضباطية الأدبية التي يضطر إليها الأديب المصري، ولكنه وعدني أن يظل أمينـًا للحقيقة العلمية المحضة.

أعجبني إهداؤه كتابه"المدارس الأدبية“ إلى زوجه، إذ يكتب في الإهداء :

“إلى البلبل الذي ملأ حياتي تغريدًا إلى زوجتي“.

وأراني أعترف أن زوجته بلبل حقًا في جمالها ورقتها وثقافتها. فقد كانت تتفهم ملاحظتنا الأكاديمية بمعايشة سليمة، وتشاركنا في نقدنا اللاذع لبعض الظواهر غير الصحية في الحياة الأكاديمية.

أطلعني الدكتور راغب على مشروع موسوعة للقومية العربية، وبتواضع جم، وباحترام ماثل كان ينصت إلى ملاحظاتي الناقدة.

 

 جماعة" أضواء” وأصوات" :-

 

 في الهيئة العامة كذلك التقيت ببعض الأدباء الشبان من جماعة (أضواء) الذين حضروا أسوة بغيرهم يطلبون دعم صلاح لهم.

من الجدير أن أذكر أن جميع الأدباء الذين تعرفت إليهم أظهروا ارتياحًا عندما عرفوا هويتي.  بل هم أبدَوا اهتمامًا بأدبنا الفلسطيني في الداخل، ونشاط النشر عندنا، وعجبوا كيف أننا نعرف المبتدئين منهم، وهم لا يعرفون عن أدبنا شيئا، اللهم إلا ما ندر وبصورة سطحية فجة.

سألني الشاعر حسن طلب من جماعة (أضواء) عن كتاب (الموت حبًُّا) وكان قد قرأ خبرًا في مجلة أكتوبر عنه.  قلت له:

هذا كتاب جمعه كاتب من عندنا، وأصدرته (سفريات هبوعليم) كبادرة نية حسنة بمناسبة مبادرة السادات. قلت له رأيي الصريح في الكتاب، وهو أنه غير منظم، فقصيدة لعلي قنديل في أول الكتاب، وأخرى في آخره، والاختيار عشوائي، والتشكيل لا يدل على وضوح للشعر وفهمه.

ولا اذكر كيف برر حسن طلب فشل الكتاب، ولكني قلت له:يكفي أنها محاولة مخلصة لاطلاع قرائنا على أدبكم.  فماذا فعلتم أنتم؟

ألح علي حسن أن أرسل له الكتاب على أن يرسل إلي منشوراتهم.  فأرسلت، ولما يصل منهم شيء.

 وعلى ذكر الأدباء الشبان أيضًا، تعرفت إلى جماعة أدبية منافِسة – ولا تعني المنافسة هنا صورة سلبية – تدعى" أصوات"، وقد أهدوني بعض كتبهم وهي :

" أعلن الفرح مولده" لمحمد سليمان"، و"أزدحم بالممالك" لعبد المقصود عبد الكريم.

ألح علي أحدهم، وكان قد عرف إعجابي بأمل دنقل وبحثي عنه في الأتيليـــه أن أقرأ مقالاً نشرته جماعة" أصوات" ضمن كتاب "أعلن الفرح مولده“، وعنوان المقال"رجال لكل العصور“، وأناقشه في اجتماع لهم في اليوم التالي.

قلت لهم: أتريدونني أن أقرأ في القاهرة، وأنا لا املك الوقت هنا  للنوم؟

فيما بعد قرأت المقال، وتبين لي نقمة الأدباء الشبان على فرسان الأمس الذين يدفعون حركة الشعر العربي في مصر إلى  ما أسموه "الردة“، وإلى التخلي عن كل منجزات الثقافة العربية التقدمية، ويوردون مثالاً على ذلك -  أمل دنقل الذي يمر بأطوار تقليدية للنمو، تبدأ بكونه رافضًا، ثم يبرد دمه فيصير أليفــًا مسالمـًا، لينقلب في النهاية متصوفــًا حزينــًا.

وجماعة"أصوات“ هم بالإضافة إلى من ذكرنا:أحمد طه وعبد المنعم رمضان ومحمد عيد ومحمود الهندي، وقد تعرفت إلى أحمد طه وهو شاب مثقف عميق تمنيت أن يكون شعراؤنا الشباب بمستوى ثقافته، أطلعني على بعض دراساته عن النفّـري الصوفي كانت قد نُشرت في مجلة"الكاتب“، وحدثني عن اتجاههم الأدبي الذي يلخصه قولهم:

“إن الشعر العظيم يعني الثورة المستمرة الدائمة المستمدة من ثورة الإنسان على واقعه المزمن وعلى شروطه الراهنة باتجاه شروط أكثر إنسانية، فالمذاهب رمادية، ولكن شجرة الحياة خضراء".

تعرفت إلى رفقي بدوي القاص صاحب"هرمونيا الحزن والعبقرية“، وله قصة طويلة بعنوان "أنا ...  ونورا وماعت“ ولفظة" ماعت" تتردد في أدبه، وهي كلمة مصرية قديمة تعني الحقيقة. من الجدير أن أذكر أن قصصه القصيرة نشرت في العديد من المجلات الأدبية المعروفة، وتمتاز بالطرافة والتجديد الشكلي والفني، وباختصار فهي لون لا نعرفه هنا في البلاد..

 تعرفت كذلك إلى أديب شاب لم ينشر شيئــًا في بداياته، لأنه كما يقول يقرأ كثيرًا، ولا يتعجل النشر، اسمه سمير عبد ربه، وقد ذكر لي أن جماعة"أصوات“ ناقشوا ديواني" غداة العناق“، الذي أهديتهم إياه في لقائي الأول معهم، وقد رجوني أن أزودهم بسائر كتبي، فاعتذرت، لأن النسخ العديدة التي أخذتها مترددًا خوفًا من أن لا أجد أحدًا أقدمها له – قد نفـدت في يومي الثاني.

 

 مع الدكتور عبد العزيز الدسوقي:

 

 توجهت إلى مبنى مجلة الثقافة لألتقي رئيس تحريرها الدكتور عبد العزيز الدسوقي، وهو مؤلف مكثر، وعندما علم أنني أحمل جوازًا إسرائيليًا توجس، ثم ما لبثت الكلفة أن رُفعت بيننا.

كان ينصت إلي، وأنا أرجوه أن يساعدني في الحصول على الكتاب الذي ألفه عن جماعة"أبولو”، وكنت أحدثه عما أعجبني في مجلة"الثقافة”، ومدى إعجابي بكتّابها.  اتصلت القاصة جاذبية صدقي بالدكتور هاتفيًا، فعرّفها بي، ولما ناولني السماعة حدثتها عن وجودي، وأنني أدعوهم لزيارتنا عندما تتحسن الظروف، ثم حدثها الدسوقي- أننا معجبون بها، وندرس أدبها في مدارسنا، فكانت سعيدة جدًا لسماع ذلك وحيتني.

سألني الدكتور عبد العزيز عن زيارة الدكتور حسين فوزي لنا.  قلت له لقد زار جامعة تل أبيب، واستضفناه في باقة بلدي، واستقبله العمدة وهو قريب لي، فاهتم بذلك كبير اهتمام، وأكدت له أنني لم أره، ولم أتعرف إليه شخصيًا. 

طلب مني الدكتور أن أكتب"للثقافة” سلسلة مقالات عن الأدب العربي في مرآة الفكر العبري، لأنه يريد أن يطلع قرّاءه على هذه الناحية، كما طلب مني أن أكتب ثبتًا بأسماء مؤلفاتي حتى يشير إلي في عدد"الثقافة” الموشك على الصدور، وقدم لي كتابه عن محمود حسن إسماعيل-  مدخل إلى عالمه الشعري، وعلق بديباجة رقيقة.

 قبل أن أودعه أشار علي أن أزور الدكتور الفلسطيني المقيم في القاهرة كامل السوافيري، فهو يستطيع أن يساعدني في الحصول على كتاب"أبولو”، لأن الدكتور الدسوقي ينتظر صدور طبعة جديدة من الكتاب.

 

 مع الدكتور كامل السوافيري:

 

 كان الدكتور السوافيري قد علم قبلاً بنبأ زيارتنا له، فرحب بنا في بيته العامر، واطلعنا على مكتبته ومؤلفاته التي حرص على تجليدها تجليدًا فاخرًا، تطرقنا إلى الأدب الفلسطيني بما فيه الكفاية، ذلك لأنني لا احتمل التعصب لرأي وقبول المسلّمات، ولكن حسن الضيافة حال دون الملل، وكان الدكتور يشرح وجهة نظره بعربية فصيحة يحرص عليها، فاضطررت لمجاراته، ولكنا لم نسبح على موجة واحدة، فهو محافظ اشد المحافظة وأنا أتقبل التجديد برحابة.

 في منزل العقاد:

 عندما أشرفنا على أسوان كان تمثال العقاد يطل علينا من أرض فيها ضريحه، وقد قيل لنا إنه ستبنى فيها مكتبة وناد وقاعات. 

وصلت قصر الثقافة لأطلع على جناح العقاد، فوجدت واجهات تحوي ألبسته وأمتعته وحتى عصاه، لكن المكتبة كانت مقفلة.  ألححت على الموظف أن يفتحها، فقد احتملنا وهج الحر، وركبنا الطائرة ساعة من القاهرة حتى نصل إلى رحاب العقاد.  اعتذر لأن المفتاح مع موظف آخر، وهو في إجازة،  لكنه اتصل بالسيد محمود العقاد ابن أخي الكاتب، وسرعان ما كنت في بيت العقاد في شارع عباس فريد (كان المنطق أن يسمى هذا الشارع باسم العقاد)، واستقبلني أبو لؤي- ويعمل وكيل نيابة – وأم لؤي ناظرة مدرسة ثانوية- في بيت العقاد، جلست على كرسيه وإلى طاولته، وبجانب مكتبته وتصفحتها، وحصلت على بعض الكتب التي تنقصني في تحضيري لرسالة الدكتوراه عن مدرسة"الديوان”. وأخذ محمود يحدثني عن عمه، وعن نشر كتب العقاد التي يتولاها، وحدثني عن الذين زاروا المكان من دكاترة وأساتذة مستشرقين، ووعدني أن يوافيني بكل ما يستجد.

*ملاحظة – وصلتني رسالة  منه – فيما بعد- يلح علي فيها أن أرسل له نسخة من الأطروحة للاحتفاظ بها.

 

في جامعة الأزهر:

 

 عدت إلى القاهرة لأستطلع جامعاتها، والحديث عن الجامعات والدراسة الأكاديمية حديث طويل طويل، لكني أقول إنني في أثناء بحثي عن مكتبة جامعة الأزهر- قسم اللغة العربية- وقع نظري على إعلان عن مناقشة رسالة الدكتوراة للطالب المقدسي خليل الحسيني، وموضوع الرسالة  "إسكندر الخوري البيتجالي”، ويشرف عليها الدكتور محمد فرهود السعدي، وقد تألفت لجنة المناقشة من الدكتور السعدي والدكتور محمد عبد المنعم خفاجة والدكتور محمد رجب البيومي، وثلاثتهم من المؤلفين المعروفين.
في قاعة المناقشة تعرفت إلى أكثر من"دكتورانت” فلسطيني جاءوا ليشجعوا زميلهم.  ومن الطريف أن أذكر أن الضيافة تغمر المستمعين في أثناء المناقشة، حتى أن احد المحاضرين كان ينهمك دائمًا في تقديم السجائر من علبته للدكاترة، فإذا بهذا الشخص دكتور وشاعر معروف هو أحمد محمد عزب، وقد حدثني أنه يعمل في جامعة الكويت، وأنه سيصدر له كتاب عن الشعر العربي الحديث-  نظرية وتطبيق. (قرأت فيما بعد  في  مجلة"المصور” أن الكتاب صدر).

 تبدأ المناقشة بكثير من الجمل الإنشائية وكَـْيل المديح هذا لذاك حتى الغرق.

 جدير أن أذكر أن الدكتور الجديد في معرض تقديمه ذكر أن الأستاذ محمود عباسي أعانه في جمع المصادر، وشكره على ذلك، فسررت لهذا العرفان بالجميل في المناقشة.
  كانت ثمة ملاحظات لم أستسغها من بعض الدكاترة، كقول أحدهم:"إن الأزهر لا يجدر به أن يبحث شاعرًا صليبيًا، وأن اللغة العربية ليست لغة إسكندر-  لكونه مسيحيًا”، وهنا تذكرت الأستاذ  حنا أبو حنا وحرصه على عربـيته ولفظه السليم، وقلت:" أين أنت يا أبا الأمين!“

 

 الدكتور فرهود السعدي:

 

 

  وبقدر ما أعجبت بصحة ودقة آراء الدكتور البيومي أعجبت بجهود الدكتور السعدي الذي أشرف  على أكثر من رسالة تختص بالأدب الفلسطيني.

 قلت للدكتور: إنني أرغب بالالتحاق بجامعة الأزهر، وأن أكتب موضوعًا عن أدبنا الفلسطيني بإشرافك.

قال:"حتى تفرغ من الدكتوراه عن أدبنا المصري، وأهلا بك”!

 ولما سالت الدكتور السعدي أن يساعدني في الحصول على كتبه التي ألفها عن"عبد الرحمن شكري شاعر الوجدان”، ووعدني أن يقدم لي الكتابين الآخرين الذين ألفهما عنه، اضطررت إلى  أن اذهب إلى بيته قبل أن أغادر القاهرة للحصول على مبتغاي، فاستقبلنا نجله- وهو يدرس الطب- ولكني لم أحصل على مبتغاي.

 

في دار المعارف:

 

 زرت أغلب دور النشر، وتفقدت مكتبات القاهرة ثم الإسكندرية، ولكني في"دار المعارف” وصلت أربعة موظفين قبل أن أصل إلى  مدير الدار الأستاذ إبراهيم زكي خورشيد.  وهذه الدار أعرقها، ونعتز بإنتاجها.  قال:أنت فلسطيني، فلماذا لا تذهب إلى عرفات لينشر كتبك. إن أمراء النفط بخدمتكم، وعبثـًا حاولت أن أقنعه أنني لا أتمكن من الاتصال بهم، وندمت على كل كلمة إضافية. 

 

 لقاءات لم تتم:

 

  قال صديقي يوسف:لا بد من دردشة مع نجيب محفوظ، فهيا بنا إلى مقهى"جروبي”!

 وصلنا المقهى فإذا بالنادل يقول إن نجيبًا في الإسكندرية- شأن كثيرين من أبناء القاهرة هذه الأيام.

 قال آخر: إنه في مقهى على شاطئ النيل، وما أجمل المقهى الذي يطل على النهر وقواربه وانعكاس الأضواء في مائــه.  وصلنا المكان، فأشار النادل إلى مكان جلوسه الأحب، وقال مضى قبل ربع ساعة.  واحترنا أن نصدق من؟؟

ومحاولاتي للقاء فاروق شوشة باءت بالفشل فقد وصلت إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون مثنى وثلاث، وهيهات!  وفاروق سميّـي محب للغة الجميلة، وثمة نقاط نلتقي فيها في ميدان الأدب واللغة، وقد كتبت له قبل ثلاث سنين عبر لندن، وما من جواب. بالمناسبة اعترف لي الكثيرون بأن سبب التلكؤ عن الكتابة كان خوفـًا من مضاعفات السياسة.
كما وصلت المجلس الأعلى للفنون والآداب لألتقي رئيسته الدكتورة نعمت أحمد فؤاد علها تفيدني فيما كتبتْه من المازني.

 وصلت البناية فجذب نظري تمثال أحمد شوقي الذي لم يكن ذكره يفارقني وأنا أسير والنيل، ولكن نعمت كانت في إجازة.

وحاولت الاتصال بالدكتور عز الدين إسماعيل في جامعة عين شمس، وهيهات!
 وحاولت الاتصال بالدكتورة نفوسة زكريا في جامعة الإسكندرية، وهيهات!

لكني اتصلت بطالب اسمه "زين الخويسكي” كان يستعد ذلك اليوم للحصول على الماجستير في موضوع عمل"لا”، وقد أعجبت  بهذا الاتجاه في الدراسات اللغوية.
 قلت لزين: تصفحت أسماء الموضوعات للرسائل جميعها في جامعات مصر، فوجدت رسائل كثيرة أعدت عن "نعم  و بئس” و"الحال”، فلماذا لا تتعاون الجامعات، وتكون الدراسة  لمرة  واحدة، فلا يتناولها آخر إلا من جانب جديد.

 اقتنع زين، وأشار إلى أن كل جامعة في العالم العربي تبعث نسخة من كل دراسة إلى جامعة عين شمس، وأن الجامعة المذكورة تصدر كشفـًا بالمواضيع.

قلت: هذه طريقة أصولية وفيها وعي أكاديمي.

 

 خاتمة:

 

 عدت وزوجي، وأنا أجشمها مشقة حمل الكتب التي نؤت بها.

قالت عفاف ساخرة: سنرى متى تشبع من هذه الكتب؟

قلت: لقد سافرنا واستمتعنا بالأثريات والمسرحيات والمشتريات البخسة وفنادق الدرجة الأولى (التي أنكرها علينا أمل دنقل) وأكلنا في"فلفلة" و” ماريلاند”، فلا أقل من أن نبدأ بسفر جديد عبر الحروف. 

قالت هذا سفر مرهق، لقد أهلكتني، وأنا أجمع الكتب معك من سور الأزبكية ورحبة سيدنا الحسين ومكتبات القاهرة، فالأمر لله. 

وحملنا أمتعتنا.

  وصلنا البلاد.

 ولما وصلناها تمنيت أن أعود مرة  أخرى إلى مصر حتى أشرب من ماء النيل ثانية.

وأصدقكم أنني أقرأ اليوم ما قرأته أمس  من أدب مصري، ولكن بنكهة جديدة، وفهم آخر. 

 

عن معنى الخوف:

 

يظل الخوف لدي في أطر ومناح كثيرة، ففي الغزل كان خوفي على حبيبتي وعلى نفسي:

أخاف إن بكيت

أن أحرق التي تخبأت

 على مدارج العيون

 

أخاف إن صحوت

أن أمطر التي تجملت

على معارج الشفاه

 

من اللقطات ما قلت لها: ما عاد الخوف سبيلي وسبيلك.

والصحيح أنني لم أصدق هنا، فكثيرًا ما خفت أن يشيع ما بيني وبين هذي أو تلك، أخاف من بيتي، ومن مجتمعي، ومن ذويها، ومن نفسي. وفي هذا الموضوع حكايات وحكايات لا تحكى، لا لسبب إلا لأنني أخاف.

أخاف كذلك من الضعف البشري الذي يصيبنا:

كل الأملاك وكل الأفلاك

تدفعها

عند دوار الرأس

وتقايضها من غير ندم

 

كل الأقوال وكل الأموال

تدفعها

إن عز النوم.

أذكر أن صديقي الطبيب عبد الرحيم كتاني حدثني أن هناك أشخاصًا استعدوا أن يدفعوا الغالي والنفيس في سبيل ممارسة.

 

أما الموت فقد وصفته في حوارية:

هذي الدنيا –لا جدوى تبقينا

بل تبقى مكتظه

بكوابيس الرعب تسمى (موتًا)

ورحى عشوائيه

تلتهم

.......

كم كنا نصغي أو نمضي

لكن رؤوس الأصحاب أراها في مشهد ذعر متصل

رأس حسين مقطوعًا في ذهل

عينين وأسبلتا في لا معنى

في هيهات!

هل هذا رأسي أم رأسك؟!

 

تنتهي القصيدة في صور الضريح والسفر:

سفر وحدي

سفر وحدك

وحدي....وحدك....

ورد...رهبوت...خبب!

 

في القضايا الاجتماعية والسياسية اكتسب شعري طابع التحدي، وإظهار الموقف، حتى لقاء ثمن باهظ وقاس أدفعه بقلقي وأرقي.

لكن خوفي كان من متزمتين في الدين، كنت أظنهم يهددون حياتي، فغسلت خوفي في قصيدتي"أغسل خوفي":

قد يكمن لي وجه أو آخر أو آخر

حتى الآخره

وبين حدود الخوف

ممنوع أن....

......

أغسل خوفي في خوف متناه حتى

أنسى معنى الخوف.

 

لا أجرؤ على نشر القصائد الجريئة جدًا أو الفاحشة، ولدي دفتر شعر أسميته"المكنونات"، وكيف أجرؤ وأنا أحاضر في كلية معظم طلابها فتيات، بل كيف أنشرها وأنا في مجتمع محافظ، ابن عائلة محافظة، أب لابنتين، وجد لحفدة، وكيف أنشرها وأنشر قصصي هنا وهناك ما دامت لي مكانة اجتماعية، وما دامت العيون تترصدني، وتتهجمني من غير نقطة مثارة؟

بالقليل مما أصرح ثمة دعاوى، فكيف بإفضاء وبوح؟؟!!

أعددت معجمًا بالأمثال الشعبية الفلسطينية ضم الألفاظ الجنسية بدون تحرج، فهل أنشره؟

لا أظن ذلك، إذن فليكن في المخطوطات التي تهدى إلى مؤسسة!

كنا في السبعينيات والثمانينيات قبل المد الديني الوهابي أو الخميني  نجرؤ أكثر، ولا يعاتبنا أحد، فقلت مثلاً مخاطبًا لبنان:

ما بال قراصنة تغتالك تغتال الله؟

فجاءوا يحاسبونني على التعبير في سنوات التسعينيات.

وقلت قصيدتي" خطاب إلى ذات القدرة"، فقالوا لي بعد عشرين سنة من نشرها إنني كفرت. فهل أجرؤ اليوم أن أقرأها أمام متعصب؟!

مع ذلك، لن أتراجع عن نشرها في طبعات لاحقة، ولكن عصرنا المشيخي يوجب التحرز.

برغم اعترافي هنا بخوفي فالمعروف عني بين الأدباء والمحاضرين أنني لا أهادن، وأقول كلمتي التي أراها حقًا بأسلوب وبجرأة، ولا أسكت على مضض ولو على قطع رأسي.

هل صدق ظنهم بي؟ أم لا؟ أدع الجواب لهم!


 

من حكاياتي

 

وقعت في الفخ بعد عملية نصب محكمة

 

اتصل بي في مطلع سنة 2008 شخص سمى نفسه محمد عبد العزيز التويجري، وقال إنه مندوب الأوسسكو التابعة للأونسكو – الأمم المتحدة، وأنه يقيم في السعودية، حيث يدير مكتبًا هامًا للتواصل مع العرب وثقافتهم، وكم بالحري مع فلسطين.

وأظهر التويجري معرفة وتفاصيل عني وعن موقعي وعن نشاطي الثقافي والأدبي، وادعى أنه لا يعتمد إلا علي في الداخل، فأنا في رأيه الموضوعي والعملي، وأنني الأولى في مشروع إعداد  تسجيلات لأدباء وشعراء في الداخل.

ورغم أنني اعتذرت  بسبب الوقت إلا أنه ألح وألح، وقال ما قال مقرظًا ومادحًا وراجيًا، وقال إن المشروع سيبدأ بعد أشهر، فلا أتعجل في اتخاذ القرار.

وحتى تتم الحلقات وتكون محكمة اتصل ثانية وثالثة، وقال إن الأمر في طور الدراسة، وما علي إلا أن أبدأ في إعداد قائمة الأسماء، وسيتصل بي بعد شهر.

 

اتصل بي في 11 /11/2008 ليقول لي إن شخصًا فلسطينيًا يدعى سامي الصفوري (انظر: الصفوري!!) سيتصل بي حال وصوله إلى مطار اللد غدًا، فهو يحمل جوازًا أمريكيًا، وسيقيم أسبوعين، وسيجد الوقت للاتصال بي لجلسة عمل، وأنني لن أكلف نفسي في الأمر رهقًا، فلدى سامي  مساعدون من موظفي الأمم المتحدة، وتحت تصرفه ميزانيات، وكل دولار سأدفعه سيغطيه، فالميزانية محترمة ومخصصة لذلك، بل إن أتعابي كلها ستدفع  مع رسالة شكر وتقدير من الأمم المتحدة، فهذا مشروع جليل، ومن مثلك أهل لأن يقوم بذلك؟؟!!

 

اتصل سامي في اليوم التالي، وذكرني أنه هو الذي انتدبه التويجري للقيام بالمشروع، وأنه سمع عن كرمي وأصالتي، ثم أخذ  يحدثني من ميامي، فحقائبه بقيت في الطائرة التي تصل من واشنطن، وذلك لضرورة التفتيش، وبسبب كونه فلسطينيًا...وأنه هو وزوجته في المطار ينتظران وصول الحقائب. والمشكلة أن الطائرة التي ستقلع إلى تل أبيب ستسافر بعد ست ساعات. وادعى أن البطاقة تغيرت، وأنه ملزم بدفع فرق الأسعار، وهو 789 دولارًا عن كل بطاقة.

 

المهم لم أعمل تفكيري، فاندفعت بحماسة، وأبديت استعدادي لأن أدفع في الويسترن يونيون مبلغ 1578 دولارًا.

فتوجهت إلى البريد، فوجدته مغلقًا. وكانت استراحة الساعات الثلاث ظهرًا كافية لإعادة النظر، لكني شعرت بواجب مثقل علي، وليكن ما يكون!

ورغم أن أم السيد نبهتني إلى احتمال وقوعي في عملية نصب واحتيال إلا أنني قلت لها:"أنا أفترض أنه ابن سبيل، فإن كان الأمرحقًا فقد كسبنا، وإن كان باطلاً فسيكون المبلغ حسب النية - والأعمال بالنيات - صدقة. ثم لدي شعور أن مالي حلال فلا يذهب هدرًا.

اتصلت بالرجل ليقدم رقم الحساب في الويسترن يونيون، فلم يصدق، وكان وهو يقدم لي الرقم كأنه يبكي، وتحدث  كم  هو مدين بالفضل لي، وأنه حال وصوله إلى الفندق في القدس سيوافيني بالمبلغ شاكرًا، وأنه ينتظر اليوم الذي سأزور فيه الولايات المتحدة فسيفعل المعجزات لإسعادي.

 

دفعت المبلغ دون أن يطرف لي رمش عين.

 في اليوم التالي اتصل بي الصفوري  ليقول إنه نزل في فندق (أمريكان كولوني) في القدس، وأنه سيحضر بعد يومين إلى باقة الغربية، وسألني  بما يدعو إلى الريبة بأسلوب سؤاله- عن طريقة استئجار السيارات هناك، وكم يكلف عادة؟ وكم تستغرق الطريق؟

 

لم يتصل الرجل بعد يومين ولا ثلاثة، فما كان مني إلا أن اتصلت بالفندق لأستطلع عن نزيل اسمه الصفوري، فأنكر الفندق وجود أي شخص عربي في هذه الفترة السياحية.

اتصلت بعدها على الرقم الذي زودني به، وهيهات، ثم هيهات، ثم هيهاااات!

اتصلت بالتويجري في الرياض، وكان قد ترك رقم مكتبه، وهيهات، هيهات، هيهااااات!

 

لم أندب حظي، فكتبت رسالة إلى الوسترن يونيون وهي الشركة التي تحول  المبالغ، وطلبت تفاصيل التسلم، و خاصة عنوان المـتسلم، وذلك للتوجه للأنتربول، وأخبرتهم عن هدف الدفع

(فالمسائل الأمنية  هي كذلك بالمرصاد، ومن يدري فلعلي أرسلت دعمًا ماديًا لعدو، وعندها..). كما  أخبرتهم أنني لن أتوانى عن المطالبة بحقي، فلن يضيع حق وراءه مطالب.

 

وكانت المفاجأة:

 

في 29/11/2008 اتصلت بي سكرتيرة الوسترن يونيون لتسألني إن كنت أنا الذي قدمت الشكوى؟

فلما تيقنت مني أخبرتني أن المبلغ سيعاد إلي مع الفائدة البنكية.

ظننت الأمر دعابة ثقيلة، لكنها قالت إنني أستطيع الآن التوجه إلى المكتب في بلدي والحصول على المبلغ.

وفعلاً تم لي ذلك، وكانت الدولارات أكثر مما دفعت بسبب فروق العملة، وكانت الأوراق جديدة  لها صوت مميز يخشخش هذه المرة.

وحتى الآن لم أعرف كيف عاد المبلغ؟

هل بسبب تأمين الشركة، وأنها  تبغي الحفاظ على سمعتها، والامتناع عن الدخول في قضايا وشكاوى؟

هل لاحقت الشركة الشخص واسترجعت المبلغ، خاصة وأن المحتال شكرني و" طمأنني" عن وصول المبلغ؟

أو ربما أن المبلغ لم يسلم في الأصل، لسبب من الأسباب، وأن المحتال طمأنني بوصول المبلغ كذبًا حتى يخلو له الجو للمراوغة أكثر في استحصال المبلغ؟

ألم أقل لكم إن مال الحلال لن يذهب هدرًا؟

بشرت زوجتي وكان تؤدي مناسك الحج، وسبق أن عاتبتني كثيرًا على"كرمي الزائد" – وأنتم تعرفون عتب النساء- ، فقالت لي :"لا أصدق، ولكن يبدو أن الدعاء لك  مستجاب؟!

تتمة عجيبة:

في نيسان 2009 رن الهاتف، فإذا بالتويجري نفسه يهاتفني. قلت في نفسي: لعله اعتذار، فلأسمع!

أعاد التويجري الكلام نفسه، وأنه ينوي وأنه..... (نسي صاحبنا  أنه اتصل بي، ويبدو بسبب الكثرة). قلت له:

أنا رئيس قسم اللغة العربية في أكاديمية القاسمي في باقة، وحبذا الاتصال بي في مكتبي، وكنت أحاول بذلك أن أستدرجه لأؤنبه أيما تأنيب. لكنه اتصل بسكرتيرة الأكاديمية، وطلب التحدث مع المدير، فهو من الأوسسكو، وأن لديهم ميزانيات ضخمة، وأن....

 

وجهته السكرتيرة إلى مكتبي،  وما أن سألته بلهجة ساخرة اشتَمَّها:

 أنت متأكد أن لديك هذه المشاريع؟

حتى انقطع الخط بصورة مفاجئة.

 

 

 

 


 

 

 

المحتويات

 

مقدمـــة

 

صور من الطفولــــة

 

من صفحات التربية والتعليم

 

صفحات في الكلية

 

من رحلتي الشعريـــة

 

الهويـــة الفلسطينيــة في كتابتي

 

مع فدوى طوقان

 

مع عبد الوهاب البياتي

 

مع نزار قباني

 

مع عبد اللطيف عقل

 

من رحلتـــي النقديـــة

 

جولاتـــــي القصصيــــة

 

رحلتــــي في رحاب لغتــــي

 

جولاتـــي في الترجمــــة

 

الكتاب متعتـــي ونزهتـــي

 

عن كتابتــــي

 

صفحاتــــي السياسيــــة

 

مع الشيوعيـــة وعن رمزيــن فيهــا

 

رحلتــــي في مذهبـــي

 

معالم وشخصيلت أخرى:

            

                    مع ماتي بيلــــد

 

                 جامعة النجاح في ذاكرتـــي

 

                 في حضرة الدكتور محمود السمرة

 

                 محمود درويش كما عرفتــــه

 

                 تعرفت إلى يحيى حقــــي

 

                  زكي العيلــــة

 

               مع سرجون بولس – قليلاً

 

عن معنى السفــــر

 

رحلات:

             

                      الرحلة الأولى والسفر بالطائرة

 

                      رحلتي الأولى إلى مصر ولقاء أدباء

 

عن معنى الخوف

 

من حكاياتــــــــي

 

 

 


 

[1] بعد نشر هذه المادة أولاً في"الاتحاد" 24/11/2001 نشرت صحيفة"هآرتس" في 6/12/2001 اعترافًا أوليًا واضحًا أن نائب المسؤول  عن التعليم العربي ي. كوهين هو رئيس لجنة التعيينات في جهاز التعليم العربي، وهو مندوب جهاز الأمن (الشاباك) في كل تعيين.  وقد أثار هذا الخبر أو هذا الاعتراف أصداء واسعة.